التقنيات والمناهج الحديثة للرقابية على المال العام – زكرياء مسامح
التقنيات والمناهج الحديثة للرقابية على المال العام
Modern Techniques And Approaches To Control Public Money
زكرياء مسامح
دكتور في القانون العام والعلوم السياسية
أثبتت التقنيات الحديثة نجاعتها وفعاليتها في تطوير النظرية العامة للرقابة المالية على الأموال العامة من حيث منطلقاتها وأسسها، سواء من حيث المفاهيم النظرية أو من حيث الممارسة والتطبيق، وتتميز هذه الأساليب بطابعها الشمولي. ثم آلية التدقيق والافتحاص كمنهجية فعالة في الرقابة والتدبير المالي العمومي.
المحور الأول: التوجه الشمولي للرقابة
يشكل التوجه الشمولي للرقابة أحد المظاهر الحديثة للتطور الذي عرفته النظريات الرقابية العمومية، فبالإضافة إلى الاعتبارات الداخلية المتجلية في اهتمام السلطات العمومية والمختصين والباحثين باعتماد مقاربات شمولية تأخذ بالاعتبار مختلف الأبعاد المكونة للفعل الرقابي، فإنه على المستوى الخارجي، سيمثل عمل بعض المؤسسات الدولية (هيئة الأمم المتحدة، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، المنظمات الدولية للرقابة) الدور المحوري في هذا التطوير.
وإلى جانب الاهتمام الدولي بالدعوة إلى تطوير آليات الرقابة المالية، فإن مؤسسي البنك العالمي وصندوق النقد الدولي-وبفعل أزمة المديونية والفقر والتفاوت في العالم-أصبحت تهتم بشكل متوالي ومركز بآليات التدبير العمومي خاصة من خلال التركيز على مفاهيم “التنمية الاقتصادية الشمولية”، و “الإدارة الجيدة للشؤون العامة” و “إقرار سياسات جديدة”، وتطلب في نفس الوقت من الأطراف المقترضة الالتزام بمدونة للسلوك تضم مجموعة من الإجراءات ذات الطابع العام (تقديم لوائح مالية سنوية خلال تنفيذ المشروع- حسابات ختامية، تقارير خاصة بالتمويل وبالحالة المالية- مراجعات مالية من قبل مدققين مستقلين ومتبعة لمبادئ مقبولة على المستوى الدولي) تسمح بقياس نسبة التقيد بالشروط المطلوبة وتعطي فكرة عامة عن طريقة إدارة المشروعات الممولة.
إن تجليات التوجه الشمولي للرقابة، خاصة من خلال التطور الذي عرفه على المستوى الدولي سيبرز من خلال بعض النظريات والمفاهيم الرقابية ومن أهمها تقنية التحري أو الفحص المدمج وتقنية تقييم السياسات العامة.
-
تقنية التحري أو الفحص المدمج
لقد ظهرت نظرية التحري أو الفحص المدمج مع ممارسة المؤسسة الكندية للفحص المدمج (Fondation Canadienne De Vérification Intégré)، للرقابة المالية، واستعمل هذا المصطلح لأول مرة في عام 1978 من قبل المراقب العام لكندا، “جيمس ماكدونالد” آنذاك، وذلك بغية وصف مفهوم رقابي يتعدى الدور التقليدي للرقابة بإدخال ما سماه “المساءلة على مردود إنفاق الأموال العامة”.
ويقصد بالفحص المندمج تلك الرقابة التي تضمن حماية الموارد المالية والبشرية والمادية بشكل يروم الاقتصاد والنجاعة والفعالية في أفق تحقيق الأهداف المرسومة.
وهكذا فإن مجال أو نطاق الفحص المدمج واسع وشامل، لذا نجد أن المؤسسة الكندية للفحص المندمج تجعل منه بحثا يسمح وبطريقة موضوعية وبناءة، فإلى أي حد يتم تدبير الموارد المالية البشرية بهاجس الاقتصاد والنجاعة والفعالية؟ وأيضا التحمل العقلاني لعلاقات المسؤولية؟
فالتحري أو الفحص المدمج يروم بشكل متكامل الرقابة المالية، ورقابة الأداء ومن ضمنها أنظمة المعلومات وممارسة تدقيق الحسابات وهو ما يتطلب إدخال تحسينات عندما تبدو ضرورية.
وتقوم تقنية الفحص المدمج على ثلاثة مبادئ أساسية هي الاقتصاد والنجاعة والفعالية وهي قواعد شمولية في معالجة التدبير المالي لأي منظمة أو مؤسسة.
الاقتصاد: يقصد به أن يكون الانفاق على جوهر المشروع بكميات مناسبة لمتطلباته، وتجنب الانفاق عل هوامش المشروع إلا بالقدر الذي يخدم الجوهر، وهو يعني على العموم، الحصول على النوعية والكمية الملائمة من البضاعة والخدمات في الأوقات المناسبة وبأفضل الأثمنة.
النجاعة: وهي ترمي إلى الملائمة بين الموارد والخدمات المنتجة والموارد المستعملة، وبالتالي يمكن اعتبارها أداة لقياس قدرة البرامج على تحقيق الأهداف المرسومة.
الكفاءة: وهي تفيد تلك الإجراءات التي تسمح بتحقيق الأهداف المرسومة بغاية إحراز أفضل فائدة إنتاجية ممكنة من الموارد البشرية والأموال والبضائع والخدمات بشكل شمولي، على اعتبار أن هذه العناصر تشكل مجتمعة مكونات العملية الإنتاجية لأي مؤسسة أو منظمة.
ولكن تحقق مقاربة الفحص المدمج أهدافها يشترط في ذلك أن تسلك أربعة مراحل رئيسية متتالية وهي: التخطيط والتطبيق أو التنفيذ وإعداد التقرير، مع متابعة هذه العملية باستمرار.
-
تقنية تقييم السياسات العامة
تجد هذه التقنية أصولها ومنطلقاتها في الأنظمة الرقابية الأنجلوسكسونية خاصة في كندا والولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن تنتقل بعد ذلك إلى الأنظمة الرقابية اللاتينية خاصة فرنسا خلال الثمانينات.
والسياسات العامة تعني مجموع الأنشطة المنظمة التي تقوم بها سلطة عمومية في إطار محيطها العام والتي تستوجب الإجابة على مجموعة من التساؤلات، فبالرغم من تعدد التعاريف التي أعطت لهذا المفهوم فإنه يعتبر كتقنية تهدف في الأصل إلى قياس وإبراز مختلف التأثيرات الذاتية للسياسات العمومية المختارة.
وقد اتخذت هذه التقنية أهمية متزايدة في مجال التطبيق خاصة بالنسبة للأنظمة الأنجلوساكسونية، لكونها تنبني على احترام أربعة مبادئ أساسية وهي الشمولية والنظامية والدورية والاستقلالية.
كما أن أهميتها تعود أيضا إلى اعتمادها على عدة مناهج عملية كالتدقيق ورقابة الأداء والتحاليل والأبحاث العلمية الأكاديمية المرتبطة بالعلوم الاجتماعية، لذلك فقد تم اعتبار عملية تقييم السياسات العمومية منهجا لتجاوز الأسس التقليدية للرقابة المالية، سواء من حيث الأدوات أو المناهج أو الأهداف.
وعمليا هناك أربعة مراحل أساسية لتقييم السياسات العمومية وهي:
-
مرحلة تحليل وجمع المعلومات
-
مرحلة التحليل النقدي للمعطيات
-
تحليل النتائج
-
الإعلان عن التوصيات والمقترحات
وبالرغم من أن تقنية تقييم السياسات العمومية، قد عرف تطورات هامة بالنسبة للأنظمة الانجلوساكسونية فإنه على العكس من ذلك بالنسبة للأنظمة الرقابية اللاتينية خاصة الفرنسية منها، حيث واجهت عدة صعوبات ارتبطت في جلها بالاعتبارات السياسية والإدارية، خاصة والمميزة لهذه الأنظمة وذلك للدور الذي تمثله الأجهزة العليا للرقابة المالية في هذه الدول.
وتزداد الوضعية صعوبة بالنسبة إلى اعتماد هذه التقنية في الدول النامية والتي تفتقد في الغالب للشروط المادية والبشرية لإقرار هذا النوع من الرقابة، وهو ما يفصله أحد الباحثين في النقط التالية:
-
يتميز هذا المقترب بكونه مقتربا طموحا، إذ أن إجراء تقييم ثاني وشامل يشكل ضربا من الخيال، يصعب تحقيقه من الناحية العلمية لأن توفير الموارد البشرية والمادية جد مكلفة.
-
التكلفة الباهظة التي تتطلبها البحوث التقييمية التي يمكن إجراؤها من طرف الهيئات العليا للرقابة على الأموال العمومية.
-
يفتقد مقترب السياسات العامة إلى أسس نظرية وتبقى تبعيته لنظرياته العلوم الاجتماعية قائمة وواردة.
-
صعوبة وتعقد مقاومة البنيات السياسية والإدارية المحيطة بعملية التقييم.
ومع ذلك تعتبر هذه الرقابة أهم مراحل النظرية الحديثة للرقابة المالية، لأنها تعمل على تقييم ولو بأثر رجعي التأثير الواقعي للسياسات العمومية من خلال الإنجازات المحققة، وهي مقاربة تعرف انتشارا واسعا بفعل الجوانب الديموقراطية التي تحتوي عليها.
وبالرغم من أن تطبيق هذا التوجه الرقابي على تنفيذ الميزانية العامة بالمغرب، يبقى عملية صعبة بسبب عدم توافر كل المعطيات الضرورة حول تأثيرات كل سياسة محتملة، فان أهمية الأخذ بآليات وتقنيات مقترب السياسات العمومية تبدو ضرورية في ظل الإصلاحات المباشرة لتأهيل التدبير الإداري والموازناتي.
المحور الثاني: التدقيق كآلية حديثة للرقابة على المال العام
لقد ظهرت الحاجة لوظيفة التدقيق كما هو معروف بهدف اكتشاف الأخطاء والغش والتلاعب، واقتصر مفهومه في البداية شأنه شأن المراجعة بشكل عام على المراجعة المالية والمحاسبية الهادفة إلى تصيد الأخطاء.
وإذا كان التدقيق قد ظهر استجابة للحاجة إلى معلومات صحيحة وذات مصداقية في القطاع الخاص، فان التوسع الذي عرفه القطاع العام من حيث مجالات تدخل الأشخاص العامة التي لم تعد تقتصر على المجالات التقليدية، بل أصبحت تتدخل في المجالات الاقتصادية، وندرة الموارد المالية العمومية، كلها عوامل جعلت التجديد والرفع من الإنتاج أهدافا غير محصورة على القطاع الخاص المطالب بمواجهة المنافسة من أجل الاستمرارية، بل إن القطاع العام بدوره أضحى مجبرا على تطوير وتحسين أدائه، وهو ما يساعد التدقيق على تحقيقه.
فآلية الرقابة بواسطة أسلوب التدقيق غايتها الأولى والرئيسية الوقوف على مكامن الخلل لمعالجتها واقتراح حول بديلة، حيث يعتمد مقاربة شمولية تتجاوز ما هو متعارف عليه من رقابة كلاسيكية ذات طابع زجري، في حين يهتم التدقيق بالتقويم والإصلاح، كما أن مرجعية المراقبة قانونية أساسا بينما مرجعية التدقيق وجودية تتجاوز حدود المطابقة بين النص القانوني والتسيير الفعلي.
-
خصائص التدقيق والافتحاص
قبل التطرق إلى خصائص التدقيق والافتحاص لابد أن نعطي تعريفا للتدقيق والافتحاص، حيث أنه رغم حداثة هذه الآلية الرقابية، وبالرغم من أن إدراجها في مجال المالية العامة بشكل عام، لم تتم إلا بشكل متأخر مقارنة مع الآليات الرقابية التقليدية المطبقة على الهيئات اللامركزية، إلا أن مسألة التعريف لاقت في واقع الأمر اهتماما واضحا من قبل الفقه القانوني، فالأصل اللاتيني للمصطلح Audit مشتق من الفعل Audi ويفيد الإنصات، والمدقق auditeur هو الشخص الذي ينصت للآخرين من أجل تقديم النصائح والإرشادات قصد تجاوز النقائص والعيوب.
إلا أن الاختلاف ينصب بالأساس على المقابل العربي لهذا المصطلح، فهناك من يستعمل كلمة تدقيق في حين يفضل آخرون استعمال كلمة افتحاص فيما يستعمل البعض المصطلحين معا للدلالة على نفس المقتضى، بل إن الدولة نفسها المنضوية في المنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة على المال العام Arabosai اختلفت حول نفس الأمر ولم تستطع بالتالي توحيد المصطلح والإتفاق عليه.
بالرغم من هذا الاختلاف الشكلي حول المصطلح، صبت مختلف التعريفات في وضع عناصر متشابهة تحدد معالم وملامح هذا المفهوم، واستخلصت بالتالي إلى اعتباره نوعا حديثا من الرقابة التي تقوم على إستعمال مجموعة من تقنيات الإستعلام والتقييم والتي يعمل بها في إطار منسجم وباستعمال مناهج محددة لتقييم النتائج، وبهذا المنظور تمثل وظيفيا مجموعة عمليات مرحلية ومستقلة وموضوعية تخلص إلى نتائج وتصدر بشأنها توصيات أو مقترحات.
وعلى هذا الأساس يبدو التدقيق أو الافتحاص بمثابة صيرورة وظيفية ذات طبيعة انتقادية وتقييمية تهدف إلى تشخيص الوضعية المالية للمنظمة وتخلص إلى وضع توصيات علاجية لمختلف الصعوبات والعوائق والاختلالات.
-
دور التدقيق والافتحاص كألية رقابية على المال العام
يتجلى دور التدقيق والافتحاص كآلية رقابية على المال العام، انطلاقا من طابعه الذي يميزه عن الرقابة العادية الكلاسيكية التقليدية، فاللجوء إلى هذه الآلية الرقابية العصرية يحيلنا على مدى تطور الأداء المالي والإداري العمومي، ومؤشرا على تحديث التسيير والتدبير بالنظر إلى الأهمية العملية والوظيفية التي تتميز بها هذه الآلية الرقابية.
وبذلك يقوم الافتحاص والتدقيق انطلاقا من خصوصياته ومجالات عمله على خطط واضحة، قصد تحديث وعصرنة الأداء ويعمل في جميع عناصر التسيير والتدبير وفي مختلف مجالات بيئة العمل القانونية والثقافية وعلى جميع الهياكل التنظيمية مهما كان حجمها ودرجات تعقيدها.
وهذه المهام الوظيفية والواقعية، والتي تمارس وفق تخصصات محددة وتفترض مهنية ودقة في تسيير الفعل الرقابي وفي تحديد المسؤوليات المتعلقة به، تجعل من الافتحاص والتدقيق أصنافا رقابية تحقق أهدافها في حد ذاتها، وتروم من خلالها تحديث وتطوير أداء الهيئة الخاضعة للرقابة ووضع توصيات بخصوص إعداد وتنفيذ المخططات التنموية، وذلك بمقابل الآليات الرقابية الأخرى حتى المتطورة منها التي تركز على مدى تحقيق الأهداف من قبل المنظمة.
المراجع
– مدني احميدوش: المحاكم المالية في المغرب، ص52
– إبراهيم بابوزيد: مراقبة الدولة المالية على المؤسسات العمومية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، كلية الحقوق اكدال، جامعة محمد الخامس، الموسم الجامعي 2001/2002، ص201.
– إبراهيم بابوزيد: مراقبة الدولة المالية على المؤسسات العمومية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، كلية الحقوق أكدال، جامعة محمد الخامس، الموسم الجامعي 2001/2002، ص202.
– مدني احميدوش: المحاكم المالية في المغرب، مرجع سابق ص 65
– محمد حركات: حق الرقابة العليا على المالية العامة بالمغرب، مجلة، ص100
– محمد سعيد فرهود: مبادئ المالية العامة، الجزء الأول، منشورات جامعة حلب، 1990، ص58
– سعيد جفري: الرقابة على المالية المحلية بالمغرب، مرجع سابق، ص52
– ouvrage collective: sous la direction de KESSLER M.C et LASCOMS P et SETBON M et THOENING J.C ; évaluation des politique colloque sur l’évaluation des politique publiques tenu à CACHAN le 5-6 février 1997, a été publié sous dorme d’ouvrage EDS HARMATTAN paris 1998, pp1 et suit.
– ISAIA HENRI: le management des politique locales et la décentralisation، essai de problématique/in revue française de finances publique N25 1989 pp45.
– حركات محمد: قانون المراقب العليا للمالية العمومية بالمغرب، مطبعة بابل، الرباط 1992، ص109
– سعيد جفري: الرقابة على المالية المحلية بالمغرب، مرجع سابق، ص53.
– حركات محمد: قانون المراقب العليا للمالية العمومية بالمغرب، مطبعة بابل، الرباط 1992، ص104.
– حركات محمد: قانون المراقب العليا للمالية العمومية بالمغرب، مطبعة بابل، الرباط 1992، ص109
– HARAKAT MOHAMED, finances publique et droit budgétaire au Maroc, op cit pp150-152.
– كالف المختار: دور الرقابة في تخليق الحياة العامة، المديرية الجهوية للصحة بجهة الشاوية ورديغة نموذجا، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام، كلية الحقوق، جامعة الحسن الأول سطات، الموسم الجامعي 2010/2011، ص49.
– MICHEL POISSON : L’audit au service de la collectivité territoriale, cahier de la fonction publique, janvier 2006, ,pp 50
– ادريس خدري: الفحص والتدقيق الجهوي، المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية بالمغرب، العدد 45، 2001، ص93.
– عبد اللطيف بروحو: مالية الجماعات المحلية بين واقع الرقابة ومتطلبات التنمية، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد 70، ط 1، 2011، ص108.
– عبد اللطيف بروحو: مالية الجماعات المحلية بين واقع الرقابة ومتطلبات التنمية، مرجع سابق، ص108
– عبد اللطيف بروحو: مالية الجماعات المحلية بين واقع الرقابة ومتطلبات التنمية، مرجع سابق، ص124.