|
مقدمة:
مما لا شك فيه أن السلطة التقديرية للقاضي الإداري لها دورا بالغ الأهمية في تحقيق العدالة، ذلك أنها تمكن القاضي من الاجتهاد في كل المنازعات المعروضة عليه بهدف إجاد الحلول القانونية المناسبة والعادلة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتعويض عن الضرر الناتج عن تصرفات السلطة الإدارية التي تتمتع بدورها في حالات معينة بسلطة تقديرية في اتخاذ قراراتها[1].
فالقضاء فن بما يتطلبه من اجتهاد لإجادة الفهم والقدرة على التحليل والاستقراء والاستنباط والمنهجية في معالجة الأمور بهدف الوصول إلى جوهر الأشياء لا الوقوف عند ظواهرها وتمييز الأمور عن أشباهها وصولا الى تحديد مكوناتها والدقة في الحكم عليها.
وعليه فالقضاء الإداري يعد ركن أساسي في الحياة يعول عليه بحيث نجد الغاية الأساسية من اللجوء إلى القضاء الإداري لا يقتصر على الحصول على حكم لإنهاء الخصومة بأي طريقة كانت بل تقتضي مصلحة كل خصم الحصول على حكم عادل لضمان حقوقه.
لكن أمام التطور التكنلوجي والعلمي السريع الذي أدى إلى إحداث العديد من المجالات التقنية التي تجعل القاضي في كثير من الأحيان يقف مكتوف الأيدي وحائرا أمامها، نظرا لخروجها عن اختصاصه ولاستحالة الإلمام بكل العلوم إلا من قبل المتخصصين بها[2].
لهذا أتيح للقاضي بصفة عامة والقاضي الإداري بصفة خاصة إمكانية الاستعانة بأهل الفن والخبرة حتى يسترشد بآرائهم في فهم تلك المسائل، وذلك بإتباع الإجراءات التي نص عليها القانون الإجرائي المتعلق بالخبرة القضائية، خاصة أن المشرع المغربي نظمها بموجب قانون المسطرة المدنية ضمن الباب الثالث الفرع الأول وتحديدا في الفصول من 59إلى 66 كإجراء من إجراءات التحقيق[3].
وقد صدر ظهير شريف رقم 345-00 في 29 رمضان 1421 الموافق ل 26 دجنبر 2000 بتنفيذ القانون رقم 85.00 الرامي إلى تعديل الفصول 59-60-62-63-64-65-66 من قانون المسطرة المدنية.
كما نظمها بموجب قانون رقم 45.00 المتعلق بالخبراء القضائيين والذي عرف الخبير بموجب مادته الثانية بأنه (المختص الذي يتولى بتكليف من المحكمة التحقيق في نقط تقنية وفنية …)، كما حدد شروط الترشح والتقييد في جدول الخبراء المحلي أو الوطني ونص على حقوق ووجبات الخبراء ومسألة التجريح والـتأديب[4].
وعليه فالخبرة القضائية في الدعوى الإدارية تقوم على أساس التفاوت بين أطرافها، لأنها تقوم بين طرفين غير متكافئين أحدهما جهة الإدارة وهي طرف قوي وتتمثل قوتها في كونها تتمتع بامتيازات السلطة العامة وتكون كافة الأوراق والمستندات تحت يدها، أما الطرف الثاني فهو الفرد وهو طرف ضعيف يحتاج بصفة دائمة إلى التعامل مع الإدارة ويخشى من تصرفاتها وقراراتها التي تنفرد باتخاذها دون الحاجة إلى موافقته حيث لا يعلم الفرد بحقيقة القرار وما يتضمنه من وقائع وبيانات إلا بعد صدوره، وفى ضوء الامتيازات التي تتمتع بها الإدارة فإنها تقف غالبا في مركز المدعى عليه، في حين يقف الفرد الضعيف في مركز المدعي، الأمر الذي يترتب عليه نشوء ظاهرة عدم التوازن بين الطرفين في الدعوى التي تستلزم إظهار الدور الإيجابي للقاضي الإداري وسلطاته في استيفاء الدعوى قبل الفصل فيها وترجيح كفة أحد الطرفين على الآخر مع التزامه بالأصول القضائية، وبالتالي فإن القاضي يفصل في الدعوى في ضوء ما يقدم له من أدلة ودوره عادة في الدعوى الإدارية لا يختلف عن دور القاضي في الدعوى المدنية، فالقاضي لا يكلف بالإثبات في الأصل وإنما يكلف الخصوم، حيث إن صاحب الشأن ملزم بأن يقنع القاضي بصحة دعواه طبقا للمبدأ الذي يقضى بأن “الأصل براءة الذمة ومن يدعى خلاف الظاهر عليه الإثبات “، والمدعى في الدعوى الإدارية يدعى خلاف الأصل المتمثل في صحة القرارات والتصرفات الإدارية ما لم يثبت عكسه، لذلك يقع على المدعي عبء الإثبات، إلا أنه لما كان هذا المدعي في الدعوى الإدارية هو الفرد وجانبه ضعيف وكانت الملفات والسجلات والأوراق موجودة تحت يد الإدارة وهما مما يعتمد عليه في الإثبات بصفة رئيسية، لذلك تدخل القضاء وألزم الإدارة بهدف تخفيف عبء الإثبات الواقع على عاتق الفرد بتقديم الأوراق والمستندات المتعلقة بموضوع النزاع، والمنتجة في إثباته إيجابا ونفيا متى طلبت منها المحكمة ذلك[5].
وعموما فقواعد الإثبات في الإجراءات الإدارية أمام القضاء الإداري لا تخرج في مجملها عما نص عليه القانون المذكور من أدلة الإثبات، لذلك فإن هذه المحكمة تستند في قضائها إلى تلك الأدلة فضلا عما تراه من تحقيق أو طلب إيضاحات تراها لازمة للفصل في الدعوى.
وقد عرف بعض الفقهاء الخبرة القضائية بأنها “إجراء للتحقيق يعهد به القاضي إلى شخص مختص ينعت بالخبير ليقوم بمهمة محددة تتعلق بواقعة أو وقائع مادية يستلزم بحثها أو تقديرها أو على العموم إبداء رأي يتعلق بها علما أو فنا لا يتوفر في الشخص العادي ليقدم له بيانا أو رأيا فنيا لا يستطيع القاضي الوصول إليه وحده[6].
أما بخصوص الاختصاصات المخولة للخبراء القضائيين فهناك خبراء في الشؤون العقارية كنزع الملكية والاعتداء المادي، وخبراء في المحاسبة ثم الخبراء والمجال الضريبي، وخبراء في الهندسة المعمارية والمدنية والأشغال العمومية والبناء وفي المجال الطبي …الخ.[7]
وتكمن أهمية الخبرة داخل منظومة القضائية خاصة القضاء الإداري من خلال أنها تساهم في تحقيق النجاعة القضائية رغم أن القاضي الإداري يأخذ بها على سبيل الاستئناس فهي تهدف الى السرعة في حسم النزعات نظرا لطبيعة القضايا الإدارية التي تتطلب الالتزام بجدول زمن معين بما يحمي مصلحة الأفراد والمنفعة العامة.
وعليه بناء على ما سبق تبرز أهمية الموضوع من خلال زاويتين:
– الأولى نظرية: يمكن حصرها من خلال إصدار المشرع المغربي مجموعة من المقتضيات القانونية المنظمة لعمل الخبير.
– وزاوية عملية: تتمثل في دور المحاكم الإدارية بخصوص الاعتماد على الخبرة في فض المنازعات الإدارية والإشكالات المرتبطة بها التي تحد من ناجعتها.
وعليه وبناء على ما سبق يمكن طرح التساؤلات التالية:
- فما هو الإطار القانوني والتنظيمي للخبرة القضائية بصفة عامة؟
- وكيف يمكن تكريس الخبرة القضائية المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية والقوانين المنظمة لها على مستوى المادة الإدارية؟
- ماهي أهم إشكالات التي تعوق الخبرة القضائية في المادة الإدارية؟
المبحث الأول: الإطار القانوني والتنظيمي للخبرة القضائية.
لقد عمل المشرع المغربي على تنظيم مجال الخبرة في ثمانية فصول من قانون المسطرة المدنية وذلك في الفرع الثاني من الباب الثالث المتعلق بإجراءات التحقيق، وقد طال هذه الأخيرة التعديل بمقتضى القانون رقم 85.00 الصادر في 18 يناير 2000، وهذا التعديل جاء كنتيجة حتمية لما كان من إهدار لحقوق الأطراف وتأخير في البت في دعاويهم، وبذلك يعد تدخل المشرع المغربي استجابة لمجموعة من النداءات ومن الدراسة العميقة للوضعية التي آلت إليها الخبرة القضائية في ظل المنظومة القانونية المغربية.
المطلب الأول: الإطار القانوني للخبرة القضائية.
نظم المشرع المغربي أحكام الخبرة القضائية ضمن الباب الثالث من القسم الثالث من قانون المسطرة المدنية، وتحديدا في الفصول من 59 إلى 66 من هذا الأخير وتم تعديل هذه الفصول بموجب القانون رقم85.00. وقد اكتفى المشرع بالإشارة من خلال مقتضيات الفصل 55 من قانون المسطرة المدنية الذي ورد في مطلع المقتضيات العامة والخاصة بإجراءات التحقيق بالإشارة إلى إمكانية قيام المحكمة بالأمر لإجراء الخبرة، ثم قام بعد ذلك بتنظيم مختلف الإجراءات القانونية المرتبطة بهذه الوسيلة القانونية.
قبل الوقوف ضمن مقتضيات الفصل 66 من ذات القانون الذي تم تعديله بموجب القانون رقم 00. 85 عند الطبيعة القانونية للخبرة من حيث القوة أي مدى إلزاميتها أو عدم الزاميتها بالنسبة لمحاكم الموضوع، فالخبرة القضائية يتم اللجوء اليها في المسائل ذات الطبيعة الفنية أو العلمية التي قد لا تشملها معارف القاضي، فمهمة الخبير تكمن في إبداء الرأي في المسائل الفنية دون المسائل القانونية التي تدخل ضمن الاختصاص الطبيعي للقاضي الإداري.
وقد اعتبرت المادة الأولى من الباب الأول من القانون رقم 45.00 المتعلق بالخبراء القضائيين “الخبير القضائي من مساعدي القضاء ويمارس مهامه وفق الشروط المنصوص عليها في هذا القانون وفي النصوص الصادرة تطبيقا له”[8].
ويؤدي الخبير مهامه تحت رقابة القاضي الذي عينه، والخبير هو الوحيد المسئول عن الأعمال التي ينجزها ويمنع عليه أن يكلف غيره بالقيام بالمهمة التي أسندت في الأصل له، كما يتوجب عليه المحافظة على السر المهني وفقا للقانون، وهو المسئول عن جميع الوثائق التي تسلم له بمناسبة تأدية مهمة ويشترط في الخبير للقيام بمهمة الخبرة القضائية أن تتوفر لديه الخبرة العلمية والفنية في مجاله، وكذا الأهلية والقدرة على ممارسة الخبرة دون وجود مانع بالإضافة الشروط التي تنص عليها القوانين عادة من أهلية وجنسية مغربية والدرجة العلمية وترخيص مزاولة المهنة، وأن يكون محمود السيرة حسن السمعة، كما يجب أن تتوفر له جميع المقومات التي تجعله بمعزل عن أي تأثير قد يؤثر في قراره[9].
ومن خلال الفقرة الأخيرة من الفصل 59 من قانون المسطرة المدنية، يتضح بأن المشرع المغربي أكد على المبدأ العام الواجب على الخبير التقيد به عند البت في أية مسألة أو واقعة لها علاقة بالقانون، فنص على أنه” يمنع على الخبير الجواب على أي سؤال يخرج عن اختصاصه الفني وله علاقة بالقانون”، إن مهمة الخبير الذي تعينه المحكمة تنحصر في أي أمر تقني يرى القاضي الاطلاع عليه ضروري للفصل في النزاع المفروض عليه، أما الإجراءات القانونية فهي من صميم أعمال القاضي، الذي لا يجوز أن يتنازل عنها للغير أو يفوض النظر فيها إليه[10]“.
أما بخصوص تجريح الخبير لقد نص المشرع المغربي صراحة على موجبات التجريح القضائي مع تحديد الأمد الزمني للبت في طلب التجريح وحصره في 5 أيام من يوم التقديم، وفي ذلك تجسيد فعلي لأحد حقوق الدفاع المخولة قانونا لأطراف النزاع بغية المحافظة على مصالحهم وصيانتها من احتمال غياب عنصر الحياد لدى الخبير، أو عدم أهليته التقنية لمباشرة المهمة المنوطة به، وبذلك أحسن المشرع فعلا لما أقر جملة من القواعد الجديدة المنظمة لمسطرة تجريح الخبراء في المادة 62 من قانون المسطرة المدنية:
– تحديد درجة القرابة أو المصاهرة كسبب للتجريح إلى حدود درجة ابن العم المباشر مع إدخال الغاية.
تحديد أسباب التجريح في خمسة صور رئيسية وهي كالآتي:
- وجود نزاع بين الخبير القضائي وأحد أطراف الدعوى.
- تعيين خبير قضائي في مجال غير اختصاصه.
- إذا سبق للخبير القضائي أن أدلى برأيه أو بشهادة في موضوع النزاع.
- إذا كان الخبير القضائي في مركز استشاري لأحد أطراف النزاع.
- وجود سبب خطير آخر يعهد بتقدير قيمته لمحكمة الموضوع.
ومن هذه الصياغة تجاوز المشرع المؤاخذات التي وجهت للمادة 62 من قانون المسطرة المدنية قبل التعديل والتي كانت تكتفي بالقول أنه: ” لا يقبل التجريح إلا للقرابة القريبة أو لأسباب خطيرة أخرى.[11]“
ويمكن التنويه أيضا بالمبدأ الذي كرسه التعديل الجديد حينما خول إمكانية إثارة الخبير القضائي لأسباب التجريح تلقائيا بمجرد العلم بها وهو ما يبرز حياد ومصداقية الخبير، وينعكس إيجابا على تسريع وتيرة البت في الملفات المعروضة على أنظار القضاء، كما تم تحديد لأول مرة الأمد الزمني الذي يتعين فيه على محكمة الموضوع البت في طلب التجريح، وهو 5 أيام من تاريخ تقديم الطلب، في حين أن المشرع المغربي قبل التعديل كان يقضي بإجبارية البت في طلب التجريح دون تأخير وهي عبارة عامة وفضفاضة، وأن المقرر الذي تصدره المحكمة بخصوص تجريح الخبير لا يقبل أي طعن إلا مع الحكم البات في الجوهر حسب الفقرة الأخيرة من المادة 62 من قانون المسطرة المدنية.
المطلب الثاني: مسطرة إجراء الخبرة القضائية.
تلعب الخبرة القضائية في المادة الإدارية دورا كبيرا في إحاطة المحكمة بالمعطيات التقنية والواقعية المعتمدة، فهي وسيلة سنها المشرع لمساعدة القاضي في الميادين التي تحتاج إلى خبراء، حيث تم التطرق للخبرة باعتبارها طريقة من طرق التحقيق التي قد يلجأ إليها القاضي، وقد نظم المشرع المغربي أحكام الخبرة ضمن الباب الثالث من القسم الثالث من قانون المسطرة المدنية، وتحديدا في الفصول من 59 إلى 66 من هذا الأخير، وقد تم تعديل هذه الفصول بموجب القانون رقم 85.00، وبالرجوع إلى هذه المقتضيات فإنه يمكن للمحكمة أن تأمر بإجراء الخبرة قبل البت في جوهر الدعوى، كما يمكن للأطراف المتنازعة أو أحدهم المطالبة بإجرائها، لكن تبقى سلطة انتداب الخبير موكوله للسلطة التقديرية للقاضي، فهو وحده الذي يملك حق الاستجابة لطلب إجراء الخبرة أو عدم إجرائها فالمشرع المغربي اعتبر الخبرة بمثابة إجراء يرمي إلى الإحاطة بمعطيات القضية والتي تتطلب معرفة فنية علمية لا علاقة لها بالقانون، ففي الحالة التي يطلب فيها الأطراف المتنازعة أو أحدهم بإجراء الخبرة يقوم القاضي المقرر أو القاضي المكلف بالقضية بإعطاء أمر شفوي أو برسالة مضمونة لكتابة الضبط يأمر من خلالها الطرف الذي طلب من المحكمة إجراء من إجراءات التحقيق المشار إليها في الفصل 55 من قانون المسطرة المدنية بإيداع مبلغ مسبق تحدده هذه المحكمة لتسديد صوائر الإجراء المأمور به عدا إذا كان الأطراف أو أحدهم استفاد من المساعدة القضائية، أما في حالة ما إذا أمر القاضي بإجراء هذه الخبرة فعليه أن يعين الخبير الذي يقوم بهذه المهمة إما بصفة تلقائية أو باقتراح من الأطراف المتنازعة واتفاقهم، وأن يحدد كذلك النقط التي تجري الخبرة فيها في شكل أسئلة فنية لا علاقة لها مطلقا بالقانون (الفصل 59 من ق. م م)، في حين يجب على الخبير أن يقدم جوابا محددا وواضحا عن كل سؤال فني، كما يمنع عليه الجواب عن أي سؤال يخرج عن اختصاصه الفني وله علاقة بالقانون[12].
ومن جهة ثانية فالمحكمة تقوم بتحديد أجل للخبير من أجل تقديم تقريره الذي يضمن في محضر مستقل في جلسة يحدد القاضي تاريخها بعدما يستدعي الأطراف لها بصفة قانونية، ويبقى لهم إمكانية أخذ نسخة من ذلك المحضر المستقل وتقديم مستنتجاتهم حوله عند الاقتضاء، كما أن أهم مستجد جاءت به المادة 64 من قانون المسطرة المدنية يتجسد في تخويل أطراف الدعوى أيضا إلى جانب القاضي صلاحية تقديم طلب باستدعاء الخبير بحضورهم قصد تقديم إيضاحات أو معلومات لرفع ما ضمنه في تقريره الأول من غموض مع تسجيل محتوياتها بمحضر يوضع رهن إشارة الأطراف للتعقيب عليه وإبداء أوجه دفوعاتهم إزاءه، هذه الإمكانية كان متعذرا على الأطراف سلوكها قبل التعديل بموجب القانون رقم 85.00، هذا في حالة ما إذا كان التقرير شفويا، أما إذا كان التقرير مكتوبا يحدد القاضي الأجل الذي يجب على الخبير أن يضعه فيه، إذ تبلغ كتابة الضبط الأطراف بمجرد وضع التقرير المذكور بها لأخذ نسخة منه، وفي حالة ما إذا لم يقم الخبير بالمهمة المسندة إليه داخل الأجل المحدد له أو إذا لم يقبل القيام بها يمكن متابعته قضائيا، وبموازاة ذلك يعين القاضي خبيرا آخر بدلا منه ويكتفي هنا فقط بإشعار الأطراف فورا بهذا التغيير، ويجب على الخبير أن يستدعي الأطراف ووكلائهم لحضور إنجاز الخبرة، ويتضمن الاستدعاء تحديد تاريخ ومكان وساعة إنجازها وذلك قبل 5 أيام على الأقل قبل الموعد المحدد، إذ يجب عليه أن لا يقوم بمهمته إلا بحضور أطراف النزاع ووكلائهم أو بعد التأكد من توصلهم بالاستدعاء بصفة قانونية ما لم تأمر المحكمة بخلاف ذلك إذا تبين لها أن هناك حالة استعجال، يضم الخبير في محضر مرفق بالتقرير أقوال الأطراف وملاحظاتهم ويوقعون معه عليه مع وجوب الإشارة إلى من رفض منهم التوقيع، كما يقوم بمهمته تحت مراقبة القاضي الذي يمكن له حضور عمليات الخبرة إذا اعتبر ذلك مفيدا، ويمكن للقاضي أيضا إذا لم يجد في تقرير الخبرة الأجوبة على النقط التي طرحها على الخبير أن يأمر بإرجاع التقرير إليه قصد إتمام المهمة[13] .
المبحث الثاني: إشكالات الخبرة القضائية في المادة الإدارية.
إن تعاظم دور الخبرة القضائية وأهميتها جاء كنتيجة حتمية لظهور وتطور مجموعة من الأنشطة الاقتصادية والتقنية التي يتعذر على القاضي الإحاطة بها بمفرده والفصل في المجالات التي تتطلب مساعدة فنية وتقنية من ذوي الاختصاص كما سبق الإشارة لذلك، إلا أن هذه المساعدة طرحت العديد من الإشكاليات ساهمت في محدودية هذا الإجراء وتأثيره على سير العدالة.
المطلب الأول: الإشكالات الواقعية للخبرة القضائية في المادة الإدارية.
لقد آثار الفقه مجموعة من الاشكالات حول أهمية الخبرة، نظرا لكون إجراءاتها المعقدة تساهم بشكل ملحوظ في بطء تصريف قضايا المواطنين والزيادة في نفقات المتقاضيين، فالكثير من القضايا يتم تأجيلها لأشهر وربما لسنوات لحين حصول المحكمة على تقرير الخبير والذي لا يلزمها المشرع بالاعتماد عليه، باعتبار أن رأي ودور الخبير مجرد دور استشاري وليس دورا تقريريا، وهذا ما نصت عليه صراحة المادة الثانية من القانون 45.00[14].
إلا أنه يلاحظ في دعاوى المادة الإدارية على أن الخبرة هي وسيلة التحقيق الأكثر استعمالا مما يجعل القاضي الحقيقي هو الخبير، كما أن اللجوء بكثرة إلى الخبرة في المادة الإدارية، وانفراد الخبراء بحسم المنازعات في هذه المادة من حيث الاعتداد بآرائهم بشكل مطلق من طرف القضاء يترتب عنه مجموعة من الإشكاليات منها ما يتصل بالشكل أي بالحكم القاضي بالخبرة في حد ذاته، ومنها ما يتعلق بالموضوع أي الحكم القاضي بالمصادقة على هذه الخبرة، فعلى مستوى الشكل فالأصل في الحكم بالخبرة يتوقف على وجود أمور فنية تستدعي اللجوء إلى أهل المعرفة، فالقاعدة أن مهمة الخبير تنحصر في المسائل الواقعية والفنية، ورغم ذلك فالملاحظ أن المحاكم تقضي بالخبرة حتى في المسائل القانونية، والظاهر أنه لا يكفي التذرع بتعقد المادة الإدارية للحكم بالخبرة فكل تقنية تحكم المادة الإدارية هي أيضا في جانب آخر مؤطره بقاعدة قانونية يفترض في القاضي العلم والإلمام بها، لكونها تدخل في صميم القانون الذي يفترض العلم به.[15]
هذا بالإضافة إلى النتائج السلبية التي يخلفها عدم احترام التخصص في تعيين الخبراء المتمثلة في المس بمصداقية الأحكام والإضرار بمصالح المتقاضين، ذلك أن تعيين خبير عقاري للقيام بفحص محاسبة شركة معينة أو تحديد أرباحها ليس من شأنها سوى ترتيب مصاريف إضافية على عاتق أحد المتقاضين قصد إنجاز خبرة عديمة الفائدة بعد إسنادها إلى خبير غير مختص أو غير مؤهل علميا للقيام بها، يعجز عن الاطلاع والإحاطة بوقائع الملف والكشف عن الحقيقة، كما يلاحظ من خلال تفحص أغلب الأحكام الصادرة عن المحاكم الإدارية المبنية على الخبرة أن القضاة بهذه المحكمة لا يأخذون مضمون الخبرة على سبيل الاستئناس في إصدار أحكامهم ولكنهم يبنون تلك الأحكام على مضمون الخبرة لتصبح هذه الأخيرة تقريرية بكل ما في الكلمة من معنى، أما من حيث الموضوع فإن عدم تحديد مهمة الخبير بشكل دقيق أو إسنادها إلى شخص غير مؤهل للقيام بها لا يمكن أن ينتج عنه إلا صياغة تقرير وصفي لا يفيد المحكمة في شيء أمام تزايد رفض الخبراء المؤهلين علميا إسناد مهام الخبرة إليهم، مع أن أسماءهم مدرجة في جدول الخبراء، بالإضافة لكون الحكم الذي يكتفي بالمصادقة على الخبرة من دون الإجابة على المآخذ المقدمة عليها يكون معرضا للإبطال لمسه بحقوق الدفاع ولكونه ناقص التعليل الموازي لانعدامهن[16].
عموما وعلى الرغم من كون الممارسة هي وحدها التي من شأنها الكشف عن مدى نجاعة التعديلات الجديدة التي مست إجراءات الخبرة، فإنه مع ذلك يمكن الاطمئنان إليها من جهتين:
فمن جهة فإن حصر الخبرة المنجزة في الجواب على السؤال الفني المطروح من طرف المحكمة من شأنه الحد من التقارير الوصفية للواقع والاستنتاجات التي لا علاقة لها بما كلف به الخبير والتي لا تشكل أجوبة محددة على الأسئلة المطروحة في القرار التمهيدي القاضي بالخبرة.
ومن جهة أخرى فإن التنصيص في المادة 62 بعد التعديل على إمكانية تجريح الخبير المعين متى تم تعيينه في مجال غير مجال اختصاصه، ليعتبر ضمانة للحيلولة دون ممارسة تخصصات تحتاج إلى مؤهل علمي.
فكثيرا ما أنجز خبراء تقارير للخبرة في المحاسبة دون أية كفاءة مهنية لذلك، الشيء الذي ينال من مصداقية الخبرة عموما ومن خلالها الأحكام القضائية على السواء، كما أن اللجوء الى الخبرة متوقف على وجود نقاط تقنية محاسبتيه تستدعي تدخل أهل الاختصاص والمعرفة لدا فمن وجهة نظرنا وجب التفكير في حل لهده المشكلة التي تعتبر من الإشكالات التي تنقص من بروز مكانة القضاء الإداري وبالخصوص القضايا الإدارية المتعلقة بالملفات الضريبية وبنزع الملكية…الخ.
إدا كان إجراء الخبرة في مجال المنازعات الإدارية من الأمور الأساسية التي يلجأ اليها القاضي الإداري لفك رموز الوثائق ذات الطبيعية التقنية المحاسبية فإن الممارسة القضائية في هدا المجال أبانت عن لجوء العديد من المحاكم الإدارية وبشكل مفرط الى الخبرة ليس فقط كوسيلة من وسائل التحقيق في الدعوى وإنما كوسيلة لأخد رأي الخبراء في المسائل القانونية خصوصا في المنازعات التي تثار عقب صدور مقرر اللجنة الوطنية للنظر في الطعون الجبائية بحيث أن ما يزيد عن 90°/ من الطعون القضائية المقدمة على إثر صدور مقرر اللجنة الوطنية للنظر في الطعون القضائية المقدمة على إثر صدور مقرر اللجنة الوطنية يتم الاحتكام فيها الى الخبير، مما يجعل هذا الأخير يحل محل القاضي الإداري مما يشكل تهديد للقضاء ومنظومة العدالة خاصة في ضل سيادة بعض الممارسات اللاأخلاقية مثل الرشوة والمحسوبية في صفوف بعض الخبراء، كما هناك إشكال متعلق بإسناد الخبرة الى أشخاص غير مؤهلين[17].
المطلب الثاني: إشكالات قانونية للخبرة القضائية في المادة الإدارية.
من الملاحظ أن الخبرة القضائية في المادة الإدارية لها معوقات وإشكالات قانونية يمكن حصرها في عدة مستويات:
- عدم إلمام الخبراء بالقوانين المؤطرة للخبرة القضائية والتي سبقت الإشارة إليها اليها.
- تعثر إجراءات التبليغ سواء للأطراف أو الخبراء.
- رفض بعض الخبراء التوصل بالأحكام القضائية بتعيينهم بدعوى عدم كفاية الأجرة أو الاستناد إلى أسباب شخصية أو كثرة المهام التي يقوم بها الخبير في مجالات أخرى خارج الخبرة القضائية.
- عدم احترام الخبراء للإجراءات المسطرية عند إنجاز مهام توجيه الاستدعاءات.
- عدم انجاز الخبرات في الآجال المحددة وفق القانون، مع عدم طلب تمديده.
- إنجاز تقارير ناقصة بإغفال بعض النقط المحددة للخبير، وعدم استجابته للمحكمة عندما تقوم بإرجاع المهمة إليه لإكمالها أو عندما تستدعيه لتقديم البيانات والتوضيحات اللازمة.
- عدم تفعيل الفصل 63 م قانون المسطرة المدنية في شقه القاضي بأن الخبير ينجز مهمته تحت إشراف القاضي الذي أنتدبه.
- اتسام بعض التقارير بعدم الدقة وافتقارها للموضوعية إن لم يصل تضمينها بيانات غير صحيحة هو ما أدى على متابعة كثير من الخبراء من خلال تحريك الدعوى العمومية في حقهم.
- أما ما يتعلق بمركز الخبرة أمام محكمة النقض باعتبارها محكمة قانون فإنه لا بد من إبداء مجموعة من الملاحظات من أهمها:
- أنه لا يمكن مطلقا إجراء خبرة أمام المجلس الأعلى بحكم أن الخبرة لها ارتباط وثيق بجانب الواقع في الدعوى وليس بجانب القانون فيها.
- لا يمكن مطلقا للخصم في الدعوى أن يجادل ولأول مرة أمام قضاء المجلس الأعلى في مسائل لم يسبق عرضها أمام قضاة الموضوع كالطعن في الخبرة مثلا.
- الخبرة في جوهرها أي فيما خلص إليه الخبير واقتنع به قاضي الموضوع أو لم يقتنع به من مسائل الواقع التي يندرج استخلاصها ضمن السلطة التقديرية لمحاكم الموضوع سواء تعلق الأمر بالمحاكم الابتدائية الإدارية أو محاكم الاستئناف الإدارية والتي تخرج بالتالي عن المجال القانوني الذي تراقبه محكمة النقض مبدئيا[18].
كما نجد هناك عائق قانوني كبير يمكن حصره في عدم وجود مسطرة خاصة للخبرة القضائية أمام المحاكم الإدارية، خاصة أن المحاكم الإدارية تنظم بموجب قواعد المسطرة المدنية[19].
فالخبرة القضائية في المادة الإدارية لها طبيعة خاصة لكون المنازعات يكون فيها طرفان غير متساويان الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية والأفراد، عكس المنازعات في القانون الخاص، كما أن المحاكم الإدارية تختص طبقا للمادة 8 من قانون 41.90 في قضايا ذات طبيعة خاصة وتقنية كالمنازعات الوعاء والتحصيل الضريبي ومنازعات الصفقات العمومية وكذا نزع المليكة والاعتداء المادي …الخ، لذا يجب على المشرع وضع مسطرة خاصة بالمحاكم الإدارية تنظم عملها والإجراءات المتبعة أمامها لا الاعتماد على المسطرة المدنية لكونها لا تتلاءم مع طبيعة المنازعات الإدارية في جميع جوانبها من ضمنها جانب الخبرة القضائية.
خاتمة:
خلاصة القول إن مهمة الخبراء القضائيين هي إبداء الرأي للمحكمة في المسائل الفنية المحددة لهم من طرف القاضي والتي لا علاقة لها بالقانون. والخبير القضائي يتمتع باستقلال في إنجاز تقريره حيث لا يمكن أن يخضع في النتائج التي يصل إليها إلا لضميره ومعلوماته الفنية، وهو شخص يعمل بصفة مستقلة عن الجهاز القضائي رغم أن هذا الجهاز هو الذي انتدبه للمهمة وهو القادر على استبداله، فهو بهذا المعنى مساعد للقضاء وليس بوكيل عن أحد الخصوم وهكذا فالنشاط المبذول من جانب الخبراء القضائيين هو نشاط إنساني بالدرجة الأولى لكن قد يرد عليه الخطأ والنسيان وربما التحيز في بعض الأحيان، ونتيجة لذلك قد يكون الخبير محلا للمساءلة الأدبية أو المهنية أو القضائي،
فالمسؤولية التي يضطلع بها الخبير أثناء ممارسته لمهامه تعد مسؤولية جسيمة تتطلب منه التحلي بقدر كبير من الموضوعية والقيام بجميع التحريات اللازمة قبل ترتيب النتائج عن المعطيات المتوفرة لديه، فهو محلل لكثير من النقط وهو الحاسم في مسائل لا يمكن للمحكمة أن تتخذ بشأنها قرار بدون الاهتداء والارتكاز إلى خبرته ومعرفته ولهذا لا يجادل اثنان حول مدى خطورة نتيجة الخبرة، ومن تم تصبح مهمة الخبير والمحكمة على حد سواء معقدة ما دام أن البلوغ إلى نتيجة الحكم سوف يكون بناء على تقدير مشترك لجهة قضائية موكول إليها أصلا نظر الفصل في الدعوى، ولجهة فنية أو علمية موكول إليها إبداء الرأي فقط.
[1] -أ- وليد بن محمد الصمعاني: السلطة التقديرية للقاضي الإداري دراسة تأصيلية تطبيقية، جزئين دار الميممان، ص 5.
[2] -أ-خلفاوي يمينة: الخبرة القضائية في المادة الإدارية، رسالة نيل شهادة الماستر كلية الحقوق والعلوم السياسية قالمة، ص1.
[3] – قانون المسطرة المدنية المغربي.
[4] – قانون رقم 45.00 المتعلق بالخبراء القضائيين.
[5] -أ- محمود جمال الدين زكي، الخبرة في المواد المدنية والتجارية، مطبعة النجاح الطبعة الأولى سنة 1990 جامعة القاهرة، ص 22.
[6] -أ- محمد حفو، الخبرة القضائية بين التنظيمين الجنائي والمدني، مقال منشور بمجلة القانون والاعمال، عدد 28 يونيو 2018.
[7] – رضى جداوي، الخبرة القضائية في ضوء القانون المغربي، بحث لنيل شهادة الإجازة في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية المحمدية، السنة الجامعية 2003/2004، ص4.
[8] – القانون رقم 45.00 المتعلق بالخبراء القضائيين.
[9] -أ- الكلعي هشام نطاق مشروعية الخبرة القضائية وتكييفها القانوني، مجلة الباحث للدراسات والأبحاث القانونية والقضائية العدد 41.
[10] – قانون المسطرة المدنية الفصل 59.
[11] -أ- كريمة صنهاجي، النظام القانوني للخبرة العقارية في المادة العقارية، مقال منشور بالمجلة الإلكترونية منازعات الأعمال.
[12] – أ- كمال الودغيري، الخبرة في القانون المغربي –دراسة تحليلية وتطبيقية-، الطبعة الأولى، 2001، مطبعة أبي فاس، ص:16 و17.
[13] – رضى جداوي، الخبرة القضائية في ضوء القانون المغربي، مرجع سابق.
[14] – المادة الثانية من القانون 45.00 (حيث جاء فيه يمكن للمحاكم أن تستعين بآراء الخبراء القضائيين على سبيل الاستئناس دون أن تكون ملزمة لها).
[15] – أ- جهان زروالي، القضاء الإداري والخبرة الجبائية، مقال منشور بمجلة صوت العدالة عبر الموقع الإلكتروني SATV.MA..
[16] – أ- نعمة بتخريط، الخبرة القضائية ودورها في حل النزعات الجبائية، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس بوجذة.
[17] أ- نعمة بتخريط، الخبرة القضائية ودورها في حل النزعات الجبائية، مرجع سابق.
[18] -أ- نور الدين لشكر، الخبرة القضائية من منظور سوسيولوجي، مجلة الحوار المتمدن، العدد 7628 لسنة 2023/05/31.
[19] – المادة 7 من قانون 41.90 المحدث بموجبه المحاكم الإدارية بالمغرب.