في الواجهةمقالات قانونية

الصحراء المغربية: قراءة قانونية لإطار النزاع وفهم أبعاده – عادل بعيز

 

عادل بعيز

باحث في الدكتوراه

الصحراء المغربية: قراءة قانونية لإطار النزاع وفهم أبعاده

يندرج نزاع الصحراء المغربية في قلب الصراعات التي تفضح مدى التوتر بين المبادئ النظرية للقانون الدولي ومتطلبات السياسة الواقعية المعاصرة، فحين ينظر الى هذا النزاع من منظور مبدأ تقرير المصير ومبدأ الحكم الذاتي يظهر جليا كيف ان الخلاف ليس فقط على الارض، بل هو صراع فكري بين مقاربات القانون العام ومقومات الشرعية الدولية من جهة، وبين ديناميات السلطة، الاستقرار، والاستخدام العملي للشرعية من جهة ثانية. في الحقبة التي تلت زوال الاستعمار، كان المطلب القومي الاستقلالي هو البوابة الاوسع للشرعية العالمية، فحق تقرير المصير External Self-Determination بدا كخيار جذاب للعديد من حركات التحرر، وتوافق الخطاب الدولي آنذاك مع هذه المطالب، خصوصا في سياق الحرب الباردة التي كانت تقيم ثنائيات ايديولوجية وتعلي من قيم الصراع العقائدي على المصالح الواقعية.
في هذه المرحلة ولد خطاب البوليساريو مستجيبا لنبض تلك الازمنة، حيث كان التمشي مع شعارات التحرر والاشتراكية يمنحها مكانة مرموقة على الساحة الدولية، لكن الزمن لا يرحم الاطار الجامدة، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي وتهاوي المعسكر الاشتراكي تغيرت القواعد. لم يعد عالم اليوم يضع الصراع الايديولوجي في المقدمة، بل صار الاستقرار، التنمية، العلاقات الجيو اقتصادية، والقدرة على التكيف هي التي تمنح السلطة شرعيتها. في هذا التحول العميق، بدا خطاب البوليساريو المتصلب عبئا ثقيلا على قابلية التفاعل مع الموازين الجديدة، لانه ظل متمسكا بشعارات الثورة وكلمات الانفصال، في حين غادر العديد من الفاعلين الاخرون مسارات التشدد الى مسارات التفاوض والبراغماتية.
ما بين الامس واليوم يمكن ملاحظة ان المشروع الكردي داخل تركيا يشكل مثالا بارزا على منطق التكيف السياسي. فبعد عقود من العمل المسلح والمطالبة ب External Self-Determination الكاملة، ادرك حزب العمال الكردستاني ان التمسك بهذه المطالب في ظل النظام الدولي الحديث محفوف بالمخاطر، فانتقل تدريجيا الى طلب الحقوق الثقافية والحكم الذاتي Internal Self-Determination داخل الدولة التركية، مع احترام وحدة الاراضي والمسارات الدستورية، محققا بذلك مساحة للتعايش داخل الاطار القانوني والعملي. هذا التحول ليس تنازلا بل دلالة على فهم ان تغيير الحدود بالقوة صار امرا غير مقبول في القانون الدولي المعاصر، وان الحلول التي تحافظ على الوحدة والاستقرار اقوى شرعيا.
في مقابل هذا النموذج الواقعي، بقيت جبهة البوليساريو اسيرة خطاب يقاوم التغيير. فبدلا من ان تتحول من كيان ثوري الى فاعل سياسي عقلاني يعرض تسوية تراعي مصالح الساكنة والواقع الدولي، استمرت في التمسك بالجذور التاريخية والعقائدية حتى وهي تحيط بها واقعة تفرض تغيير المنهج. الرسالة الثورية المكررة فقدت صداه في عالم لم يعد يعترف الا بالمشروعات القادرة على انتاج استقرار وتنمية، ولم يعد يلتفت الى شعارات الانفصال التي لا تؤسس لشرعية نتيجة ملزمة في الواقع الدولي.
من منظور القانون الدولي العام، ينظر الى هذا النزاع ايضا من خلال قواعد عديدة مثل مبدأ السلامة الاقليمية (Territorial Integrity) ومبدأ عدم استخدام القوة والشرعية القائمة على الكيان القائم. النظام الدولي الحديث يعلي من قيمة بقاء الدول، ويعتبر ان تغيير الحدود او اقامة دول جديدة يجب ان يتم عبر آليات سلمية تفاوضية تحافظ على تماسك الكيانات القائمة، لا عبر الحروب والاحكام الاحادية. وعندما تقيد حركات التحرر بامتناعها عن التكيف، فانها تصبح معزولة عن مناخ الحوار الدولي، وتفقد فرصا للحلول المستدامة.
في هذا السياق، برهان غليون يقدم رؤية نظرية اساسية تفيد بان الدولة-الامة المعاصرة لا تبنى على سرديات هوية منغلقة او ترديد التاريخ فقط، بل على عقد اجتماعي يجمع بين المواطنة والمشروع القومي الفرنسي الحديث كان من اوائل المتحدثين عن فكرة الشعب كمشروع لا كمجموعة عرقية جامدة. الشرعية الحديثة للدولة لا تأتي من الماضي وحده بل من القدرة على تحقيق افاق مشتركة، وتنمية مستدامة، والاستجابة للتطلعات المعاصرة للمجتمعات. اذا ظلت البوليساريو متشبثة بالماضي وحده فانها تفتقد القدرة على التحول الى فاعل سياسي يقدم رؤى قابلة للتطبيق في ظل القانون الدولي.
اما المقاربة المغربية فقد نجحت في ربط الشرعية التاريخية بالمشروعية المعاصرة. فمن جهة يستند المغرب الى جذور تاريخية عميقة ترسي امتداده في الصحراء عبر البيعة، التاريخ، والمعاهدات. ومن جهة اخرى يحرص على ان تكون سياساته متوافقة مع معايير القانون الدولي والميثاق الدولي، بما في ذلك مقترح الحكم الذاتي الذي يعد ترجمة ملموسة لمبدأ Internal Self-Determination داخل الدولة المغربية. هذا مقترح لا يلغي سيادة الدولة، بل يمنح الصحراء استقلالية موسعة في الشؤون المحلية، مع بقائها تحت السيادة المغربية، وهو تصميم يراعي الواقع الجغرافي والسكاني والتاريخي. وبهذه المقاربة يصبح المغرب فاعلا مرتكز استقرار اقليمي، موثوقا به دوليا، جمع بين صلابة الدولة وسعة الرؤية السياسية.
ان المتابع لتطور الموقف الدولي يلحظ كيف ان الدعم لمقترح الحكم الذاتي المغربي يتزايد، حيث تحولت عدة دول كبرى الى اعتباره الاساس الاكثر واقعية وجدوى لحل النزاع. في الامم المتحدة الاخير، تم تبني قرار يقر بان الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية قد يمثل الحل الاكثر ملاءمة للنزاع، وقد ازيل في النص اي اشارة الى استفتاء استقلال بديلا. هذا التحول في الخطاب الاممي ليس مجرد صياغة لغوية بل يعكس توجها نحو تأطير النزاع في افق مقبول دوليا ويحول الاعتراف الى ممارسة فعلية تدعم سلطات المغرب في الجنوب. كذلك المحكمة الاوروبية في قرارها Front Polisario II اجازت مبدأ ان الاتفاقات التي تشمل الصحراء يجب ان تؤخذ بموافقة الشعب الصحراوي، وشددت على ان الاستفادة الملموسة للسكان قد تحتم فرض موافقتهم، وهو ما يضع عبئا على الاطراف التي تتداول في المعاملات الاقتصادية والعقود مع المغرب في هذا الاقليم.
هذا المسار يظل محفوفا بالتحديات ولا يضمن تحقيق النجاح، اذ تواصل البوليساريو رفض الانخراط في مفاوضات تعتمد مقترحات تراها تشرع ما تعتبره احتلالا، متمسكة بحق تقرير المصير الذي لا تقبل المساومة عليه، وهو ما يضعها في مواجهة مباشرة مع القانون الدولي الذي يفرق بوضوح بين External Self-Determination كحق في الانفصال او الاستقلال الكامل، وInternal Self-Determination كآلية لارادة الحكم الذاتي ضمن الدولة القائمة. ان التمسك بموقف صارم مبدئي يعيق اي تقدم ويجعل من مراجعة الاستراتيجية ضرورة ملحة، كما يترك الباب مفتوحا امام استمرار النزاعات القانونية ويؤكد ان اي حل عملي يتطلب دمج المبادئ القانونية مع البراغماتية السياسية لمواءمة المطالب التاريخية مع الواقع الدولي المعاصر.
من الناحية العملية، تفرض التحولات السياسية والاقتصادية ان يكون خيار الحكم الذاتي Internal Self-Determination اكثر واقعية وقابلية للتطبيق من الاستقلال الكامل External Self-Determination، فالتكتلات الاقليمية والقوى الدولية تفضل الاستقرار والتعاون على مخاطر التفكك، كما ان دعم بعض الدول الكبرى للمقاربة المغربية يعزز موقعها ويمنحها زخما اضافيا. في هذا السياق، تشير عدة دول غربية الى ان مقترح الحكم الذاتي يمثل اداة فعالة لتسوية النزاع ضمن اطار القانون الدولي والحفاظ على وحدة الدولة، مع ضمان حقوق السكان المحليين ومصالحهم التنموية.

لقد أظهرت تجربة المغرب في تأطير النزاع حول الصحراء المغربية قدرة فريدة على الجمع بين الشرعية التاريخية والواقعية السياسية، مما عزز مكانته كفاعل موثوق في النظام الدولي. ويظل دور الملك محمد السادس محوريا في هذا الإطار، إذ أسهمت القيادة الملكية في ترسيخ الثقة الدولية بالمغرب عبر سياسات ثابتة ومستقرة، بعيدا عن التقلبات الإيديولوجية التي شهدتها أنظمة أخرى. كما يبرز هذا النموذج المزدوج العمق التاريخي للبلاد وواقعية مقاربتها السياسية، مؤكدًا أن المؤسسة الملكية ليست مجرد رمز للسلطة، بل عامل أساسي في الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره، وضمان حقوق المواطنين، وتعزيز موقع المغرب على الساحة الإقليمية والدولية. ومن هذا المنطلق، يمثل المغرب نموذجا ناجحا في إدارة النزاعات، يجمع بين الثبات التاريخي والحكمة السياسية، بما يتوافق مع تطور مفهوم “الدولة الأمة” في الفكر السياسي الحديث.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى