المسؤولية المدنية عن الأضرار النووية في ضوء الاتفاقيات النووية والتشريع الوضعي -دراسة مقارنة – : سلسلة الدراسات الجامعية و الاكاديمية
يأتي توجه المملكة المغربية في تنظيم المسؤولية المدنية الناتجة عن الأضرار النووية، من منطلق تزايد الاهتمام العالمي بالطاقة النووية، خاصة مع بداية السبعينات التي شهدت تصنيع الطاقة النووية المدنية، حيث تم إطلاق عشرات المواقع في جميع أنحاء العالم، ووصل بدء التشغيل ذروته في الثمانينات[1]، ذلك أن الطاقة النووية تحمل حلولا عديدة للمشاكل المستعجلة التي يشهدها العالم، حيث تعد مصدرا نظيفا وموثوقا واقتصاديا لمعالجة الاحتياجات الحالية للطاقة،[2] فبدأ اهتمام المغرب في مجال الطاقة النووية يبرز في كثير من التطبيقات الصناعية والطبية، وباعتبارها مصدرا مهما من مصادر الطاقة.
وقد أخذ تطويع التقنية النووية الخفيفة بعين الاعتبار في معظم خطط التنمية العربية، ولهذا قطعت التقنيات النووية الخاصة بالزراعة والطب والصناعة والبيئة أشواطا متميزة حتى اليوم،[3] وقد أدى تراكم عقود عديدة من الخبرة الصناعية، والمفاعلات النووية ذات التصميم الحديث، ومنشآت دورة الوقود القادرة على توفير كل المواد والخدمات المطلوبة لتشغيل تلك المفاعلات، ذلك أن النضج التقني والصناعي للتقنية النووية والقدرات الصناعية التي تدعمها قد بلغت حدا أصبح فيه الخيار النووي يمثل بديلا يعول عليه لأنواع الوقود الأحفوري لتوليد كميات كبيرة من الكهرباء، وقد أصبحت الطاقة النووية توفر في حدود % 15 من الكهرباء المستهلكة في أنحاء العالم وفقا للوكالة الدولية للطاقة الذرية.[4]
وتفضل العديد من الحكومات والصناعات الخاصة حول العالم خيار الطاقة النووية، وقد أوصت الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤخرا بزيادة تبلغ %80 في الطاقة النووية حول العالم حتى عام 2030. وأحد أسباب هذا الدعم الجديد يتمثل في أن اقتصاديات الكهرونووية تبدو الآن قابلة للاستمرارية، وقد صارت عمليات تحسين الكفاءة والسلامة في تشغيل محطات الطاقة النووية أكثر تطورا وحسنت اقتصادياتها،[5] وبالرغم من الاعتقاد السائد بأن صناعة الطاقة النووية تنطوي على مخاطر بيئية وصحية كبيرة، خاصة بعد ما حدث في أوروبا الشرقية من دمار على إثر تسربات مفاعل تشيرنوبل عام [6]1986، كما يثار الحديث عن المخاطر البيئية المحتملة في حال تسرب الإشعاعات من المخلفات النووية المدفونة في باطن الأرض، أو تعرض المنشآت النووية لمشكلات أو تسربات بسبب الهزات الأرضية أو البراكين.[7]
وقد عمد المغرب في بدايات اهتمامه بمجال النووي إلى وضع التشريعات الخاصة بالاستخدامات الخفيفة للطاقة النووية؛ من بينها القانون الصادر في 12 أكتوبر 1971 المتعلق بالحماية من الإشعاعات الأيونية،[8] ومع ذلك ظل المغرب لا يعرف تطورا مهما في هذا الميدان بالرغم أنه من الدول العربية غير البترولية، لكن مع أزمة البترول التي عرفها العالم بداية السبعينات من القرن الماضي[9]، بدأ التفكير في ضرورة الاستفادة من الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، والعمل على إنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء، إضافة إلى الاستعمالات الأخرى في الأغراض السلمية المرتبطة بالمجالات الاقتصادية والاجتماعية، وكانت أولى الخطوات هو إنشاء مجموعة من المؤسسة التي لها علاقة بالمجال النووي،[10] إضافة إلى امتلاك مفاعل نووي بحثي،[11] الذي يشكل عصب الاستخدامات الصناعية والطبية ويدفع المجال النووي دفعة واقعية لا يمكن الاستهانة بها.[12]
إن انخراط المغرب في ميدان الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، جاء بعد إبرام العديد من الاتفاقيات الدولية الجماعية والثنائية للتنظيم القانوني للاستخدامات السلمية للطاقة النووية،[13] وإنشاء العديد من الوكالات الدولية العالمية، وعلى رأسها الوكالة الدولية للطاقة النووية،[14] التي انخرط فيها المغرب منذ 1987،[15] وهي الوك
الة المتخصصة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، وإنشاء عدة وكالات إقليمية، لذات الغرض، وتوالت التشريعات الوطنية التي تناولت هذا التنظيم؛ فكان التشريع النيوزيلندي الصادر في السابع من ديسمبر عام 1945م أول تشريع وطني في العالم، يهدف إلى وضع تنظيم قانوني لاستخدام الطاقة النووية، وقد تميز هذا القانون بالطابع الوقائي والرقابي، وفي عام 1964 أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية قانون الطاقة النووية، وقد وضع هذا القانون أسس تنظيم النشاط النووي داخل الولايات المتحدة الأمريكية وحل محله قانون عام 1954 للطاقة النووية، ويعتبر هذا الأخير المصدر الأساسي لمعظم التشريعات الوطنية النووية في العالم، فقد نظم النشاط النووي تنظيما شاملا ودقيقا، متناولا كافة جوانب هذا النشاط من حيث الترخيص والوقاية والمسؤولية، ليواكب التطورات الكبيرة في مجالات المفاعلات النووية، وفي عام 1946 صدر قانون رقابة الطاقة الذرية الكندية، وقانون الطاقة الذرية الانكليزي عام 1964، وفي عام 1959 صدر قانون الطاقة الذرية الألمانية، وقانون حماية الجمهور من أخطار الإشعاعات عام 1958 في بلجيكا، وقانون الوقاية من الإشعاعات المؤينة في النمسا عام 1985، وقانون العمل بالإشعاعات المؤينة والوقاية من أخطارها رقم 59 عام 1960 في مصر، وقانون الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية الإيطالي عام 1962، أما في فرنسا فقد سلكت منهج إصدار تشريعات جزئية لتنظيم أمور معينة من النشاط النووي مثل القانون رقم 575 لسنة 1970، ورقابة المواد النووية والحماية منها، والقانون رقم 663 لسنة 1970 الخاص بتقسيم المواد النووية من الناحية البيئية، كما أن قانون الصحة العامة لعام 1952 يحوي على بعض المواد المتعلقة بالنشاط، والطاقة النووية.[16]
وبما أن الأنشطة النووية، تخلق مخاطر من نوع خاص، فعلى الرغم من مستويات الأمان العالية في هذا المجال إلا أن احتمال وقوع حوادث نووية يظل قائما، وقد تحمل هذه الحوادث النووية مخاطر تتخطى حدود الدولة التي تحدث فيها، وبالرغم من الاحتمالات القليلة جدا لحدوث حادثة نووية كبيرة إلا أن ذلك لا يمنع وجود نظام خاص للمسؤولية المدنية يسهل عملية التعويض للضحايا بمجرد إقرار الدولة لأنشطة نووية.
تبعا لذلك، فإن المسؤولية المدنية عن الأضرار النووية تقتضي، سواء على مستوى القانون الوطني أو الدولي، تنظيما خاصا يحقق حماية فعلية لضحايا الحوادث النووية، الأمر الذي دفع المشرع المغربي إلى تنظيم المسؤولية المدنية عن الاستخدامات السلمية للطاقة النووية بمقتضى القانون رقم 12.02 المتعلق بالمسؤولية المدنية عن الأضرار النووية،[17] حدد من خلاله طبيعة هذه المسؤولية ومجالها وتغطيتها، وتلاه إصدار القانون رقم 12ـ142 المتعلق بالأمن والسلامة في المجالين النووي والإشعاعي وبإحداث الوكالة المغربية للأمن والسلامة في المجالين النووي والإشعاعي.[18]
ويلاحظ على القانون رقم 12.02 أن مقتضياته جاءت متطابقة مع أحكام اتفاقية فيينا؛ والدليل أن المادة الأولى من القانون أكدت على ذلك بشكل صريح؛ حيث تنص على ما يلي:” يهدف هذا القانون إلى ضمان التعويض المدني عن الأضرار التي يمكن أن تتسبب فيها بعض الاستخدامات السلمية للطاقة النووية طبقا لمقتضيات معاهدة فيينا المتعلقة بالمسؤولية المدنية في مجال الأضرار النووية”.
[1] ـ لودوفيك مون، الطاقة النفطية والطاقة النووية ـ الحاضر والمستقبل، ترجمة مارك عبود، المجلة العربية، الرياض، ط، الأولى 1435هـ / 2014م، ص، 36.
[2] – Ben Mcrae, La Convention sur la réparation complémentaire des dommages nucléaires : le catalyseur d’un régime mondiale de responsabilité civile nucléaire, Bulletin de droit nucléaire n° 79, année 2007, p : 17.
[3] ـ عدنان مصطفى، الطاقة النووية العربية عامل بقاء جديد، مركز دراسات الوحدة العربية، دون ذكر طبعة، ص، 74 وما بعدها.
[4] ـ لويس إتشافاري، الطاقة النووية بديلا في توليد الطاقة : الفوائد الكامنة والمخاطر المصاحبة، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، ط، الأولى 2009، ص، 146.
[5] ـ هانز بلكس، مصادر الطاقة النووية : نظرة عالمية وإقليمية، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، ط، الأولى، 2009، ص، 32.
[6] ـ أدى انفجار البخار في مفاعل تشيرنوبل إلى تسرب الإشعاع خارج المحطة مما سبب وفاة واحد وثلاثون شخصا من جراء تعرضهم إلى جرعات كبيرة من الأشعة، بينما نقل إلى المستشفى قصد العلاج أكثر من مائتي مصاب وأُبعد خمس وثلاثون ومائة ألف عن منطقة تشيرنوبل من الذين تعرضوا إلى جرعات بلغت اثني عشر ريم، ويعتقد الخبراء السوفيات والبريطانيون انه من المحتمل أن يصاب ألف شخص بالسرطان أثناء الخمسين سنة المقبلة نتيجة حادث (تشيرنوبل).
مصطفى رشد، الحوادث النووية أسبابها وانعكاساتها، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية سلسلة “الدوريات”، التدابير التي ينبغي اتخاذها والوسائل اللازم تعبئتها في حالة وقوع حادثة نووية، الدورة 11 ـ باريس 13 ـ 14 شوال 1407 / 10 ـ 11 يونيه 1987، ص، 43 وما بعدها.
[7] ـ رضا عبدالسلام، الطاقة النووية وأهداف التنمية المستدامة لدول مجلس التعاون، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية،)بدون ذكر الطبعة وتاريخها) ص، 55.
[8] ـ ظهير رقم 71ـ005 بتاريخ 21 شعبان (12 أكتوبر 1971) الجريدة الرسمية عدد 3077 بتاريخ 29 شعبان 1391 ـ 20 أكتوبر 1971، ص، 2466.
[9] ـ عادل محمد احمد، العرب والتكنولوجيا النووية: التطورات الحديثة وآفاق التعاون المشترك، كراسات استراتيجية، السنة السابعة عشرةـ العدد 177 ـ يوليو 2007، ص، 21.
[10] ـ يتوفر المغرب على عدة مؤسسات لها ارتباط بالمجال النووي:
ـ المركز الوطني للطاقة والعلوم النووية المؤسس بمقتضى ظهير 14/11/1986.
ـ مركز الدراسات النووية المحدث بمقتضى مرسوم 07/12/1994.
ـ المجلس الوطني للطاقة النووية المحدث بمقتضى مرسوم 05/05/1993.
ـ اللجنة الوطنية للسلامة النووية المؤسس بمقتضى مرسوم 07/12/1993.
ـ المركز الوطني للحماية من الإشعاعات التابع لوزارة الصحة.
ـ جمعية المهندسين المختصين في المجال النووي التي أسست سنة 1985.
[11] ـ يتوفر المغرب حاليا على مفاعل نووي “تريكاماروك2” بالمعمورة من صنع أمريكي (الشركة الأمريكية جنرال اوتوميك) وتبلغ قوته 2 ميغاوات وخبرته أمريكية، وتخصص مجالات استعماله للبحث العلمي في المجالين الطبي والزراعي.
انظر:
ـ يوسف عنتار، الخيار النووي المغربي بين الدوافع المحفزة والأسباب المانعة، الدولية، العدد 3 ـ 2007، ص، 84.
[12] ـ محمد حسن محمد، الطاقة النووية وآفاقها السلمية في العالم العربي، دراسات استراتيجية، العدد 88، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية،(دون ذكر الطبعة وتاريخها)، ص، 90.
[13] ـ تعد أول معاهدة حول التعويض عن الأضرار النووية، معاهدة باريس 1960، وقد بدأت كآلية إقليمية في إطار منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبعد ثلاث سنوات من هذه الاتفاقية وبالتحديد في 21/5/1963 تم التوصل إلى اتفاقية فيينا للمسؤولية المدنية عن الأضرار النووية، والتي تم تعديلها في عام 1997.
انظر:
ـ عادل محمد علي، التنظيم القانوني والرقابي للاستخدامات السلمية للطاقة النووية، الملتقى العلمي: الاستخدام السلمي للطاقة النووية وأثره على الأمن البيئي، خلال الفترة من 17 ـ 19/5/ 1435هـ الموافق 18 ـ 20/3/ 2014م، المنامة ـ مملكة البحرين، 1435هـ، 2014م، ص، 7.
[14] ـ تأسست الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 29 يوليوز 1957، وقد صادقت على النظام الأساسي المؤسس لها 26 دولة في نفس السنة، وتعمل الوكالة هذه الوكالة طبقا للمادة الثانية من نظامها الأساسي على تعجيل وتوسيع مساهمة الطاقة الذرية في السلام والصحة والازدهار في العالم بأسره وكذلك السهر على ضمان عدم استخدام المساعدة الفنية التي توفرها للدول الأعضاء لخدمة أغراض عسكرية.
انظر:
ـ عادل الرياحي، المنظومة التشريعية الوطنية والتطبيقات السلمية للطاقة النووية، مركز البحوث والدراسات البرلمانية، تونس ـ مارس 2007، ص، 100.
[15] – Rag El Hassi Ahmed, Projet national marocain en matière de réglementation nucléaire, Bulletin de droit nucléaire n°50, année 1992, p : 44.
[16] ـ سيف بن زيد بن صاهود الطوالة الشمري، استخدام الطاقة النووية السلمية في المملكة العربية السعودية، رسالة لنيل الماجستير في العلوم الاستراتيجية ـ جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية ـ الرياض، 1436هـ ـ 2015م، ص، 79 وما بعدها.
[17] ـ ظهير شريف رقم 1.04.278 صادر في 25 من ذي القعدة 1425 (7 يناير 2005)؛ الجريدة الرسمية عدد 5284 بتاريخ 9 ذو الحجة 1425 الموافق 20 يناير 2005، ص،192.
[18] ـ الجريدة الرسمية، عدد 6290 ـ 15 ذو القعدة 1435 (11 سبتمبر 2014)، ص، 6815