سلسلة الابحاث الجامعية و الأكاديميةفي الواجهةمجلة القانون والأعمال الدوليةمقالات قانونية

المنافسة في أسواق الابتكار الكاسح دراسة نقدية لقانون وتحليل المنافسة في ضوء الاجتهاد القضائي المقارن – العدد 39 سلسلة الابحاث الجامعية و الأكاديمية

مجلة القانون والأعمال الدولية : MForki22@gmail.com

 

مقدمة:

إن الابتكار، بشكل عام، هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، وإليه يرجع الفضل في تحسين مستويات المعيشة المادية منذ الثورة الصناعية. ولقد كانت الإنجازات التكنولوجية التاريخية بمثابة نقطة الانطلاق لتحقيق تحسينات مستدامة في النتائج الاقتصادية، إذ أحدثت هذه الإنجازات تغييرًا جذريًا في الإنتاج، وصارت المجتمعات الزراعية أنظمة اقتصادية قائمة على الصناعة و على الخدمات بفضل تقنيات لم تكن لتخطر على بال أحد منذ ثلاثة قرون. أما في القرن الواحد والعشرين، فقد ازدهر الابتكار في نواح شتى بصورة غير مسبوقة. فالإبتكار يسهم في النمو، وينقل الإنسان إلى مستوى متقدم من الرفاهية، والنمو المستدام يحسن مستويات المعيشة ويخلق فرص عمل جديدة ويساعد في التخفيف من حدة الفقر. ورغم أن النمو الاقتصادي ليس دواءً لكل داء،  فإنه، إذا ما حَسُن توجيهه، من الممكن أن يصبّ في تحقيق الاستقرار والأمن. ومن الرؤى الأساسية التي توصلت إليها البحوث العلمية، أن استمرار النمو الاقتصادي منوط باستمرار التقدم التكنولوجي. ولقد شهدت القرون الثلاثة الأخيرة سلسلة من الإنجازات الابتكارية في مختلف المجالات التكنولوجية، والتي أحدثت تغييرًا جذريًا في النشاط الإنتاجي وحفزت نمو صناعات جديدة.[1]

وبقدر ما يكون الابتكار الكاسح مهماً لنمو ورفاه المستهلكين، فإنه قد يتعرض للتهديد من جانب المقاولات الراسخة في السوق. ومن هنا وجب على مجلس المنافسة أن يسهر على تأمين عدم إرباك أو منع عملية الابتكار الكاسح. فالتسارع المضطرد لوتيرة الابتكار في عصرنا، يؤدي إلى تقويض المراكز التنافسية المكتسبة بسرعة، ويزعزع المراكز الثابتة لعدد متزايد من المقاولات والصناعات. ولا تعوزنا الأمثلة لوصف قدرة هذه الظاهرة: سيارات الأجرة التي طاردتها “Uber” ، الفنادق التي أزاحتها Booking و Airbnb ، ثم TGV المتنافسة مع BlaBlaCar ، و Nokia المطرودة من قبل Apple ، وقاذفات الأقمار الصناعية المهددة من قبل SpaceX ، وقالب النماذج الأولية الذي تم استبداله بالطباعة ثلاثية الأبعاد، والطائرات بدون طيار ضد الطائرات العسكرية المأهولة …إلخ.

ومن هنا يبدو أن سير المنافسة وعمليات الابتكار مرتبطان أشد الإرتباط، تكسبهما العولمة الكثافة وسعة النطاق، من خلال توسيع نطاقهما إلى عدد متزايد من البلدان والقطاعات والأنشطة وعبر مجموعة متنوعة من القنوات. وقد تطورت طرائق الابتكار وطرق سير المنافسة بشكل كبير في الآونة الأخيرة، في بيئة اقتصادية تتزايد عولمتها، حيث ازداد اتساع الأسواق بشكل كبير، وأصبح نطاق المقاولات غير واضح، و نظراً للوزن المتزايد لأنماط جديدة من التعاون والشبكات، تغير  إيقاع الابتكار ، وأصبح أكثر توجهاً نحو الشراكة،[2] كما تسارَع إيقاع الإبتكارات الكاسحة أكثر من أي وقت مضى.

فالإبتكار هو عملية وثيقة الصلة بالمنافسة، ذلك أن المنافسة هي حجر الشحذ للمقاولة، فإذا لم تكن المقاولة تواجه منافسة، فهذا يعني أن هناك وضعية احتكار في السوق، وبالتالي لا يوجد ما يهمز المقاولة لتبتكر، لأنها ستبلغ هدفها – وهو الربح – من أقصر السبل وأيسرها وأقلها تكلفة. فعوض الإستثمار في البحث والتطوير، وهي عملية قد تتطلب تكاليف مرتفعة،[3] فإن المقاولة سوف تصل إلى تحقيق الربح عن طريق رفع الأسعار، لا سيما إذا كان منتجها أو خدمتها ضروريا ولا يجد المستهلك بديلا عنه في السوق. ذلك أن الهدف الذي تسعى إليه المقاولة هو الربح، وهذا الهدف بالذات هو الذي يخِزها ويدفعها للإبتكار. فإذا تحقق لها هذا الهدف عن طريق الإحتكار والهيمنة ورفع الأسعار، فمؤكد أنها ستتوانى عن الإستثمار في البحث والتطوير، وهو ما سيكون له أثر سيء في الإبتكار وفي الرفاه العام.

وإذا كان قانون الملكية الصناعية يهدف إلى تشجيع الابتكار، فإن هذا التشجيع قد لا يرقى إلى ما تفعله المنافسة. إن المنافسة هي أقوى محفز للابتكار، وهي تتم في أسواق الابتكار من خلال الابتكار، ولا تنصب على الأسعار سوى هامشيا. ومن هنا فإن إدخال مفهوم الابتكار في تحليل المنافسة سيمح بالإضطلاع بوظيفة قانون الملكية الصناعية وقانون المنافسة في آن واحد. ولما كانت المنافسة تتم من خلال الابتكار في أسواق الاقتصاد الجديد، كان من الضروري، لحماية المنافسة، حماية الابتكار والمبتكرين في قانون المنافسة. إن المنافسة خير محض، خير للاقتصاد وللمستهلك و وللمجتمع، فهي تدعم الابتكار، والابتكار يدعم النمو الاقتصادي ويساهم في إنعاش التشغيل ومحاربة الفقر والعطالة ويصب في تحقيق الاستقرار والأمن.

غير أن المنافسة التي تحفز الابتكار، على الأرجح، ليست بالضرورة على درجة عالية. فالمنافسة الشديدة تقلل من فرص الربح، وبالتالي، تنثني المقاولة عن زيادة جهودها في الابتكار. في حين أن القليل من المنافسة يمكِّن المقاولة من تحقيق أرباح عالية، ولذلك فإنها لا تتحفز للابتكار.[4] فالمنافسة المحدودة رذيلة لأنها تمكن المقاولة من تحقيق أرباح عالية فلا تتحفز من أجل الإبتكار. أما المنافسة الشرسة فقد تقضي على المقاولات التي لا تتوفر على موارد كافية من أجل الإستثمار في البحث والتطوير، فيكون مصيرها هو الإفلاس، وبالتالي نعود إلى وضعية الإحتكار . إن المنافسة الأصلح للمقاولة هي المنافسة المعتدلة، لا هي منافسة شرسة ولا ضئيلة، وإنما هي عَوَانٌ بين ذلك. فالفضيلة في المنافسة وسط بين رذيلتين هما: منافسة ضئيلة ومنافسة شرسة.

وفضلا عما ذكر، فإن الإبتكار هو عملية وثيقة الصلة بسياسة المنافسة، فسياسة المنافسة هي الأخت الرضيعة لسياسة الابتكار. وهذا الوضع يستلزم، من جهة، تحسين العلاقة بينهما؛ وجعل سياسة المنافسة في خدمة الإبتكار، كما يستلزم تسخير قانون المنافسة لحماية الإبتكار، لأن الإبتكار في خدمة نمو الإنسان ما دام أنه يحسن رفاهيته ويرتقي بنمط عيشه نحو الأفضل. غير أنه ليس من الضروري أن يتضمن قانون المنافسة مقتضيات تنص على مراعاة الإبتكار والتحيز لحمايته في تحليل المنافسة. فعلى مجلس المنافسة أن يتولى هذه المهمة وأن يتحيز لحماية الإبتكار عامة والإبتكار الكاسح خاصة، ولا يوجد ما يمنعه من القيام بذلك.

 

وإذا كان الابتكار[5] عموما يعني “التطوير الناجح وتطبيق المعرفة الجديدة”،[6]  فإن ” الابتكار الكاسح هو ذلك الابتكار الذي يسمح لمجموعة جديدة من المستهلكين في أسفل السوق بالولوج إلى منتج أو خدمة كان الوصول إليها تاريخياً متاحاً فقط للمستهلكين الذين يملكون الكثير من المال أو الكثير من المهارة”.[7]

 

ويميز ” كلايتون كرستنسون”[8] بين نوعين من الإبتكار: إبتكارات الإستمرارية[9] والابتكارات الكاسحة.[10] تحافظ ابتكارات الاستمرارية بشكل عام على وتيرة التحسين وتعتبر جزءً من شبكة القيمة للمقاولات القائمة و تزيد من فائدة منتج موجود سلفا. أما الابتكار الكاسح فيخرج من إطار شبكة القيمة للمقاولات القائمة ليأتي بخصائص مختلفة عن تلك التي كانت تحظى بتقدير العملاء التاريخيين. وعليه فإن من أهم مميزات الإبتكار الكاسح أنه يأتي بمجموعة جديدة من الخصائص تختلف اختلافاً كبيراً عن تلك التي كان يتمتع بها المستهلكون منذ أمد طويل، ويعطي أداء أقل جودة في واحد أو اثنين من الجوانب التي يقدرها هؤلاء المستهلكون. فالابتكار الكاسح يأتي من خارج شبكة القيمة ويستبدلها.[11]

إن المقاولات الراسخة تهمل الشريحة الدنيا من العملاء الأقل ربحية، ولا تراقب بشكل كاف عمليات الإكتساح التكنولوجية أو النماذج التجارية القادمة من أماكن أخرى. فهي لا تلحظ وصولها سوى في وقت متأخر جدا. ذلك أن خاصية المقاولات التي تصنع الابتكارات الكاسحة هي في الواقع التركيز أولاً على العملاء المتخلى عنهم، من خلال منتج أرخص وأداء أقل وله خاصية جديدة “إضافية”، ثم ترتقي من خلال تحسين الأداء التقليدي، ومن ثم تطرد المقاولات الراسخة من الميدان، وتصل أحيانا إلى حد تهديدها بالإفلاس.[12]

وهذا يعني أن الابتكارات الكاسحة هي مصدر التغيير الجذري في الأسواق. ولذلك فإن الأمر لا يتعلق بتطورات تكنولوجية تدريجية، مثل طرح أدوية جديدة أكثر فاعلية على هامش السوق مقارنة بتلك التي تم تسويقها سلفا. كما لا يتعلق الأمر بتحسينات منتظمة يمكن التنبؤ بها، مثل الزيادة في سرعة المعالِجات الدقيقة. إن الابتكارات الكاسحة هي تطورات حاسمة ينجر عنها حدوث تغييرات جذرية غير متوقعة في السوق، وتحدث بصورة غير منتظمة، وبالإضافة إلى ذلك، فإنها تدمر حصص السوق التي كان يحظى بها المتعهدون التاريخيون، أو تنشئ أسواق جديدة. فالزيادة في حجم الكاميرات، مثلا، لم يكن ابتكارًا كاسحا، في حين أن اختراع التصوير الرقمي كان كذلك.

ولا ينبغي الخلط بين الابتكار الكاسح وعملية التدمير الخلاق  “The Process of Creative Destruction” . فالإبتكارات الكاسحة لها ميزة خاصة: فهي تدخل من أسفل السوق وتستهدف الأفراد الذين ليسوا مستهلكين، حيث تتوجه إلى الجزء السفلي من السوق. ثم يتحسن أداؤها تدريجيا فتجتاح سوق المقاولات الراسخة. والملاحظ أن البعض[13] ينسب الإبتكار الكاسح إلى “جوزيف شمبتر”، حيث يعرف “عملية التدمير الخلاق” وهو يريد بذلك الابتكار الكاسح.[14] مما يعني أنه واقع في نوع من الإرتباك بين “الإبتكار الكاسح” الذي عرف به “كلايطون كرستنسون”، والتدمير الخلاق الذي عرف به “جوزيف شمبتر”.[15] إن الابتكار الكاسح غالبا ما ينجر عنه حدوث عملية تدمير خلاق، ومع ذلك فإن له مفهوما خاصا عند “كرستنسون” وأنصاره.

كما لا ينبغي الخلط بين الإبتكار الكاسح والإبتكار الإفتراسي والابتكار الجذري والابتكار المعماري وابتكار التجميع و “الأوبيرية”. فإذا كان الإبتكار الكاسح هو ابتكار يتوجه إلى الجزء السفلي من السوق ويعطي أداء أقل جودة في واحد من جوانبه، ثم يتحسن أداؤه تدريجيا فيكتسح سوق المقاولات الراسخة ؛ فإن الابتكار الإفتراسي هو ممارسة منافية للمنافسة وليس شكلاً من أشكال الابتكار. وهكذا، فإن استخدام مفهوم الابتكار الإفتراسي يصلح لإدانة الممارسات التي تبدو في ظاهرها ابتكارات حقيقية، في حين أنها في الواقع استراتيجيات غير تنافسية تهدف إلى القضاء على المنافسة دون أن تفيد المستهلكين.[16]

أما “الابتكار الجذري (innovation radicale) فينطوي على إدخال ابتكار هو تغيير جذري بالنسبة للمقاولة ، ولكن ليس بالضرورة بالنسبة للعملاء. على سبيل المثال ، عندما تستخدم “Essilor” تكنولوجيا جديدة لصنع عدسات النظارات بشكل أسرع وأكثر كفاءة ، فهذا ابتكار جذري. لكنه على الأرجح ليس ابتكارًا كبيرًا بالنسبة للعملاء. على العكس من ذلك، يعتبر التحول إلى النظارات ذات العدسات اللاصقة ابتكاراً كاسحا: إنه ابتكار كبير لكل من المقاولة و العملاء”.[17]

وأما في الابتكار المعماري (Innovation architecturale) ، فإن المنتج يكون عبارة عن مجموعة من الأجزاء الوظيفية تتألف من عناصر تقنية تسمى الأنظمة الفرعية التقنية وآليات الربط. إن تحقيق ابتكار معماري ينطوي على تعديل النظام ، وقاعدة التجميع لهذه “الأنظمة الفرعية التقنية وآليات الربط”. أي تعديل الروابط والوصلات البينية بين هذه الأجزاء التقنية. مثال: ساعة البلورات السائلة LCD التي تجمع بشكل أصلي الأنظمة الفرعية “البلورات السائلة” و “ساعة الكوارتز”. الشيء نفسه بالنسبة لشاشة LED ( LED + ساعة الكوارتز).[18]

وأما ابتكار التجميع أو ابتكار التوليف (innovation de synthèse)، فيتكون من تجميع عدة منتجات (وظائف مختلفة) لينتج منها واحدا. يمكن للمرء أيضا تحقيق ابتكار توليف عن طريق مزج المنتجات والخدمات. مثال: دمج كاميرا  ونظام تحديد المواقع  ومقياس تسارع ، واتصال بالإنترنت عن طريق wifi أو 3G + … في الهاتف المحمول. الوصول إلى العديد من الخدمات من تطبيقات الهاتف المحمول (تأجير ، شراء ، حجز  …إلخ). في حين أن  الابتكار الكاسح  يتكون عادة من تعديل كامل للاستخدامات ، والمعايير ، وعادات العميل. وهو يعتبر الأكثر “خطورة” لأنه يغير المعالم التكنولوجية والأسواق في نفس الوقت.[19]

وأما “الأوبيرية”[20] (Uberisation) فتفيد في معناها الضيق: “رقمنة الولوج إلى الخدمات بواسطة ظهور منصة وعمال مستقلين (نموذج أوبر لخدمة النقل مع السائق). أما في معناها الواسع ، فيمكن تعريفها بأنها الزعزعة السريعة لعلاقة في السوق بفضل الرقمية، أي ما يعادل الاكتساح  الأنجلوسكسوني”.[21] ومن هنا يبدو أن “الأوبيرية” تعتمد  على تطوير منصات وسيطة حيث تكون العلاقة في الممارسة التقليدية وجهًا لوجه بين مقدم الخدمة وعميله.[22] وهكذا فإن الأوبيرية لا تشمل سوى جزء من الإبتكارات الكاسحة، وهي الإبتكارات في مجال الخدمات التي، أغلب الظن، أنها لم تستبدل الخدمة بخدمة أخرى، وإنما غيرت طرق الولوج إليها من خلال وضع منصة إلكترونية تكون بمثابة وسيط تربط بين مقدم الخدمة والمستهلكين لهذه الخدمة الذين يفتحون حسابات باسعمال بياناتهم الشخصية في هذه المنصة. وبذلك فإن “الأوبيرية” تشمل ابتكارات رقمنة الولوج إلى الخدمات التي استوحت من نموذج “أوبر”؛ في حين أن الإبتكارات الكاسحة لا تنحصر في نماذج الأعمال المبتكَرة للولوج إلى الخدمات، وإنما قد تكون منتجات مثل السيارة ذاتية التحكم ، وقد تكون هذه الإبتكارات رقمية مثل محرك بحث مبتكر أو الذكاء  الاصطناعي أو خوارزمية متطورة…إلخ.

وينطبق مفهوم الإبتكار الكاسح على التكلفة المنخفضة (low-cost) أو استراتيجية التسعير المنخفض (low cost strategy) . وهي نوع من استراتيجيات التسعير التي تقدم الشركة من خلالها منتجات أو خدمات بسعر منخفض. هذه الاستراتيجية تساعد على تحفيز الطلب وكسب حصة أكبر في السوق. ففي الطيران الجوي مثلا تقوم شركات الطيران منخفض التكلفة  (LCC : low cost carriers) بتقديم رحلات منخفضة التكاليف مقابل التقليل من معظم خدمات الركاب التقليدية. هكذا فإن نموذج أعمال شركات التكلفة المنخفضة يعتمد على تقديم أسعار منخفضة مقابل خدمات أقل من خلال التخلص من تكاليف الخدمات الزائدة التي تقدمها شركات الطيران التقليدية (FSA : Full Service Airlines) والتركيز فقط على تقديم الخدمة الأساسية. وقد أثرت الشركات منخفضة التكلفة تأثيرا ملحوظا في صناعة الطيران، حيث أجبرت الشركات التقليدية على تقليص عدد رحلاتها وإغلاق بعض مقارها وحتى التخلي عن رحلات إلى مدن بعينها.[23] فالابتكار الكاسح لا يقتصر على لمنتجات، وإنما يشمل نماذج الأعمال أيضا.

وقد تم إدخال مفهوم الابتكار الكاسح لأول مرة من قبل البروفيسورين ” C. CHRISTENSEN ” و ” J. BOWER” في مقالة مشتركة لهما نشرت في عام 1995 في العدد الأول من مجلة (Harvard Business Review). ثم واصل “كرستنسون” تطوير نظريته فنشر في عام 1997 كتاب بعنوان “The Innovator’s Dilemma” “معضلة المبتكر”[24] . ثم أتبعه بكتاب “The Innovator’s solution”[25] “حل المبتكر”، حيث يستخدم “كرستنسون”  المصطلح الأكثر شمولاً “الإبتكار الكاسح”. في هذه الكتب ، يذهب إلى أن فِرَق الإدارة التي تتمتع بأفضل خبرات الإدارة هي ضحية للوافدين الجدد الذين يطردونهم من السوق بواسطة ابتكار كاسح. إذ إن دخول الابتكار الكاسح إلى سوق معينة ينتج عنه استبدال منتج أو شركة أو حتى صناعة بأكملها.

وإذا كانت شرارة نظرية الإبتكار الكاسح قد انطلقت منذ سنة 1995، فإن الإبتكارات الكاسحة ليست ظاهرة جديدة. ومع ذلك، فإن السرعة والقوة التي تعطلت بها بعض الأسواق في السنوات الأخيرة أثارت اهتمامًا متجددًا بهذا الموضوع. ويمكن تفسير الهوس المتزايد بالإبتكارات الكاسحة اليوم من منطلق تأثيرها القوي والمستمر على الإنتاجية والنمو.

والملاحظ أن نظرية الإبتكار الكاسح ، كما جاء بها كرستنسون ، قد تعرضت لسوء الفهم. حيث يذهب البعض[26] إلى أن: ” الابتكار الكاسح ليس ظاهرة جديدة: فقد ظهرت في الماضي السيارات (التي حلت محل عربات تجرها الخيول) ، والتلغراف (الذي حل محل البريد) والإلكتروفون  (الذي استبدل الأداء الحي) فكل هذه الإبتكارات يمكن اعتبارها ابتكارات كاسحة، إلا أن الابتكارات الكاسحة  كانت تعد من الكماليات في البداية وقد استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تنخفض تكلفة الإنتاج بحيث تتمكن من إزاحة التقنيات الموجودة. في الآونة الأخيرة ، أصبح الاكتساح ممكنا  “بتكلفة منخفضة”. ذلك أن العديد من الابتكارات الكاسحة تستفيد الآن من خصائص التقنيات الرقمية، على سبيل المثال: تأثيرات الشبكة،[27] التي قد تكون مباشرة أو غير مباشرة ، مما يتسبب في تحول في السوق ؛ انخفاض في التكاليف المسموح بها من خلال الحد من الوسطاء. والقابلية للتوسع ، والتي تتيح الوصول السريع إلى قاعدة عملاء عالمية محتملة”.

إن الأمثلة المشار إليها لا تعد ابتكارات كاسحة، لأن الإبتكارات الكاسحة عند كرستنسون لا تعد من الكماليات ولا تكون مرتفعة التكلفة، وإنما هي تسير في المسار المعاكس. فهي تدخل من أسفل السوق وتستهدف الشريحة الدنيا من المستهلكين ويكون أداؤها متواضعا في البداية وغير مقنع بالنسبة لعملاء المقاولة الراسخة. ثم إنها تتحسن تدريجيا فتكتسح السوق وتقضي على المقاولات الراسخة في الجال. وهذا يعني أن الإبتكارات التي تستهدف الشريحة العليا من السوق لا تعد ابتكارات كاسحة، ومن ثم لا ينبغي حشرها ضمن نظرية كرستنسون.[28]

و على الرغم من أن الإبتكارت الكاسحة تثير نقاشات بشأن العديد من القوانين مثل قانون المنافسة وقانون الشغل وقانون الإستهلاك وقانون الشركات والقانون الجبائي وحماية المعطيات الشخصية وحقوق المؤلف وقانون العقود، فإنه لا يوجد تنظيم خاص للإبتكار الكاسح في القانون المغربي، بل ليس هناك تنظيم خاص للإبتكار الكاسح حتى في الأنظمة المقارنة. غير أن فرنسا تبنت مؤخرا قانونا يتعلق بخدمة سيارات الأجرة مع السائق[29] (VTC) وآخر بالجمهورية الرقمية.[30] كما عملت على تعديل العديد من القوانين مثل قانون الإستهلاك وقانون الشغل وقانون السياحة وقانون النقل والقانون المدني وملاءمة مقتضياتها مع الإبتكارات الكاسحة، خصوصا المنصات الرقمية العاملة في ميدان اقتصاد المشاركة،[31] وفرضت عليها التزامات (الإلتزام بالأمانة) بهدف توفير المزيد من الحماية للمستهلك والأجير. وقد كانت التعديلات الأولى تدخل أساسا في قانون حماية المستهلك من أجل تحسين إعلام المستهلك تجاه المقاولات المستخدِمة لمنصة.[32] المقتضيات الأخيرة تفرض “تقديم إعلام عادل وواضح وشفاف” للمستهلك، لا سيما حول “الشروط العامة لاستخدام خدمة الوساطة…”.

وقد تم تطوير هذه الإلتزامات الأولى وتتميمها بالقانون رقم 2016-1321 لـ 7 أكتوبر 2016 للجمهورية الرقمية الذي يدقق المصطلحات ، ويشجع تطوير الممارسات الجيدة فيما يتعلق بإعلام المستهلك وواجب الأمانة (devoir de loyauté) .

ومن جهة أخرى لا زال الغموض القانوني يحيط بممارسات الابتكار الإفتراسي الذي يمكن استخدامه من أجل اِلتهام ابتكار كاسح في مراحله الجنينية. فممارسات الابتكار الافتراسي غير معترف بها على هذا النحو في قانون المنافسة الذي يعاقبها ،في أوروبا، تحت تسميات مختلفة في كثير من الأحيان غير ملائمة، والتي تندرج في المادة 102 من معاهدة (TFUE) التي تعاقب التعسف في استغلال المركز المهيمن. فالإطار القانوني لهذه الممارسات لا زال ضعيفًا ، ولكنها تظل معاقبة بشكل كبير تحت تسميات”تلازم المبيعات التكنولوجية” أو “الاستراتيجية الإفتراسية غير السعرية”.

وعموما فإن ما يهمنا أكثر هو قانون المنافسة الذي يمكن القول إنه في وضعية بئيسة عندما يتعلق الأمر بالمنافسة في الأسواق الرقمية وفي أسواق الإبتكار عموما والإبتكار الكاسح خصوصا، حيث تتغير الأمور بسرعة كبيرة؛ بينما نجد قانون المنافسة يعتمد أدوات بطيئة لا تنسجم كثيرا مع الأسواق المذكورة. وفي الحقيقة فإننا لا ننادي بتعديل قانون المنافسة ولا بالبحث عن إطار قانوني جديد، وإنما ندعو مجلس المنافسة لشحذ أسلحته وتكييف أسلوب تحليله مع خصوصيات المنافسة في الأسواق المذكورة من أجل تدخل أكثر فاعلية.

ولا تنحصر التحديات التي يطرحها الإقتصاد الرقمي في قانون المنافسة وحده، وإنما تزعزع بقوة الركائز التي تقوم عليها العديد من القوانين مثل قانون الإستهلاك والقانون الإجتماعي والقانون الجبائي…. وما قواعد البيانات الموزعة والمنصات الرقمية والإبتكار الكاسح والإبتكار الإفتراسي سوى بعض مظاهر الرقمية التي سَتَؤُز الفلسفة التي بنيت عليها العديد من القوانين. يجب أن يكون القضاء نابغا ويلائم القوانين مع الإقتصاد الرقمي. لا نرغب في تدخل المشرع لأن تدخله يفسد الأمور ولا يأتي بخير. إن قليلا من النصوص الغامضة والملتبسة، مع قضاة أذكياء أفضل من أن يحشر المشرع أنفه في كل ما صغر من تفاصيل الأمور وجزئياتها.

ويعد البحث في هذا الموضوع مهم وذو جدوى بالنظر لجدته. وهو الآن من أحدث المواضيع التي تجري مناقشتها في الساحة القانونية الدولية. وحسب علمنا لم يكتب فيه، إلى حدود كتابة هذه الأسطر، أي بحث لا اقتصادي ولا قانوني في العالم العربي. وأما في الغرب فإن جل الأبحاث التي تناولت الموضوع عالجته من الناحية الإقتصادية ومن زاوية إدارة الأعمال. ولذلك، فإن هذا البحث سيكون أول بحث يهتم بهذا الموضوع من الناحية القانونية. ومن هنا كان البحث في هذا الموضوع مجازفة: وذلك نظرا لانعدام المصادر التي عالجته من الناحية القانونية، من جهة، ولكونه لا يتطلب من الباحث دراية في الميدان القانوني فحسب، وإنما يتطلب منه أيضا دراية لا يستهان بها في مجال التكنلوجيا والرقمية … من جهة ثانية. وهذا التقاطع في الموضوع بين التكنولوجيات والقانون والاقتصاد وإدارة الأعمال سيصعب على القارئ أيضا مهمة فهم الموضوع واستيعابه والنفاذ لجوهر بعض تفاصيله. إلاّ أن يكون يكون القارئ من جنود التقنية والرقمية وله بعض الدراية بالاقتصاد.

أضف إلى ذلك أن “كرستنسون” قيد نظريته بمجموعة من القيود الجوفاء التي لا لزوم لها في نظرنا . ولذلك فإننا سنعمل في هذه الرسالة على نقد نظرة  كرستنسون للإبتكار الكاسح وإعطائه مفهوما جديدا مختلفا و واسع النطاق لا يقيده بالقيود التي وضعها “كرستنسون”، ويشمل ، بالإضافة إلى التقنيات، النماذج الإقتصادية والخدمات المبتكرة والطرائق الصناعية الكاسحة لا يهم في ذلك أن تكون قد دخلت من أسفل السوق أو من أعلاه.

إن الابتكار الكاسح هو موضوع عالمي، ذلك أن الممارسات التي قد تستهدفه قد يتم تنفيذها في عدة قارات في نفس الوقت خاصة في الأسواق الرقمية. كما أن البحث في هذا الموضوع مفيد، نظرا لأن الإبتكار الكاسح يزعزع ثوابت قانون المنافسة وأدوات تحليل  المنافسة. فقد أضحى الشك يخيم حول قدرة سلطات المنافسة على حماية المنافسة عند التدخل في أسواق تتميز بالابتكار الكاسح، من منطلق قانون المنافسة موجه نحو مراعاة المنافسة السعرية والثابتة[33]؛ بينما أسواق الابتكار الكاسح ليست ثابتة ولا تنصب فيها المنافسة على الأسعار سوى بكيفية هامشية. ومن ثم فإن المفاهيم الراسخة في قانون المنافسة و أساليب التحليل المستعملة من قبل سلطات المنافسة باتت تثير الريبة في مصداقية النتائج التي يمكن أن تسفر عنها. ولهذا فإن  هذه الرسالة تعد محاولة في توفير إطار لمساعدة مجلس المنافسة في التعامل مع الأسواق التي تتميز بهذا النوع من الإبتكار.

إن الابتكارات الكاسحة، لا سيما المنصات الرقمية، تغزو العالم وتنتشر بسرعة وتوسع أنشطتها في وقت وجيز إلى مجالات متعددة. لم يكن المغرب حصنا حصينا، بل هناك العديد من المنصات الرقمية التي تشتغل حاليا فوق إقلم المملكة في ميدان النقل والتأجير والوساطة…، بل هناك قضايا تتعلق بالمنصات الرقمية معروضة على مجلس المنافسة حاليا، حالات تتعلق بالتركيز وأخرى بالممارسات المنافية للمنافسة. وهو ما يعني  أن مجلس المنافسة ينبغي أن يكون على علم بالإشكاليات التي تطرحها أسواق هذه المنصات، لكي يكون تدخله مجديا وقراره نيرا. وفي هذا السياق جاءت هذه الرسالة، فهي مساهمة متواضعة تستهدف لفت أنظار الهيئات المتدخلة في حماية المنافسة وتقديم بعض الحلول التي يمكنها الاسترشاد بها والسير على هديها.

وبما أن الابتكارات الكاسحة تغير نمط عيشنا نحو الأفضل، فإنها مفيدة بشكل خاص وتستوجب الحماية من جانب مجلس المنافسة. فالابتكار الكاسح له آثار إيجابية على الرفاهية. ولكن بقدر ما تكون الإبتكارات الكاسحة مفيدة للرفاهية، واستنادا إلى أنها نتيجة لأفكار ثورية ينتج عنها إعادة هيكلة أو إنشاء أسواق كاملة، ولا تقف عند حد إدخال تعديلات تدريجية تحسن الوضعية الراهنة، فهي تهدد المتعهدين التاريخيين في السوق بالإفلاس. ولذلك فإن هناك احتمالا كبيرا في أن يحاول هؤلاء منعها عن طريق ممارسات منافية للمنافسة، وهو ما يضر برفاهية المستهلك. ومن هنا وجب أن يتحيز مجلس المنافسة لصالح حماية الإبتكار الكاسح، ومنع الإضرار برفاهية المستهلك الذي من حقه أن ينعم بابتكار  متطور وبرخاء الأسعار. ومن هذا المنطلق فقد عملنا على محاولة تسليط الضوء على الآليات التي يمكن لمجلس المنافسة أن  يستخدمها من أجل التطبيق الأمثل لقانون المنافسة وتوفير حماية فعالة للابتكارات الكاسحة.

لكن كيف يمكن لقانون المنافسة أن يحمي المنافسة في الأسواق الدينامية إذا كان موجه في الأساس نحو مراعاة المنافسة الثابتة والسعرية؟ وهل بلوغ هذه الغاية يستوجب تعديل قانون المنافسة، أم أن هذا المرتقى يمكن أن تضطلع به سلطات المنافسة دون الحاجة إلى تدخل تشريعي؟ وبصيغة أخرى هل قانون المنافسة لا زال قادرا على حماية المنافسة في أسواق الابتكار الكاسح أم أنه حان الوقت لتغيير مبادئه؟ وهل يمكن، عند التدخل في هذع الأسواق، الوثوق بالنتائج المتوصل إليها من خلال أسلوب تحليل المنافسة الذي تتبعه سلطات المنافسة؟

ما هي التحديات التي يحملها مفهوم الإبتكار الكاسح لقانون وسياسة المنافسة ؟ ما هي المخاطر التي تهدد الإبتكار الكاسح ؟ ما هي الآليات التي يجب أن يتبعها مجلس المنافسة لكي يضمن تطبيقا فعالا لقانون المنافسة؟

هذا ما سنعمل على دراسته وفق التصميم التالي:

 

الفصل الأول: محاولة في ملائمة أساليب تحليل المنافسة في أسواق الإبتكار الكاسح

الفصل الثاني: تحديات الإبتكار الكاسح و الآليات الكفيلة بتحقيق فعالية الحماية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى