في الواجهةمقالات قانونية

حسن النية بين اعتباره واجبا عاما والتزاما خاصا

مقال بعنوان :

حسن النية بين اعتباره واجبا عاما والتزاما خاصا

من إنجاز :                       البشير أغراس

 

–  عدل موثق محلف باستئنافية العيون

– حاصل على شهادة الماستر تخصص القانون المدني المعمق

 

 

مقدمة :

الأصل في المعاملات، والتصرفات، سواء المدنية، أو التجارية، أو المختلطة، أن تتم وفق المعتاد بحسن نية، هذا الأخير (حسن النية) الذي ليس بمفهوم جديد لكنه متجدد إن صح القول، فقد عملت الشريعة الإسلامية وفق القران والسنة على التنصيص عليه قبل سن القوانين الوضعية، بل تم تنظيمه في مجموعة من القواعد الفقهية التأصيلية كقاعدة (الأصل في التصرفات حسن النية)، ثم قاعدة (من استعجل الشيئ قبل أوانه عوقب بحرمانه)، ثم قاعدة (الأمور بمقاصدها) ثم  (الأصل في الإنسان العدالة) وغيرها من القواعد…

غير أن التطور السريع للمعاملات والمبادلات الوطنية والدولية،  مدنيا وتجاريا وإداريا صاحبه هو الآخر اختلاف مواز في تحديد طبيعة مبدأ حسن النية بين مقر بطبيعته المعهودة إليه منذ زمن بعيد، باعتباره واجبا عاما، وآخر متجاوز لهذه النظرة البدائية، والتقليدية، لحسن النية حيث اعتبروه التزاما خاصا مرتبا أثرا كأي التزام لا فرق في ذلك.

وقبل الخوض في تحليل موضوعنا، ارتأينا قبل ذلك التعريف به لرفع الغموض عن مضامينه، فالحسن في اللغة العربية يقصد به : “الحُسن بضمّ الحَاء، وھو كل مُبھِجٍ، جمیل، وحَسَن بفتح الحاء في مصطلح الحدیث : ما عُرِفَ مَخرّجُه، واشتُھر رجاله، وحَسَّن الشيءَ، أي جعله حسَناً وزیَّنه. وحَسَن الأخلاق أفضلُھا”[1].

أمّا النیـة في اللُّغة فھي “القصد، والعزم، وعرّفھا القرافي بأنھّا : قْصدُ الإنسانِ بقلبِه ما یرید، وقال النّووي : ھي القصْد إلى الشيءِ والعزیمة على فِعلِه، وقال ابن قدامة ھي القصْد، ویُقال نواكَ االلهُ بخیرٍ، أي قصَدَك، ونویتُ السَّفر، أي عزمت علیه”[2].

أما الواجب فهو عكس التخيير، وهو مرادف الإلزام، وشرعا هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا حتميا بان اقترن طلبه بما يدل على تحتيم فعله، كما إذا كانت صيغة الطلب نفسها تدل على التحتيم، أو دل على تحتيم فعله ترتيب العقوبة على تركه، وأية قرينة شرعية أخرى[3].

والعام هو نقيض الخاص، وهو لفظ يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله واستغراقه لجميع الشيء، دون حصر، أي الشامل والموسع، والعام ما وضع وضعا واحدا لكثير غير محصور[4]، ولهذا الأخير دلالات عدة.

والالتزام يقصد به رابطة قانونية بين شخصين أحدهما دائن والآخر مدين، بمقتضاه يحق للدائن أن يطالب المدين بأداء ما عليه من دين (القيام بعمل، أو الامتناع عنه).

أما الخاص فهو نقيض العام، وهو التفرد والانقطاع عن المشاركة، ومنه خصه بالشيئ أي أراده به دون غيره، وهو أيضا المحدد والمقنن، وهو المنفرد من قولهم اختص فلانا بكذا بمعنى انفرد به[5]، وله هو الآخر دلالات عدة.

وعليه بعد التعريف بمصطلحات الموضوع سنعمل على تناوله وفق الخطة التالية :

 

  • المطلب الأول : حسن النية واجب عام.

 

  • المطلب الثاني : حسن النية التزام خاص.

 

  • المطلب الثالث : محاولة توحيد طبيعة حسن النية.

 

المطلب الأول : حسن النية واجب عام  :

 

جرت العادة من جل الاتجاهات الفقهية، التقليدية اعتبار مبدأ حسن النية واجبا عاما، بحيث أنه يقوم دائما دون حاجة إلى التنصيص عليه صراحة في أي اتفاق، أو اشتراطه بين الأطراف. فهو حسب هذا الاتجاه التقليدي من الأمور المسلم بها، أو البديهية، بلحاقه بقرينة الافتراض، وأنه يصلح لأي زمان أو مكان، باختلاف الظروف والوقائع، وهو ماجاء بالفصل 477 من ق.ل.ع المغربي : “حسن النية مفترض دائما مادام العكس لم يثبت”.

وعلى هذا الأساس لا يحتاج مبدأ حسن النية التنصيص عليه في نص قانوني، أو الإفراد له مقتضيات خاصة به، وهو ما لم تنظمه جل التشريعات إن لم نقل الكل بما فيها التشريع المغربي، وإن كان نص بالفصل 103 من قانون الالتزامات والعقود في فقرته الثانية على أن : “الحائز حسن النية من يحوز الشيئ بمقتضى حجة يجهل عيوبها”، فإنه بذلك ربط تعريف حسن النية فقط بالحيازة وليس حسن النية بحد ذاته، أي باستقلالية.

وعليه فالواجب ليس كالالتزام، إذ أن مفهوم الواجب أوسع من الالتزام، فالواجب عنصر شامل لا يرتبط بأمر بحد ذاته، عكس الالتزام الذي يرتبط بالضرورة برابطة قانونية بين شخصين أحدهما دائن والآخر مدين.

غير أن عدم تنظيمه تشريعيا لا يعني أن المشرعين قد أغفلوه بل نجدهم يقرنونه بالالتزام نفسه في شتى مواضع، أو بأي معطى قانوني، بالتالي فهو ليس بالتزام بالمعنى الضيق، بقدر ماهو واجب بمفهومه الواسع.

وعليه يمكن تلخيص الأسباب المستند عليها للقول بكون حسن النية واجبا عاما فيما يلي :

  •     إن عدم تنظيم حسن النية، أو الإفراد له نصا تشريعيا خاصا به لوحده، إنما يعني أنه لا يحتاج إلى التنصيص عليه صراحة، وبالتالي فله مقومات الواجب العام المفترض.

كما أن لحاق حسن النية كقرينة بأي تصرف أو التزام، دون انفراده إنما يعني أن التصرف، أو الالتزام هو من في حاجة لحسن النية دائما، وليس العكس، لذا فهو ليس عنصرا مستقلا بذاته للقول بأنه التزام.

  •  إن القول بأن حسن النية التزام بمعناه الضيق يعني بأنه يرتب أثرا بذاته، والحال أن حسن النية لا يرتب أثرا بذاته، بقدر ما يرتبه الخطأ الفعلي المتمثل في الاخلال بالالتزم المقرون بالاخلال بحسن النية، أي أن عمل حسن النية يقوم بكشف الخطأ وتسهيل تحديد ما إن كان هناك خطأ عمد أم لا.

فقد يكون الإنسان سيء النية، لكنه لم يرتكب خطئا، وبالتالي لا يمكن متابعته لمجرد أنه كان سيئ النية، كونه ليس عنصرا قائما بذاته، أو التزام توافرت فيه شروط المسؤولية (خطأ وضرر وعلاقة سببية)، إنما عنصرا لاحقا بالالتزام نفسه، لذا فهو ليس إلا واجبا عاما.

  • إن حسن النية يفرض على الشخص قبل وبعد أن تصبح له صفة متعاقد، بل وعندما يتحلل منها أيضا. لذا فهو واجب عام يصاحب الفرد ذاته، عندما يكون متعاقدا (مرحلة التنفيذ)، وعندما يكون شبه متعاقد (مرحلة التكوين)، ثم عندما لا يكون في أي من المرحلتين (التكوين أوالتنفيذ)، مجردا من أي صفة تربطه بطرف آخر، بل وحتى بعد التنفيذ كالالتزام بكتمان أسرار الاتفاقات.
  • وعليه يستخلص من النتيجة المتوصل إليها أعلاه أن حسن النية يكون واجبا عاما، لا يتعلق برابطة قانونية دائما، بقدر ما يتعلق بها الالتزام الرابط بين طرفين.

المطلب الثاني : حسن النية التزام خاص :

 

يذهب اتجاه آخر إلى اعتبار أن حسن النية التزام خاص شأنه في ذلك شأن أي التزام، فهو ليس بواجب عام، تماشيا مع النظرة التقليدية التي نسبت إليه ذلك، خصوصا مع تزايد الحاجة إليه في العقود الأخيرة، وبالخصوص في مرحلة التفاوض التي تعرف فراغا تشريعيا، نجد حسن النية هو من يسده.

وعليه نجد الفقيه “Henri capitan” قال في مؤلفه :

“la bonne foi  journées louisianaises” بأن الالتزام بحسن النية يعد التزاما بالمعنى الضيق، وليس مجرد واجب عام، فهو التزام حقيقي، له دائن، ومدين، ومحل، وسبب، كما أنه لا ينشأ على عاتق البائع إلا عندما ينعقد الاتفاق بينه وبين المستهلك بالفعل، إذ من البديهي أن الشخص لا يلتزم بأن يتعاقد بحسن نية إلا عندما يدخل اتفاقا مع شخص آخر، في حين أنه يتقيد بالواجب العام في أي وقت، وتجاه أي شخص. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد وأن يكون لهذا الالتزام مصدرا ينشأ عنه[6].

إن الفقيه “هنري كابيتون”، خرج بذلك بنتيجة مفادها بأن حسن النية ينتقل من طبيعة الواجب العام إلى الالتزام الخاص عندما ينتقل الشخص من مجرد شخص عادي غير ملتزم، إلى شخص متعاقد ملتزم، ان ذاك يصبح حسن النية التزاما، ويتجرد من صفته كواجب عام.

كما يضيف بأن حسن النية يكون واجبا عاما دائما في أي وقت وزمان، مادام ليس وقت وزمان التعاقد، لأنه سيصبح في الحالة الأخيرة التزاما كاملا، لا مجرد واجب عام يتقيد به المرء في أي زمان ومكان.

إن القول بأن حسن النية التزام بمعناه الضيق، يعني أنه يرتب أثرا كذلك، ولهذا نجد الفقيه “بدوي السيد”، في مؤلفه “حول نظرية عامة لمبدأ حسن النية في المعاملات المدنية”، يذهب إلى أن الالتزام بحسن نية، هو التزام جوهري، لأنه لا يتصور قيام مفاوضات حول العقد إن لم يكن حسن النية هو محددها، وبالتالي فإن كل اتفاق مخالف لحسن النية هو باطل بقوة القانون[7].

إن الأستاذ “بدوي السيد” يذهب هو الأخير بنتيجة مصاحبة لنتيجة الأستاذ “هنري”، فترتيب أثر البطلان للإخلال بحسن النية بتجرد عن الإخلال بأي التزام آخر، إنما يعني أن حسن النية فعلا يكون التزاما قائما بذاته ليرتب أثرا. لكن الأستاذ ربط البطلان بالاتفاق على مخالفته فقط، لا الإخلال به من جهة واحدة. وبالتالي فقد قام بإعطائه طبيعة النظام العام، لا مجرد التزام فقط، بل أكثر من ذلك جعله من النظام العام، بحيث لا يمكن الاتفاق على مخالفته، وأن كل اتفاق مخالف يقع باطلا. والبطلان كما هو معلوم والعدم سواء، تجسيدا للفصل 306 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء به : “الالتزام الباطل بقوة القانون لا يمكن أن ينتج أي أثر إلا استرداد ما دفع بغير حق تنفيذا له”.

رغم أن حالات البطلان محددة بنص القانون إلا أنه يمكن أن يدخل بطلانه في الحالة الثانية المنصوص عليها بالفصل 306 المتعلقة بإقرار القانون للبطلان في حالات خاصة.

المطلب الثالث : محاولة توحيد طبيعة حسن النية :

إن الحديث عن التفرقة في طبيعة حسن النية بين كونه واجبا عاما، أو التزاما خاصا لا يستوي وكل حالة على حداد، فقد يكون واجبا عاما ثارة، والتزاما خاصا ثارة أخرى، وقد ينتقل من مجرد واجب عام إلى التزام خاص، بل وقد يجمع بين الطبيعتين معا في حالات. فطبيعته تتحدد بحسب طبيعة الوقائع.

فحسن النية مثلا في مرحلة المفاوضات التي تعرف فراغا تشريعيا لا يمكن نعثه بمجرد واجب عام، طالما هو من يقيد حرية التراجع، وقطع التفاوض في هذه المرحلة، بالتالي هو فعلا التزام خاص، لأن طبيعة الواقعة هي من فرضت صبغته الالزامية.

ورغم ذلك يبدو أن نظرية الفقيه “كابيتون” هي الأقرب إلى الصواب والتوحيد، لأن الفرق بين كون حسن النية واجبا عاما، والتزاما خاصا يكمن في الحالة القانونية التي يوجد بها الشخص، فإذا كان متعاقدا كان ملتزما بحسن النية، التزاما خاصا فرضه الاتفاق، والرابطة القانونية اتجاه الطرف الآخر المتعاقد معه دون غيره، أما إذا لم يكن كذلك فهو مقيد بالواجب العام اتجاه أي شخص، وإن لم تربطه علاقة به.

 

لائحة المراجع :

 

عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، الطبعة السابعة، السنة غر مذكورة

الشيخ خالد عبد الرحمان العك : أصول التفسير وقواعده ،طبعة دار النفائس دمشق ، الطبعة الثانية 1986،

محمد البوشواري : مدخل لدراسة الشريعة ، مكتبة قرطبة حي السلام، الطبعة السادسة 2014/2015

بدوي السيد : “حول نظرية عامة لمبدأ حسن النية في المعاملات المدنية”، رسالة لنيل الدكتوراه في الحقوق، جامعة القاهرة، كلية الحقوق عين شمس، السنة الجامعية 1988_1989

  1. Van Omnes laghe : rapport générale, in la bonne foi, travaux, de l’association, cité par : Henri capitan : la bonne foi,  journées louisianaises, 1992, éd. Librairie technique, 1994.

 

 

[1]_”المعجم الوسيط”، عدد : 174/1، ص : 167.  أشار إليه سعد بن سعيد الذيابي : “مبدأ حسن النية في النظام السعودي والأنظمة المقارنة”، مجلة الشريعة والقانون، والدراسات الإسلامية، السعودية، العدد 23 ربيع الآخر 1435 هـ فبراير 2014م،  ص : 18.

_ سعد بن سعيد الذيابي : مرجع سابق، ص : 19.[2]

_ عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، الطبعة السابعة، السنة غر مذكورة ص :132.[3]

_ الشيخ خالد عبد الرحمان العك : أصول التفسير وقواعده ،طبعة دار النفائس دمشق ، الطبعة الثانية 1986، ص : 380[4]

_ محمد البوشواري : مدخل لدراسة الشريعة ، مكتبة قرطبة حي السلام، الطبعة السادسة 2014/2015 ،ص : 165[5]

_[6]  P. Van Omnes laghe : rapport générale, in la bonne foi, travaux, de l’association, cité par : Henri capitan : la bonne foi,  journées louisianaises, 1992, éd. Librairie technique, 1994,  p : 32.

 

[7] _ بدوي السيد : “حول نظرية عامة لمبدأ حسن النية في المعاملات المدنية”، رسالة لنيل الدكتوراه في الحقوق، جامعة القاهرة، كلية الحقوق عين شمس، السنة الجامعية 1988_1989، ص : 142.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى