دور القضاء في دعم الاستثمار
حنان شفيق
باحثة بسلك الدكتوراه
مختبر البحث حول الحكامة والتنمية المستدامة
جامعة الحسن الأول بسطات
مقدمـــة:
قديما قال العلامة ابن خلدون: «العدل أساس المُلْك»[1]، واليوم -وفي إطار العولمة وما يعرفه العالم من تحولات سياسية واقتصادية وتكنولوجية متسارعة الخطى، محكومة بقانون العولمة الاقتصادية والتنافس الحاد بين الدول- يمكن القول تخريجا على ذلك بأن: «العدل أساس الاستثمار»، ذلك أن القضاء أصبح يشكل أهم مرفق من المرافق العمومية التي تحظى بالاهتمام، حيث عرف تطورا في دوره، ولم يعد مقتصرا على الوظيفة التقليدية بالفصل في الخصومات بين الأفراد المتنازعين، وإنما أضحى يلعب دورا طلائعيا في تحقيق التنمية الشاملة، والتي يعتبر الاستثمار دعامتها الأساسية، وهو يشكل قيمة مضافة إلى الطاقة الانتاجية والزيادة في الثروات، الأمر الذي من شأنه يؤدي إلى إشباع الحاجات وتوفير الخدمات.
وعليه، فقد وُضع هذا الموضوع في المغرب على رأس الأولويات، ومن ذلك الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة نصره الله للمؤتمرين بمراكش، والتي تؤكد بأن: «تعزيز الثقة في القضاء، باعتباره الحصن المنيع لدولة القانون، والرافعة الأساسية للتنمية، يشكل تحديا آخر يجب رفعه بتطوير العدالة وتحسين أدائها، لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية، التي تشهدها مختلف المجتمعات[2]».
فالعلاقة بين «القضاء والاستثمار» وبين «الاستثمار والتنمية» جد متلازمة، يرتبط أحدها بالآخر ارتباط سبب بمسبب، خصوصا وأن التوجه العالمي بات يتكلم لغة اقتصاد السوق منذ اتفاقية «الڭات[3]»، وهيمنة العولمة الاقتصادية. والمغرب ليس بمعزل عن ذلك، حيث انخرط في هذا السياق منذ أن تم التوقيع على الاتفاق النهائي على هذه الاتفاقية بمراكش عام 1994، والتي كان من أهم بنودها «تحسين ودعم المنظومة القانونية بشأن الإجراءات المعيقة للتجارة، و-كذلك- إيجاد نظام متكامل لتسوية المنازعات التجارية…».
ومنه، ولما كان المقصود بـ«القضاء» في هذا الموضوع ليس ذلك الذي يقتصر مفهومه على إظهار حكم القانون في الواقعة المعروضة عليه يفصل فيها بين طرفين متخاصمين، وإنما يتعدى معناه مع الأدوار الجديدة المنوطة به إلى كونه ذلك الشريك الموضوعي في تحقيق التنمية الشاملة وترسيخ دولة الحق والقانون، عبر إشراكه في إيجاد الحلول للصعوبات الطارئة عبر مساطر الوقاية من الصعوبات ومعالجتها على مختلف الأصعدة، وفي مقدمتها الأمراض الاقتصادية التي تخنق المقاولات والشركات التجارية والمدنية، نتيجة للديون وارتفاع الفوائد والمنافسة القاتلة؛ وتقلبات الأوضاع الاقتصادية الداخلية والعالمية ومشاكل التسويق[4]، إلى غير ذلك من العوامل التي تؤثر بشكل آخر على الاستثمار ككل. هذا الأخير اختلفت التعريفات بشأنه وتطورت تبعا لتنامي دوره وتوالي الاتفاقيات بخصوصه؛ ونظرا لغياب تعريف عام ومؤسِّس لمعايير موضوعية في هذه الاتفاقيات، بحيث لم يعد قاصرا على كونه ذلك الفعل الذي يقوم فيه المستثمر باستثمار مبلغ معين من ماله بغية تحقيق عوائد مادية كفارق بين سعر الشراء وسعر البيع وسائر التكاليف، وإنما تعدى ذلك ليشمل كونه كذلك شريكا موضوعيا في تحقيق التنمية المطلوبة، عبر سائر العمليات التي يقوم عليها، مع استحضاره حين وضع السياسات العامة المؤطِّرة للتنمية الشاملة.
والاستثمار في المغرب يحظى بأهمية بالغة باعتبار الأهداف التي يصبو إلى تحقيقها، حيث ركزت عليه العديد من الخطابات الملكية السامية، إذ دعا جلالته إلى تفعيل مقتضيات قانون 47.18[5] المتعلق بإصلاح المراكز الجهوية للاستثمار، الذي كانت على رأس أهدافه تبسيط الإجراءات الإدارية، من خلال نهج سياسة هادفة إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عما يوليه المغرب لمنظومة الأعمال بغرض جلب الاستثمارات وتحفيزها، مما يستدعي تأهيل منظومة العدالة لمد جسور الثقة بينها وبين مجال المال والأعمال، غير أن اختلاف الإيقاع بين هذا الأخير ومرتكزاته التي تقتضي السرعة في البت في المنازعات؛ وبين بطء النظام القضائي، مما تُطرح معه إشكالية دور القضاء إزاء مجال الاستثمار، وتساؤلات من قبيل: ما هي حدود مساهمة القضاء في دعم الاستثمار؟ وما هي مظاهر هذا الدعم؟
وهو ما سيحاول هذا الموضوع بحثه من خلال مطلبين: يناقش (أولهما) المبادئ الأساسية للاستثمار. بينما يتولى (الثاني)مقاربة مظاهر دعم القضاء للاستثمار.
المطلب الأول
المبادئ الأساسية للاستثمار
نظرا لكون الاستثمار يعد من أوجه النشاط التجاري، وباعتبار الدور المهم الذي يضطلع به على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن الحديث عن دور القضاء في هذا المضمار يستدعي أولا تحديد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الاستثمار لنرى تجليات هذا الدور من خلالها، والتي منها:
الفقرة الأولى: مبدأ حرية الاستثمار
والمقصود منه استخدام المدخرات في تكوين الاستثمارات أو الطاقات الإنتاجية الجديدة اللازمة لعمليات إنتاج السلع والخدمات، والمحافظة على الطاقات الإنتاجية القائمة أو تجديدها، والتضحية بالموارد التي تستخدم في الحاضر، على أمل الحصول على إيرادات ونفقات في المستقبل[6]. بمعنى أنه عبارة عن تنظيم المشروعات دون قيد أو عائق تبعا لآليات السوق الحرة، طبعا ضمن الحدود التي يحددها القانون، في إطار السماح للأشخاص بالاستثمار في ظروف حرية المنافسة. وقد اقترن ظهوره بظهور مبدأ حرية المبادرة عقب الثورة الفرنسية عام 1789 التي نادت باحترام حقوق الإنسان والمواطن؛ والتي من بينها حرية التجارة والصناعة. وقد كرسته دساتير الدول ومن بينها المغرب، وتم التنصيص عليه في ميثاق الاستثمار، فضلا عن الاتفاقيات التي وقّع عليها المغرب بخصوص التبادل الحر للمنتجات التجارية، الذي يكون بتخفيف الحواجز التي تعيق حرية المبادلات، حيث تتفق الدول فيما بينها على تمكين المستثمر من الحصول على تسهيلات وضمانات[7]، إدارية أو عقارية أو اقتصادية.
الفقرة الثانية: مبدأ الشفافية
ويتمثل في حق المستثمر في أن تشعره الدولة مسبقا بكل القوانين والقرارات المتعلقة بالاستثمار، والمتلائمة مع المبادئ المنظِّمة للتجارة الدولية. فالمستثمرون ورجال الأعمال ينادون دائما بتطوير التشريعات وتحديثها لتصبح متلائمة للنظم والمعاير العالمية، سعيا نحو بناء سوق مالي يتميز بالحكامة والشفافية، حيث إن الكثير من المؤسسات والهيئات الاستثمارية تتجنب الاستثمار في الأسواق التي تفتقد إلى الشفافية. فيجب أن يكون هناك جسر من التواصل ممتد بين الحكومة وبين المستثمرين؛ تشعرهم بمختلف السياسات التجارية ومختلف النظم القانونية المنظمة.
الفقرة الثالثة: مبدأ العدالة الضريبية
وهو ما يعرف كذلك بالإنصاف في توزيع الأعباء الضريبية، الذي يحيل على التسوية في المعاملة بين العمليات الاستثمارية على المستوى الجبائي، وهي صفة لازمة للضريبة تمكن من توزيع العبء الضريبي على الملزمين بطريقة عادلة وفق مجموعة من الاستراتيجيات المالية المعمول بها في تطبيق النظام الضريبي، وهو ما عمل عليه المغرب الذي تبنى سياسة اقتصادية هدفها تهيئة الظروف الملائمة للاستثمار[8]، تماشيا مع تطورات العلاقات التجارية العالمية، فضلا عن الترتيبات التطبيقية لاتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي وغير ذلك من الاتفاقيات[9]. وبالعودة إلى القانون الإطار 18.95 بمثابة ميثاق الاستثمار نجده سعى نحو توحيد المقتضيات القانونية الخاصة بقطاعات مهنية معينة وتعميمها، ليستفيد كل مشروع من تخفيض الضغط الضريبي والإعفاء من الضريبة عند إنشاء المقاولة[10].
الفقرة الرابعة: مبدأ تبسيط المساطر والإجراءات
شكَّل تبسيط المساطر الإدارية منذ نهاية التسعينيات أحد أولويات عمل وزارة الوظيفة العمومية في مجال تحديث الإدارة. كما أنه يحظى اليوم بأهمية استراتيجية في مجال تطوير جودة الخدمات العمومية ودعم شفافية العلاقة بين الإدارة والمرتفقين وتحسين مناخ الأعمال ببلادنا.
ويقصد بـ «تبسيط المساطر الإدارية» مجموع الإجراءات العملية التي من شأنها تطوير العلاقة بين الإدارة والمرتفقين. ويتعلق الأمر على الخصوص بـ:
- وضع جرد شامل للمساطر الإدارية والإجراءات الإدارية؛
- تدوين المساطر ودراستها من خلال مراجعة مكونات المسطرة؛ أي الوثائق المطلوبة، المتدخلين في المسطرة، تحديد المصالح المعنية فيما يخص إيداع الطلب أو الوثائق، وتسلم الخدمة، رسوم المسطرة والآجال المعقولة للحصول على الخدمة، والسند القانوني للمسطرة، وأخيرا ملاءمة المساطر مع السند القانوني المحدث لها؛
- وضع المساطر ضمن سجل مركزي يمكّن المرتفقين من الولوج إليها والتعرف على مجمل الإجراءات المرتبطة بالحصول على الخدمات العمومية[11].
ومنه، فباعتبار متطلبات التنمية ترتبط بتوفير الأمن والاستقرار وحماية حقوق المستثمرين، فإن المغرب انخرط في هذا المسعى، ليبقى منسجما مع الوضع العالمي الذي يعرف تحولات سريعة محكومة بقوانين العولمة الاقتصادية والتنافسية الحادة[12]، بتجهيز ترسانة قانونية وتنظيمية مهمة، عززها بدخول القانون الجديد رقم 55.19 الخاص بتبسيط المساطر والإجراءات الإدارية حيز التنفيذ[13].
المطلب الثاني
مظاهر دعم القضاء للاستثمار
لما كانت مظاهر دعم القضاء للاستثمار متنوعة؛ فإن ذلك اقتضى استعراض المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الاستثمار على نحو ما سبق، وهو ما يستتبعه التفصيل بحسب تجلي كل مظهر حسب التخصصات المتعددة بتعدد نوع الدعم الذي يحتاج إليه الاستثمار. فالقضاء يساهم في تأطير الأنشطة الاقتصادية من خلال ضبط قواعد التعامل حتى تتحقق المبادئ التي عليها قوام الاستثمار. فعلاقة القضاء بالاستثمار من التشعب الذي يشمل جل فروعه غير مقتصر على الجانب التجاري وإن كان يعد أهمها.
الفقرة الأولى: دور القضاء التجاري في دعم الاستثمار
جاء إحداث محاكم متخصصة بالمغرب، كحلقة ضمن سلسلة الإصلاحات التشريعية التي باشرها المغرب في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، وذلك بغية تطوير مناخ التجارة والأعمال ومنح أكبر ثقة للمستثمر الأجنبي الراغب في الاستثمار بالمغرب. وبالتالي الاستفادة من إمكانية ضخ رؤوس أموال مهمة تعين الاقتصاد الوطني على النهوض من جديد، وهو الذي كان لا يزال يترنّح جراء الفاتورة الاجتماعية لسياسة التقويم الهيكلي وتنفيذ برامج الإصلاح المالي والنقدي اللذَين فرضتهما عليه السلطات النقدية العالمية، حيث تمّ في هذا الإطار استصدار العديد من القوانين المهمة والتي مهدت لعهد جديد في مجالَي التجارة والاستثمار[14]، منها قانون إحداث المحاكم التجارية عام 1997[15]، الذي جاء في سياق تقوية الترسانة المؤسساتية للمملكة المغربية بتزويدها بقضاء متخصص، شأن العديد من الأنظمة القانونية في العالم، لرفع مستوى أداء مرفق القضاء وتسريع البت في القضايا وتحقيق عدالة ناجزة.
والقضاء التجاري مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بالانفتاح على محيطه الخارجي، والاحتكاك بتجارب قضائية مقارنة، طلبا لتطوير آليات العمل القضائي التجاري، حتى يتسنى له إيجاد الحلول المناسبة للقضايا التجارية التي تهم الاستثمار، وليكون من جهة أخرى فاعلا رئيسيا في توفير مناخ اقتصادي سليم يسوده الاطمئنان والثقة والاستقرار.
ولكي يؤدي القضاء التجاري المتخصص مهمته في دعم الاستثمار والإسهام في إنعاش النشاطات الاقتصادية؛ عليه أن يضمن أمن المستثمرين ويصون حقوقهم في ظل سيادة القانون واستقلال القضاء، سواء كانوا وطنين أو أجانب، إذ لا استثمار بدون ضمانات قضائية واضحة، فلا مجال لفتح الأبواب للاستثمار الأجنبي من غير أن يكون المستثمر الأجنبي في مأمن من الشطط أو سوء الفهم. فالقضاء بات شريكا رئيسيا في تحقيق التنمية.
ومن الواجبات التي باتت على عاتق القاضي التجاري أن يقوم بالانفتاح على المحيط الخارجي، وألا يكتفي بتكوينه القانوني، وإنما يتوجب عليه بموجب هذا الانفتاح الاهتمام أيضا بالمسائل التي لها علاقة بالاقتصاد والمالية العامة والتجارة الدولية؛ سواء منها التقليدية أو الالكترونية، حيث أصبحت التكنولوجيا من التحديات المفروضة في عالم اليوم.
فإذا كان العمل التجاري يقوم أساسا على عنصرَي الثقة والسرعة، فإن هذين العنصرين يعتبران أيضا ركنا أساسيا فيما يخص المنازعات التجارية الناشئة عن الاستثمارات، وذلك من خلال سرعة الفصل فيها، وبمقتضى أحكام قضائية تبعث على الثقة في سيادة القانون، وتوفير العدالة في الدولة المستثمَر فيها.
كما أن أهمية المحاكم التجارية المتخصصة تفرضها أيضا المصلحة العامة المتمثلة في متطلبات التنمية، والتي تتجلى بوضوح في دورها في دعم الاقتصاد وتشجيع الاستثمار. إننا في عصر أصبح العالم فيه قرية واحدة، وأضحت الروابط الاقتصادية هي أهم العناصر في العلاقات بين الدول، وسعت الدول لفتح أسواقها أمام المستثمرين من كل الأرجاء، والدول العربية كجزء من هذا العالم ليست بمعزل عن ذلك، الأمر الذي أوجد معاملات تجارية متطورة لم تكن معروفة من قبل، ولا يمكن للقاضي أن يحكم في معاملة إلا إذا تصورها وعَرَفَها حق المعرفة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن هنا تبرز أهمية وجود محاكم تجارية متخصصة[16].
الفقرة الثانية: دور القضاء الإداري في دعم الاستثمار
رغم ما تقرر سابقا بأن القضاء التجاري يأتي في مقدمة التخصصات الأقرب للاستثمار؛ إلا ان هذا لا يغض من دور القضاء الإداري، خصوصا دوره المهم في ضمان سيادة القانون من خلال اضطلاعه بالرقابة على شرعية أعمال الإدارة والحيلولة دون التسلط في استعمال السلطة الإدارية، فضلا عن أن القضاء الإداري[17] المتخصص كان قبل التجاري، حيث عرف المغرب هذا النوع من القضاء في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، حيث حلّت المحاكم الإدارية محل المحاكم الابتدائية في القضايا المتعلقة بالإدارة، وإن كانت هناك إرهاصات أولية لهذا النوع من التقاضي في ظهير الالتزامات والعقود، حينما نص على مسؤولية الدولة عن الأضرار والأخطار المصلحية التي يحدثها مستخدموها[18].
وعليه، ونتيجة لتضافر مجموعة من العوامل المختلفة جاء ميلاد القضاء الإداري ليساهم بهيكلته وتنظيمه في مجال حماية الحقوق والحريات في مواجهة تجاوزات الإدارة. وهو ما يعد من بين أهم التطورات التي عرفتها بلادنا على المستوى المؤسساتي، حيث شكل قيمة مضافة وآلية جديدة في الميدان الحقوقي وكذا خطوة إيجابية لتحقيق دولة الحق والقانون.
ومن مظاهر الحماية التي يوفرها القضاء الإداري للمستثمرين الاخصاص بنظر المنازعات المرتبطة بالعقود الإدارية، إذ يساهم القاضي الإداري في تفعيل الإدارة، وتكريس مبادئ المساواة والشفافية والمنافسة؛ التي هي ركائز يقوم عليها الاستثمار.
كما تعتبر الصفقات العمومية من أهم العقود الإدارية التي عن طريقها تدير الدولة والإدارات العامة مشاريعها، ونظرا للانتقادات التي كانت توجه إلى كيفية إبرام هذه الصفقات خاصة من طرف المستثمرين المنافسين، حرصت الدول على إجراء الإصلاح في ميدان تنظيم القواعد المتعلقة بالصفقات العمومية، علما بأنه يجب على أي مستثمر صاحب مشروع احترام كافة المبادئ والمقتضيات القانونية المنظمة لهذه الصفقات[19].
ونظرا لكون الصفقات العمومية تكتسي أهمية بالغة لما لها من تأثير على الحياة الاقتصادية والتنمية بصفة عامة، فإن ذلك حتّم فرض رقابة فعالة عليها، مما جعل المشرع يخصها بنوعين من الرقابة، إحداهما داخلية، تفرضها الإدارة على مجال الصفقات العمومية. والأخرى خارجية، تتجلى في رقابتين سياسية وقضائية، فأما الرقابة السياسية فيقوم بها البرلمان، وأما الرقابة القضائية فتنقسم إلى شقين اثنين:
أولهما، يتجلى في الرقابة القضائية الصرفة؛ والتي تقوم بها المحاكم العادية والمحاكم الإدارية. وثانيهما، يتمثل في الرقابة القضائية المالية التي يقوم بها المجلس الأعلى للحسابات[20].
الفقرة الثالثة: دور القضاء الجبائي في دعم الاستثمار
لابد من الإقرار بداية بأن القضاء الجبائي فرع من القضاء الإداري، والمحاكم الإدارية هي صاحبة الولاية للنظر في المنازعات الضريبية. والمنازعة الجبائية منازعة إدارية بطبيعتها، والتشريع الضريبي فرع من فروع القانون العام، ذلك أن أحد أطراف الخصومة هو جهة إدارية باعتبارها سلطة عامة، تتجلى فيما تملكه الإدارة من امتيازات وسلطات بمقتضى القانون، قصد تمكينها من ممارسة وظيفتها في سبيل مصلحة الخزينة العامة للدولة، وبفعل تدخلها المستمر في تأسيس واستخلاص الديون العمومية، وهو ما يصطدم في أغلب الحالات بموقف المخاطبين بالضريبة. وهو ما يبرر أهمية دور القضاء الإداري في المادة الجبائية، الذي يعمل على تحقيق التوازن بين الإدارة والملزم. ومنه، فالمنازعة الضريبية تدخل ضمن القضاء الشامل بإجماع الاجتهاد القضائي، غير أن هذا لا يمنع من وجود دعوى الإلغاء في مجال المنازعات في حدود ضيقة حينما يتعلق الأمر بقرارات قابلة للانفصال عن عملية ربط الضريبة أو الطعن في بعض المنشورات التي تكتسي صبغة تنظيمية وتفسيرية للقانون[21].
والسياسة الجبائية تعد إحدى الآليات الأساسية لتدعيم القدرة التنافسية، وكذا ترسيخ مكانة الضريبة كمصدر لجلب الاستثمار، ومهما كانت أهمية النصوص والمواثيق الهادفة إلى جلب الاستثمار فإن فاعليتها رهينة بكيفية تطبيقها، فالتشريع الجيد يحتاج إلى تنفيذ سليم، وضمان حسن التنفيذ يتوقف على رقابة قضائية فاعلة ومبدعة، واعتبارا لذلك لا يكفي أن يصوغ المشرع قانونا جيدا، بل لابد أن يحظى هذا القانون بالتطبيق السليم[22]. ومن خلال العمل القضائي نجد بأن القضاء الإداري اتخذ توجها من شأنه حماية الطرف الضعيف الذي هو الملزم بالضريبة باعتبار عدم تكافؤ العلاقة بينه وبين الإدارة الضريبية، وذلك بإلزامها بمراعاة المساطر والإجراءات القانونية الجاري بها العمل.
وعليه، فالعلاقة بين القضاء الجبائي والاستثمار من الأهمية بمكان، فكلما كانت هذه العلاقة تمتاز بالضبط واحترام الإجراءات القانونية كلما انعكست بشكل إيجابي على عملية الاستثمار، فالمستثمر حينما يعزم على إنشاء مشاريعه في بلد ما، فأول ما يبحث عنه هو الواقع العملي للإدارة الجبائية والقضاء الجبائي.
خاتمـــة
وفي ختام هذا الموضوع نخلص إلى أن القضاء أصبح اليوم أكثر من أي وقت مضى مطالبا بالانفتاح على محيطه الخارجي والاطلاع على تجارب قضائية وثقافات قانونية أخرى، والأخذ بعين الاعتبار ضرورة انفتاحه على المحيط الخارجي وعدم الاكتفاء بالتكوين القانوني؛ وإنما الاهتمام بمسائل الاقتصاد والمحاسبة والشؤون المالية والتجارة الدولية، رغبة في تطوير واستيعاب متطلبات التنمية، حتى يصبح قادرا على إيجاد الحلول المناسبة لما قد يعرض عليه من منازعات تهم مجال الاستثمار، ومن ثم يكون فاعلا أساسيا في خلق مناخ سليم يسوده الاطمئنان والثقة والاستقرار، ويشكل دعامة قوية لعملية التنمية وتشجيع الاستثمار، وحتى يقوم القضاء المتخصص بالدور المنوط به لاسيما في التحفيز على الاستثمار والمساهمة في خلق النشاطات الاقتصادية عليه أن يضمن أمن المستثمرين ويصون حقوقهم في ظل سيادة القانون واستقلال القضاء، سواء كانوا وطنيين أم أجانب، إذ لا استثمار بدون ضمانات قضائية واضحة.
وفي هذا السياق، ومما لا شك فيه، فإن تأهيل مختلف مكونات مناخ الأعمال يتطلب دعم الاستثمار وتعزيز القدرة التنافسية للمقاولة، حتى يتسنى مواكبة التحولات الاقتصادية العالمية، الأمر الذي تبوأ مركز الصدارة ضمن الأوراش الكبرى المفتوحة بالمملكة المغربية، حيث عرفت مجموعة من الإصلاحات العميقة والشاملة لإصلاح منظومة العدالة، عملا بمقتضيات دستور 2011، إضافة إلى اتخاذ مجموعة من التدابير سعيا نحو التأهيل الهيكلي للنسيج الاقتصادي وتحفيز الاستثمار والرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني وتحسين مناخ الأعمال، وذلك بُغية اللحاق بالسياق العالمي المتميز بانفتاح أغلب دول العالم على اقتصاد السوق، هذا الأخير الذي يتيح فرص مهمة للتنمية المستدامة. وفي مقابل ذلك يفرض مجموعة من الالتزامات تجاه الشركاء الاقتصاديين الدوليين وخاصة مؤسسات التمويل، مما يحتم الانخراط في دينامية تحديث وتطوير الاقتصاد من خلال تأهيل المحيط العام لمنظومة العدالة بكافة مكوناتها ولاسيما الإطار القانوني.
[1]– وقد جاء في المقدمة في علاقة العدالة بالاستثمار قول ابن خلدون: «إِعْلَمْ أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك… ».
– عبد الرحمن ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، دار الجيل، بيروت، (ت ط غ)، ص: 316.
[2]– الدورة الأولى لمؤتمر مراكش الدولي للعدالة حول موضوع: «استقلال السلطة القضائية بين ضمان حقوق المتقاضين واحترام قواعد سير العدالة»، وذلك خلال الفترة الممتدة من 2 إلى 4 أبريل 2018، الذي انعقد بقصر المؤتمرات بمراكش، تحت الرعاية الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس دام له النصر والتمكين، وتخليدا للذكرى الأولى لتأسيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية. وقد عقدت الدورة الثانية من مؤتمر مراكش الدولي للعدالة بقصر المؤتمرات يومي 21 و22 أكتوبر 2019، في موضوع: «العدالة والاستثمار: التحديات والرهانات».
[3]– اختصار عن اللغة الإنجليزية (General Agreement on Tariffs and Trade) بما تعريبه: (الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة)، وقد تم تحويلها إلى منظمة دولية جديدة، هي منظمة التجارة العالمية، بين الدول التي كانت تقبل الانضمام إليها، والتي كانت 23 دولة عند التوقيع عليها عام 1947 ووصلت إلى 117 دولة في أوائل 1994، عند انتهاء العمل بسكرتارية «الڭات» (GATT)، مع التوقيع على إنشاء منظمة التجارة العالمية (WTO)، بدلاً منها بمراكش بالمغرب. للمزيد من الاطلاع، يُرجع إلى الموسوعة السياسية:
(https://political-encyclopedia.org/dictionary).
[4]– أحمد شكري السباعي: الوسيط في مساطر الوقاية من الصعوبات التي تعترض المقاولة، ومساطر معالجتها، الجزء الأول، الطبعة الثانية 1421هـ/2000م، مطبعة المعارف الجديدة-الرباط، ص: 7.
[5]– الظهير الشريف رقم 1.19.18 الصادر في 7 جمادى 1440 موافق 13 فبراير 2019، بتنفيذ القانون رقم 47.18 المتعلق بإصلاح المراكز الجهوية لاستثمار، وإحداث اللجان الجهوية الموحدة للاستثمار منشور بالجريدة الرسمية عدد 6754، بتاريخ 15 جمادى الآخرة1440 موافق12 فبراير 2019.
[6]– مراد بوريحان: مكانة مبدأ حرية الاستثمار في القانون الجزائري، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في القانون، تخصص الهيئات العمومية والحوكمة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة عبد الرحمان ميرة- بجاية، السنة الجامعية: 2016/2015، ص: 8.
[7]– محمد اعليلو: القرار الاستثماري بالمغرب، رسالة لنيل الماستر في القانون الخاص، كلية الحقوق أڭدال، جامعة محمد الخامس، الرباط، السنة الجامعية: 2008/2009، ص: 60.
[8]– سهيلة أقلعي: إشكالية تحفيز الاستثمار بالمغرب، رسالة لنيل دبلوم الماستر، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة، جامعة عبد المالك السعدي، الموسم الجامعي2008/2007، ص:4.
[9]– سكينة أعمرتاس: قراءة في ميثاق الاستثمار المغربي بين الواقع والافاق، منشور بمجلة القانون والأعمال، العدد 24، سنة 2019، ص: 34.
[10]– جاء في المادة الثانية من الميثاق: «تهدف التدابير المنصوص عليها في الميثاق إلى التحفيز على الاستثمار عن طريق:
– تخفيض العبء الضريبي المتعلق بعمليات شراء المعدات والآلات والسلع التجهيزية والأراضي اللازمة لإنجاز الاستثمار؛
– تخفيض نسب الضريبة المفروضة على الدخول والأرباح؛
– سن نظام ضريبي تفضيلي لفائدة التنمية الجهوية؛
– تعزيز الضمانات الممنوحة للمستثمرين بتيسير طرق الطعن فيما يتعلق بالنظام الضريبي الوطني والمحلي؛
– إنعاش المناطق المالية الحرة (Offshore) ومناطق التصدير الحرة ونظام المستودعات الصناعية الحرة؛
– تحقيق توزيع أفضل للعبء الضريبي وتطبيق أحسن للقواعد المتعلقة بالمنافسة الحرة وخاصة عن طريق مراجعة نطاق تطبيق الإعفاء من الضريبة».
– ظهير شريف رقم 1.95.213 صادر في 14 من جمادى الآخرة 1416(8 نوفمبر1995) بتنفيذ القانون الإطار رقم 18.95 بمثابة ميثاق للاستثمارات منشور بالجريدة الرسمية عدد 4335، بتاريخ 29/11/1995، ص: 3030.
[11]– موقع وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة: (https://www.mmsp.gov.ma/ar/decline.aspx?m=10&r=57)
[12]– محمد الزوجال: الحماية القانونية للاستثمار، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، 8002/9002، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة، جامعة عبد المالك السعدي، ص:145.
[13]– ظهير شريف رقم 60.02.1، صادر في 11 من رجب 1441 (6 مارس 2020) بتنفيذ القانون رقم 55.19 المتعلق بتبسيط المساطر والإجراءات الإدارية. الجريدة الرسمية عدد 6866، 42 رجب 2020، ص: 1626.
[14]– العلوي القديري مولاي حفيظ: تجربة القضاء التجاري بالمغرب؛ بين نواقص النص ومؤيدات الإصلاح، منشور في 27 شتنبر 2016 بالموقع الالكتروني: (https://ae.linkedin.com/pulse)
[15]– القانون رقم 53.95، الصادر بتنفيذه الظهـير الشريف رقم 1.97.65، الصـادر في 4 شـوال 1417 (12 فبراير 1997)، منشور بالجريدة الرسمية عدد: 4482، بتاريخ 8 محرم 1418 (15ماي1997)، ص:1141.
[16]– ورقة عمل بعنوان: القضاء المتخصص ودوره في شجيع الاستثمار، مقدمة للمشاركة في المؤتمر السابع عشر لرؤساء إدارات التشريع في الدول العربية المزمع عقده في مقر المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية في بيروت خلال الفترة (2- 4 / 7 /2018م).
[17]– القانون رقم 41.90 المحدث بموجبه محاكم إدارية، الصادر بتنفيذه ظهير شريف رقم 1.91.225 صادر في 22 من ربيع الأول 1414 (10 سبتمبر 1993)، الجريدة الرسمية عدد 4227 بتاريخ 18 جمادى الأولى 1414 ( 3 نوفمبر 1993)، ص: 2168.
[18]– من ذلك المادة 79 من ظهير الالتزامات والعقود، الذي ينص على أن: «الدولة والبلديات مسؤولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها».
[19]– القضاء المتخصص ودوره في شجيع الاستثمار، ديوان الفتوى والتشريع، دولة فلسطين، (ط.ت.غ)، ص: 9.
[20]– بالنسبة للشق الأول من الرقابة، فقبل إنشاء المحاكم الإدارية كان المغرب يعرف وحدة القضاء، إذ قام المشرع المغربي بتوزيع الاختصاص بين مختلف المحاكم العادية والمجلس الأعلى، أما بعد إنشاء المحاكم الإدارية أثيرت إشكالية معيار العقد الإداري بشكل حاد، إذ إن المحاكم بموجب الفصل 8 من قانون إصدارها صارت تختص بالنظر في المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية الخاصة.
أما بالنسبة للنوع الثاني من الرقابة والتي يقوم بها المجلس الأعلى للحسابات فهو جهاز مستقل عن الإدارة يمكن له معاقبة من يتصرف في الأموال العمومية أثناء التسيير والتنفيذ (محاسبين وآمرين بالصرف) بشكل سيء. وتستمد الرقابة القضائية الممارسة من طرف المجلس تبريرها من ضرورة حماية الأموال العمومية.
– بنعياش رشيد: الرقابة على الصفقات العمومية بالمغرب، الحوار المتمدن-العدد: 2935 – 2010 / 3 / 5، 15:30، (https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=206375).
[21]– هدى السبيسي: المنازعات القضائية في الوعاء الضريبي، ص:1. منشور بموقع عدالة، البوابة القانونية والقضائية لوزارة العدل بالمملكة المغربية: (http://adala.justice.gov.ma/production/Etudes_Ouvrages/ar/Etudes)
[22]– القضاء المتخصص ودوره في شجيع الاستثمار، مرجع سابق، ص: 10.