دور المجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية بالمغرب بين الإمكانات الدستورية المتاحة وإكراهات الممارسة. الدكتور : مصطفى بوحزامة

دور المجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية بالمغرب بين الإمكانات الدستورية المتاحة وإكراهات الممارسة.
The role of civil society in evaluating public policies in Morocco between the available consitutional capabilities and the constraints of practice.
الدكتور : مصطفى بوحزامة
دكتور في القانون العام جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس.
Mustapha Bouhazama,
Public law doctor
مستخلص
تتناول هذه المقالة موضوع دور المجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية بين الإمكا نات الدستورية المتاحة وإكراهات الممارسة. وتحاول الإجابة عن إشكالية مركزية تتمثل في مدى قدرة المجتمع المدني المغربي في أن يقوم بدوره في تقييم السياسات العمومية، مستفيدا من الإمكانات المتاحة أمامه ومتغلبا على إكراهات الممارسة. وقد توصلت الدراسة إلى أن المجتمع المدني بات يمتلك إمكانات مهمة بعد دستور 2011 في عملية تقييم السياسات العمومية. لكن رغم ذلك فإن المجتمع المدني المغربي لا زال يعاني من إكراهات تحد من فعاليته في المساهمة في تقييم السياسات العمومية. لذلك توصي هذه الدراسة بضرورة تمكين المجتمع المدني من مزيد من الموارد والإمكانات المادية والمالية والمؤسساتية والقانونية، والانفتاح عليه أكثر من أجل الاضطلاع بدوره المكمل والمتمم للدمقراطية التمثيلية وملء ثغراتها.
الكلمات المفتاح: المجتمع المدني المغربي، تقييم السياسات العمومية، دستور 2011، الديمقراطية التشاركية، الديمقراطية التمثيلية.
Abstract
This article discusses the role of civil society in evaluating public policies between the available constitutional capabilities and the constraints of practice. Moreover, it attempts to answer a central problem represented in the extent of the ability of Moroccan civil society to play its role in evaluating public policies, by taking advantage of the available capabilities and overcoming the constraints of practice. The study concluded that Moroccan civil society has acquired important capabilities in the process of evaluating public policies after the 2011 constitution. However, despite this, civil society still suffers from constraints that limit its effectiveness in contributing to the evaluation of public policies. Therefore, this study recommends the necessity of enabling civil society with more material, financial and institutional resources and capabilities, and opening up to it more in order to play its complementary and supplementary role in representative democracy and fill its gaps.
Keywords: Moroccan civil society, evaluation of public policies, 2011 Constitution, participatory democracy, representative democracy.
مقدمة
يكتسي المجتمع المدني أهمية كبيرة في تكريس الديمقراطية التشاركية، من خلال تمكين المواطنات والمواطنين أفرادا وجماعات من التعبير عن تطلعاتهم واهتماماتهم وآرائهم بخصوص السياسات العمومية المعتمدة سواء على مستوى اتخاذ القرار أو على مستوى التنفيذ أو على مستوى المتابعة والتقييم. ولذلك فإن المجتمع المدني يمكن أن يشكل، في إطار الديمقراطية التشاركية، إضافة وتكميلا للديمقراطية التمثيلية التي قد تهمل المواطن ولا تهتم بخياراته واهتماماته وتطلعاته إلا بشكل دوري ومناسباتي خلال المحطات الانتخابية، حيث ينتهي دوره بمجرد ظهور نتائج الاستحقاقات الانتخابية، وما قد ينتج عن ذلك من قلة الثقة أو انعدامها بين الناخب والمنتخب.
وقد عرفت الدستورانية المعاصرة بما فيها الدستورانية المغربية الجديدة تحولات في هذا المجال؛ حيث نجدها قد أولت أهمية خاصة للمجتمع المدني في المشاركة في اتخاذ القرار السياسي العمومي من خلال تزويده بمجموعة من الآليات الدستورية المؤسساتية والقانونية سواء في اتخاذ القرار أو في التنفيذ أو في المراقبة والتقييم على المستوى الوطني والجهوي والمحلي الترابي.
هكذا نجد الدستور المغربي ل 29 يوليوز 2011 يختلف عن كل الدساتير المغربية التي سبقته فيما يخص الاهتمام بالمجتمع المدني على أكثر من صعيد؛ فهو، بداية يعتبر ثمرة لمشاركة وازنة لهيئات المجتمع المدني التي تقدمت بما يربو عن 140 مذكرة إبان مسلسل التعديل الدستوري لسنة 2011 في إطار مقاربة تشاركية واسعة، كما أنه قام بدسترة وتعزيز مكانة وأدوار المجتمع المدني مقارنة بالدساتير المغربية الخمسة التي سبقته من خلال تزويد هيئات المجتمع المدني بآليات جديدة أهمها تقديم الملتمسات والعرائض، عقد لقاءات للحوار والتشاور العمومي، وإحداث هيئات استشارية للمساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع. كما أن إحداث المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي من شأنه أن يسهم في النهوض بالحياة الجمعوية وتوسيع مشاركة الشباب في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للبلاد ومساعدتهم على الاندماج في الحياة الجمعوية النشيطة وتجاوز المشاكل التي تعترضهم.
غير أن الممارسة أثبتت أن المجتمع المدني مازالت تعترضه مجموعة من الإكراهات والتحديات منها ما هو ذاتي مرتبط بالمجتمع المدني ذاته مثل ضعف التكوين وغياب الديمقراطية الداخلية والشفافية المالية، ضعف التمويل والموارد البشرية وغياب الرؤية الاستراتيجية. ومنها ما هو موضوعي مثل غياب الاستقلالية عن الدولة والأحزاب السياسية، بالإضافة إلى الإكراه المرتبط بالإطار التشريعي والقانوني المنظم.
ومن خلال ما سبق تبرز الإشكالية المركزية لهذه الدراسة والتي تتمثل في مدى قدرة المجتمع المدني المغربي على أن يقوم بدوره في تقييم السياسات العمومية مستفيدا من الإمكانات الدستورية المتاحة ومتجاوزا إكراهات الممارسة. وتتفرع عن هذه الإشكالية المركزية مجموعة من الأسئلة الفرعية يمكن إيرادها كما يلي:
– ما هي الإمكانات الدستورية المتاحة للمجتمع المدني من أجل تقييم السياسات العمومية؟
– ما هي الإكراهات التي تواجه المجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية؟
– هل يمكن للمجتمع المدني المغربي أن يقوم بدوره في تقييم السياسات العمومية بفعالية في ظل الإمكانات الدستورية المتاحة وإكراهات الممارسة؟
ستتم الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها مما يتعلق بموضوع الدراسة من خلال مقترب منهجي يزاوج بين المنهج الوصفي التحليلي والمنهج القانوني المقارن، وذلك وفق التصميم التالي:
المطلب الأول: المجتمع المدني ودوره في تقييم السياسات العمومية
المطلب الثاني: الإمكانات الدستورية المتاحة للمجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية
المطلب الثالث: الإكراهات التي تواجه تقييم المجتمع المدني للسياسات العمومية على مستوى الممارسة
المطلب الأول: المجتمع المدني ودوره في تقييم السياسات العمومية
يقوم المجتمع المدني، في إطار الديمقراطية التشاركية، وفي علاقته بالسياسات العمومية، بأدوار متعددة تتخلل مختلف محطات بلورة القرار العمومي في مجال السياسات العمومية بدءا بالمشاركة في صناعة القرار ثم المتابعة والتنفيذ فالتقييم. وإذا كانت عملية التقييم تأتي في آخر مسلسل السياسات العمومية فإن هذه العملية تكتسي أهمية خاصة لأنها ترتبط بمدى تحقيق أو عدم تحقيق النتائج المرجوة من السياسات العمومية المنتهجة. لذلك يجدر بنا بداية تحديد مفهوم المجتمع المدني، ثم الأدوار الأساسية للمجتمع المدني في علاقته بالسياسات العمومية.
أولا: تعريف المجتمع المدني ومراحل تطوره
يعرف المجتمع المدني باعتباره يشير إلى مجموع التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها أو تقديم خدمات للمواطنين، أو ممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وتلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومبادئ الاحترام والتراضي والتسامح، والمشاركة، بل والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف، مما يجعلها تلعب دورا فعالا في الدفع بمسلسل عصرنة الدولة . ولذلك فإن المجتمع المدني يشغل مجالا يهم حياة المواطنين ويختلف عن ثلاثة مجالات أخرى أساسية وهي: المجال الخاص المتمثل في الأسرة، والمجال السياسي الذي له قواعده وخصائصه وهو مجال سياسي عمومي، ثم مجال القطاع الخاص الذي ينبني على الربح أو المصلحة المادية المباشرة.
وإذا كان المجتمع المدني قد بات يضطلع بمهام أساسية في إطار الديمقراطية التشاركية في الدولة المعاصرة، فإن مشاركة المجتمع المدني في الشأن العام تتخذ على الأقل شكلين أساسيين من المشاركة: مشاركة المواطنات والمواطنين بشكل عام والتي قد تكون فردية أو جماعية من خلال المساهمة في السياسات العمومية أو في إبداء الرأي بخصوصها. وكذلك مشاركة هيئات المجتمع المدني بما تتميز به من تنظيم ذاتي وقانوني سواء كانت جمعيات واتحادات أو نقابات أو منظمات غير حكومية. وهي كلها هيئات مدنية تقوم بأدوار مهمة فيما يتعلق بالسياسات العمومية يهمنا في هذه الأدوار دور التقييم.
ثانيا: الأدوار الأساسية للمجتمع المدني في علاقته بتقييم السياسات العمومية
يشير تقييم السياسات العمومية بحسب Frederic VARON et Steve JACOB إلى “قياس أثر تلك السياسات موضوع التقييم، وإعطاء حكم قيمة بناء على معايير معينة حول هذه التأثيرات، سواء كانت منتظرة أو غير منتظرة، مباشرة أو غير مباشرة، سببتها السياسة العمومية موضوع التقييم على المدى القصير أو الطويل” . ومن خلال هذا التعريف فإن تقييم السياسات العمومية هو عملية تأتي في آخر مسلسل صنع السياسات العمومية، وتحديدا بعد عملية تنفيذ هذه السياسات من أجل قياس نتائجها ومدى أثرها على الواقع الذي تستهدفه.
وإذا كان تقييم السياسات العمومية تتدخل فيه مجموعة من السلط والمؤسسات في إطار الديمقراطية التمثيلية، فإن المجتمع المدني أصبح يضطلع بأدوار مهمة في عملية التقييم هاته باعتباره معني ومستهدف بشكل مباشر بهذه السياسات؛ ففي ظل النقائص التي أبانت عنها الديمقراطية التمثيلية والتي لا تتيح للمواطن أن يشارك في تدبير الشأن العام بشكل دائم ومستمر، فإن الديمقراطية التشاركية تتيح للمواطنات والمواطنين المشاركة والمساهمة بشكل مستمر في السياسات العمومية سواء بشكل فردي أو في إطار هيئات المجتمع المدني. غير أن هذه المشاركة في المغرب مازالت فتية ولم تحقق تراكما كميا ونوعيا يمكنها من أن تكون نموذجا يحتدى به.
فباستقراء كل التجارب الدستورية المغربية نجدها بكاملها لم تنص على أي دور للمجتمع المدني في المشاركة في تدبير الشأن العام، ويستثنى من ذلك دستور 29 يوليوز 2011 الذي جعل الديمقراطية التشاركية من مقومات نظام الحكم، وخول مكونات المجتمع المدني مجموعة من الآليات للمساهمة في تدبير الشأن العام وبلورة السياسات العمومية سواء محليا أو جهويا أو وطنيا.
ويستطيع المجتمع المدني المساهمة في السياسات العمومية في مختلف مراحلها: في صناعة القرار واتخاذه، وفي المتابعة والتنفيذ من خلال التفاعل المباشر مع الفاعل العمومي، وكذلك في محطة التقييم. وتبقى مرحلة التقييم من أهم هذه المراحل؛ لأنها تتوقف على حصيلة النتائج المتوقعة ومدى تحقق الأهداف المخطط لها، بالإضافة إلى إمكانية الاعتماد على نتائج هذا التقييم واستثمارها من أجل وضع تصورات لسياسات عمومية جديدة. وذلك رغم أن مرحلة التقييم لا يمكن فصلها عن المراحل الأخرى خصوصا مرحلة اتخاذ القرار العمومي المتعلق بالسياسات العمومية.
المطلب الثاني: الإمكانات الدستورية المتاحة للمجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية
يتوفر المجتمع المدني على مجموعة من الإمكانات الدستورية والقانونية الموضوعة رهن إشارته من أجل الاضطلاع بدور المساهمة في تقييم السياسات العمومية باعتبار أن المواطنات والمواطنين هم المعنيون مباشرة بهذه السياسات العمومية، وتتجلى هذه الإمكانيات في مجموعة من الآليات التي تتنوع بين تقديم العرائض والآراء وإعداد التقارير الميدانية بالإضافة إلى إبداء الرأي خلال التشاور العمومي.
أولا: التأطير الدستوري لدور المجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية
ينص الدستور المغربي لسنة 2011 على أن جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية المهتمة بقضايا الشأن العام، تساهم، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى السلطات العمومية والمؤسسات المنتخبة وكذا في تفعيلها وتقييمها . كما ينص الدستور أيضا على أن السلطات العمومية تعمل على إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها . ويحيل الدستور على القوانين والقوانين التنظيمية من أجل تحديد كيفيات تنظيم طرق مساهمة المجتمع المدني في ممارسة صلاحياته.
غير أن استقراء القوانين التنظيمية للجماعات الترابية وأيضا أنظمتها الداخلية يظهر أنها لا تعير اهتماما أكبر لعملية تقييم السياسات العمومية من طرف المجتمع المدني قدر اهتمامها بعملية المشاركة في صنع القرار العمومي ومتابعته من خلال تقديم العرائض والحضور في الهيئات التشاورية والاستشارية على مستوى الجماعات الترابية.
ثانيا: أدوات المجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية وتقديم نتائجه
يعتمد المجتمع المدني في تقييمه للسياسات العمومية على مجموعة من الأدوات يتمكن من خلالها من استقصاء وجمع المعلومات والمعطيات من أجل قياس أثر السياسات العمومية على الساكنة المستهدفة بها. وذلك قبل صياغة وتركيب تقارير التقييم من أجل تقديمها للسلطات والمؤسسات العمومية التي تشارك فيها.
1- أدوات التقييم المتعلقة بجمع المعلومات
تبدأ عملية تقييم السياسات بصفة عامة بتحديد الإطار العام لعملية التقييم الذي يتمثل في الأهداف والمعايير والمقاييس والوسائل والأدوات؛ حيث يمكن استمداد هذه الوسائل والأدوات البحثية من العلوم التطبيقية والاجتماعية مثل علم الإحصاء وعلم الاجتماع وعلم النفس . ثم بعد ذلك يتم تحديد الفئة المستهدفة من عملية التقييم، والتي غالبا ما تكون فئة واسعة وعريضة يصعب استطلاع رأيها بكاملها وبشكل مباشر بخصوص تأثير السياسة العمومية موضوع التقييم عليها، خصوصا وأن السياسات العمومية هي سياسات عمومية وطنية تغطي كافة التراب الوطني. لذلك فإنه غالبا ما يتم تحديد وحصر عينات التقييم واستطلاع رأيها بشكل مباشر بخصوص أثر السياسات العمومية على واقعها ليتم بعد ذلك تعميم النتائج .
وبعد تحديد العينة يتم اللجوء إلى طرائق كمية ميدانية مثل الاستبيانات أو الاستمارات من أجل استطلاع رأي المواطنات والمواطنين بخصوص السياسات العمومية موضوع التقييم وجمع المعلومات والمعطيات بخصوصها . وتحتوي الاستبيانات والاستمارات على مجموعة من الأسئلة المحددة تحديدا دقيقا من طرف هيئة التقييم. وغالبا ما تتضمن أسئلة متنوعة؛ مغلقة ومفتوحة بهدف الحصول على تقييم دقيق. ويمكن للمجال الافتراضي الرقمي أن يغني البحث في هذا المجال سواء من حيث السرعة والدقة أو من حيث تقريب المسافات، وكذلك من حيث القدرة العلمية على تحليل المعطيات والنتائج وتقاسمها ومشاركتها على نطاق واسع.
يمكن بالإضافة إلى ما سبق اعتماد المقابلات من أجل قياس أثر السياسات العمومية وتحديد نتائجها . وتتيح المقابلات للمقيم )هيئات المجتمع المدني( الاتصال بشكل مباشر بالأشخاص المستجوبين المعنيين بالسياسات العمومية وتسجيل أجوبتهم وآرائهم بشكل مباشر بخصوص السياسات العمومية المنتهجة في إطار منجهية تفاعلية تواصلية مباشرة. ولذلك فإن المقابلات تعد من بين أهم الأدوات المنهجية التي تمكن المستجوب من التعبير عن رأيه بوضوح. إلا أن هذه الأداة قد تجعل المستجوب يتأثر بتوجهات الشخص الذي يقوم بعملية الاستجواب، مجاملة أو تبخيسا وتيئيسا، خصوصا بالنسبة للأسئلة الغير محددة بدقة. وتجدر الإشارة إلى أنه من شأن التطور الرقمي أن يساهم بشكل كبير في تيسير وتسهيل مهمة المجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية سواء على مستوى جمع المعلومات أو تنظيمها وتحليلها، مما يتطلب التكوين والتأهيل المستمر على هذا المستوى.
2- إعداد تقارير التقييم
بعد القيام بجمع المعلومات المتعلقة بتنفيذ السياسات العمومية ونتائجها العملية، يتم تفريغ وتحليل وتركيب هذه المعلومات من خلال تقارير تركيبية مفصلة. إن إعداد هذه التقارير الميدانية الخاصة بكل هيئة من هيئات المجتمع المدني وفي مجال اختصاصها يتطلب الدقة العلمية والاحترافية التي قد لا تتوفر عليها الجمعيات، مما يتطلب الخضوع لتكوينات علمية في مجال التقييم. ومن خلال هذه التقارير تستطيع هيئات المجتمع المدني أن تبرز مدى نجاح السياسات العمومية المنتهجة في تحقيق الأهداف المسطرة وتقاسمها مع المسؤولين ومع باقي مكونات النسيج الجمعوي في إطار عملية التشبيك، بالإضافة إلى استثمار هذه النتائج للترافع ولإثارة الانتباه أمام المسؤولين الحكوميين المشرفين على تنفيذ السياسات العمومية.
3- تقديم نتائج التقييم وتوظيفها
تتوفر جمعيات المجتمع المدني في إطار الديمقراطية التشاركية على مجموعة من الآليات الدستورية والقانونية، كما أنها تحضر إلى مجموعة من الاجتماعات والمؤسسات التي يمكنها من خلالها أن تتقدم بتقارير تقييم السياسات العمومية، والتي يمكن من خلالها أن تلفت الانتباه إلى نتائج هذه السياسات. ومن هذه الآليات والاجتماعات تقديم العرائض والملتمسات التشريعية، وكذلك الاستشارة والتشاور العمومي مع السلطات العمومية. كما أن المجتمع المدني هو ممثل داخل بعض المؤسسات الاستشارية وهيئات الحكامة ويستطيع من خلال هذا التمثيل أن يلفت الانتباه إلى النتائج التي توصل إليها من خلال عملية تقييمه للسياسات العمومية.
1.3 تقديم الملتمسات في مجال التشريع
قام الدستور المغربي لسنة 2011 لأول مرة بتمكين المواطنات والمواطنين من حقهم في تقديم ملتمسات في مجال التشريع ، ورغم أن الملتمسات تهم تحديدا مجال التشريع، فإن المواطنين والمواطنات وهيئات المجتمع المدني يمكنهم من خلال المعطيات التي يتوفرون عليها من خلال عملية التقييم أن يدمجوا توصياتهم في نصوص الملتمسات هاته والمساهمة بمقترحاتهم في السياسة التشريعية.
1.3 تقديم العرائض
نص الدستور المغربي لسنة 2011 في الفصل 15 منه على أن “للمواطنات والمواطنين الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية، ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق”. وتشير العريضة إلى “كل طلب مكتوب على دعامة ورقية أو إلكترونية، يتضمن مطالب أو مقترحات أو توصيات، يوجهه مواطنات أو مواطنين مقيمين في المغرب أو خارجه إلى السلطات العمومية المعنية، قصد اتخاذ ما تراه مناسبا في شأنه من إجراءات في إطار احترام أحكام الدستور والقانون طبقا للإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون التنظيمي” . ويبدو من خلال هذه المادة أن تقديم العرائض لا يهم فقط المشاركة في صناعة السياسات العمومية وتنفيذها وإنما يهم أيضا المشاركة في تقييمها؛ لأن تقديم العريضة التي قد تتخذ شكل مطالب أو مقترحات أو توصيات، يفترض أن ينطلق من معطيات تم التوصل إليها من خلال الاستقصاء والرصد والتقييم. مثال ذلك تقديم عرائض احتجاجية في حالة التضرر من قرار عمومي أو سياسة عمومية محددة. ومن مزايا هذه العرائض الاحتجاجية أن تقوم بالتقييم الآني والفوري والتنبيه إلى مخاطر السياسة المتبعة قبل وصولها إلى المراحل الأخيرة من التنفيذ، وذلك تفاديا لاستفحال المخاطر.
3.3 التشاور العمومي
ينص الدستور المغربي لسنة 2011 على أنه “تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها” . ويقصد بالتشاور لعمومي حسب اللجنة الوطنية للحوار الوطني حول المجتمع المدني والأدوار الدستورية الجديدة: “مجموع المؤسسات واللجان والهيئات العمومية الدائمة أو المؤقتة التي يعهد إليها تدبير وتنفيذ مختلف عمليات التشاور التي تضطلع بها السلطات العمومية، وطنيا أو محليا، قصد التواصل والتعامل مع المواطنين بخصوص القرارات المتعلقة بإعداد سياسات عمومية وطنيا وجهويا ومحليا” . ورغم أن اللجنة تحدثت عن التشاور والتواصل بخصوص إعداد السياسات العمومية فإن هيئات التشاور على المستوى العملي يمكن أن تلفت الانتباه إلى مختلف النتائج الإيجابية أو السلبية للسياسات المتبعة، والدعوة بالتالي إلى تعديل ما يمكن تعديله من هذه السياسات أو العدول عنها ووضع سياسات جديدة. ويمكن التمييز في هيئات التشاور بين ثلاثة مستويات: هيئات التشاور الوطنية والجهوية والمحلية.
1.3.3 هيئات التشاور على المستوى الوطني
تحدث هذه الهيئات في شكل لجان المجالس أو أية بنية مؤسساتية أخرى من طرف السلطات العمومية المركزية لتدبير التشاور العمومي حول السياسات والقرارات والبرامج والمخططات والتشريعات العمومية ذات الطبيعة الوطنية والاستراتيجية . وتعتبر هيئات التشاور على المستوى الوطني بمثابة هيئات عمومية تتمتع بالاستقلالية وتضطلع بمهمة تشاورية لدى السلطات العمومية في مختلف مراحل مسلسل السياسات والقرارات والميزانيات العمومية إعدادا وتنفيذا وتقييما .
2.3.3 هيئات التشاور على المستوى الجهوي والمحلي
يجد التأطير الدستوري لهاته الهيئات أساسه في الفصل 139 من دستور 2011 الذي ينص على أنه “تضع مجالس الجهات، والجماعات الترابية الأخرى، آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها. يمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله”.
وقد تباينت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية في تحديد عدد هذه الهيئات التشاورية؛ حيث حدد القانون التنظيمي للجهات عددها في ثلاثة هيئات، في حين حدد القانون التنظيمي للعمالات والأقاليم وكذلك القانون التنظيمي للجماعات عددها في واحدة فقط. فبالنسبة للقانون التنظيمي للجهات حدد ثلاثة هيئات للتشاور وهي كما يلي: هيئة استشارية بشراكة مع فعاليات المجتمع المدني تختص بدراسة القضايا الجهوية المتعلقة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع. هيئة استشارية تختص بدراسة القضايا المتعلقة باهتمامات الشباب. هيئة استشارية بشراكة مع الفاعلين الاقتصاديين بالجهة تهتم بدراسة القضايا الجهوية ذات الطابع الاقتصادي . أما القانون التنظيمي للعملات والأقاليم والقانون التنظيمي للجماعات فقد حددا عدد هيئات التشاور في واحدة وهي “هيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع” على مستوى العمالة أو الإقليم وكذلك على مستوى الجماعة .
وتستطيع الجمعيات والهيئات الممثلة في هذه الهيئات التشاورية على المستور الوطني أو الجهوي أو الإقليمي والمحلي أن تقدم مقترحاتها وآرائها بخصوص نتائج السياسات العمومية المتبعة مستندة ومعتمدة على التقارير التقييمية التي قامت بإعدادها وكذلك من خلال التقييم القبلي التوقعي والاستشرافي للسياسات التي سيتم اعتمادها والتي هي موضوع التشاور.
4.3 التقييم المؤسساتي من داخل مؤسسات وهيئات الحكامة
يحضر المجتمع المدني في شخص ممثلين عنه بقوة القانون في تركيبة مجموعة من الهيئات الاستشارية، ويستطيع من خلال هذا الحضور أن يلفت الانتباه إلى قضايا معينة مستثمرا النتائج التي توصل إليها والتقارير التقييمية التي قام بإعدادها. كما يستطيع أن يشارك ويساهم من منظوره في تقييم السياسات العمومية والمساهمة في تقديم الآراء والاستشارات والمقترحات إلى المؤسسات التقريرية من داخل الهيئات الاستشارية. ومن أهم الهيئات الاستشارية التي يحضر فيها المجتمع المدني، نذكر المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. إلا أن حضور المجتمع المدني في هذه الهيئات قد يكون دون جدوى بسبب الافتقار إلى الاستقلالية؛ لأن الجمعيات الممثلة في هذه الهيئات تكون في الغالب معينة من قبل الحكومة والبرلمان بمجلسيه. كما أن مؤسسات الحكامة هاته ذاتها تعتبر في معظمها مؤسسات استشارية وليست تقريرية يقتصر دورها على تقديم الاستشارة والرأي. هذا بالإضافة إلى إشكالية الاستقلالية التي يعاني منها بعضها.
المطلب الثالث: الإكراهات التي تواجه المجتمع المدني على مستوى الممارسة
عرف المجتمع المدني في المغرب دينامية كبيرة على المستوى الكمي خلال العقدين الأخيرين؛ فقد انتقل عدد الجمعيات من 44771 جمعية سنة 2007 ، إلى 259000 في أواخر سنة 2022 . إلا أن هذا التطور الكمي لم يوازيه تطور نوعي على مستوى الممارسة سواء في مجال المساهمة في صنع السياسات العمومية وخصوصا في مجال تقييمها. نظرا لمجموعة من الصعوبات والإكراهات التي تواجهها، منها إكراهات موضوعية مرتبطة بعملية التقييم والبيئة والظروف التي تشتغل فيها الجمعيات. ومنها إكراهات ذاتية متعلقة بخصوصيات البنيات الداخلية للجمعيات ومبادئ ومنطلقات اشتغالها.
أولا: الإكراهات الموضوعية
تعترض هيئات المجتمع المدني في عمليات تقييمها للسياسات العمومية مجموعة من الإكراهات الموضوعية التي هي خارجة عن إرادتها. ومن هذه الإكراهات: تلك المتعلقة بالموارد المرصودة للجمعيات من أجل القيام بعملية التقييم، والإكراهات المرتبطة بالولوج للمعلومات المرتبطة بعملية التقييم، وكذلك تلك المرتبطة بالبيئة السياسية للتقييم وسياقاتها.
1. الإكراهات المرتبطة بالموارد المرصودة للقيام بعملية التقييم
يتطلب تقييم السياسات العمومية عموما مجموعة من الموارد المادية والمالية القمينة بالقيام بهذه العملية بشكل دقيق وفعال. وهذا ما لا يحضر في كثير من الأحيان الشيء الذي يؤثر على فعالية المجتمع المدني في تقييمه للسياسات العمومية.
فعمليات التقييم التي تنطلق من البحث والاستقصاء والرصد وإعداد التقارير تتطلب موارد كافية لتحقيقها بشكل دقيق وفعال، وهو ما لا يحضر لدى غالبية الجمعيات التي تعاني من قلة الموارد المالية المرصودة لها؛ إذ تشير إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط، في تقرير لها سنة 2011، إلى أن نسبة التمويل العمومي للجمعيات لم يتعد نسبة 12.7 في المئة من مجموع الموارد المالية المعبأة من طرف الجمعيات . ورغم أن هذا التمويل شهد ارتفاعا في السنوات الأخيرة حيث بلغ في سنوات 2019 و2020 و2021 حوالي 11.9 مليار درهم باستفادة حوالي 65 ألف جمعية ، فهو يشكل في الوقع نسبة ضعيفة لا تمكن الجمعيات من القيام بمهامها خصوصا وأن نسبة قليلة من الجمعيات هي التي تحظى بالنسبة الأعلى من هذا التمويل العمومي في مقابل نسبة مرتفعة من الجمعيات تتلقى نسبة أقل من هذا التمويل.
2. الإكراهات المرتبطة بالحصول على المعلومات
يعتبر الحصول على المعلومات التي تمتلكها الإدارات العمومية عملية مهمة للمجتمع المدني في تقييمه للسياسات العمومية، إلا أن الحصول على المعلومات من الإدارات المعنية مازالت تعترضه مجموعة من القيود والصعوبات ناهيك عن قلة هذه المعلومات أو غيابها وعدم تحيينها في بعض الأحيان. وذلك رغم وجود أساس دستوري وقانوني ينص على الحق في الوصول إلى المعلومات؛ حيث ينص الدستور المغربي لسنة 2011 على حق المواطن في الحصول على المعلومة التي توجد في حوزة الإدارات العمومية والمؤسسات المنتخبة والهيئات المكلفة بالمرفق العام . وتظل هذه الإكراهات حاضرة رغم وجود قانون ينظم كيفيات وطرق الحصول على المعلومات .
وفي ظل الإكراهات المتعلقة بالحصول على المعلومات يبقى دور المجتمع المدني في تقييمه للسياسات العمومية عموما عديم الفعالية. ولتجاوز هذا الإكراه تلجأ بعض الجمعيات إلى إنتاج معلومات ومعطيات خاصة بها من خلال أبحاث ميدانية إلا أن ذلك تحيط به مجموعة من الصعوبات أهمها إشكالية الاعتراف بدقته وقيمته العلمية. وفي كل الأحوال فإن صعوبة الحصول على المعلومات يظهر معاناة الديمقراطية التشاركية أمام الديمقراطية التمثيلية، رغم أن الأولى تعتبر في واقع الأمر مكملة للثانية وليست نقيضا أو بديلا لها.
3. الإكراهات المرتبطة بالبيئة المؤسساتية للتقييم
يتميز صانع القرار في السياسات العمومية بأنه المسؤول الأول عن هذه السياسات وهو الذي يربطه بالمواطن تعاقد سياسي وانتخابي بخصوص هذه السياسات التي تشكل جوهر تنفيذ البرنامج الحكومي. وهو ما يجعل مهمة تقييم السياسات العمومية مهمة معترف بها أساسا لمؤسسات دستورية سياسية وإدارية تختص بها. في هذا الإطار يوجد تعدد الفاعلين في الإطار المؤسساتي للتقييم مثل البرلمان، المجلس الأعلى للحسابات، الهيئات الاستشارية أو هيئات الحكامة، ومختلف الأجهزة التفتيشية بالإدارات العمومية المغربية، وهذه الهيئات تستطيع إنجاز مهمات التقييم ونشر نتائجه وتقاريره لدى أصحاب القرار وصانعي السياسات العمومية، وهو ما قد يقلل من أهمية المجتمع المدني في عملية التقييم. غير أن إشراك المواطنات والمواطنين وهيئات المجتمع المدني في عملية التقييم يعطي لهذه العملية شفافية ومصداقية أكبر لأنهم هم المعنيون والمستهدفون بشكل مباشر بهذه السياسات العمومية ونتائجها.
ثانيا: الإكراهات الذاتية
بالإضافة إلى الإكراهات الموضوعية التي تعقد مهمة ودور المجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية، فإن جمعيات المجتمع المدني تعاني في مجملها من مجموعة من الصعوبات الذاتية التي تجعل مهمة التقييم مهمة صعبة. ومن هذه الصعوبات ما يتعلق بمشكلة الاستقلالية، ومنها ما يتعلق بضعف الإلتقائية والتواصل بين هيئات المجتمع المدني، ومنها ما يرتبط بمسألة الحكامة الداخلية للجمعيات وقلة الموارد.
1. الإكراهات المرتبطة بالاستقلالية
تعد الاستقلالية بشكل عام شرطا أساسيا للقيام بتقييم نزيه وشفاف لأي سياسة عمومية أو قطاعية. وحينما يتعلق الأمر بتقييم المجتمع المدني للسياسات العمومية تصبح مسألة الاستقلالية أكثر إلحاحا، نظرا لأن أعدادا مهمة من جمعيات المجتمع المدني خصوصا الجمعيات المؤثرة والوازنة يترأسها ويقودها إما أشخاص برلمانيون أو مستشارون جماعيون أو أعضاء بالمجالس المنتخبة، وهو ما يطرح مشكلة الاستقلالية عن المؤسسات الدستورية المنتخبة والمسؤولة عن صنع السياسات العمومية . هذا بالإضافة إلى إشكالية الاستقطاب الإيديولوجي الذي تتأثر به مجموعة من الجمعيات والذي يحد من استقلاليتها، وهو ما يؤثر بلا شك في عملية التقييم لأن الإنسان لا يمكن أن يكون طرفا وحكما في نفس الوقت. في هذا الإطار وعلى مستوى الممارسة نجد مجموعة من الانتقادات وجهت لحكومات ما بعد دستور 2011، سواء حكومة حزب العدالة والتنمية أو حكومة حزب التجمع الوطني للأحرار لاعتمادهما على بعض جمعيات المجتمع المدني من أجل دعمهما في الانتخابات وتجميل صورتهما لدى الرأي العام مقابل تمكينها من اعتمادات مادية أو معنوية مهمة.
2. الإكراهات المرتبطة بضعف الالتقائية والتواصل بين النسيج الجمعوي
يفترض أن تشكل جمعيات المجتمع المدني نسيجا جمعويا نسقيا يقوم بدور تكاملي في إطار الديمقراطية التشاركية. لكن ذلك يفترض نوعا من الالتقائية والتشبيك والتواصل بين مختلف هذه الجمعيات من أجل التنسيق وتبادل المعطيات والمعارف والنتائج. وذلك من أجل تنسيق عمليات تقييم السياسات العمومية. وتقديم معطياتها في شكل شمولي جماعي يمكن أن يقوي من موقفها التفاوضي ومرافعاتها وفرض رؤيتها على صانع القرار العمومي.
3. الإكراهات المتعلقة بمسألة الحكامة الداخلية وقلة الموارد
تمثل الحكامة الداخلية تحديا بنيويا حقيقيا لدى فئة واسعة وعريضة من جمعيات المجتمع المدني؛ فغياب الديمقراطية الداخلية والشفافية والنزاهة يجعل بعض الجمعيات عديمة الفائدة والجدوى، مما يجعلها غير قادرة على المساهمة في صنع السياسات أو في تقييمها. في هذا الإطار أكدت اللجنة الوطنية للحوار الوطني حول المجتمع المدني وأدواره الدستورية الجديدة على أن أغلب التقييمات المنجزة حول واقع المجتمع المدني بالمغرب، تظهر أن النسيج الجمعوي يعاني من مظاهر القصور في الثقافة المدنية والهوة الكبيرة بين الخطاب والممارسة، وخصوصا فيما يتعلق بالتوافق وإدارة الخلافات الداخلية، وممارسة الشفافية المالية والقبول بالمساءلة والمحاسبة، وبالتمييز الواضح في المسافة بين التطوع والعمل المهني، ونزوعه إلى العمل غير المنظم بسبب غياب مقاربة التدبير بالنتائج، وضعف التكوين والانغلاق على الذات، والحذر من الانفتاح على الآخر . وهي كلها معطيات تتعلق بضعف الحكامة مع ما يرتبط بها من اختلالات تهم الديمقراطية الداخلية وعدم وجود نظام للشفافية في التدبير الإداري والمالي والمراقبة والمحاسبة .
ويضاف إلى الإكراهات السابقة المرتبطة بالحكامة، مشكلة قلة الموارد المالية وضعف الموارد البشرية؛ فبالنسبة لضعف التمويل فإن معظم الجمعيات تجد صعوبات في الحصول على التمويل والذي يعود في جانب منه إلى ضعف قدرات الجمعيات على تعبئة الموارد. بالإضافة إلى غياب العدالة وتكافؤ الفرص والشفافية في علاقة الدولة بمكونات المجتمع المدني فيما يتعلق بإمكانية الحصول على التمويل العمومي .
إن كل هذه الإكراهات تعقد مهمة المجتمع المدني في القيام بأدواره وخصوصا في مهمة المشاركة في تقييم السياسات العمومية التي هي مهمة تتطلب الكثير من الجهد والإمكانات؛ لأن محطة التقييم لا ترتبط فقط بهذه المرحلة بل تتجاوزها إلى مختلف المحطات التي تمر منها السياسات العمومية، وهي اتخاذ القرار والتنفيذ والمتابعة ثم التقييم. وقد تجعل هذه الإكراهات المجتمع المدني يتخبط في إشكالات داخلية يبدل كل الجهد لتجاوزها وبالأحرى أن يقوم بالمساهمة في تقييم السياسات العمومية.
خاتمة
يعتبر المجتمع المدني محركا أساسيا للديمقراطية التشاركية التي تعتبر مقوما أساسيا من مقومات الديمقراطية التمثيلية وعنصرا أساسيا في الاختيار الديمقراطي للأمة المغربية الذي أصبح بحسب دستور 2011 ثابتا من ثوابت الأمة. ولئن كان المجتمع المدني المغربي أصبح بموجب دستور 2011 يضطلع بأدوار دستورية مهمة فيما يتعلق بالسياسات العمومية، نظرا لامتلاكه مجموعة من الأدوات والآليات الدستورية والقانونية، فإن مجال الممارسة يظهر أن المجتمع المدني لازال يعاني من مجموعة من الصعوبات والإكراهات التي تحد من القيام بأدواره الدستورية الجديدة بكفاءة وفعالية واقتدار. وهي إكراهات منها ما هو موضوعي يتعلق بالبيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يشتغل فيها المجتمع المدني، ومنها ما هو مرتبط بالبنيات الداخلية للمجتمع المدني وحكامته الداخلية.
وانطلاقا مما سبق تقترح هذه الورقة مجموعة من التوصيات التي يمكن أن تجعل المجتمع المدني فاعلا أساسيا ومساهما فعالا في تقييم السياسات العمومية إلى جانب مؤسسات الديمقراطية التمثيلية، ومن هذه التوصيات ما أوصى بها النموذج التنموي المغربي الجديد ومنها ما أظهرته التجارب وتطور الممارسة:
– الزيادة من نسبة التمويل العمومي لجمعيات المجتمع المدني والانفتاح على الجهات المانحة، على غرار التجارب الديمقراطية الدولية الناجحة، من أجل تزويدها بالإمكانات المالية الضرورية للقيام بمهامها وعلى رأسها المساهمة في تقييم السياسات العمومية. مع ما يستلزم هذا التمويل من حكامة ومسؤولية ومحاسبة دقيقة.
– تعزيز الديمقراطية التشاركية أثناء إعداد وتقييم برامج عمل الجماعات قصد الاستجابة بشكل أفضل لانتظارات المواطنين. وكذلك إحداث مجالس اقتصادية واجتماعية وبيئية جهوية تعمل على دعم مشاركة الفاعلين الجهويين في إعداد السياسات العمومية.
– إبعاد الجمعيات عن الأحزاب السياسية وعن الاستقطابات الإيديولوجية وذلك من أجل تمكينها من شرط الاستقلالية الذي يعتبر أحد أهم المعايير التي يجب أن تتوفر في مؤسسات التقييم.
– تحسيس صانعي القرار السياسي بأهمية التقييم المدني للسياسات العمومية، وبضرورة النظر إلى أدوار الفاعل المدني الاستراتيجية والممتدة كمكمل لأدوار الفاعل السياسي المكلف بتدبير الشأن العام في إطار الديمقراطية التمثيلية والمحكوم بإكراهات الزمن السياسي.
– إحداث مؤسسة وطنية للمجتمع المدني تدخل في إطار الهيئات الاستشارية التي ينص عليها الدستور، والتي تعتبر مرجعا لتقديم الاستشارة والرأي والقيام بتكوينات لمختلف مكونات المجتمع المدني بشكل دوري، وكذلك توفير قاعدة بيانات أمام هيئات المجتمع المدني من أجل تعزيز الالتقائية والتشبيك والتواصل بين مختلف مكونات المجتمع المدني.
– تعزيز الشراكات مع التجارب الناجحة للمجتمع المدني في الدول الديمقراطية، وتيسير سبل وقنوات التواصل فيما بينها من أجل الاستفادة من خبراتها في مجال المساهمة في تقييم السياسات العمومية.
– تعزيز وإعادة إحياء ثقافة جمعوية تطوعية انطلاقا من الرصيد الثقافي القيمي للمجتمع المغربي الذي ينهل من معين الثقافة الإسلامية، وتعزيز ذلك بقواعد ومعايير الحكامة الجيدة التي توصل إليه التطور الحضاري الإنساني.
إن الاهتمام بالمجتمع المدني وبأدواره الدستورية، يأتي في إطار عدم كفاية الديمقراطية التمثيلية للتعبير عن اهتمامات وانشغالات المواطنين، وذلك لأن هاته الأخيرة هي مناسباتية تتيح للمواطن اختيار ممثليه في مناسبات انتخابية دون إمكانية محاسبة هؤلاء الممثلين في كل لحظة من لحظات ومحطات قيامهم بمهامهم ومسؤولياهم. ولذلك فإن الديمقراطية التشاركية هي مكمل أساسي للديمقراطية التمثيلية الذي أصبح حاضرا في كل التجارب الديمقراطية العريقة. لأن الديمقراطية في النظام التمثيلي –حسب دومينيك روسو- هي دائما تنطوي على نقص يجب ملؤه من طرف المجتمع المدني.
لائحة المراجع
– عزمي بشارة، المجتمع المدني دراسة نقدية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، الطبعة السادسة 2012.
– أحمد حضراني، مكانة ودور المجتمع المدني على ضوء دستور 2011، سلسلة الدراسات الدستورية والسياسية، العدد 3، 2015.
– المندوبية السامية للتخطيط، البحث الوطني حول المؤسسات غير الهادفة للربح سنة المرجع 2007.
– اللجنة الوطنية للحوار الوطني حول المجتمع المدني والأدوار الدستورية الجديدة، التقرير التركيبي، أبريل 2014.
-أمينة بوعياش، الندوة الصحفية لعرض التقرير السنوي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان “إعادة ترتيب الأولويات لتعزيز حقوق الإنسان”، 10 ماي 2023.
-رشيد عفان، دور المجتمع المدني في تقييم السياسات العمومية بالمغرب السياسات الاجتماعية نموذجا، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، الموسم الجامعي 2020- 2021،
– الدستور المغربي لسنة 2011، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر الصادرة بتاريخ 28 شعبان 1432 (30 يوليوز 2011)، ص. 3600 وما يليها.
-القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، الصادر الأمر بتنفيذه بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.15.83 صادر في 7 يوليو 2015، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6380 الصادرة بتاريخ 06 شوال 1436 (23 يوليوز 2015)، ص. 6585 وما يليها.
– القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، الصادر الأمر بتنفيذه بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.15.84 صادر في 7 يوليو 2015، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6380 الصادرة بتاريخ 06 شوال 1436 (23 يوليوز 2015)، ص. 6625 وما يليها.
– القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، الصادر الأمر بتنفيذه بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.15.85 صادر في 7 يوليو 2015، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6380 الصادرة بتاريخ 06 شوال 1436 (23 يوليوز 2015)، ص. 6660 وما يليها.
– القانون التنظيمي رقم 70.21 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية، الصادر الأمر بتنفيذه بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.21.101 صادر في 8 شتنبر 2021، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 7021 الصادرة بتاريخ 05 صفر 1443 (13 شتنبر 2021)، ص. 6746 وما يليها.
– القانون التنظيمي رقم 71.21 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقيم الملتمسات في مجال التشريع، الصادر الأمر بتنفيذه بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.21.102 صادر في 8 شتنبر 2021، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 7021 الصادرة بتاريخ 05 صفر 1443 (13 شتنبر 2021)، ص. 6747 وما يليها.
– القانون رقم 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات ، الصادر الأمر بتنفيذه بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.18.15 صادر في 22 فبراير 2018، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6655 الصادرة تاريخ 23 جمادى الآخرة 1439 )12 مارس 2018(، ص. 1418 وما يليها.
– Fréderic VARON et Steve JACOB, Institutionnalisation de l’évaluation et nouvelle gestion publique : un état des lieux comparatif, Revue Internationale des Politiques comparée, Volume 11, N 2, 2004.
– Délégation de l’union Européenne auprès du Maroc, GUIDE DE MONITORING DES POLITIQUES PUBLIQUES A destination de la société civile marocaine, Rabat, Aout 2015.