قانون 67.12 : يضمن الإستقرار أم يشجع الإستثمار؟
أمين زيان
طالب بكلية الحقوق أكدال
مع ازدياد الطلب على الأماكن المعدة للكراء، بسبب قصر يد شريحة واسعة من الفئات التي لا تستطيع تملك مسكنها الخاص، ظهرت الحاجة الملحة إلى إطار قانوني يضبط العمليات الكرائية، من خلال ضمان استقرار الطرف الضعيف (المكتري) في مسكنه، وتشجيع الطرف القوي (المستثمر) على النشاط في هذا القطاع الحيوي.
و هو ما تأتى بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.13.111 الصادر في 15 من محرم 1435 (19نوفمبر 2013) بتنفيذ القانون “67.12” المتعلق بتنظيم العلاقات التعاقدية بين المكري و المكتري للمحلات المعدة للسكنى أو للإستعمال المهني، و هو كغيره من القوانين الخاصة، حاول التوفيق بين المبادئ العامة التي تستوجب الثبات و المسائل المستحدثة التي تفرض أحكاما مستقلة تراعي ظروف الحال.
وقد اعتمد المشرع أسلوبا ذكيا عبر عنه الذكتور “عبد القادر العرعاري” بسياسة “الإحتضان بدل الإحالة” فتفاديا للتوهان بين أكثر من نص قانوني بسب كثرة الإحالات، عمد المشرع إلى احتضان النصوص ذات الصلة إلى القانون الجديد، متفاديا الأسلوب التقليدي الذي يجعل التعامل مع النص القانوني مسألة مجهدة و معقدة في بعض الحالات.
و مقابل ذلك فقد تمادى المشرع في حماية استقرار العلاقة الكرائية في هدا القانون على حساب الأطراف المكونة لها، ففي كثير من المقتضيات تعامل معها المشرع بمنطق العلاقة النظامية الخارجة عن نطاق حرية التراضي، الشيء الذي يغيب الوظيفة الأساسية لهذا القانون و المتمثلة في تأطير و ضبط إرادة أطراف العلاقة الكرائية.
و بالرجوع للقانون السالف الذكر نجد مجموعة من المقتضيات تؤكد ما سبق ذكره، فقد نصت “المادة الثالثة” من القانون على وجوب إبرام عقد الكراء بمحرر كتابي ثابت التاريخ، ما يطرح أسئلة جوهرية حول وظيفة الكتابة، هل هي للإثبات أم للإنعقاد؟و هل بهذا أصبح عقد الكراء عقدا شكليا؟ و ما مصير عقود الكراء المبرمة شفويا؟.
لقد تعامل المشرع بمنطق غامض مع الحالات التي تخالف شرط الكتابة، ففي المادة “74” من نفس القانون نص على أن العقود المبرمة قبل دخول القانون حيز التنفيذ و المخالفة لشرط الكتابة، يستمر مفعولها، و يمكن لأطرافها تغييرها في كل وقت بما يتناسب مع القانون الجديد، غير أن التساؤل يظل مطروحا حول مصير العقود التي ستبرم بعد دخول هذا القانون حيز التنفيد دون احترام شرط الكتابة؟
يظهر من خلال قراءة أولية للمسألة أنها تحتمل فرضيتين، الأولى تقول ببطلان العقد لتخلف عنصر الكتابة الذي يعد ركنا في العقود الشكلية، و هذه الفرضية تتحقق إذا اعتبرنا الكتابة المنصوص عليها في المادة الثالثة شرط لإنشاء العقد لا لإثباته، أما الفرضية الثانية، فهي إبقاء العقد قائما دون أن تكون له حجية تجاه الغير إلى حين إثباته في محرر كتابي ثابت التاريخ، و هذه الفرضية تطرح في حالة اعتبرت الكتابة لإثبات العقد لا لإنشائه.
هذا الغموض الذي يكتنف مقتضيات حساسة يجعل أساس العلاقة الكرائية هش و غير ثابت و يهدد استقرار الطرف المكتري خصوصا الجاهل للمقتضيات القانونية المعمول بها و الذي يقبل العلاقة الكرائية الشفوية تحت وطأة الحاجة للسكن.
من جهة أخرى فقد جاء القانون الجديد بمقتضى لا يقل أهمية عن سابقه و يمس شرطا مهما و خطيرا، و يشكل جوهر العلاقة الكرائية، و يتعلق الأمر بشرط “المدة”، حيث تفصل المشرع في مجموعة من المسائل و أثار أخرى و حاول حماية الطرف الضعيف مع الحرص على مكتسبات الطرف القوي.
و بافتحاص المادة “44” من القانون “67/12” نجد حكما قاطعا و صارما و لا يقبل التأويل، فعقود الكراء لا تنتهي حسب هذه المادة إلا بالإشعار بالإفراغ أو تصحيحه عند الإقتضاء، و هي مادة تعطل بشكل ضمني مضمون الفصل “768” من ظهير الإلتزامات و العقود الذي يقر انتهاء عقود الكراء بانقضاء المدة المقررة لها، فشرط المدة أصبح متجاوزا نظرا لغيابه في المواد المتعلقة بإنهاء العقد “45” و فسخه “56”، فانتهاء حق المكتري التعاقدي، ينشأ عنه حق قانوني هو “حق البقاء” و هو ما يصطلح عليه ب”الإمتداد القانوني لعقد الكراء”، و يشكل هذا الحق “شبحا” بالنسبة للمستثمرين و الملاك الذين غالبا ما يفضلون تضمين مدة محددة في العقد ينقضي الكراء بانقضائها، و يكون ملكهم في مأمن، و تغيير المكتري مسألة سهلة، لكن مع وجود مثل هذا الشرط الذي يعد قيدا خطيرا على حق “الملكية” فإن الكثير من الملاك يرفضون عرض عقاراتهم للكراء خوفا من أن تصبح عرضة للإستغلال “الطويل الأمد”.
و لم تتوقف مستجدات أحكام الإمتداد عند حد “مدة العقد” بل شملت كذلك الأشخاص المستفيدة من هذا الحق، فوفاة المكتري لا يعني انقضاء حقه التعاقدي، فهو ينتقل بقوة القانون للأشخاص الذين ذكرهم المشرع و منحهم حق الإستفادة، و الملاحظ في هذا الإطار أن المشرع أصبح يميل إلى تضييق دائرة المستفيدين و حصرهم، فالأشخاص الذين ذكرهم المشرع حددهم على سبيل الحصر لا المثال و لا يمكن توسيع نطاقهم بأي شكل من الأشكال، فقد نصت المادة “53” على كل من “الزوج و الأصول و الفروع المباشرين من الدرجة الأولى و المكفول و المستفيدين من الوصية الواجبة” لتنص المادة التالية “54” على “الأم المطلقة الحاضنة لأطفالها”.
وبذلك يكون المشرع قد حصر دائرة الإستفادة في ستة أصناف من المستفيدين، و هو بذلك يحمي استقرار ذوي المتوفي و يزيد من أعباء المكري الذي يصبح مبدئيا مضطرا للتعامل مع أشخاص وفقا لشروط حددها مع شخص آخر.
و لا يمكن الحديث عن جديد هذا القانون دون التطرق للجانب المالي الذي يعد النواة الصلبة في العلاقة الكرائية، فالمبدأ أن تحدد الوجيبة الكرائية بتراضي الأطراف، و تكون ملزمة لهم، لكن هذا لا يعني عدم وجود إمكانية تعديلها بعد ذلك، فقد يرى المكتري أن الوجيبة الكرائية لا تتناسب مع منافع العين المكتراة فيطالب بخفضها، أو يزيد جشع المكري مع التهاب أسعار العقار فيطالب برفعها، و هنا تدخل المشرع بحكم قاس بعض الشيء، حيث نص في المادة “32” على أنه لا يجوز الإتفاق على رفع الوجيبة لمدة تقل عن ثلاث سنوات من تاريخ إبرام العقد أو آخر مراجعة قضائية أو اتفاقية، أو الإتفاق على زيادة تتعدى النسب المحددة بمقتضى القانون، و هو بذلك يضع قيدا صارما على إرادة طرفي العقد خصوصا ما يتعلق بالمدة، فثلاث سنوات ليست بالمدة الهينة، خصوصا على الطرف المكري الذي يسعى دائما للزيادة، و هو نفس المقتضى المطبق على المكتري الذي لا يمكنه المطالبة بإنقاص الوجيبة في مدة تقل من الثلاث سنوات، لكن هذا لا يمنع من الإتفاق على مدة تزيد عن المدة المحددة قانونا كالإتفاق في العقد على عدم تعديل الوجيبة الكرائية إلا بعد مرور “خمس سنوات”، ففي هذه الحالة يكون الشرط صحيحا و غير مخالف للمادة “32”.
أما ما يتعلق باحترام النسب المقررة في القانون فقد وضع المشرع قيدا آخر على حرية طرفي العقد، حيث وضع نسبا محددة يخضع لها تعديل الوجيبة الكرائية، إذ لا يمكن للأطراف الإتفاق بشكل اعتباطي على مبلغ الزيادة، بل لابد من احترام النسب المقررة في القانون، وبالرجوع للمادة “43” نجد أن نسب الزيادة محددة في 8% بالنسبة للمحلات المعدة للسكنى، و 10% للمحلات المعدة للإستعمال المهني، و قد جاء في المادة الموالية “35” أن المحلات التي يقل ثمن كرائها عن 400 درهم تخضع الزيادة فيها لسلطة القاضي دون أن تتجاوز نسبة 50%، و الملاحظ أنها نسب تقنية مخالفة لما كان عليه الوضع في القانون السابق “6/79” الذي كان ينص في فصله “السادس” على مجموعة من العناصر يأخدها القاضي بعين الإعتبار و يقرر نسبة الزيادة بناء على سلطته التقديرية، إلا أن هذه النسب التقنية لا ترقى غالبا لطلبات الطرف المكري، بالإضافة إلى كونها نسب عامة تسري على جميع الأكرية بغض النظر عن قيمتها، مع العلم أن أثمان الكراء تتفاوت بشكل كبير، فالكراء الذي تبلغ قيمته “2000”، تكون فيه نسبة 8% كل ثلاث سنوات نسبة مهمة و معقولة، في حين أن الكراء الذي لا تتعدى قيمته 500 درهم فهذه النسبة ضعيفة جدا و لا ترضي غالبا الطرف المكري .
و لابد من التذكير في الأخير أن العلاقة الكرائية، هي علاقة التناقضات بامتياز، فأحد طرفيها هذفه الإستقرار، و الطرف الآخر هذفه الربح، و ما يمنح لطرف لابد أن ينزع من الآخر، لذا وجب التعامل مع قوانين الكراء بمنطق الموازنة لا التقييد، لأن تغييب إرادة الأطراف بكثرة القيود، غالبا مايؤدي لامتناع المالك من عرض ملكه للكراء، الشيء الذي يخلق شح العرض و غلاء الأسعار و غياب الإستقرار، فتكلفة القوانين ذات الطبيعة الإجتماعية غالبا ما تكون باهضة و قاسية و مكلفة.