في الواجهةمقالات قانونية

مدى رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع خلال تفسيره للعقد

مدى رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع خلال تفسيره للعقد

لقد ثار جدل فقهي كبير في إطار تحديد مدى رقابة محكمة النقض على محاكم الموضوع في تفسير العقد حول معرفة ما إذا كانت مسألة تفسير العقد من المسائل التي تدخل ضمن الواقع التي تندرج ضمن النشاط الواقعي الذي يباشره قاضي الموضوع ويخضع لسلطته الواسعة التقديرية، أم أن تفسير العقد من مسائل القانون الخاضعة لرقابة محكمة النقض..

أولا: رقابة محكمة النقض على محاكم الموضوع في تفسير العقد الغامض

يجمع الفقه والقضاء على أن تفسير العقد الغامض يخضع للسلطة المطلقة لقضاة الموضوع، ولا رقابة لمحكمة النقض على ذلك، على اعتبار أن مسألة تفسير العقد الغامض تبقى من أمور الواقع وتدخل في مجال السلطان النهائي لقاضي الموضوع، وهذا ما كرسه المجلس الأعلى سابقا في مجموعة من قراراته كالقرار الصادر عنه بتاريخ 24 يناير 1968 والذي جاء فيه:

«  عقد البيع الذي أولته المحكمة بما لها من سلطة تقديرية لا تخضع لرقابة المجلس الأعلى “.

فمن الأمور التي يستقل بتقديرها قاضي الموضوع دون معقب عليه من محكمة النقض تقديره للواقع المعنوي والمتعلق بالتغلغل في أعماق الخصوم والكشف عن نيتهم، وهذا البحث من الأمور الشاقة والتي تتطلب جهدا من قاضي الموضوع، حيث يقوم بتقدير أمور داخلية، وذلك باستخلاص نية المتعاقدين في العقد لتحديد مضمونه وأثره وذلك عن طريق الشروط الواردة في العقد.

غير أن ذلك، لا يعني أن قاضي الموضوع لا يخضع نهائيا لرقابة محكمة النقض في حالة العقد الغامض، بل توجد هناك حالات يعتبر عدم امتثال قاضي الموضوع لها خرقا للقانون، وتحريفا للعقد، ومنها تجريد العقد من كل أثر قانوني، وفي ذلك ذهبت محكمة النقض في قرار لها بتاريخ 1 دجنبر 1982: أن الشك الذي ينتج عن مقاربة شروط العقد، لا يجرد هذا الأخير من أي أثر، فمن الأولى تنفيذ العقد على تجريده من كل أثر عند تفسيره، وتنفيذ العقد يفرض تفسيره من طرف المحكمة، التي تكون ملزمة بالبحث عن إرادة الأطراف دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ ولا عند تركيب الجمل، وعليه يخالف القانون ويتعرض للنقض الحكم الذي يجرد العقد من كل أثر، في حين كان من الممكن موافقة الشروط فيما بينهما عبر التفسير. ومن الاستثناءات التي يخضع فيها القاضي لرقابة محكمة النقض عند تفسيره للعقد الغامض العبارة، حالة تفسير الشك بشكل مخالف لروح الفصل 473 من ق.ل.ع.م.

ولا يعني بسط رقابة محكمة النقض على محاكم الموضوع في هذه الحالات، أن هناك تضييق من سلطة القاضي في خلق توازن بين أطراف العقد، بل على العكس من ذلك، فبمجرد إلقاء نظرة على بعض قرارات محكمة النقض، يتبين لنا أن هذه الأخيرة، ومن خلال تمديدها لرقابتها إلى هذا النوع من العقود إنما تهدف بالعكس من ذلك إلى حماية مصالح الطرف الضعيف. وفي نفس الاتجاه ذهب موقف القضاء الفرنسي إلى اعتماد ما يسمى بالتفسير المكمل، الأمر الذي يترتب عليه إضافة العديد من الالتزامات إلى العقد، من أهمها ما أطلق عليه في بداية القرن الماضي بضمان السلامة. وهو الأمر الذي أكد عليه القضاء المغربي في العديد من قراراته، من بينها قرار محكمة النقض الصادر بتاريخ 21 يناير 1959، الذي جاء فيه: “إن وثيقة التأمين تتضمن ضمان مسؤولية الشركة المؤمنة لها عن الآفات التي يمكن أن تلحق بأرواح المسافرين وأمتعتهم من طرف المؤمنة لها أو مستخدميها أو أجهزتها، فإن للمحكمة الحق في أن تستخلص أن حريق الحافلة كان شبيها بعارض أصيب به الغير بسبب التنقل وبالتالي اعتبار خطر الحريق من بين الأخطار المؤمنة والمنتظر وقوعها ودون اعتبار لما ادعته الشركة المؤمنة من أن المتضرر هو المؤمن وحده بالوثيقة ولا يشمل ضرر الحريق”.

ونود أن نشير في هذا المقال أنه قد طرحت مسألة القوة الالزامية لقواعد التفسير وما إذا كان للقاضي إمكانية التخلي عنها، أم أن هذه القواعد جاءت على سبيل الحصر.

فقد جرى الفقه والقضاء الفرنسي على تجريد هذه القواعد من كل قوة إلزامية تجاه القضاء، وأنها مجرد توصيات ونصائح يستهدي بها القضاء. وهو الموقف الذي تبناه بعض الفقه المغربي، في حين ذهب البعض الاخر إلى تبني موقف مختلف واعتبر القواعد المتعلقة بالتفسير الواردة في الفصول 466 و 468 و 471 و 572 قواعد قانونية بالمعنى المضبوط على قاضي الموضوع أن يتقيد بها وإلا وجب عليه أن يورد ما يكفي من الأسباب المعقولة في نظر محكمة النقض لتبرير خروجه عن الفهم الذي تقتضي به هذه القواعد.

ثانيا: رقابة محكمة النقض على محاكم الموضوع في تفسير العقد الواضح

إذا كانت العبارات العقد واضحة وبينة لقصد المتعاقدين المتوخى منها فإن قاضي الموضوع يفقد سلطته التقديرية بشكل شبه مطلق في التفسير، ومن ثم لا يستطيع التدخل في مضمون العقد بالتعديل أو الإضافة أو الحذف أو التغيير لإيجاد التوازن بين التزامات أطرافه، لأن الأصل هو أن إعمال الشروط الواضحة المضمنة بالعقد تعتبر من مسائل القانون التي تخضع لرقابة محكمة النقض، ولا يجوز الانحراف عن مدلولها الصريح والحقيقي إلى معنى مغاير، وذلك تحت غطاء تفسير العقد، وإلا تعرض الحكم للنقض بسبب التحريف.

إن تفسير العقود والشروط للتعرف على مقصود المتعاقدين هو من سلطة محكمة الموضوع ولا رقابة لمحكمة النقض عليها في ذلك متى كان تفسيرها مما تحتمله عباراتها ولا خروج فيه على المعنى الظاهر لها ولا تتقيد المحكمة بما تفيده عبارة معينة منها وإنما بما تفيده جملتها.

ثم أن محكمة الموضوع لها سلطة تفسير العقود واستظهار نية طرفيها ما دام قضاؤها يقوم على أسباب سائغة، وما دامت لم تخرج في تفسيرها للعقد واستظهار نية طرفيه عن المعنى الظاهر لعباراته.

وقد ذهبت محكمة النقض في نفس الاتجاه بحيث جاء في أحد قرارتها التأكيد على أن قضاة الموضوع مكلفون بتطبيق الاتفاقات المبرمة وليس من الجائز لهم تغييرها إذا كانت شروطها واضحة وبينة، وعليه إذا كانت في العقد المبرم بين المالك والمكتري فقرة تنص على أن المالك لا يتحمل إلا ضريبة المباني الواجبة على الملاكين، ينتج عن ذلك أن المكري يكون ملزما بتحمل ضريبة رفع الأزبال. إلا أنه في قرار آخر اعترف لمحكمة الموضوع بسلطة واسعة في تقدير عناصر الواقع، وعليه فإن المحكمة لما صرحت أن العقد المتنازع في شأنه لا يمكن اعتباره منشئا لشركة قرض لعدم استيفائه للشروط الأساسية المتطلبة قانونا في هذا الشأن وأنه يكون ذا طبيعة خاصة، تكون أولت لما لها من كامل السلطة ذلك العقد الذي لم توضح ماهيته.

فالأصل  إذن إعمال الشروط الواضحة المضمنة بالعقد من مسائل القانون التي تخضع لرقابة محكمة النقض فلا يزيغ قاضي الموضوع عن العبارات الواضحة والمعنى الظاهر للعقود دون غيرها إلا إذا بين أسبابا مقنعة لذلك وإلا اعتبر خرقا للعقد الواضح وعرض حكمه للنقض، والفكرة بسيطة لأن تفسير عقد واضح ومحدد يعرضه للخرق من طرف القاضي، كون العقد ليس محلا لذلك ومعه يكون خرق للفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود؛ ونكون أمام تحريف للعقد هذا الأخير الذي يقال عنه مخالفة المعنى الظاهر من الوثيقة أو تجاهل المعنى الواضح والمحدد للتعبير من أجل أن يستند إليه معنى مغاير للمعنى الحقيقي.

فالتحريف إذن هو تغيير طبيعة المعنى المحدد للتعبير المستعمل في العقد، والذي يبين النية الحقيقية للأطراف المتعاقدة، فالتحريف يكون له محل كلما كان هناك تجاوز أو تنكر من لدن قاضي الموضوع للمعنى الواضح والصريح لبنود العقد، مما يؤدي إلى القول أن سلطة محكمة الموضوع في مباشرة عملية التفسير محصورة في الحالات التي يكون فيها التعبير غامضا أو مبهما، أما إذا كان التعبير واضحا فإنه يمنع اللجوء إلى التفسير، وعندئذ يتعين الاكتفاء بتكريس المعنى الظاهر المستخلص من ألفاظ العقد. أو يبين في حكمه الأسباب التي تبرر عدوله عن المعنى الواضح.

بمعنى آخر؛ فلا يجوز لقاضي الموضوع تحت حجة تفسير العقد أن يستبدل بهذه الإرادة إرادة وهمية لا دليل لها، معدلا بذلك الآثار القانونية للعقد، الأمر الذي يؤثر على مصالح الأفراد واستقرار المعاملات، وخصوصا بالنسبة للعقود التي لا تهم الأفراد فقط، وإنما تهم أيضا المجتمع، وكذلك عقود الصلح والعقود النموذجية باعتبارها بمثابة قوانين خاصة من طراز معين يهم المجتمع أمرها ويهمها بالدرجة الأولى توحيد تفسير شروطها المماثلة، خاصة لتتبين مدى اتفاق شروطها مع قواعد النظام العام والآداب.

وهو نفس ما أكدته محكمة النقض المصرية بحرصها على احترام قضاة الموضوع لإرادة الطرفين المشتركة التي يقوم عليها العقد في تكوينه وتفسيره، ومنه القرار الصادر بتاريخ 4/1/1990 والذي يقضي بأن: “القاضي ملزم بأن يأخذ عبارة المتعاقدين الواضحة كما هي، فلا يجوز له تحت ستار التفسير الانحراف عن مؤداها الواضح إلى معنى آخر، وعلى القاضي أن يلتزم بعبارات العقد الواضحة باعتبارها تعبيرا صادقا عن الإرادة المشتركة للمتعاقدين، فلا يجوز الانحراف عنها بدعوى التفسير”.

وتراقب محكمة النقض خطأ التحريف لأن مسخ العقد يؤدي إلى تحريف القانون الواجب تطبيقه على العقد من خلال تكييفه، والذي تسهر محكمة النقض على مراعاة تطبيقه وتوحيده وتفسيره.

وعموما؛ فإن غالبية التشريعات أقرت رقابة محكمة النقض على قضاء الموضوع في تفسير العقد الواضح، إلا أن هذا الإقرار تقلب بين قبول ورفض الرقابة، مع العلم أن هذا القضاء ما لبث أن تبت فأكدت محكمة النقض الفرنسية بسط رقابتها على تفسير قاضي الموضوع للعقد، فنقضت الأحكام لمخالفتها قانون العقد.

ومنه؛ فإن العقد الواضح لا يفسر بل ينفذ، وفي حالة التعسف في تفسيره فإن ذلك يرتب رقابة عليه من طرف محكمة النقض، نظرا لمخالفة القواعد التفسيرية المنصوص عليها قانونا والتي يستعين بها تحت رقابة مطلقة.

ونود أن نختم في هذه الدراسة بالتأكيد على أن العقد شريعة المتعاقدين، والتدخل القضائي ما هو إلا استثناء لهذه القاعدة، وخروج عن القوة الملزمة للعقد، وذلك تحقيقا للعدالة؛ عن طريق منح المشرع للقاضي سلطة التدخل في العلاقات العقدية  لمواجهة الظروف المتغيرة التي ينشأ عنها اختلال التوازن العقدي. كما منحه هذه السلطة بموجب نصوص أخرى، وذلك بالنص على حق القاضي في تعديل العقد في  حالة ورود  شرط جزائي وكذلك  حق القاضي في منح أجل للوفاء، فالقاضي لا ينحصر دوره في تفسير العقد فقط، بل يتعداه إلى تفسير النصوص القانونية وخاصة منها ما يتعلق بنظرة الميسرة، والتي وضع لها الفقه والتشريعات المقارنة عدة ضوابط للأخذ بها، خاصة وأنه تظل للقاضي سلطة تقديرية مطلقة في منح المدين نظرة الميسرة، فهو حر أن يمنحه أو يمنعه من ذلك، وكذلك هو حر في تحديد مدة نظرة الميسرة بشرط أن تكون معقولة كما أن له الحرية في أن يمنح المدين أجلا واحدا يسدد في خلاله أو آجال يسدد فيها.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى