مركز أقلية المساهمين في صناعة القرار داخل شركة المساهمة – سلسلة الابحاث الجامعية و الاكاديمية الاصدار رقم 50 لسنة 2024 –
المقــــــــــــدمــــــــــــة:
تطور مفهوم الشركة من “الشركة العقد ” ذات الطابع العائلي المفعم بالاعتبار الشخصي إلى “الشركة النظام” المجسدة للطابع التشاركي في أعلى مستوياته والذي تمثل شركة المساهمة أرقى نماذجه، إذ بإمكانها استيعاب المشاريع الاقتصادية المتوسطة والضخمة بشكل يجعلها تستوعب أعدادا كبيرة من المساهمين يجهل بعضهم بعضا[1]، ورغم ذلك إلا أن حقوق المساهمين يضمنها وجود أجهزة تسيير وإدارة ورقابة مستقلة عن بعضها البعض ومؤسسة على بنية هرمية تجعل هذه الشركة تقترب في تنظيمها من الدولة الديمقراطية القائمة على الفصل بين السلط والإختصاصات[2]، وهذا ما جعل الفقيه “ريبير” ينعتها بالأداة الرائعة للرأسمالية المعاصرة كونها تجسد في نظره التصالح الرائع بين الرأسمالية والديمقراطية[3].
وعلى هذا الأساس، فإنه لا يختلف اثنان حول الدور المحوري الذي تتقلده شركات المساهمة على مستوى تعبئة الإدخار وجلب الاستثمارات الخارجية الضخمة عبر مراكمة رؤوس الأموال اللازمة لتأسيس الشركات الكبرى وخاصة المتعددة الجنسيات، وذلك راجع إلى اعتبارها مؤسسة مركزية وفاعلة في الاقتصاد المعاصر ومن الدعامات التي نهجتها الدول الرأسمالية للتطور والتجدر خلال القرنين الماضيين.
وباعتبار شركة المساهمة كما أشرنا أداة لمراكمة رؤوس الأموال قصد تشغيلها واستغلالها في خدمة الاقتصاد الوطني وكذا الدولي ورغبةً في تحقيق الربح للمساهمين وكل الفاعلين، وخوفا من انفلات هذا الميكانيزم عن السيطرة ووقوعه في المحظور وذلك إنهاء حياته وما لذلك من آثار على مختلف الفاعلين، فقد جعل المشرع لشركة المساهمة نظاما قانونيا يحكمها يقوم على قواعد آمرة ونص على بطلان كل ما يخالفها[4].
تبعا لذلك، فقد ارتأى المشرع أن المصلحة الأولى والأجدر بالحماية هي مصلحة الشركة أولا قبل مصلحة المساهمين الشخصية، ومنه فقد جعل زمام الأمور في يد الأغلبية المالكة لرأس المال فيما يتعلق بصنع القرار داخل الشركة، وجعل قراراتها ملزمة للأقلية المعارضة.
وحري بنا القول أن تضارب المصالح بين المساهمين إنما يعبر عن عدم التفاهم بينهم، ويترجم وجود مصالح متعددة على اعتبار أن شركة المساهمة هي بمثابة مرتع خصب لالتقاء وتجاذب المصالح المتعددة والمختلفة بين مجموعتين من المساهمين تتخذان شكل أغلبية تقرر في حياة الشركة وأقلية تعترض بعض القرارات الاستراتيجية، مما يولد حالة من تنازع المصالح، وهو ما دفع بمختلف التشريعات إلى ابتكار عدة آليات قانونية، لإعادة التوازن البنيوي بين الفئتين[5].
وبالتالي، فإن جعل الأغلبية متحكمة في صنع القرار داخل الشركة بإطلاقه قد يكون فيه إضرار بمصالح مساهمي الأقلية وبالشركة نفسها وبالمصلحة الاجتماعية كذلك، إذا ما تعسفت الأغلبية أحيانا في فرض قرارات تتنافى مع المصالح المذكورة، ويمكن تقييم أساس تعسف الأغلبية عندما تقوم بخرق مبدأ المساواة بين المساهمين ومخالفة مصلحة الشركة[6] ــــــ كما سنرى فيما بعدـــــــ لذلك فمن العدل أن تكون للأقلية إرادة وصوت مسموع داخل الشركة عبر آليات تمكنها من تفعيل مركزها القانوني تحقيقا للتوازن البنيوي بين فئتي المساهمين، أقلية وأغلبية.
ومنه، تقتضي دراسة موضوع ” مركز أقلية المساهمين في صناعة القرار داخل شركة المساهمة”، الوقوف عند مفهوم أقلية المساهمين وذلك حتى يتسنى للقارئ فهم الموضوع واستيعابه جيدا ومقاربة أبعاده المختلفة، فمفهوم الأقلية من المفاهيم الحديثة التي أسالت مداد الباحثين في مختلف فروع القانون باعتبارها أثارت وما تزال تثير الكثير من النقاشات والخلافات حول مدلولها ونطاقها، مع ما يترتب عن هذا المفهوم من آثار وحقوق…
إن مفهوم الأقلية جاء ليصطف إلى جانب مفهوم الأغلبية، في تضاد معه، فمن البديهي والطبيعي بعدما تم اعتماد قانون الأغلبية[7] أن يظهر بالموزاة معه مفهوم الأقلية و البحث عن اعتماد قانون للأقلية[8]…
وحري بالبيان أن مفهوم الأقلية ليس نتاج نص تشريعي ولم يظهر طفرة واحدة إنما جاء بعد سيرورة تاريخية في النشأة وما صاحب ذلك من حقوق والتزامات و صلاحيات مواكبا في ذلك التحولات ذات الأبعاد المختلفة وآثارها على القانون االخاص وعلى قانون شركات المساهمة خاصة.
ولعل الدارسين والمتتبعين لتطور قانون شركات المساهمة على مدار القرن العشرين وخاصة فيما يتعلق بنظام الإدارة والتسيير في فرنسا باعتبارها المرجع القانوني التاريخي للقانون المغربي، وما واكب ذلك من تنظيرات فقهية واجتهادات قضائية لحماية حقوق أقلية المساهمين، قد رصدوا أن مفهوم الأقلية مر من مرحلتين أولهما واقعية فعلية دون أي تنظيم قانوني، والثانية قانونية حقيقية[9]، وفي كلتا المرحلتين تأثرت نشأة المفهوم بمختلف الأحداث والتحولات التي عرفها فقه قانون الشركات.
وعلى الرغم من كون موضوع حماية الأقلية ظل مثار جدل وشد وجذب في أوساط الباحثين والمهتمين فقها وقضاءا إلا أنه لم يتم تعريف الأقلية أكاديميا، ومنه فإن مسألة وضع تعريف لمدلول الأقلية ليس مرتبطا بمجال الشركات فقط بل اهتم به كذلك فقهاء القانون الدولي العام عند بحثهم لموضوع الأقليات، و بحسب ما يتضح من دراستنا فإن بعض الفقه عمد إلى تعريف الأقلية بالاعتماد على معيارين اثنين: أولهما حسابي ، وثانيهما موضوعي[10]، وسنقوم بتوضيح كل معيار على حدة.
فبالنسبة للمعيار الحسابي، يكون باعتماد الفارق العددي بين مجموع المساهمين والأغلبية، أي بطرح الأغلبية من مجموع المساهمين، وبالرغم من كونه معيارا رياضيا واضحا في حساب النصاب وفرز الأصوات لمعرفة الأغلبية و الأقلية عدديا، إلا أنه لا يصلح لاعتماده في تحديد المدلول القانوني لكليهما، لأنه قد نكون أمام أقلية عددية مالكة لغالبية رأس المال وغالبية عددية فقيرة.
وتبعا لذلك فإن المؤاخذات التي يمكن تسجيلها على المعيار الحسابي لا تتمثل في ربطه بالمادة القانونية إنما في ربطه بمصطلحي النسبية و الإطلاق كونهما مصطلحان متقابلان[11]، فحينما نتحدث عن أغلبية مطلقة يقتضي ذلك بحسب علم الرياضيات وجود أغلبية نسبية في المقابل، والعكس صحيح، أما داخل الجمعيات العامة فلا توجد إلا أغلبية واحدة ولا يصح تسميتها بالأغلبية المطلقة ولا بالنسبية لعدم وجود أغلبية أخرى تقابلها وتتفاوت معها داخل نفس الجمعية العامة، وإذا ما سلمنا بوجود أغلبية مطلقة فإن الأمر سيفضي إلى اعتبار الأقلية المقابلة لها أغلبية نسبية وهذا أمر غير صائب، ذلك أن التصويت في جميع الحالات يستهدف التصويت لمشروع معين أو رفضه، ومن تم فإن أقصى ما يمكن إفرازه هو وجود فئتين مختلفتين، واحدة تمثل الأغلبية وأخرى تمثل الأقلية، أو أنهما تتساويان في الأصوات عندما تمتلكان نفس عدد الأصوات[12].
أما بالنسبة للمعيار الموضوعي، فيرتبط بالإطار الذي تبرز فيه الفئتان والذي هو الجمعية العامة وبمناسبة اتخاذ قرار معين، ومنه فهذا المعيار يتكون من عنصرين أحدهما قانوني و الآخر نفسي، ووفقا للعنصر القانوني فمساهم الأقلية لا يستطيع فرض رأيه باتخاذ قرار ملزم فيما يخص تسيير وإدارة الشركة، وأن أقصى ما يمكن أن يفعله هو معارضة القرار والرفض والتصويت ضد مقترحات الأغلبية التي لا تكون في نظرهم ذات منفعة للشركة ولمصالح المساهمين جميعا، أما فيما يتعلق بالعنصر النفسي فإنه يتفاوت فيه المساهمون المضاربون مقرضي الأموال عن الأقلية، ذلك أن هؤلاء المضاربين لا يتدخلون في مسلسل صنع القرار ولا يهتمون إلا لما يخدم مصالحهم الشخصية المباشرة، بينما يهتم مساهمي الأقلية بمراحل إعداد القرار واتخاذه وتنفيذه ليس لخدمة مصالحهم فقط إنما لخدمة المصلحة الاجتماعية وغيرها من المصالح[13].
وعليه، فإن أهمية موضوع الدراسة تتجلى من خلال مستويين:
على المستوى النظري: فإنه باعتبار المشرع قد خوَّل للأغلبية سلطة اتخاذ القرار وكون هذا الأخير ملزما للجميع، فإنه تبرز أهمية الموضوع من خلال الوقوف عند دور مساهمي الأقلية داخل شركة المساهمة، وهل لها من الصلاحيات والحقوق ما يمكن أن تقف به مرصادا في وجه الأغلبية التي تريد تحقيق غايات شخصية على حساب الأقلية أو على حساب الإضرار بمصلحة الشركة، وذلك من خلال رصد أدوار هذه الأقلية باستقراء وتحليل مقتضيات قانون شركات المساهمة.
على المستوى العمــلي: فإن الفرصة مواتية للتعرف على كيفية تفعيل هذه النصوص القانونية على مستوى الواقع وكيف يتدخل القضاء لتفعيل المركز القانوني لمساهمي الأقلية انطلاقا من استقراء التعليلات القضائية والوقوف على بعض مظاهر إضعاف حظوة الأقلية بمركز قانوني مُحصَّن…
وعلى هذا الأساس، فإن دواعي اختيار هذا الموضوع بالذات تتجلى فيما لشركة المساهمة من دور هام باعتبارها خلية اقتصادية كبرى و ميكانيزما تتداخل في إطاره مجموعة من القوى الفاعلة ومن العلاقات التي وإن اتحدت في الغاية إلا أنها تختلف في وجهات النظر والرؤى، تنتج عنها خلافات وصراعات لا تكون غالبا في صالح المصلحة الاجتماعية لهذا الكائن الاقتصادي، لذلك فإن الدارسين طالما اهتموا بقانون للأغلبية تتحد في ظله جميع الرؤى ويحكم سير الشركة حتى تحقق أغراضها الاجتماعية، ومنه، فقد جعل المشرع قرارات الجمعية العامة سواء العادية أو الاستثنائية ملزمة للجميع بمن فيهم الغائبين أوعديمي الأهلية أو المعارضين أو المحرومين من حق التصويت.[14]
من هذا المنطلق فقد استهواني البحث عن مدى صلابة المركز القانوني للأقلية في قانون شركات المساهمة إلى جانب نظام الأغلبية المتجدر في التشريع، باحثة عما إذا كانت هذه الأقلية الضعيفة والخاضعة لقانون الأغلبية تملك حقوقا وصلاحيات للتدخل في صنع إرادة الشركة، وما إذا كانت تحضى بضمانات تشريعية وقضائية في قانون شركات المساهمة لحمايتها من تعسف واستبداد الأغبية إلى جانب قواعد المسؤولية المدنية والجنائية للمتصرفين بالخصوص باعتبارهم منفذي السياسة التي تضعها الأغلبية، وكيف تتعامل هذه الأقلية مع قرارت الأغلبية التي لا تراها في صالحها وفي صالح الشركة، وما إذا كان بالإمكان الحديث عن تعسف للأقلية أو اعتبارها حجرة عثرة في طريق تنمية الشركة.
من خلال ما تقدم، يطرح الموضوع إشكالية مركزية تتجلى في:
إلى أي حد يمكن الحديث عن حصانة المركز القانوني لمساهمي الأقلية للمشاركة في صناعة القرار داخل شركة المساهمة؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة الفرعية يمكن إجمالها في:
- ماهي مختلف الآليات القانونية والضمانات المكفولة تفعيلا للمركز القانوني لأقلية المساهمين حتى تساهم في صنع القرار داخل الشركة؟
- ما هي حدود حصانة المركز القانوني لمساهمي الأقلية وهل يمكن أن تكون هذه الأخيرة حجرة عثرة أمام استمرار الشركة؟
و للإجابة على الإشكالية المحورية والأسئلة المتفرعة عنها، رغم تشعب الموضوع وصعوبته واتساع مضمونه، ولكونه يحتمل المعالجة ضمن عدة تصاميم، إلا أنني حاولت تناوله ضمن التقسيم الثنائي الآتي بعده، باعتباره يجمع بين كل العناصر الأساسية للموضوع، وسأعمد إلى سرد أطواره ضمن منهج تحليلي وتفسيري نقدي لاستنباط أحكامه مُحاِولةً الوقوف عند أهم الضمانات والآليات القانونية التي سنها المشرع لتفعيل المركز القانوني لمساهم الأقلية حتى تتسنى له المشاركة في صنع القرار ضمن شركة المساهمة إلى جانب الأغلبية، كما سأعمد إلى استعمال المنهج المقارن في بعض المواضع لمقارنة هذه الآليات الموضوعة من طرف المشرع المغربي مع نظيراتها في تشريع أوهادا، وكذا الاعتماد على المنهج الوصفي التشخيصي في إبراز حدود تفعيل هذا المركز القانوني…
الفصل الأول: تمظهرات تفعيل المركز القانوني لأقلية المساهمين في شركة المساهمة
الفصل الثاني: تجليات إضعاف المركز القانوني لأقلية المساهمين في شركة المساهمة