أ.مهديد فضيل
أستاد مساعد بكلية الحقوق جامعة أبو بكر بلقايد تلمسان و باحث دكتوراه و محامي معتمد بالمجالس القضائية
إن مهمة الدولة الرئيسية هي الحفاظ على سلامة إقليمها وحماية مواطنيها من أي اعتداء، خارجي كان أم داخلي، وفي سبيل تحقيق هدفها، تمتلك الدول جيوشاً تضمن بها مواجهة أي خطر عن طريق الأسلحة التي يُحددها القانون الدولي.
إلاّ أنّه، وأمام الكم الهائل من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يرتكبها المقاتلون، لاسيما أثناء الحروب، كان لابدّ من توجيه أصابع الاتهام إلى أشخاص حقيقيين –طبيعيين- ليتحملوا مسؤوليتهم الشخصية[1] على أوامر أصدروها أو جرائم ارتكبوها وهم بصدد تأدية واجبهم.
والمسؤولية بشكل عام هي حالة الشخص الذي ارتكب أمراً يستوجب المساءلة، والقانون هو من يقررها في حالة المسؤولية القانونية[2].إلا أنه وفي مجال القانون الدولي الجنائي، فالجرائم الدولية والإخلال بالسلم الدولي، كان يسند للدول وحدها على اعتبار أنّها –دون غيرها- أشخاص المجتمع الدولي.
إلاّ أنّ السلاح الذي يفترض القانون الدولي أنّه يوجّه للحماية قد يستعمل للهجوم، باستعماله من قبل فئات لا يسمح لها القانون الداخلي ولا القانون الدولي أصلاً بامتلاك السلاح، حيث وصفها القانون الدولي بالمقاتلين غير الشرعيين، ويصفها القانون الداخلي بالإرهابيين، المرتزقة…
لقد أثبت التاريخ قيام الكثير من الجرائم الدولية على يد مقاتلين غير شرعيين، حيث ينتهزون فرصة وجود الدولة في حالة لا سلم، أو حتى يتسببون فيها للقيام بجرائهم للوصول للسلطة، أو لكسب أموال… أمّا المقاتلين الشرعيين، فكثيراً ما يخالفون أعراف الحرب أثناء القيام بعملياتهم العسكرية. فما مدى مسؤولية المقاتلين الشرعيين وغير الشرعيين في القانون الدولي الجنائي؟
الفرع الأول: مسؤولية المقاتل الشرعي
إنّ المفهوم القانوني للمقاتل الشرعي حديث نوعاً ما، حيث حددت اتفاقيات جنيف لعام 1949 ستة فئات التي تأخذ هذا الوصف وتتضمن[3]:
- أفراد القوات المسلحة لطرفي النزاع.
- أفراد حركات المقاومة متي احترموا بعض الشروط (أن يكون على رأسهم مسؤول، حمل السلاح، حمل شارات تميزهم عن بعد، احترام قواعد وأعراف الحرب).
- أفراد القوات النظامية غير معترف بها عنده. La puissance détentrice) )
- الأفراد التابعون للقوات المسلحة النظامية دون الانتماء لها مباشرة.
- أفراد الطواقم البحرية، البرية والجوية المدنية لأطراف النزاع.
- أفراد الشعب الذين يقاومون تقدم قوات العدو، على أن يحملوا السلاح علناً ويحترموا قواعد الحرب وأعرافها.
وهو ما أكدته اتفاقية لاهاي لعام 1907، ضمن اللائحة المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية، حيث حددت المادة الأولى المحاربين كالتالي[4]:
“…إنّ قوانين الحرب وحقوقها وواجباتها لا تنطبق على الجيش فقط، بل تنطبق أيضا على أفراد الميليشيات والوحدات المتطوعة التي تتوافر فيها الشروط التالية:
- أن يكون على رأسهم شخص مسؤول على مرؤوسيه.
- أن تكون لها شارة مميزة ثابتة، يمكن التعرف عليها عن بعد.
- أن تحمل الأسلحة علناً.
- أن تلتزم في عملياتها بقوانين الحرب وأعرافها. “
كما أضافت كل من المادتين الثانية والثالثة السكان المقاومين وغير المقاتلين، والذين يمكن أن يتألف منهم الجيش.
وتجدر الإشارة إلى أنّ وصف المقاتل قد عرف تطور جوهرياً وفقاً للبروتوكول الأول من اتفاقيات جنيف، حيث وسع مفهومه ليعترف بأفراد المقاومة التحريرية، أي مقاتلي حركات التحرير ضد الاستعمار.
وبناءاً على ما تقدم نلاحظ أن وصف المقاتل ينطبق على فئتين من أفراد القوات المسلحة: المقاتلين ضمن القوات المسلحة النظامية والمقاتلين ضمن القوات غير النظامية، كما ظهرت للوجود فئات أخري من المقاتلين…
أولاً: المقاتل ضمن القوات المسلحة النظامية
إنّ وصف المقاتل النظامي هو وصف يلحق كل فرد ينتمي إلى القوات المسلحة النظامية للدولة، أي جيش تلك الدولة. وهؤلاء الأفراد، تربطهم بالدولة المجندين لحسابها رابطة الولاء لوطنهم الأصلي الذي يحملون جنسيته. كما قد يلحق هذا الوصف بأفراد أجانب يجندون لصالح الدولة، لكن في حالات استثنائية فقط[5].
ويتكون جيش أي دولة من القوات البرية، الجوية والبحرية. ( إن كانت الدولة داخلية لا تطل على أي مياه، فلا تمتلك قوات بحرية لأن مهمة هذه الأخيرة هي الدفاع لا الهجوم)
- القوات البرية:
تتكون القوات المسلحة البرية من: سلاح المشاة، سلاح المدرعات، سلاح المدفعية، سلاح المهندسين وسلاح الاتصالات. هذه القوات تتشكل من جيش عامل وجيش احتياطي، بالإضافة للحرس الوطني أو الجمهوري، ويتصفون كلهّم بصفة المقاتل الشرعي[6].
ونظراً إلى أنّ هؤلاء المقاتلين لا يتواجدون وحدهم في أرض المعركة، فقد أعطى القانون الدولي وصف المقاتل الشرعي لفئات أخرى، حتى تتمتع بنفس امتيازاته إن وقعت في الأسر، ويتعلق الأمر بالطواقم الطبية، رجال الدين، موظفي الاتصالات، الطباخون… وكذا الأشخاص الذين يتبعون القوات المقاتلة للقيام بعمل تجاري أو مهام خاصة، كالمراسلين والصحفيين.
فكل هؤلاء إن وقعوا في الأسر، أوجب القانون الدولي أن يُعاملوا كأسرى حرب، أي أن يتمتعوا بحماية خاصة، فالغرض من حجزهم هو منعهم من الاستمرار في القتال لإضعاف قوات العدو، وليس توقيع الجزاء عليهم، أو الانتقام منهم[7].
وقد أخضعت اتفاقيات جنيف لعام 1949 الأطباء ومساعديهم ورجال الدين، إلي حماية خاصة نظراً لصعوبة مهامهم الإنسانية في الميدان.
- القوات البحرية والجوية:
نقصد بالقوات البحرية والجوية أفراد الجيش الذين يمارسون مهامهم في حماية المياه الإقليمية، والأجواء التابعة للدولة. وفي سبيل ذلك يمتلك الدول أسطولاً بحرياً، وآخر جوياً. وبالتالي يعد مقاتلاً شرعياً للدولة، أحد أفراد الجيش الذي يعمل على متن سفينة حربية، أو طائرة حربية.
وقد أورد القانون الدولي تعريف السفينة الحربية كالتالي: “هي السفينة التي تنتمي إلى القوات المسلحة لدولة ما، وتحمل العلامات الخارجية المميزة للسفن العسكرية التابعة لجنسيتها، وتوضع تحت إمرة ضابط البحرية في خدمة هذه الدولة، ويخضع طاقمها لقواعد الانضباط العسكرية”[8].
أمّا الطائرة العسكرية، فهي كل طائرة تكون في خدمة وحدات القوات المسلحة لدولة ما، وتحمل العلامات العسكرية لهذه الدولة، ويقودها أحد أعضاء القوات المسلحة، ويخضع طاقمها لقواعد الانضباط العسكرية[9].
وعليه نستنتج أنّ وصف السفينة أو الطائرة بالحربية، يستلزم ما يلي:
- أن تشكل جزءاً من أسطول دفاع الدولة.
- أن يقودها ضابط عسكري في الدولة.
- أن يكون على ظهرها أفراد من الجيش.
- أن تحمل علم الدولة، وشارتها العسكرية.
وفي الأخير تجدر الإشارة إلى أنَّ أفراد الشرطة، لا ينتمون إلى أصناف المقاتلين السابق ذكرهم، حيث ينتمون لوزارة غير وزارة الدفاع (الداخلية غالباً). إلاّ أنّ الدولة وفي حالة الحرب، تستطيع استدعائهم للمشاركة في العمليات العسكرية، شرط إبلاغ الدولة الخصم، حتى يستفيدوا من الحماية القانونية لأسرى الحرب.
ثانياً: المقاتل ضمن القوات غير نظامية
إنّ الهدف الأول الذي تسعى إليه أي دولة تدخل في حرب هو الفوز وتحقيق النصر، وفي سبيل ذلك تقوم الدول بتصرفات تارة مشروعة وفي غالب الأحيان غير مشروعة ( انتهاك أحكام القانون الدولي الإنساني)، ومن بين التصرفات التي سمح بها القانون الدولي للدولة، تعزيز جيوشها بقوات غير نظامية وتتمثل في :
- الفصائل المتطوعة:
نصت المادة الثالثة من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 على إصباغ وصف”المقاتل النظامي”على المتطوعين في الجيش. ونقصد بالمتطوعين، المدنيين من مواطني الدولة، والذين ينضمون من تلقاء نفسهم وبإرادتهم للجيش قصد تقديم العون للمشاركة في العمليات العسكرية إلى جانب أفراد الجيش. وقد يكون هذا بناءاً على طلب من الدولة، في حالة خسارتها لعدد كبير من مقاتلها (التجنيد الاختياري).
ويتمتع المتطوعون بنفس حقوق المقاتلين النظاميين ( الحماية الخاصة بالأسرى في حالة وقعهم في الأسر) إذا توافرت فيهم الشروط التالية[10]:
- أن يقودهم شخص مسؤول عن مرؤوسيه.
- أن يحملوا شارة مميزة يمكن تمييزها عن بعد.
- أن يلتزموا في عمالياتهم بتطبيق قوانين الحرب وعاداتها.
إلاّ أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ المتطوعون لكي يتمتعوا بهذه الحماية، يجب أن يحاربوا ضمن صفوف جيوش دولتهم، أمّا إن تطوعوا في جيوش العدو، فيمكن اعتبارهم مرتزقة أي مقاتلون غير نظاميون، لا يتمتعون بأدنى حماية.
- الهبة الشعبية:
عرّف الدكتور صلاح الدين عامر الهبة الشعبية كما يلي[11]: “… عمليات القتال التي تقوم بها عناصر وطنية من غير أفراد القوات المسلحة النظامية، دفاعاً عن المصالح الوطنية أو القومية ضد قوات أجنبية، سواءاً كانت تلك العناصر تعمل في إطار تنظيم يخضع لإشراف وتوجيه سلطة قانونية أو واقعية، أو كانت تعمل بناءاً على مبادرتها الخاصة، سواء باشرت هذا النشاط فوق الإقليم الوطني، أو من قواعد خارج هذا الإقليم.”
ولقد نصت علي هذه الحالة المادة الرابعة فقرة (ألف -6) من الاتفاقية الثالثة لجنيف كالآتي:
” سكان الأراضي غير المحتلة الذين يحملون السلاح من تلقاء أنفسهم عند اقتراب العدو لمقاومة القوات الغازية، دون أن يتوافر لهم الوقت لتشكيل وحدات مسلحة نظامية، شريطة أن يحملون السلاح جهراً، وأن يراعوا قوانين الحرب وعاداتها.”
وعليه فالهبة الشعبية هي تحرك أفراد الشعب بشكل ارتجالي، أو بعد استنجاد دولتهم بهم، لمنع وقوع دولتهم في الغزو من قبل دولة أجنبية، أي منع مواصلة زحف قوات العدو داخل إقليمهم، فهنا منحهم القانون الدولي حق التحرك لحماية دولتهم. ( وهو حق طبيعي مستمد من العرف)
إلاّ أنّ هذه الفئة، ولكي تستفيد من وضعيها كمقاتلين نظاميين يجب أن تتوافر فيها الشروط السابقة (مثل المتطوعين) بالإضافة لشرط أساسي وهو: “أن يكون الإقليم لم يحتل بعد، أي أن يهب الشعب لمنع الغزو أو الاحتلال، وإلاّ نكون أمام حالة مقاومة الاحتلال، وهي حالة لها أحكام خاصة.
ثالثاً: المقاتل في النزاعات المسلحة غير الدولية
ينصرف مفهوم النزاعات المسلحة غير الدولية كقاعدة عامة إلى النزاعات المسلحة التي تثور داخل إقليم الدولة، بين السلطة القائمة من جانب، وجماعة من الثوار أو المتمردين من جانب آخر[12].
ومن المعروف أنّ التمرّد في حال نجاحه يستتبع وصول الثوار للسلطة، وبالتالي فلا مجال للحديث عن مسؤوليتهم، إلاّ أنّه ومن باب المخالفة، فإنّ فشل التمرّد يؤدي حتماً للمساءلة الجنائية، والتي تتم لا محالة في المحاكم الداخلية للدول ووفقاً لقانون الدولة.
إلاّ أنّه، وعقب اندلاع الحرب الإسبانية سنة 1936، جرى العمل الدولي على أنْ يطبق قانون الحرب على الحروب الأهلية (باعتبارها الصورة الأوضح للنزاعات المسلحة غير الدولية) لكن متى توافر عنصرين[13]:
- استفاء التمرّد لجانب من التنظيم.
- ضرورة الاعتراف للمتمرّدين بوصف المحاربين من طرف الحكومة القائمة أو الدول الأغيار[14].
إلاّ أنّ هذين الشرطين، عُزّزا بشرط ثالث بمقتضى الفقرة الأولى من المادة الأولى من البروتوكول الإضافي الثاني لسنة 1977[15]، ومفاده “الرقابة الإقليمية”، أي أنْ يمارس المتمردون سيطرتهم الفعلية، على جزء من الإقليم يسمح لهم بشن هجمات منظمة ومتواصلة ضد الحكومة القائمة.
وعليه نستنتج أنّ المقاتل في الحرب الأهلية خاصة، وفي غيرها من الاضطرابات الداخلية عامة، كان يعدّ بمثابة مقاتل غير شرعي والدليل وصفه بالمتمرّد، إلى أنّه وبعد أنْ أصبحت النزاعات الداخلية لها صفة دولية، غُير وصف المقاتل فيها، وأصبح يتمتع بحماية دولية لكن بشروط دقيقة وضعها القانون الدولي، إن لم يحترمها المتمردون، حرموا أنفسهم من الحماية الدولية.
رابعا: أفراد المقاومة المسلحة
إنّ حق الدفاع عن النفس في حالة الخطر مقرر في كل القوانين الجنائية الوطنية، ويقابله حق المقاومة المسلحة في حالة الاحتلال دولياً. فالاحتلال يشكل امتهاناً لقدسية تراب الدولة ووجه الأمة من جهة، وخطراً مستمراً ودائماً على الرعايا وأموالهم وحقوقهم العامة من جهة أخرى[16].
وأفراد المقاومة المسلحة هم عناصر لا ينتمون إلى القوات المسلحة النظامية بمعنى أنّهم من المدنيين، إلاّ أنّهم يتطوعون للدفاع عن دولتهم في حالة وقوعها تحت الاحتلال، ويستوي الأمر لو باشروا المقاومة بمبادرة منهم أو بطلب من دولتهم، وسواء قاموا بها داخل دولتهم أو خارجها.
ويعد تنظيم وضع حركات المقاومة أهم انتصارات نظرية المقاومة الشعبية المسلحة[17]، إلاّ أنّ لائحة لاهاي لعام 1907 حددت للاعتراف بهم الشروط الأربعة السابق الإشارة إليها.
إلاّ أنّه وبعدما عمّت حروب التحرير العالم، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، نازع عدد كبير من فقهاء القانون الدولي مدى حجية تلك الشروط الأربعة خاصةً الثاني والثالث، إذ كيف يمكن أن نطلب من الفدائي أو الثائر أو المقاوم المرسل في مهمة سرية، أن يميز نفسه بشارة خاصة أو يحمل سلاحاً علناً في أرض محتلة من قبل جنود العدو[18] ؟
ومن جهة أخرى، فقد اتفق أغلب فقهاء القانون الدولي، على أنّ الشروط المذكورة في اتفاقية لاهاي، والتي تبنتها المادة الرابعة من اتفاقية جنيف لعام 1949، قد وضعت لتلائم نوعاً معيناً من الحروب وهي الحروب الكلاسيكية، التي تجاوزتها بمراحل الحروب الحديثة حيث تلجأ لتقنيات حديثة (حرب العصابات، خطة “اضرب واهرب”…) من جهة ثانية[19].
لهذا رأى الفقهاء تجاهل الشروط المذكورة، وقبلوا فقط بشرط الانطواء تحت قيادة مسؤولة واحترام قواعد الحرب وأعرافها.
إنّ المجتمع الدولي لم يستطع أن يُدر ظهره إلى أهم الحقوق التي يتمتع بها الأفراد في الدولة:”حقهم في تقرير المصير”، لذلك فقد جسد هذا الحق بأكثر سلاسة في المادة الأولى من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقية جنيف، حيث نص على أنّ أحكامه تطبق على كل النزاعات المسلحة التي يكون أحد أطرافها شعباً يناضل ضد الاستعمار أو ضد نظام عنصري.
كما أضفى البروتوكول صفة المحارب على أشخاص ومنظمات في الدولة، حتى وإنْ لم تكن تابعة للحكومة أو كانت تابعة لهيئة غير معترف بها من قبل الطرف الآخر.
وعليه يتضح لنا أنّ المقاومين يتمتعون بحماية دولية طالما قاوموا الاستعمار الذي اعتدى على أراضهم، وانتهك حقوقهم، إلاّ أنّه كثيراً ما يأخذ المقاوم وصف الإرهابي ولو قام بعملية عسكرية داخل إقليمه لحمايته، ومثاله وصف الفلسطينيين بالإرهابيين من قبل السلطات الإسرائيلية والإعلام الدولي، مع العلم بأنّ الخلط (والذي يتم عمداً) بين المفهومين يؤدي لنتائج خطيرة فبدلاً من الحماية، يصبح المقاوم مسؤولاً عن أعماله والتي تخرج من نطاق المشروعة إلى نطاق التجريم الدولي.
الفرع الثاني: مسؤولية المقاتل غير الشرعي
في البداية، تجدر الإشارة إلى أنّ مصطلح المقاتل غير الشرعي لا وجود له في الاتفاقيات الدولية، ولا في المعاهدات، وقد تظهر كنقيض لمصطلح المقاتل الشرعي ليشمل الفئة التي لا تنطبق عليها أحكام الحماية.
لقد ظهر مصطلح المقاتل غير الشرعي لأول مرة في منطوق قضية” Exparte Quirin”[20]في الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم استعمله “بيير ريتشارد بروسبير” السفير في وزارة الخارجية لشؤون جرائم الحرب أمام لجنة الشؤون القانونية في الكونغرس عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث جاء في الخطاب الذي ألقاه في 04/12/2001 : “إنّ الولايات المتحدة في حالة حرب غير تقليدية مع عدو غير تقليدي، لا تنطبق عليه قواعد القانون الدولي الإنساني…، أمّا الأشخاص الذين يشنون أعمالا حربية، دون أنْ يكونوا خاضعين لقيادة منظمة، ودون أنْْ يحترموا عادات الحرب وتقاليدها وقوانينها، فهم “مقاتلون غير شرعيون”[21].
وننوه أنّنا لم نستعمل المصطلح للدلالة على الإرهاب فقط حسب ما جاءت به الولايات المتحدة، وإنما ارتأينا أنّه يشمل فئات لا تتمتع بالحماية لأنها تلجأ إلى الاعتداء على المصالح الدولية وتخل بالسلم الدولي، وعليه سوف نتناول في دراستنا كل من المرتزق، الجاسوس والإرهابي.
أولاً: المرتزق
إنَّ من أهم مَهام مقاتلي الجيش في الدولة، حماية التراب الوطني من أي اعتداء داخلي أم خارجي، إلاّ أنّه وفي أحوال كثيرة، يتدخل المدنيون لتقديم العون للمقاتلين النظاميين في حالة عدم قدرة هؤلاء على التصدي وحدهم للعدوان (المقاومة-الهبة الشعبية)، وبالرغم من خروج الأفراد في هذه الحالة من طائفة المدنيين، ودخولهم لطائفة المقاتلين، إلاّ أنّ القانون الدولي شملهم بحماية خاصة كون تصرفهم مشروع، متى احترموا الشروط السابق الإشارة إليها.
إلاّ أنّ المدنيين قد يعتبرون مقاتلين غير شرعيين، ويُحرمون بالتالي من كل الحقوق والامتيازات المقررة قانونياً، متى أصبحوا مرتزقة.
ويعرّف الأستاذ “ألن بيليه” أستاذ القانون الدولي في جامعة نانتيز الفرنسية المرتزق بأنه: “ذلك الشخص الذي يدخل طرفا في النزاع بدافع الربح، وهو عمل يمنعه القانون الدولي[22]“.
إذن فالمرتزقة: هم أفراد لا ينتمون إلى جنسية الدولة، إلاّ أنّهم وللحصول على مقابل مادي (غالباً ما يكون أكثر بكثير مما يحصل عليه المقاتل الشرعي في الجيش) يقدمون على الانضمام لصفوف الجيش، وكثيراً ما يكونون من العسكريين المتقاعدين أو أفراد الجيش المنشقين عن دولتهم، يتم استغلالهم من قبل أنظمة أو دول أو جيوش للقيام بعمليات حربية “قذرة”.
وظاهرة المرتزقة ليست حديثة العهد حيث ظهرت في العصور القديمة، حين لم تكن الجيوش النظامية قد تكونت، ومع قيام الدولة بمفهومها الحديث وتكوين الجيوش النظامية، استمر عمل المرتزقة مع معظم الحروب خاصةً الأهلية منها[23].
تعريف المرتزقة قانونياً: إلى غاية 1977(تاريخ تبني البروتوكولين الإضافيين) لم يتم وضع تعريف للمرتزقة رغم إدانة هذا الصنف من المقاتلين بشدة، ويرجع الفضل في وضع التعريف إلى نيجيريا، و التي اكتوت بنار المرتزقة خلال الحرب الأهلية التي وقعت ما بين 1967 و1970، حيث قام مندوبها بتقديم اقتراح إلى اللجنة الثالثة للمؤتمر في الفترة بين 1974 و1977 مفاده إدخال المادة 42 إلى البرتوكول والمتضمنة تحديد العناصر التي يقوم عليها مفهوم المرتزقة كالتالي[24]:
- المرتزق هو شخص غير ملتحق بالقوات المسلحة لأحدى الأطراف المتحاربة.
- المرتزق يجند من الخارج.
- الباعث الذي يدفع المرتزق للاشتراك في القتال هو باعث مادي.
غير أنّ هذه العناصر كانت محل جدل بين دول العالم الثالث والدول الغربية خلال الجلسة الثالثة، إلاّ أنّ المسألة حسمت في الجلسة الرابعة، حيث تم اعتماد الوثيقةCDDH\11\GT\105 لتدخل المادة 42 إلي البرتوكول الإضافي الأول، حيث نصت على[25]:
“لا يجوز للمرتزق التمتع بوضع المقاتل أو أسير الحرب.
المرتزق هو أي شخص:
- يجري تجنيده خصيصاً، محلياً أو في الخارج ليقاتل في نزاع مسلح.
- يشارك فعلياً ومباشرةً في أعمال العدائية.
- يحفزه أساساً لاشتراك في الأعمال العدائية، الرغبة في تحقيق مغنم شخصي، ويبذل له فعلاً من قبل طرف في النزاع أو نيابة عنه وعد بتعويض مادي، يتجاوز بإفراط ما يعده به المقاتلون ذوو الرتب والوظائف المماثلة في القوات المسلحة لذلك الطرف، أو ما يدفع له.
- ليس من رعايا طرف في النزاع، ولا متوطن بإقليم يسطر عليه أحد أطراف النزاع.
- ليس عضوا في القوات المسلحة لأحد أطراف النزاع.
- ليس موفداً في مهمة رسمية من قبل دولة ليست طرفاً في النزاع، بوصفه عضواً في قواتها المسلحة.”
لقد أصبح اللجوء إلى المرتزقة، مسألة شائعة كثيراً في الدول التي تشهد صراعات مسلحة، حيث أصبح هؤلاء يقومون بمهام تسند إليهم، كتأمين إمداد القوات المحاربة بالمؤن والسلاح، كما جرى في حروب البلقان وأفغانستان والعراق، وهي مهام جديدة لم تكن معهودة في السابق، حيث كانت مهامهم ترتكز على حراسة رؤساء الدول القادمين عبر الانقلابات في دول العالم الثالث، أو حماية الحكومة نفسها، حماية آبار النفط، ومناجم الماس في أفريقيا، بل وحتى القيام بقلب أنظمة الحكم، كما حدث في جزر القمر بقيادة المرتزق الفرنسي “بوب بينار” وكذلك في دول أخرى مثل غنيا، جزر سيشل، وغيرها من الدول[26].
ثانياً: الجاسوس
إنّ دخول أي حرب أو معركة ضد أي طرف يُجهل عدده وعدته هي من البداية، معركة أو حرب خاسرة، وفي هذا السياق يقول “نابليون بونابرت”: إنَّ القائد الذي يدير عملية حربية دون أن تكون لديه معلومات عنها، رجل لا يعرف صناعته[27]. ”
فتحقيق النصر في الحرب لا يعتمد على تكثيف القتال فقط بل توجيهه بطريقة صحيحة ودقيقة للوصول لأفضل النتائج لذلك، فقد أجاز العرف الدولي بعض الوسائل التي تمكن من الحصول على المعلومات التي تفيد الطرف المتحارب وعلى رأسها الجوسسة.
وقد ورد تعريف الجاسوس في اتفاقية لاهاي كالتالي:
“يعد جاسوساً ذلك الشخص الذي يعمل سراً أو من وراء ستار زائف، للحصول على معلومات في منطقة العمليات بنية تبليغها للخصم، وتبعاً لذلك، فإنَّ العسكريين بزيّهم الرسمي، حين يتسللون إلى منطقة عمليات جيش العدو، بغية الحصول على معلومات، لا يعدّون من الجواسيس.”
إنَّ الجوسسة مهمة خطيرة زمن الحرب لذلك، فمن المستحيل أن يقوم بها شخص عادي، بل لممارسة التجسس يجب أن يتصف الشخص بمهارات تجعله مميزاً أهمها[28]:
- القدرة على العمل في الظروف الصعبة.
- البراعة في التنبه للتفاصيل الدقيقة.
- أن يملك حساً أمنياً عالياً.
- اللباقة والمرونة في التفكير.
- التكوين العسكري حتى يستطيع التصرف في الظروف الصعبة.
إلى جانب خطورة الجوسسة، فإنَّها تتميز بشدة العقوبة في حال اكتشاف أمر الجاسوس، خاصة زمن الحرب، حيث أنَّ القاعدة العامة تقضي بأن يخضع الجاسوس لقانون الدولة التي ألقت عليه القبض والتي أخل بأمنها وسلامتها عن طريق تسريب معلومات سرية عنها، فلها أن تحكم بالعقوبة القصوى “الإعدام” في حق من اخترق نظامها الأمني.
وعليه نستنتج أنَّ الجاسوس لا يتمتع بالحماية المقررة للمقاتلين الشرعيين، وهي “معاملة أسرى الحرب” وما هو ما جاء في المادة 46 فقرة 01 من البرتوكول الإضافي الأول لعام 1977: “إذا وقع أي فرد من القوات المسلحة لطرف في النزاع في قبضة الخصم أثناء قيامه بالتجسس فلا يكون له الحق في التمتع بوضع أسير الحرب، ويجوز أن يعامل كجاسوس، وذلك بغض النظر عن أي نص آخر من الاتفاقيات…”.
كما يخضع الجاسوس لأحكام دولية خاصة في حالة القبض عليه وهي[29]:
- لا يعاقب إذا قبض عليه متلبساً، إلاّ بعد محاكمته محاكمة عادلة.
- إذا قبض على الجاسوس في وقت لاحق على أعماله، لا يعاقب على أفعال التجسس التي قام بها سابقاً. (شرط التلبس للمحاكمة على أعمال التجسس).
- إذا اقتنع أحد أطراف النزاع بوجود شبهات قاطعة، بشأن قيام شخص تحميه الاتفاقيات في أراضي هذا الطرف بنشاط يضر بأمن الدولة، يجب حرمانه من الحقوق والمزايا التي تمنحها هذه الاتفاقية.
- إذا اعتقل الجاسوس في أراضي محتلة بتهمة الجوسسة، وكان يتمتع بحماية الاتفاقيات، جاز حرمانه من حقوق الاتصال.
إلاّ أنَّ الدول أصبحت تتفادى استخدام الجواسيس (أفراد طبيعيين) خاصة أثناء السلم، حيث أنّها تحرج أمام المجتمع الدولي في حال اكتشافهم، كما تخشى من أن يصبح جاسوسها عميلاً مزدوجاً، فيسرّب أخبارها، أو أنّها قد تخسر عملاء مدربين على كفاءة عالية في حال القبض عليهم، لذلك أصبحت الدول تعتمد على التكنولوجيا الحديثة في الجوسسة، ومثالها استحداث طائرات استكشاف وتجسس تحلق على مستوى عال وبسرعة فائقة مزودة بأجهزة تصوير ومعدات استشعار عن بعد تطير دون طيار، بالإضافة إلى دور الأقمار الصناعية في التقاط الصور عبر العالم، خدمات الانترنيت، الهواتف والالكترونيات الحديثة[30].
ثالثاً: الإرهابي
حقيقة أنَّ أكثر الاعتداءات على السلم الدولي وقعت أثناء الحرب وبمناسبتها، إلاّ أنّ المجتمع الدولي أصبح مسرحاً لعمليات إرهابية في مناطق كثيرة من العالم مخلفة ضحايا وخسائر كبيرة.
وعلى هذا الأساس، فقد اعتبرنا أن الإرهابي هو مقاتل غير شرعي وهو ما ذهب إليه المجتمع الدولي خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر ( حسب ما صرح به السفير الأمريكي )، أمّا بالنسبة للاتفاقيات الدولية فلم ترد فيها أية إشارة للوضع القانوني للإرهابي، حيث لم تعترف به كمقاتل أصلا. (سواء شرعي أو غير شرعي).
إنّ ظاهرة الإرهاب، قد أصبحت من بين أكثر الاهتمامات التي تشغل المنظمات الدولية، حيث أصبحت جرائم الإرهاب، تشكل خطراً على أمن الأفراد والدول على السواء.
والإرهاب مصطلح جديد لظاهرة قديمة، أصبحت شائعة في المجتمع الدولي مما دعي إلى مواجهتها، لكن كان أول مشكل لذلك، وضع تعريف للإرهاب، وبالتالي للإرهابي.
ورغم عدم اتفاق الدول على وضع تعريف شامل للإرهاب، إلاّ أنَّ الأفراد يتحملون مسؤوليتهم الجنائية عن أعمالهم، فإذا قام فرد بعمل إرهابي دولي، يسأل عنه باعتبار مركزه قد استقر في القانون الدولي، وهو ما أكدته عدة اتفاقيات دولية على غرار اتفاقية عصبة الأمم المتحدة لمنع وقمع الإرهاب لسنة 1949، والتي أقرت بمبدأ المسؤولية الفردية في المواد 49-50-129-149 من الاتفاقيات الأربعة بهذا الترتيب، وكذا نظام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة الذي أقر هذا المبدأ في مادته الخامسة والعشرون[31].
وإلى جانب الاتفاقيات الدولية والتي جرّمت كل مساس بالسلم والأمن الدوليين، فقد جرّمت كل التشريعات الإرهاب معتبرة الأفراد الذين مارسوه، فرادى أو جماعات مجرمين خطيرين يعاقبون – وفقاً للقوانين الجنائية الوطنية-بأقصى العقوبات، حيث غالباً ما يحولون مناطق سلم إلى مناطق لاسلم، وعلى هذا الأساس فلا يمكن الحديث عن حقوق الإرهابي فهو لا يحمل وصف المقاتل الشرعي.
ومن خلال كل ما سبق، يتضح لنا أنّه من المهم التمييز بين فئتين من المقاتلين، الشرعيين وغير الشرعيون، حيث تستفيد الفئة الأولى فقط، من امتيازات مقررة دولياً أهمها أنهم يحملون وصف المقاتل الشرعي.
وفي ظل غياب أي تعريف قانوني لهذه الفئة والتي وصفت “سياسيا” بأنها تنتمي إلي المقاتلين غير الشرعيين، وفي ظل عدم التمييز بين المقاوم الشرعي والإرهابي، ولتفادي الخلط بين هذه الفئة وغيرها نقول أن الإرهابي هو كل من أثار الرعب والفزع بين الناس بناءا علي خلفية سياسية أو دينية أو حتى لتحقيق مكسب مهما كان يؤمن به.
وفي هذا المقام كان لابدّ من الإشارة إلي حالة استثنائية بل وغريبة على القانون الدولي، وهي حالة “معتقلي غوانتانامو”[32]، حيث أعلن البيت الأبيض الأمريكي بتاريخ 07-02-2002، أنَّ أعضاء القاعدة وطالبان المحتجزين في معتقل غوانتانامو بعد 11-09-2001 لا يتمتعون بصفة أسرى حرب، وإنّما هم مقاتلون غير شرعيون[33]، اتهموا بصلتهم بتنظيم القاعدة، ليمتلئ معتقل غوانتانامو المتواجد في خليج غوانتانامو بكوبا، بـ720 معتقلاً من بينهم قصر، ومن جنسيات متنوعة إلاّ أنّ أغلبهم أفغان وباكستانيون.
إلاّ أنّ عملية الاعتقال العشوائية، ووصف أمريكا المعتقلين الأفغان مقاتلون غير الشرعيين، خاطئ وغير دقيق للأسباب التالية[34]:
- إنَّ عدم اعتراف أمريكا بحكومة طالبان لا يمحو صفة الشرعية على الحكومة، ولا على جيشها الرسمي، حيث أنّها تمثل الحكومة الفعلية التي تسيطر على أفغانستان، وهي التي يتعامل معها المجتمع الدولي، عدا الولايات المتحدة الأمريكية.
- لقد تم القبض على معتقلي طالبان والقاعدة في إقليم محتل و أثناء مواجهات مسلحة، وعليه وحسب القانون الدولي، فإنَّ الوصف الذي ينطبق عليهم هو: مقاتلون شرعيون أو مدنيون.
- أنَّ عدم لبس الجيش الأفغاني لزي العسكري لا يمحو عليه أنَّه جيش نظامي، حيث أنَّ بعض نصوص المادة الرابعة من اتفاقيات جنيف، لم تحدد الشروط الواجب توافرها في القوات المسلحة، لكنها تكملة فقط عن الشروط اللازم توافرها في الميليشيات والقوات المتطوعة، وليس الزي أحد هذه الشروط. (تكملة عن الشارة وليس اللباس العسكري الموحد).
من خلال ما سبق يتضح لنا أن مقاتلي طالبان باعتبارهم الجيش الرسمي لأفغانستان، محميون بموجب اتفاقية جنيف الثالثة، حيث تنص المادة الرابعة على ما يلي:
” أسرى الحرب في هذه الاتفاقية، هم الأشخاص الذين ينتمون إلى أحد الفئات التالية: ويقعون في قبضة العدو: أفراد القوات المسلحة للنزاع… ”
وبالتالي، فمقاتلو طالبان مقاتلون شرعيون، أي يفرض القانون الدولي معاملتهم كأسرى حرب محميين بالاتفاقية الثالثة، وعليه فمعاملتهم من قبل السلطات الأمريكية علي أنهم مقاتلون غير شرعيون لا أساس قانوني له، بل بالعكس، فقد خالفت أمريكا أهم مبادئ القانون الدولي، وهذه إشارة واضحة للمخالفة: تنص المادة الخامسة من اتفاقية جنيف الثالثة في فقرتها الثانية على ما يلي:
” في حالة الشك حول كون المعتقل لدى إحدى القوات المتحاربة ينتمي إلى مجموعة أسرى الحرب، أو أنّه من المدنيين، فإن من واجب الدولة الأسيرة، أن تقدمهم فوراً إلى محكمة مختصة. ”
وعليه كان يجدر على السلطات الأمريكية تقديمهم فوراً للقضاء للفصل في وضعيتهم القانونية. لا احتجازهم تعسفاً أمام مرأى العالم أجمع.
إن الوضع القانوني لمعتقلي غوانتنامو لا يمت للقانون الدولي بصفة، فحتى لو صنفناهم بأنهم من إرهابيين إلا أنهم يتمتعون علي الأقل بالحقوق الأساسية للإنسان، وفي وضعهم هذا أبسط حقوقهم، هو الحق في المحاكمة العادلة ووقف حجزهم الذي أصبح تعسفيا.
إن مصطلح “إرهابي” أصبح يثير الرعب في العالم أجمع، وأمام غموضه أصبح يوصف به أشخاص لا يمتون للإرهاب بصلة كالمجرم العادي الذي مس بأمن الدولة عن غير قصد، مجرمو الحرب، قادة الدول الذين قمعوا تظاهرات شعوبهم، المقاومون للاحتلال..
إنّ مبدأ المسؤولية الجنائية عن أعمال الدولة أصبح بموجب القانون الدولي المعاصر، مبدأ مطلقاً يشمل جميع الأفراد الذين يتبوؤن مناصب رسمية في السلّم الوظيفي للدولة، متي ارتكبوا أو ساهموا في ارتكاب تصرفات إجرامية طبقا للقانون الدولي[35]. وعليه، تسأل الدولة في هذه الحالة عن أعمال موظفيها، وإن خالفوها[36].
أمّا بالنسبة للأفراد العاديين، فالقاعدة العامة أنّ الدولة لا تسأل عن الأعمال الصادرة من الأفراد العاديين الذين لا يعملون لحسابها، وفي هذا الشأن ذهبت لجنة القانون الدولي في مادتها 11 علي: “لا يعتبر صادراً من الدولة بمقتضى القانون الدولي، تصرف شخص أو فريق من الأشخاص لا يعمل لحساب الدولة”.
وعليه، وفي هذه الحالة يسأل الفرد العادي “شخصياً” عن أفعاله التي أخل بها بالتزام دولي.
وأخيراً ننوه أن أفعال الثوار لا تسأل عنها الدولة، ما لم يثبت تقصيرها في اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع الثورة أو قمعها. لكن في حالة نجاح الثوار في تكوين حكومة جديدة، فإنها تسأل عن أعمالهم السابقة (سواء كوّن الثوار حكومة جديدة على نفس الإقليم أو في إقليم منفصل) أمّا إنْ فشلت الثورة، فلا تتحمل الدولة إزاء الغير أية مسؤولية[37].
خاتمة:
إنّ المساس بالسلم الدولي يشكل أخطر جريمة دولية، وهي تتم غالباً على أيدي المقاتلين، بمعنى أفراد يملكون السلاح (لا نعني الجيوش بالضرورة) بإيعاز من قادتهم أو بتوجيهات من رؤساء الدول.
إنّ القول بقيام المسؤولية في القانون الدولي الجنائي يترتب آثارا خطيرة بالنسبة لشخص القانون العام، سواء الدولة أو الفرد. وعليه كان لابدّ من وضع شروط يجب توافرها حتى تقوم المسؤولية، وحصر حالات تنتفي المسؤولية بها، شأنها في ذلك شأن المسؤولية في القانون الجنائي الداخلي.
إن قيام المقاتلين بخرق الالتزامات الدولية المتعارف عليها، باعتدائهم علي حقوق الإنسان، استعمالهم أسلحة محرمة دوليا، واعتدائهم علي المدنيين أصبح يشكل جريمة دولية يعاقب عليها القانون الدولي، حيث لا يجوز للمقاتل أن يتحجج بتنفيذ الأوامر الصادرة عن الرؤساء، ولا بحالة الدفاع الشرعي للتنصل من المسؤولية، وهو ما قررته عدة محاكم علي رأسها نورمبورغ وطوكيو، إلي جانب المحاكم الداخلية والمحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
كثيرا ما يستتبع حمل السلاح ارتكاب الجرائم، وسواء تم ذلك بغرض حماية الدولة، أو لأي غرض آخر سياسي أو شخصي، يجب أن يراعي المقاتل القانون أثناء استخدامه له من حيث نوعه، والضحية المحتملة، والأضرار التي قد تترتب علي فعله، وإلا يعد مسؤولا عن فعله أمام القضاء الداخلي أو الدولي…
*أستاذ بكلية الحقوق جامعة تلمسان.
[1] حيث سادت لفترة طويلة النظرية التقليدية حول المسؤولية، ومفادها أن الدول صاحبة السيادة هي الشخص الوحيد للقانون الدولي الجنائي، وعليه تسأل – دون غيرها- على تصرفاتها وتصرفات أجهزتها ومواطنيها.[2] عباس هاشم السعدي، مسؤولية الفرد الجنائية عن الجريمة الدولية، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 2002، ص 201.
[3]Jean Mallein, La Situation Juridique des combattants dans les conflits armes non internationaux, Grenoble, 2005, page 25.
[4] لقد كان يجدر تسميتهم بالمقاتلين، حيث جرى العمل به منذ إقرار لائحة الحرب البرية للاهاي.
[5] جمال رواب، الوضع القانوني للمقاتل في القانون الدولي الإنساني، مذكرة ماجستير، جامعة البليدة، 2006، ص 52.
[6] جمال رواب، المرجع نفسه، ص 57.
[7] د.عبد الواحد محمد يوسف الفار، أسري الحرب، رسالة دكتوراه منشورة، جامعة عين شمس، القاهرة، دون سنة نشر ، ص 12.
[8] المادة 13 فقرة” ز” من دليل سان ريمو المطبق في النزاعات المسلحة في البحار ( معتمد في جويلية 1994).
[9] المادة 13 فقرة” ي” من دليل سان ريمو المطبق في النزاعات المسلحة في البحار ( معتمد في جويلية 1994).
[10] د. نعمان عطا الله الهيتي، قانون الحرب القانون الدولي الإنساني، الطبعة الأولى، الجزء الأول، دار ومؤسسة رسلان، سوريا، 2008، ص 140.
[11] د. صلاح الدين عامر، المقاومة الشعبية المسلحة في القانون الدولي العام، دار الفكر العربي، القاهرة، 2001، ص 40-41.
[12] محمد حازم عتلم، دراسات في القانون الدولي الإنساني، تقديم الدكتور مفيد شهاب، دار المستقبل العربي، 2000، 209.
[13] محمد حازم عتلم، المرجع السابق، 211.
[14] يمكننا تعريف هذا الشرط بأنه: “تصرف سيادي اختياري صادر بصورة صريحة أو ضمنية، منشئ للشخصية القانونية الدولية للمتمردين على نحو نسبي، يسري في مواجهة المعترف(الحكومة القائمة أو الدول الأغيار) ، ومؤقت يسري إلى غاية نهاية النزاع”.
[15] حيث نصت على: ” يسري هذا البرتوكول الذي يطور ويكمل المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف 1949… ” أي أنّ هذا النص لا يلغي الاتفاقية السابقة بل يكملها.
[16] محمود إحسان هندي، حماية حقوق السكان المدنيين الدولية المسلحة في المناطق المحتلة وحمايتها، أطروحة دكتوراه، جامعة دمشق، ص 80.
[17] د. صلاح الدين عامر، المرجع السابق، ص 125.
[18] جمال رواب، المرجع السابق، ص 66-67.
[19] محمود إحسان هندي، المرجع السابق، ص 90.
[20] و تتلخص القضية في قيام ثمانية جواسيس ألمان أثناء الحرب العالمية الثانية بالنزول على شواطئ ولاية لونج أيلاند Long Island في الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف القيام بعمليات تخريبية فقبض عليهم قبل تنفيذها، فقام الرئيس الأمريكي “روزفلت” وقتها بتقديمهم للمحاكمة وفقاً لقانون أمريكي قديم يجرّم القيام بأعمال التجسس خلال الحرب بالقرب من المنشآت العسكرية أو حولها، ويطبق عقوبة الإعدام على هذا التصرف.فأنشأت بالتالي محاكم عسكرية عرفية وفقا لنفس القانون، ولدى طعن المتهمين في اختصاص المحكمة كان ردّها كالتالي:” إنًّ قانون الحرب، يرسم فرقاً بين القوات العسكرية والمدنيين المنتمين للدولة المحاربة، وبين المقاتلين الشرعيين والمقاتلين غير الشرعيين، فالمقاتلون الشرعيون يتمتعون بصفة أسرى الحرب إذا ما اعتقلوا، أمّا أعمال الجاسوس الذي يتخطى خطوط العدو وبشكل سري وملابس مدنية للحصول على معلومات أو للقيام بأعمال تخريبية، فهي حالة مقاتلين لا يتمتعون بصفة أسرى الحرب وهم خارجون عن القانون…”
للمزيد أنظر رشيد حمد العنزي ، جونتنامو بين القانون الدولي الإنساني ومنطق القوة، مجلة الحقوق ، العدد الرابع، السنة الثامنة والعشرون، الكويت، ديسمبر2004، ص 32.
[21] أنظر رشيد حمد العنزي، المرجع السابق، ص 31.
[22] www.islamicnews.net/document/showdoc08.asp
[23] في القرن 19 كان الجيش السويسري يعتمد كليا على المرتزقة، كما عرفت ظاهرة المرتزقة انتشاراً واسعاً في أفريقيا: الحرب الأهلية النيجيرية، أنغولا، جزر القمر، كينشاسا…
[24] جمال رواب، المرجع السابق، ص 70.
[25] د. نعمان عطا الله الهيتي، المرجع السابق، ص 148.
1www.islamicnews.net/document/showdoc08.asp
[27] جمال رواب، المرجع السابق، ص 74.
[28] www.yemencof.org\vb\archive\index.php
[29] د. نعمان عطا الله الهيتي، المرجع السابق، ص 147.
[30] www.yemencof.org\vb\archive\index.php
[31] غيولي منى، الإرهاب في قانون النزاعات المسلحة الدولية، مذكرة لنيل شهادة ماجيستر، جامعة باتنة، 2009، ص 64.
[32] بعدما اهتزت أمريكا لأكبر عملية إرهابية منظمة استهدفت برجي التجارة العالمية بنيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية، حيث تم استخدام طائرات مدنية وعلى متنها ركابها، بعد تغيير مسارها من قبل مختطفين وسقوط طائرة ثالثة في بنسلفانيا قبل دخولها لوجهتها، لتستقر على مقتل أكثر من 3000 مدني، لتتم بعدها عمليات اعتقال واسعة في أفغانستان لأشخاص قيل أنهم من القاعدة. ولكي تتنصل أمريكا من أي مسؤولية، فقد وضعت المعتقلين بخليج جوانتانامو بكوبا بعيدا عن الأراضي الأمريكية.
[33] المجلة السورية، العدد الرابع ، ص 30.
[34]المجلة السورية، العدد الرابع ، ص 34 وما بعدها.
[35] د.عباس هاشم السعدي، المرجع السابق، ص 287.
[36] ومثالها قضية 1962-1925 Thomas Y . Yeu Mans والتي تتلخص وقائعها في أنّ أحد الضباط في المكسيك، ترأس عصبة مسلحة بناءاً على أمر صادر من محاكم الولاية، لقمع مظاهرة كانت موجهة ضد الرعايا الأمريكيين، وبدلاً من حمايتهم، قامت هذه المجموعة بإطلاق النار على المنازل التي آووا إليها، مما أدى إلى مصرع عدد منهم، وقد حكمت لجنة المطالبات الأمريكية المكسيكية لعام 1962 بمسؤولية المكسيك عن الجرائم التي اقترفها جنودها، بسبب تنفيذهم للعملية خلاف الأوامر الصادرة لهم.
[37] د.صلاح الدين عامر، المرجع السابق، ص 747.