نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية
إعداد الطالب: محمد المرابط Mohammed El Morabit
تحت إشراف الدكتورة: وداد العيدوني
المقدمة :
تعتبر المحكمة الجنائية الدولية والتي يحكمها نظام روما الأساسي، أول محكمة دائمة أسست بناء على معاهدة تم إنشائها لمحاسبة مرتكبي أكثر الجرائم خطورة على المستوى العالمي مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، فمنذ 1998، اختتمت أعمال المؤتمر الدبلوماسي المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية بالموافقة على تبني نظام المحكمة الأساسي، والمحكمة الجنائية الدولية هي مؤسسة دائمة ومستقلة ولا تعتبر أحد أقسام منظمة الأمم المتحدة، ويوضح النظام الأساسي بأن المهمة الرئيسية في ملاحقة ومعاقبة مرتكبي الجرائم تقع على عاتق الدول الأطراف، والمحكمة تكمل تلك الجهود، هذا وتعتبر المحكمة النقطة المحورية لتطبيق نظام العدالة الجنائية الدولية، بحيث تشمل المحاكم الوطنية، والمحاكم الدولية والمحاكم التي تضم عناصر وطنية ودولية، فقد كان التزايد حدة الصراعات الدولية والحروب في بقاع كثيرة من العالم، أثرا في زيادة ارتكاب جرائم الحرب ضد المدنيين وارتفاع معدلات انتهاكات حقوق الإنسان، في ظل غياب آلية مناسبة يتبناها المجتمع الدولي للحد من هذه الانتهاكات ومعاقبة من يقومون بها أو من يقفون خلفهم ومحاكمتهم، سواء كانوا أفراد أو دول أو منظمات أو حكومات.
فقد شهدت البشرية جرائم راح ضحيتها ملايين الأبرياء دون ذنب فما هو التعريف الدقيق للمحكمة الجنائية الدولية ؟ و ما نوع الجرائم التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر فيها ؟ وما نوع الاختصاصات التي تباشرها المحكمة في الفصل في تلك النزاعات؟ وهل يجوز للدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة التوجه للمحكمة الجنائية الدولة ؟ هل هي اختصاصات إجبارية للدول أم أنها اختيارية ؟ هذا الموضوع وغيره من الأسئلة الواردة أعلاه ستتم الإجابة عنها في هذا العرض المتواضع عبر مبحثين أساسيين:
المبحث الأول: التعريف بالمحكمة الجنائية الدولية و نوع الاختصاصات التي تباشرها
المبحث الثاني: العلاقة بين الدول و المحكمة الجنائية الدولية و وضع المجني عليهم و الشهود
المبحث الأول: التعريف بالمحكمة الجنائية الدولية و نوع الاختصاصات التي تباشرها
تعتبر المحكمة الجنائية الدولية هيئة قضائية جنائية دائمة مستقلة أوجدها المجتمع الدولي عام 2002 لمقاضاة مرتكبي أشد الجرائم المحتملة جامعة بمقتضى القانون الدولي، بحيث تولى إجراءات التحقيق والمحاكمة في جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، عندما تكون السلطات المحلية على المستوى الوطني عاجزة أو عازفة عن القيام بنك وقد كانت هناك حاجة لإنشاء هذه المحكمة لكن بالرغم من إنشاء المجتمع الدولي لأنظمة دولية وإقليمية من أجل حماية حقوق الإنسان إلا أن جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب استمرت في الوقوع على البشر، ولم يتقدم للمحاكمة الوطنية سوى عدد قليل من مرتكبي لك الجرائم. كما أن محاكمة الأشخاص مرتكبي الجرائم الدولية أمام محكمة جنائية دولية يتم إنشاؤها لذلك الغرض (أي خاصة) ثبت فشلها أي أن جل المحاكم التي يتم إنشاؤها لهذا الغرض، تخضع للاستقطاب السياسي، وتوازن القوى الدولية داخل الأمم المتحدة، وعليه كانت أفضل طريقة للحد من إنتشار الجرائم الدولية في محاكمة مرتكبي تلك الجرائم، وتلك أمام محكمة جناية دولية دائمة تختص بالنظر في الجرائم الدولية الخطيرة، التي تقوض أركان المجتمع الدولية وتهدد مصالحه الجوهرية بالخطر وتم اعتماد النظام الأساسي لهذه المحكمة، وهو نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998، وأقر نفاده سنة 2002 بمصادقة من الدول الستين[1].
وقد نص النظام الأساسي للمحكمة في المادة 4 على أن المحكمة تتمتع بشخصية قانونية دولية، وبالقربض القانوني اللازم لممارسة مهامها وتحقيق أهدافها، ويمكن للمحكمة أن تمارس اختصاصها وسلطتها على أراضي الدول الأعضاء، وعلى أراضي دولة أخرى بموجب اتفاقية خاصة تعقدها مع الدول المعنية وهو ما سنتناول في هذا المبحث، سنتطرق في المطلب الأول إلى الجرائم التي تختص المحكمة الجنائية بالنظر فيها، وفي المطلب الثاني سنتطرق إلى نوع الإختصاصات التي تباشرها المحكمة الجنائية الدولية.
المطلب الأول: الجرائم التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر فيها
الفقرة الأولى: جريمة الإبادة الجماعية
عرفت المادة 6 من النظام الأساسي هذه الجريمة بأنها ” أي فعل من الأفعال التالية بقصد إهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية، يصابها، هلاكا كليا أو جزئيا ومن ذلك :
– قتل أفراد الجماعة.
– إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جميع أفراد الجماعة.
– إخضاع الجماعة عمدة الأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليا أو جزئية.
– فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة.
– نقل أطفال الجماعة إلى جماعة أخرى.
ولجريمة الإبادة الجماعية مسميات عديدة منها (جرائم إبادة الجنس البشري أو جرائم إبادة الجنس)، كلها تعبيرات عن معنى واحد أو مجموعة أفعال هدفها القضاء على الجنس البشري واستئصاله من بقعة معينة أو لصنف معين من البشر أو شعب من الشعوب[2].
وينحصر جوهر الإبادة الجماعية في إنكار حق البقاء لمجموعات بشرية بإجماعها نظرا لما ينطوي عليه من مفاجأة للضمير العام ومن إصابة الإنسانية كلها بأضرار بالغة، فضلا عن مجافاته الأخلاق ومبادئ الأمم المتحدة .
وفيما يتعلق بأركان هذه الجريمة فإنها تستلزم وجود القصد الخاص الإهلاك باعتبار أن إرتكاب أي فعل من الأفعال المنصوص عليها بدون توفر نية الإهلاك ينفي الركن المعنوي لهذه الجريمة وعليه تثور إشكالية إثبات القصد الخاص الذي غالبا ما لا يتوفر عليه دليل مكتوب.
أما فيما يتعلق بالركن المادي فقد حدده النظام الأساسي بارتكاب أي من الأفعال المنصوص عليها في المادة 6 والتي تم ذكرها. و لقد وجدت أمثلة كثيرة على جرائم إبادة الجنس، إذا أبيدت كليا أو جزئية جماعات إنسانية لصفتها العنصرية أو الدينية أو السياسية أو غيرها، ومن ذلك ما شهدته حرب البوسنة في السنوات العشر الأخيرة، فوفق تقرير وكالة الغوث للاجئين التابعين للأمم المتحدة 380 ألف شخص من مسلمي البوسنة تعرضوا لخطر المجاعة والأمراض المسرطنة في مدينة سراييفو، كما أن رحلات المساعدة الجوية والقوافل البرية أعيقت وهوجمت من قبل القوات المصرية[3].
وقد أدانت محكمة طوكيو العسكرية الدولية 28 متهما من القادة والضباط اليابانين لارتكابهم جرائم قتل المدنيين في الأراضي التي احتلتها اليابان، وذلك بالمخالفة لنص المادة 5 من ميثاق المحكمة وقواعد لوائح لاهاي، وحكمت عليهم المحكمة بأحكام مختلفة تتراوح بين الإعدام والسجن مدى الحياة. وتدعو الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء لتضمين قوانينها ما يلزم من نصوص لمنع وعقاب هذه الجريمة، وتوصي بتنظيم التعاون الدولي بين الدولة لتسهيل التجريم العاجل لهذه الجريمة والعقاب عليها.
ووفق نظام المحكمة الجنائية تتميز هذه الجريمة بأنها ذات طبيعة دولية والطبيعة الدولية لهذه الجريمة لا تعني ضرورة ارتكابها من مواطني دولة ضد دولة أخرى، ولكن قد تقع داخل الدولة الواحدة شرط أن تتحقق في أفعالها طبيعة الركن المادي لأفعال الإبادة الجماعية المنصوص عليها في الاتفاقية الدولية ونظام المحكمة الجنائية الدولية، كما أن المسئولية المترتبة عليها هي مسئولية مزدوجة تقع تبعتها على الدولة من جهة، وعلى الأشخاص الطبيعيين مرتكبي الجريمة من جهة أخرى.
ويتم ممارسة اختصاص المحكمة بالتكامل مع اختصاص نظام القضاء الوطني للدول الأطراف.
الفقرة الثانية : الجرائم ضد الإنسانية
وفق المادة 6 من النظام الأساسي المتكور تعتبر جرائم ضد الإنسانية تلك الأفعال التي ترتكب ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وتتضمن مثل هذه الأفعال القتل العمد، والإبادة، والاغتصاب، والعبودية الجنسية، والإبعاد أو النقل القسري للسكان وجريمة التفرقة العنصرية وغيرها[4].
والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية عرضة للعقاب بصرف النظر عن ارتكابها وقت السلام أو الحرب.
وقد نصت المادة 7 من النظام الأساسي على الأفعال اللاإنسانية التي تدخل في اختصاص المحكمة وهي: القتل، الإبادة، الإسترقاق، إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، السجن أو الحرمان الشديد على نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي، والتعذيب، والاغتصاب أو الاستعباد الجنسي، أو الإكراه على البقاء أو الحمل القسري أو التعقيم القري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة والاختفاء القسري للأشخاص وجريمة الفصل العنصري، والأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المسائل التي تسببت عمدة في معاناة شديدة أو أي أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية، اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان الأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية متعلقة بنوع الجنس أو لأسباب أخرى، ومن المعروف عالميا أن القانون لا يجيزها.
وهناك من يرى أهمية قصر اختصاص المحكمة على الجرائم الدولية الثابتة في القانون الدولي العرفي، ويجد أهمية في تعريف هذه الجرائم تعريف دقيق وواضح في النظام الأساسي، وهذا وفق ما يقضي به مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وبهذا يكون قد تم لأول مرة في التاريخ تعريف الجرائم ضد الإنسانية في معاهدة دولية اعتمدت من قبل غالبية الدول.
وهناك من يقول بأن الجرائم ضد الإنسانية تهدر القيم الأساسية التي ينبغي أن تسود في المجتمع الدولي، وتقص من الاحترام الواجب للحقوق الجوهرية للإنسان. ألا ونلاحظ أنه يجب أن تتوافر أركان محددة في الجرائم ضد الإنسانية تتمثل في وجوب أن تكون الجريمة من ضمن الجرائم المحددة حصرا في المادة ( 7 ) فقرة 1 من نظام روما الأساسي، وأيضا أن ترتكب على نطاق واسع أو أساس منهجي وفق ما ورد ضمن المادة المذكورة، وأن تكون هناك سياسة في إشباع ذلك المنهج من قبل دولة أو منظمة أو مجموعة من الأشخاص[5].
لذلك هناك من يرى أن ركن السياسة هو الأساس في اختصاص المحكمة لأنه يعمل على تحويل الجريمة من جريمة وطنية إلى جريمة دولية، وتصبح من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية كي تتدخل لحماية حقوق الأفراد والجماعات من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان.
الفقرة الثالثة: جرائم الحرب
لقد جاء في المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة في الفقرة 1 يكون للمحكمة اختصاص فيما يتعلق بجرائم الحرب، ولاسيما عندما ترتكب في إطار خطة سياسية عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم[6] .
ويجد عدد من الدول وجود حاجة لشرح هذه الفقرة وذلك للتحقق من التزام المحكمة بالتركيز على حالات جرائم الحرب الخطيرة والتي تثير قلق المجتمع الدولي، حيث أنه يخشى من إنشغال المحكمة بحوادث الحرب الأقل خطورة نسبيا، أو أن تلجأ لممارسة السلطة القضائية بالنسبة لهذه الجرائم حتى في الحالات التي تكون فيها الدول نفسها على أتم استعداد لممارسة السلطة القضائية تجاهها، وفي النهاية تم التوصل إلى حل وسط، يتلخص في أن المحكمة يمكنها ممارسة السلطة القانونية في الحالات الفردية من ارتكاب جرائم الحرب، ولكن في ذات الوقت يجب أن توفر المحكمة الحافز لإعطاء الأولوية لأكثر الجرائم انتهاكا للمادة (8) من النظام الأساسي للمحكمة ومن خلال دراسة المادة نجد أنها تعرف جرائم الحرب باعتبارها انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف الأربعة، أي الأفعال المرتكبة ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم اتفاقيات جنيف ذات الصلة، وأيضا الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة في النطاق الثابت للقانون الدولي. ومن بين الانتهاكات قيام دولة الاحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل بعض سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد جميع سكان الأرض المحتلة أو نقلهم جميعهم أو بعضهم داخل هذه الأرض أو خارجها. ودراسة المادة ( 8 ) من نظام روما نجدها حصرت جرائم الحرب في ثلاث فئات، الفئة الأولى تشمل الجرائم التي تمثل انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس 1949، وتتمثل الفئة الثانية في الجرائم تمثل انتهاكات خطيرة للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة في النطق الثابت للقانون الدولي مثل تعمد توجيه هجمات ضد السكان المشتين أو مواقع متنية، كذلك تعمد توجيه هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشئات أو وحدات أو مركبات في مهام للمساعدة الإنسانية. أما الفئة الثالثة فهي الجرائم التي تقع في حالة نزاع مسلح غير ذي طابع دولي، وهي أفعال تقع ضد أشخاص غير مشتركين اشتراك فعلي في الأعمال الحربية، بما في ذلك القوات المسلحة الذين ألقوا سلاحهم وأولئك الذين أصبحوا عاجزون عن القتل بسبب المرض أو الإصابة أو الاحتجاز لأي سبب آخر، ومن هؤلاء الأشخاص متعهدي التوريد، ومقاولي البناء والممرضين والأطباء والمراسلين الحربين وغير هذه الغات.
والفئة الرابعة الجرائم التي تقع في نزاع مسلح غير ذي طابع دولي على فئات مثل الفئات المنصوص عليها في الفئة الثالثة وذلك في حالات الاضطرابات والتوترات الداخلية[7].
الفقرة الرابعة: جريمة العدوان
لقد تم إدراج هذه الجريمة ضمن أحكام المادة 5 في الفقرة الثانية من نظام روما الأساسي، لكن مع إيقاف التنفيذ وذلك إلى أن يتوصل المجتمع الدولي إلى تعريف متفق عليه للعدوان والى أن يتم وضع الشروط التي بناء عليها، تستطيع المحكمة أن تمارس اختصاصها فيما يتعلق بهذه الجريمة.
وعليه فهناك خلاف شديد بين أطراف النظام الأساسي للمحكمة حال دون الاتفاق بشأن تحديد أركان جريمة العدوان، وبالتالي فالمحكمة غير مختصة بنظر جريمة العنوان ويقتصر اختصاصها على الجرائم الثلاث السابقة الذكر، ونرى أن عدم اختصاص المحكمة ينظر جريمة العنوان هو تهرب، ذلك أن هذه الجريمة مكتملة العناصر والأركان، فالعدوان ليس جريمة ينقصها التعريف، ونجد أنها من أخطر الجرائم التي ترتكب، ويجب إدخالها ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وعدم إخضاعها لحجج وذرائع لا يقبلها القانون الدولي.
وهناك من ينتقد عدم نص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المادة الثامنة على اختصاص المحكمة فيما يتعلق باستخدام الأسلحة النووية والأسلحة البيولوجية أو الكيماوية والألغام، ضد الأشخاص وأسلحة الليزر المعمية، ويجد أنه من الأفضل أيضا إدراج أسلحة الدمار الشامل في النظام الأساسي لروما، ذلك أن إستخدام تلك الأسلحة محظور الآن بموجب القانون الدولي، ويجد أن استخدام تلك الأسلحة يجب أن يكون خاضعة للرقابة القضائية لمحكمة الجنايات الدولية المستقبلية بصورة غير مباشرة.
ونجد أن اختصاص المحكمة يشمل الدول الأطراف في النظام ويتم ممارسته بالتكامل مع اختصاص نظام القضاء الوطني للدول الأطراف[8].
المطلب الثاني: أنواع الإختصاصات التي تباشرها المحكمة الجنائية الدولية
الفقرة الأولى: مبدأ التكامل
لقد أشارت ديباجة نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لهذا المبدأ، و نصت في الفقرة العاشرة أن المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الأساسي ستكون مكملة للولاية القضائية الجنائية الوطنية .
أي أن المحكمة لم تأتي لتحل مكان القضاء الوطني، بحيث تكون بديلة عنه وإنما ستكمله، وعليه فإن الصفة الدولية للجريمة لا تكفي لتبرير ولاية المحكمة عليها، فهي لا تشمل إلا الجرائم الأكثر خطورة والتي تصنف بالصفة الدولية.
وهذا المبدأ يفيد انعقاد الاختصاص للقضاء الوطني أولا فإذا لم يباشر إختصاصه، بسبب عدم القدرة على إجراء المحاكمة أو عدم الرغبة في إجراء هذه المحاكمة يصبح للمحكمة إختصاصها بنظرها وفقا للمادة 17 من نظام روما الأساسي، تستطيع المحكمة أن تباشر اختصاصها عندما تكون الجريمة مرفوعة أمام المحاكم الوطنية للدولة لكن تلك الدولة ليست لديها القدرة أو الإرادة المباشرة للتحقيق وإجراء المحاكمة، أو أن الدعوى مرفوعة أمام محاكم الدولة المختصة مكانية بها لكنها لم تباشر في التحقيق لأنها قررت عدم محاكمته لعدم رغبتها بذلك، أو أنها أخرت إجراءات التحقيق دون مبرر.
كما تستطيع المحكمة أن تباشر ولايتها إذا كان مرتكب الجريمة قد حكم عليه من قبل، على الجريمة المنسوبة إليه، ولكن كانت تلك المحاكمة قد تمت وفق إجراءات قصد بها حمايته من المسؤولية الجنائية، أو أنها تمت بشكل غير مستقل ونزيه، ولم تكن المحكمة الجنائية قد حاكمته على ذلك الجرم[9].
الفقرة الثانية: الاختصاص الزمني
يتضمن النظام الأساسي للمحكمة القاعدة العامة في القانون الجنائي والتي تقضي بعدم جواز تطبيق القانون بأثر رجعي، بمعنى أن المحكمة لا تختص سوى بالنظر في الجرائم التي ترتكب بعد دخول النظام الأساسي حيز التنفيذ.
أما بشأن الدول التي تنضم للنظام الأساسي بعد بدء التنفيذ، فلا تختص المحكمة إلا بالجرائم التي تقع بعد بدء نفاذ النظام بالنسبة لهذه الدولة، وهذا يعتبر تطبيقا للمبدأ العام السائد في القانون الجنائي، وهو سريان القاعدة القانونية بأثر فوري ومباشر، وذلك من أجل تشجيع الدول على الانضمام إلى النظام الأساسي للمحكمة دون الخوف من الرجوع إلى الماضي، والبحث في الجرائم التي قد تكون الدولة ارتكبتها قبل الانضمام إلى المحكمة، ما لم تكن تلك الدولة قد أصدرت إعلانه أودعته الذي سجل المحكمة تقبل بموجبه ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث، والمرتكبة قبل نقاد النظام بالنسبة لتلك الدولة.
كما أن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة لا تسقط بالتقادم، ونخلص إلى أن اختصاص المحكمة هو اختصاص مستقبلي، ولكن ماذا بشأن الجرائم التي ارتكبت قبل نفاذ نظام روما الأساسي؟ وقبل أن تصبح الدولة طرفا في المعاهدة ؟ هل للمحكمة ولاية للنظر فيها رغم ارتكابها في وقت سابق على بدء نفاذ نظام المحكمة بشان تلك الدولة ؟ هناك من يجد أنه يكون للمحكمة صلاحية النظر في بعض الجرائم استثنائية، والتي تمثل انتهاكات مستمرة، مثل حالة الاختفاء القسري للأشخاص، ذلك أن استمرار اختفاؤهم ما زال قائمة بعد بدء نفاذ صلاحية المحكمة للنظر في تلك الانتهاكات، حيث تتمتع تلك الجرائم بالاستمرارية، باعتبارها جرائم مستمرة زمنية. ويمكن أن يسند الاختصاص بالنظر في تلك الجرائم إلى المحكمة الجنائية بناء على قرار يصدر عن مجلس الأمن استنادا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أو أن يتم إنشاء محكمة خاصة مؤقتة بقرار من مجلس الأمن كما هو الحال في محكمة يوغوسلافيا السابقة ومحكمة رواندا، أو أن تقبل الدولة التي حصلت الجريمة على أراضيها، أو التي يكون مرتكب الجريمة أحد رعاياها باختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وإذا لم يتحقق أي من الخيارات التي ذكرت فإن تلك الجرائم تبقى خارج اختصاص أو ولاية المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي يفلت مرتكبوا تلك الجرائم من العقاب. وعليه نجد أن ولاية المحكمة من الناحية الزمنية ضيقة جدا، وهناك حاجة إلى تعديل نظام روما الأساسي كي لا يفلت مرتكبو تلك الجرائم التي تستهين بكرامة البشر وبإنسانيتهم من العقاب.
الفقرة الثالثة: الاختصاص الشخصي
يقصد بالاختصاص الشخصي متى ما اختصت المحكمة في محاسبة الدول والأشخاص، وقد تناول نظام روما الأساسي النص على المسؤولية الجنائية الفردية، بحيث أن اختصاص المحكمة يطبق على الأشخاص الطبيعيين، فالشخص الذي يرتكب جريمة تندرج ضمن الجرائم التي تختص بها المحكمة يكون مسؤولا عنها بصفته الفردية، كما أن مسؤولية الفرد الجنائية لا تؤثر في مسؤولية الدول بموجب القانون الدولي.
ولكن الدولة تبقى مسؤولة عن الضرر الذي يصيب الغير نتيجة لأعمالها غير المشروعة فتعوضهم عن الضرر كما هو مقرر في أحكام المسؤولية الدولية، أي أن النظام الأساسي لا يوقع أي مسؤولية جنائية على الدول، والمسؤولية المقررة للدولة في هذه الحالة هي مسؤولية مدنية فقط، كما تتوصل إلى أن المحكمة الجنائية الدولية تختلف عن محكمة العدل الدولية، فلا تنتظر في قضايا الدول لأن اختصاصها ينحصر في قضايا الأفراد، والجرائم التي تختص المحكمة بنظرها تنحصر مسؤوليتها في أشخاص القيادات التي أصدرت الأوامر بارتكابها، أو القيادات المدنية التي أشرفت على تنفيذ تلك الجرائم، ويسأل الشخص جنائية أمام المحكمة في حالة الشروع في ارتكاب أي جريمة تدخل ضمن اختصاص المحكمة، ولا يكون للمحكمة أي اختصاص على أي شخص يقل عمره عن ثمانية عشر عاما وقت ارتكاب الجريمة التي نسبت إليه، كما أن الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاما لا يكونون عرضة للمسؤولية الجنائية، وبهذا يكون نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية متوافقة مع اتفاقية حقوق الطفل، ومن أهم الأحكام التي تضمنها النظام المذكور، والتي تمثل تطورا كبيرا في قواعد القانون الدولي، تقرير مساواة الأشخاص أمام القانون دون تمييز، سواء كان رئيس الحكومة أو الدولة أو برلمان، أو موظف حكومي، ويسأل عن جريمته، ولا تشكل صفته أي دافع لتخفيف العقوبة عنه. وبذلك لم يخرج نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عن المبادئ العامة التي رسخت في قواعد القانون الدولي، لذلك نجد من يقول بأن نص المادة (27) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ما هو إلا تكرار القواعد القانون الدولي المستقرة في شأن مسألة الحصانات والمسؤولية الجنائية لذوي السلطة عن الجرائم الدولية.
الفقرة الرابعة: الاختصاص المكاني
ويقصد بالاختصاص المكاني للمحكمة أنها تختص بالجرائم التي تقع في إقليم كل دولة تصبح طرفا في نظام روما، لكن في حال كانت الدولة التي وقعت على إقليمها الجريمة غير طرف في المعاهدة فلا يكون للمحكمة ولاية بنظر تلك الجريمة إلا إذا وافقت تلك الدولة على ولاية المحكمة بشأنها، وما هذا إلا إعمالا لمبدأ نسبية أثر المعاهدات، ذلك أن هذه المحكمة أنشئت بموجب اتفاقية بناء على معاهدة دولية، يتجسد فيها المبدأ الأساسي في قانون المعاهدات، وهو مبدأ الرضائية، حيث أن الدول في هذه الحالة لا تتعامل مع محكمة أجنبية أو ولاية قضاء أجنبية، بل تتعامل مع جهاز قضائي دولي شاركت في إنشائه كدولة طرف، وتمارس دورا فيما يتعلق بالإجراءات التي تتعلق بتسييره، وهذا على اعتبار أنها أحد أعضاء جمعية الدول الأطراف، فتشارك بتعيين القضاة وغيرها من الأمور المتعلقة بالمحكمة، وعليه تعد المحكمة الجنائية امتدادا لولاية القضاء الوطني.
ولا يجوز التحفظ على بعض أحكام النظام الأساسي، حيث يشكل وحدة واحدة، فعلى الدولة أن تقبله جميعه، أو تطرحه كله، فهو لا يتجزأ. وهناك من يرى أن هذا الأمر ينسجم ويتوافق مع الاتجاه التقليدي، والذي يرى بضرورة تكامل المعاهدة ووحدتها، لكن بقراءة باقي مواد ذلك النظام نجده أورد استثناء، حينما نص على أنه يجوز للدولة عندما تصبح طرفا في هذا النظام الأساسي أن تعلن عدم قبولها اختصاص المحكمة لمدة سبع سنوات بدءا من تاريخ سريان النظام الأساسي، وهذا فيما يتعلق بالجرائم الواردة في المادة ( 8 ) عندما يقدم إدعاء بأن أحد رعايا تلك الدولة قد قام بارتكاب جريمة من تلك الجرائم، أو أن الجريمة قد تم ارتكابها في أراضيها، وبذلك فإن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حدد قواعد إسناد الاختصاص إلى المحكمة فيشمل الدولة التي تصبح طرفا في النظام الأساسي للمحكمة، حيث أنها بذلك تقبل اختصاص المحكمة بنظر الجرائم التي تدخل في اختصاصها، إذا كان المتهم بارتكاب الجريمة أحد رعاياها، أو إذا كانت دولة تسجيل السفينة أو الطائرة طرفا في النظام الأساسي للمحكمة، إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على متن السفينة أو الطائرة، أما الدولة غير طرف في النظام الأساسي إذا قبلت إختصاص المحكمة بنظر الجريمة، بموجب إعلان تودعه الدي مسجل المحكمة فتلتزم هذه الدولة بالتعاون مع المحكمة، ونشير هنا إلى أن إعلان قبول الدولة لاختصاص المحكمة مقید بنظر جريمة محددة، ويجب تحديده في كل مرة.
وبناء على ما سبق ذكره نجد أن ولاية المحكمة الجنائية الدولية في النظر بالجرائم ومدى تعاون الدول معها يختلف عنه في المحاكم الجنائية الدولية الخاصة، حيث أن التعاون واجب بين الدول وهذه المحاكم، وهذا بالاستناد إلى قرارات مجلس الأمن المتضمنة إنشاء تلك المحاكم مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة ورواندا، حيث كانت المحكمتين المذكورتين على المحاكم الوطنية، فكان يجوز لهاتين المحكمتين الطلب بشكل رسمي إلى المحاكم الوطنية التنازل عن اختصاصها، ولا يجوز لتلك المحاكم الوطنية أن ترفض ذلك الطلب، أي أنها ملزمة بالتعاون مع المحكمة في هذا الشأن.
وليس لها الخيار في قبول أو رفض ممارسة أي من هاتين المحكمتين لاختصاصها، وهذا وفق المادة 4 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية اليوغسلافيا، والمادة 3 من النظام الأساسي لرواندا، بينما في المحكمة الجنائية الدولية فقد تم بيان هذا الأمر في المادة 12 من نظام روما الأساسي التي جاءت تحت عنوان الشروط المسبقة لممارسة الاختصاص، وقد تناولنا شرح هذه المادة في هذا المطلب، ويستفاد منه أن الدول الأطراف التي صادقت على النظام الأساسي تلتزم بقبول ولاية المحكمة وتلتزم بالتعاون معها، ولكن إذا كانت جميع تلك الدول ليست أطراف في النظام الأساسي، فإنه يلزم کي تمارس المحكمة اختصاصها أن تقبل أحد تلك الدول بإختصاص المحكمة بشأن الجريمة المرتكبة، ويكون ذلك بإعلان يتم إيداعه لدى سجل المحكمة، كما قد يكون تحريك الدعوى من قبل مجلس الأمن، حتى لو كانت جميع الدول ليست أطرافا في النظام الأساسي، وحتى لو لم توافق تلك الدول على اختصاص المحكمة، وهذا يشكل خروجا على مبدأ نسبية المعاهدات الذي تحدثنا عنه سابقا، والذي يقضي بعدم انصراف أثر المعاهدة إلى الدول التي لم تقبل بها، أي أن ولاية المحكمة للنظر في الجريمة تكون إجبارية إذا حرك الدعوى مجلس الأمن، ويجب أن تتعاون معها الدول ذات العلاقة بالجريمة، وإلا فإن ذلك سيكون مدعاة لإثارة المشاكل داخل المجتمع الدولي. ونشير في النهاية إلى أن المحكمة الجنائية الدولية مستقلة عن الأمم المتحدة، وليست جهازا تابعة لها، وإنما تنظم العلاقة بينهما بموجب اتفاق تعتمده الدول الأطراف في النظام وبعد أن نتناول نوع إختصاص المحكمة في نظر الجرائم المرتكبة وأوضحنا أنها في الأصل اختيارية لا يلزم بها سوى الدول التي وقعت على نظام المحكمة الأساسي، أو التي أودعت إعلان بقبولها اختصاص المحكمة، والاستثناء أن تكون إجبارية بناء على قيام مجلس الأمن بتحريك الدعوى[10].
المبحث الثاني: العلاقة بين الدول و المحكمة الجنائية الدولية و وضع المجني عليهم و الشهود
وسنتناول في هذا المبحث العلاقة بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية في المطلب الأول ووضع المجني عليهم ضحايا الجرائم سالفة الذكر والشهود في مطلب ثاني
المطلب الأول: العلاقة بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية
الفقرة الأولى: العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية والسلطات القضائية الوطنية
على العكس من المحاكم الجنائية الدولية الخاصة، ليس للمحكمة الجنائية الدولية صدارة على الاختصاصات القضائية الوطنية، ويعتبر اختصاصها القضائي مكملًا للأنظمة المحلية مما يعني أنه لا يجوز للمحكمة ممارسة اختصاصها إذا ما كانت قضية ما تخضع للتحقيق أو المحاكمة من قبل دولة لها ولاية عليها.
ويمكن تجاوز هذه الحالة إذا ما استطاعت المحكمة إثبات أن الإجراءات قد نفذت بهدف حماية المتهم من المسؤولية الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية أو في حال عدم وجود تأخير غير مبرر في الإجراءات الوطنية، أو في حال عدم تنفيذها بصورة مستقلة ونزيهة (المادتان 17 و20 من نظام روما الأساسي). ويحق للمحكمة أيضًا ممارسة اختصاصها القضائي إذا كانت الدولة المعنية غير قادرة على تنفيذ التحقيق أو المحاكمة مثلًا، بسبب انهيار كلي أو جوهري أو بسبب عدم توفر نظام قضائي وطني فيها (النظام الأساسي، المادة 17-3)[11].
الفقرة الثانية: عدم جواز المحاكمة عن الجريمة ذاتها مرتين
هذا مبدأ قانوني شديد الرسوخ في كل من القانون الجنائي العام والدولي، ووفقًا له لا يجوز بموجبه محاكمة شخص مرتين عن الجريمة نفسها (ويعرف كذلك بقاعدة عدم جواز المحاكمة مرتين عن التهمة نفسها). وهذا المبدأ هو واحد من الضمانات الإجرائية الرئيسية ويظهر في المادة 20 من نظام روما الأساسي.
وبذلك لا يجوز محاكمة شخص سبقت محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية، أمام محكمة وطنية عن الجريمة نفسها.
وبموجب نفس المبدأ، لا يحق للمحكمة الجنائية الدولية إصدار حكم على فعل حوكم عليه الشخص أصلًا أمام محكمة وطنية.
ولكن هناك استثناءات، يجوز للمحكمة الجنائية الدولية محاكمة الشخص إذا كانت الإجراءات في المحكمة الأخرى قد اتخذت لغرض حماية الشخص المعني من المسؤولية الجنائية عن جرائم تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية أو أن تلك الإجراءات لم تجر بصورة تتسم بالاستقلال أو النزاهة وفقًا لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون الدولي، أو جرت، في هذه الظروف، على نحو لا يتسق مع النية إلى تقديم الشخص المعني للعدالة” (المادة 20-3 من نظام روما الأساسي).
الفقرة الثالثة: التزامات تعاون الدولة و المساعدات القضائية
ينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن الدول ملزمة بصورة عامة بالتعاون التام مع المحكمة (المادة 86) ولكن في حال فشل دولة ما في التعاون، فليس هناك بند ينصّ على معاقبتها. وتنص المادة 87، الفقرتان 5 و7، على الطريق الوحيد الذي يمكن أن تلجأ إليه المحكمة.
ألا وهو أن بإمكانها إشعار مجلس جمعية الدول الأطراف (التي لا سلطة لها بمعاقبة دولة ما)، أو في حالة إحالة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، فبإمكانها إشعار مجلس الأمن برفض دولة التعاون.
ويطبق مبدأ التعاون الإلزامي على جميع طلبات المحكمة في سياق التحقيقات والمقاضاة التي تجريها.
وقد ترتبط الطلبات بإلقاء القبض وتقديم الأشخاص إلى المحكمة، وتقديم الوثائق أو الأدلة، وتحديد هوية وأماكن تواجد الأشخاص، وإجراء عمليات التفتيش وإلقاء القبض، وبقية أشكال المساعدة.
ويسمح للدول بإحالة معلومات إلى المدعي العام بصفة سرية وإذا كان الكشف عن معلومات أو وثائق تعتقد الدولة أنها تضر بمصالح أمنها القومي، فبإمكانها رفض طلب المحكمة، وفي تلك الحالة، يجب على المحكمة والدولة اتخاذ جميع الخطوات المعقولة لإيجاد حل لإمكانية استعمال الوثائق دون أن تشكل تهديدًا للأمن القومي للدولة. وإذا ما رأت الدولة عدم وجود وسائل أو ظروف تفوض بموجبها الكشف عن المعلومات، يجب عليها أن تبلغ المحكمة بذلك، والتي ليس لها ملاذ آخر غير ما هو مذكور وفق المادة 87 المشار إليها سابقًا[12].
الفقرة الرابعة: الوضع الخص للجنة الدولية للصليب الأحمر
من شأن ما يتصف به العمل الإنساني من طبيعة محددة وضبط الإرادة والتضييق عليه، أن دفع اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن تطلب الحصول على وضع استثنائي من الالتزام بالتعاون مع المحكمة.
وهذا يحمي اللجنة الدولية للصليب الأحمر من نقل وثائق ومعلومات وأدلة إثبات وكذلك الظهور بمظهر شاهد في كل قضية أو حالة قيد النظر من المحكمة. ومنحت جمعية الدول في سنة 2002 هذه الامتيازات للجنة الدولية بصفة دائمة بموجب القاعدة 73 من القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات.
وتقضي هذه المادة أيضًا بمنح هذا الامتياز للأفراد وللمعلومات التي توصف بالسرية المهنية كالأطباء، المحامون، الصحفيون وما إلى ذلك.
وتستطيع المنظمات الإنسانية التي تعمل في حالات مشابهة من النزاع المسلح أو العنف المطالبة بامتيازات مماثلة على أساس كل حالة على حدة، وينبغي أن يكون طلبها متصلًا بروح هذا البند وأن يكون متسقًا مع ممارستها وسلوكها الخاص[13].
المطلب الثاني: وضع المجني عليهم و الشهود في الجرائم التي تختص فيها المحكمة الجنائية الدولية
الفقرة الأولى: تعويضات المجني عليهم
على النقيض من الممارسة السائدة في المحاكم الجنائية الدولية الخاصة، يمكن تمثيل المجني عليهم بحد ذاتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية ويمكن منحهم تعويضات، وهذه خطوة مهمة في تحقيق العدالة لضحايا الجرائم الفظيعة التي تمتلك المحكمة اختصاصًا قضائيًّا عليها.
ولذلك تميز المحكمة بين وضع المجني عليهم ووضع الشهود، بما يتفق مع المنهج السائد في نظام القانون المدني.
ويمنح نظام روما الأساسي المجني عليهم حق التمثيل أمام المحكمة عن طريق المحامين في حال تضرر مصالحهم الشخصية (المادة 68-3).
وتؤكد المادة 75 المبادئ التي ترتبط بأشكال التعويض المختلفة التي تمنح أو لها علاقة بالمجني عليهم مثل التعويض الشخصي، والتعويض المادي، وإعادة التأهيل، ولتسهيل الإجراءات للمجني عليهم، أعدت المحكمة نموذجًا يستخدم لطلبات التعويض.
ووفقًا للمادة 79، أنشئ صندوق استئماني لصالح المجني عليهم وعائلاتهم في 2002 ويديره مجلس الإدارة المؤلف من 5 أعضاء مستقلين منتخبين من قبل جمعية الدول الأعضاء لمدة ثلاث سنوات ويمكن إعادة انتخابهم مرة واحدة.
ويجوز للمحكمة أن تأمر بتحويل المال وغيره من الممتلكات المحصلة في صورة غرامات وكذلك المال والممتلكات المصادرة، إلى الصندوق الاستئماني.
ويتلقى الصندوق الاستئماني تبرعات من الحكومات والمنظمات الدولية والأفراد وصناديق أخرى خصصتها جمعية الدول الأعضاء. ويمكن منح التعويضات على أساس فردي أو جماعي وتُسحب من المتهمين أو من الصندوق الاستئماني.
تدفع التعويضات إلى الضحايا مباشرة أو عن طريق منظمات دولية أو وطنية معتمدة أمام الصندوق (المادة 79).
وتعين على جمعية الدول الأطراف أثناء دورتها الرابعة المعقودة في سنة 2005 أن تنظر في مشروع لوائح خاصة بالصندوق الاستئماني للضحايا وأن تبت في اعتمادها.
ورغم ما جرى من مناقشات كثيرة، ظلت الدول منقسمة بشأن مسألة تخصيص التبرعات لضحايا بلد معين. ودارت المداولات أيضًا حول نطاق الصندوق الاستئماني وولايته وآليات بداية النشاط، وآليات بدء العمل. وكانت المسألة الأساسية هي ما إذا كان ينبغي للصندوق الاستئماني أن يستخدم فحسب لتنفيذ التعويضات التي تأمر بها المحكمة والممنوحة لضحايا معينين من الشخص المدان، أو ما إذا كان يمكن استخدامها لتقديم المساعدة العامة للضحايا الذين يتأثرون بحالة القلق للمحكمة الجنائية الدولية حتى قبل اكتمال محاكمة معينة.
وبينما اعتقدت بعض الدول (من بينها فرنسا وبلجيكا وجمهورية الكونغو الديمقراطية) أنه ينبغي أن يتوفر للصندوق الاستئماني عنصر مساعدة يمكن أن يدخل قبل صدور أحكام إدانة شخص ما وبشكل مستقل عن المحكمة، أعربت دول أخرى (من بينها المملكة المتحدة وكندا) عن إيمانها العميق أن يتمتع الصندوق بوظيفة تتصل فحسب بالتعويضات وأن يتصرف بشكل حازم بناءً على أمر من المحكمة.
وتم التوصل إلى حل توافقي يسمح للصندوق الاستئماني بأن تكون له مهمة مساعدة عامة في البلدان والحالات قيد التحقيق من المحكمة.
وفي تلك الحالات، يمكن للصندوق أن يستخدم التبرعات المقدمة من الجهات المانحة لتوفير أنشطة إعادة التأهيل البدني للضحايا وأسرهم، وتقديم الدعم المادي لهم، والقيام بأعمال إعادة التأهيل النفسي[14].
الفقرة الثانية: حماية المجني عليهم و الشهود
تنص المادة 68 من نظام روما الأساسي على أن تتخذ المحكمة تدابير مناسبة لحماية المجني عليهم والشهود.
وقد أوصت المحكمة باعتماد أنواع مختلفة من التدابير، مثل إقامة تدريبات من جانب وحدة المجني عليهم والشهود على الإجراءات القضائية للمحكمة وتعزيز التعاون في مسائل الحماية التي تعنى بها الدولة، أو مع دول أطراف أخرى، وأطراف من غير الدول ومنظمات غير حكومية وكذلك الإذن بمشاركة خالية من الأسماء في جلسة استماع التأكيد عند الضرورة وحصر الاتصالات بين أجهزة المحكمة والمجني عليهم وإعادة تصنيف قرار عام باعتباره سريا ومع ذلك، رأت المحكمة أن تلك التدابير الوقائية لا ينبغي أن تضر ولا تكون غير متوافقة مع حقوق المتهمين ومحاكمة عادلة و منصفة
اعتمدت كذلك بنود تهدف إلى توفير حماية أمان المجني عليهم والشهود وسلامتهم البدنية والنفسية، وكرامتهم وخصوصيتهم (المادة 68).
وتشمل البنود إمكانية إجراء أي جزء من المداولات بسرية أو تقديم الأدلة عبر الوسائط الإلكترونية.
وتم تأسيس وحدة للمجني عليهم والشهود تابعة لقلم المحكمة في المحكمة الجنائية الدولية، بهدف تنفيذ إجراءات الحماية هذه.
وفي معظم هذه القضايا، ركز المدعي العام التحقيقات ولوائح الاتهام بشأن جرائم معينة مثل تجنيد الأطفال الجنود والعنف الجنسي. وفي الفترة من سنة 2002 إلى سنة 2012، أصدر المدعي العام ثلاثين أمر اعتقال واستدعاء.
ومن بين الخمسة عشر مشتبها بهم الذين مثلوا أمام القضاة، صدرت أوامر من القضاة برفض دعاوى 4 وجرت تبرئة شخص خامس. ولم يتحقق صدور إدانة في ثلث القضايا. مما سيؤدي إلى تغيير في التحقيق وسياسة الإدانة التي يتبعها مكتب المدعي العام.
الخاتمة:
وفي الختام و كخلاصة عامة يمكن اعتبار إعادة قراءة نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في 1998 والمكون من ديباجة أكدت المبادئ العامة لميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي المعاصر إزاء الجرائم الخطيرة المرتكبة بحق الإنسانية وضمان الاحترام الدائم للعدالة وفي 128 مادة تناولت أهداف إنشاء المحكمة وعلاقتها بالأمم المتحدة ومقرها ومركزها القانوني والجرائم التي من اختصاصها وأركانها واختصاصاتها وقراراتها و المبادئ القانونية عامة في القانون الجنائي والمسؤولية الفردية وعدم سقوط الجرائم بالتقادم وأجهزة المحكمة والموظفون واللوائح القضائية وغيرها.
إن ذلك كله يؤكد أننا أمام تطور مستقبلي مهم وتاريخي، ولذلك جدير بالبلدان العربية والإسلامية أن تأخذ مكانها فيه وأن تقوم بمراجعة المواقف والنصوص والتطورات إزاء نظام المحكمة وما يسببه من إلتباسات وتخوفات فيما يتعلق بقضية السيادة وولاية المحكمة وغيرها، مما قد ينسحب على بعض الانتهاكات أو الخروقات الجسيمة في مجال حقوق الإنسان.
لائحة المراجع :
– ميثاق الأمم المتحدة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ: 1945/06/26.
– نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في 17 جويلية 1998 .
– قرارات مجلس الأمن الخاصة بانشاء محكمتي يوغسلافيا ورواندا 1993
– مقال بعنوان: “أجهزة المحكمة الجنائية الدولية وإجراءات التقاضي أمامها”، www.ahewar.org/debat/show.art
– د.محمود شريف بسيوني، “تسليم المتهمين دوليا”، مرجع السابق، هامش 22، ص: 375.
– د. محمود شريف بسيوني، “المحكمة الجنائية الدولية”، المرجع السابق، ص: 151.
– د.عمر محمود سليمان المجزومي، “اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة مجرمي الحرب”، رسالة دكتوراه
– “مبادئ القانون الجنائي الدولي في عمل نظام روما الأساس”، تعليقاته حول الاختصاص من حيث الزمان في 323-338.
– المادة ( 50 ) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
– د. دحماني عبد السلام، “دور مجلس الأمن في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية”، المجلة الأكاديمية للبحث القانوني، العدد 1، الصادرة عن كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة بجاية، 1131، ص 55.
– الموقع الإلكتروني الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية وهو www.cc.cpi.int.
– الموقع الإلكتروني الخاص بمنظمة الأمم المتحدة وهو www.un.org.
– الموقع الإلكتروني الخاص بالتحالف العربي من أجل المحكمة الجنائية الدولية وهو www.acicc.org.
– الموقع الإلكتروني الخاص بمنظمة العفو الدولية وهوwww.impact.amnesty.org
الفهرس:
المقدمة…………………………………………………………………… 1
المبحث الأول: التعريف بالمحكمة الجنائية الدولية و نوع الاختصاصات التي تباشرها.. 3
المطلب الأول: الجرائم التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر فيها……………. 4
الفقرة الأولى: جريمة الإبادة الجماعية…………………………………………. 4
الفقرة الثانية : الجرائم ضد الإنسانية…………………………………………… 6
الفقرة الثالثة: جرائم الحرب………………………………………………….. 8
الفقرة الرابعة: جريمة العدوان………………………………………………… 9
المطلب الثاني : أنواع الاختصاصات التي تباشرها المحكمة الجنائية الدولية………….. 11
الفقرة الأولى: مبدأ التكامل………………………………………………….. 11
الفقرة الثانية: الاختصاص الزمني……………………………………………. 12
الفقرة الثالثة: الاختصاص الشخصي………………………………………….. 13
الفقرة الرابعة: الاختصاص المكاني…………………………………………… 14
المبحث الثاني: العلاقة بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية ووضع المجني عليهم والشهود 17
المطلب الأول: العلاقة بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية……………………….. 17
الفقرة الأولى: العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية والسلطات القضائية الوطنية………. 17
الفقرة الثانية : عدم جواز المحاكمة عن الجريمة ذاتها مرتين……………………… 18
الفقرة الثالثة: التزامات تعاون الدولة و المساعدات القضائية ……………………… 18
الفقرة الرابعة: الوضع الخص للجنة الدولية للصليب الأحمر………………………. 19
المطلب الثاني: وضع المجني عليهم و الشهود في الجرائم التي تختص فيها المحكمة الجنائية الدولية 20
الفقرة الأولى: تعويضات المجني عليهم……………………………………….. 20
الفقرة الثانية: حماية المجني عليهم و الشهود……………………………………. 22
الخاتمة:…………………………………………………………………. 24
لائحة المراجع:……………………………………………………………. 25
الفهرس:…………………………………………………………………. 27
[1]– ميثاق الأمم المتحدة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ: 1945/06/26.
[2]– نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في 17 جويلية 1998 .
[3]– قرارات مجلس الأمن الخاصة بإنشاء محكمتي يوغسلافيا ورواندا 1993.
[4]– مقال بعنوان أجهزة المحكمة الجنائية الدولية وإجراءات التقاضي أمامها www.ahewar.org/debat/show.art
[5]– د.محمود شريف بسيوني، المرجع السابق “تسليم المتهمين دوليا”، هامش 22، ص: 375.
[6]– د. محمود شريف بسيوني، “المحكمة الجنائية الدولية”، مرجع السابق، ص: 151.
[7]– د.عمر محمود سليمان المجزومي، “اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة مجرمي الحرب”، رسالة دكتوراه.
[8]– مبادئ القانون الجنائي الدولي في عمل نظام روما الأساس، تعليقاته حول الاختصاص من حيث الزمان في 323-338.
[9]– المادة ( 50 ) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
[10]– – د.دحماني عبد السلام ، “دور مجلس الأمن في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية”، المجلة الأكاديمية للبحث القانوني، العدد 1، الصادرة عن كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة بجاية، 1131، ص 55.
[11]– الموقع الإلكتروني الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، و هو www.cc.cpi.int
[12]– الموقع الإلكتروني الخاص بالتحالف العربي من أجل المحكمة الجنائية الدولية و هو www.acicc.org
[13]– الموقع الإلكتروني الخاص بمنظمة الأمم المتحدة، و هو www.un.org
[14]– الموقع الإلكتروني الخاص بمنظمة العفو الدولية، وهو www.impact.amnesty.org