في الواجهةمقالات قانونية

هل السجن يكفي لتقليص منسوب الجريمة؟! د.أحمد بلحاج آية وارهام

هل السجن يكفي لتقليص منسوب الجريمة؟!

د.أحمد بلحاج آية وارهام

مقدمة

في المجتمعات التي تعاني من اختلالات بنيوية عميقة في الصحة والتعليم والاقتصاد والتدبير السياسي، تطرح مسألة العقوبة السجنية إشكالية جوهرية تتجاوز بعدها القانوني إلى أبعاد اجتماعية ونفسية وسياسية. فهل يمكن للسجن، مهما طال أو قصر، أن يشكل أداة ناجعة للحد من الجريمة في بيئة تعاني من التهميش والحرمان؟ وهل العقوبة، في غياب العدالة الاجتماعية، قادرة على إعادة تشكيل السلوك الإجرامي؟ هذه الأسئلة لا تنبع من فضول نظري، بل من حاجة ملحة لفهم العلاقة بين العقوبة والواقع، بين القانون والعدالة، بين الردع والإصلاح.

إشكالية البحث

هل تستطيع العقوبة السجنية، في ظل تخلف بنيوي شامل في قطاعات الصحة والتعليم والاقتصاد والحكم، أن تحد من تنامي الجريمة؟ وما مدى فعالية السجن كأداة للردع والإصلاح في بيئة تفتقر إلى العدالة الاجتماعية والاقتصادية؟

يعتمد هذا البحث على منهج تحليلي نقدي، يستند إلى قراءة واقعية للظروف البنيوية التي تحيط بالعقوبة السجنية في الدول المتخلفة، مع الاستئناس بنماذج مقارنة من دول نجحت في تقليص الجريمة عبر بدائل إصلاحية. لا يتوقف البحث عند المفاهيم أو التعريفات، بل ينطلق من الواقع ليعيد مساءلة جدوى العقوبة.

في المجتمعات التي تعاني من اختلالات بنيوية عميقة في قطاعات الصحة والتعليم والاقتصاد والتدبير السياسي، تبرز العقوبة السجنية كأداة قانونية تقليدية يُعوَّل عليها للحد من الجريمة وضبط النظام العام. غير أن هذه الأداة، التي تبدو في ظاهرها حاسمة، تطرح إشكالات جوهرية حين تُمارس في بيئة تفتقر إلى العدالة الاجتماعية، وتغيب فيها شروط التنمية البشرية. فالسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح لا يتعلق فقط بمدى طول العقوبة أو قصرها، بل بمدى فعاليتها في سياق مأزوم، حيث تتشابك العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتنتج واقعًا معقدًا لا يمكن اختزاله في معادلة قانونية بسيطة.

إن الجريمة، في مثل هذه السياقات، لا تنشأ من فراغ، ولا تُرتكب دائمًا بدافع الشر الفردي أو الانحراف الأخلاقي، بل كثيرًا ما تكون انعكاسًا مباشرًا لاختلالات بنيوية عميقة. فحين يُحرم الفرد من التعليم، ويُقصى من سوق العمل، ويُترك دون رعاية صحية، ويُحاصر بالفقر والتهميش، فإن احتمالات انحرافه ترتفع، لا لأن الجريمة مغرية، بل لأن الحياة الكريمة بعيدة المنال. في هذه الحالة، لا تكون الجريمة خيارًا حرًا، بل استجابة قسرية لواقع مأزوم، وصرخة احتجاج صامتة ضد نظام اجتماعي غير عادل.

وفي ظل هذا الواقع، يتحول السجن من مؤسسة إصلاحية إلى فضاء لإعادة إنتاج الجريمة. فبدل أن يكون مكانًا لإعادة التأهيل، يصبح بيئة خصبة لتكريس الانحراف، وتبادل الخبرات الإجرامية، وتكريس العزلة الاجتماعية. غياب برامج التأهيل، وسوء المعاملة، والاكتظاظ، كلها عوامل تجعل من السجن تجربة مدمرة نفسيًا واجتماعيًا. فالعقوبة الطويلة قد تقطع أوصال السجين عن أسرته ومجتمعه، وتدمر قدرته على الاندماج بعد الإفراج، بينما العقوبة القصيرة قد لا تتيح الوقت الكافي لإعادة البناء الداخلي. وفي الحالتين، يبقى السجين عالقًا في دائرة مغلقة من التهميش والانحراف.

وإذا كانت العدالة الجنائية تُفترض أن تُمارس في إطار من الحياد والاستقلالية، فإن الواقع في الدول المتخلفة يكشف عن هشاشة هذه المنظومة. القضاء، في كثير من الأحيان، لا يتمتع بالاستقلال الكافي، ويخضع لتأثيرات السلطة السياسية أو الاقتصادية، مما يُقوض الثقة في أحكامه. أما الأجهزة الأمنية، فقد تتحول من أدوات لحماية المواطن إلى أدوات للترهيب، تُمارس الاعتقال التعسفي، وتُلفق التهم، وتُسهم في تكريس مناخ من الخوف واللاعدالة. في مثل هذا السياق، تفقد العقوبة السجنية مشروعيتها، وتُصبح في نظر المواطن أداة قمع لا وسيلة إنصاف.

ولا شك أن التركيز المفرط على العقوبة، دون الالتفات إلى الوقاية، يُعد خطأً استراتيجيًا فادحًا. فبدل أن تُستثمر الموارد في بناء المزيد من السجون، كان الأجدر توجيهها نحو التعليم، والصحة، ودعم الأسر الهشة، وتوفير فرص العمل. الوقاية، في هذا السياق، ليست فقط أكثر إنسانية، بل أكثر نجاعة وأقل تكلفة. فكل طفل يُنقذ من التسرب المدرسي، وكل شاب يُمنح فرصة عمل، هو مشروع مواطن صالح، لا مشروع سجين محتمل.

ولا يمكن إغفال الأثر النفسي والاجتماعي العميق للعقوبة السجنية. فالسجين لا يُحرم فقط من حريته، بل يُصاب بجراح نفسية قد لا تندمل. العزلة، والوصم، وفقدان الروابط الاجتماعية، كلها عوامل تُضعف مناعته النفسية، وتُعمق شعوره بالاغتراب. وبعد الإفراج، يواجه السجين مجتمعًا لا يرحم، يرفضه، ويُذكره دومًا بماضيه، فيجد نفسه محاصرًا بالرفض، دون دعم، دون فرصة، دون أمل. في هذه الحالة، لا تكون العودة إلى الجريمة خيارًا، بل مخرجًا من عزلة قاتلة.

وإذا كانت هذه المعاناة عامة، فإنها تتضاعف حين يتعلق الأمر بالفئات الهشة داخل السجون. فالمرأة السجينة، في المجتمعات المحافظة، لا تُعاقب فقط على الجريمة، بل على خروجها عن الدور الاجتماعي المرسوم لها. تُوصم، وتُنبذ، وتُحرم من أطفالها، وتُعامل كعار على العائلة. أما الأطفال، سواء كانوا سجناء أو مرافقين لأمهاتهم، فهم ضحايا لسياسات عقابية لا تراعي خصوصيتهم، ولا توفر لهم بيئة آمنة للنمو. هؤلاء الأطفال، الذين يُحرمون من الطفولة، قد يحملون في داخلهم بذور العنف والانكسار، ويُشكلون جيلًا جديدًا من الضحايا والمجرمين المحتملين.

إن الأنظمة السلطوية، يتخذ فيها السجن بعدًا سياسيًا خطيرًا. لا يُستخدم فقط لمعاقبة الجناة، بل لقمع المعارضين، وتكميم الأفواه، وتصفية الحسابات. تُلفق التهم، وتُفبرك المحاكمات، ويُزج بالمفكرين والصحفيين والنشطاء في الزنازين، لا لأنهم خرقوا القانون، بل لأنهم تجرأوا على نقد السلطة. في هذه الحالة، لا يعود السجن أداة للعدالة، بل وسيلة للهيمنة، تُقوض الثقة في الدولة، وتُغذي الاحتقان، وتُشجع على التطرف.

ومما يزيد الأمر تعقيدا استشراء الفساد داخل السجون. فبدل أن تكون فضاءات منضبطة، تتحول إلى بؤر للتمييز والامتيازات. تُباع فيها الامتيازات، وتُشترى الحماية، ويُمارس النفوذ، ويُكرّس منطق القوة والمال. فبعض السجناء يعيشون في رفاه، وآخرون في جحيم،لأن العدالة داخل السجن تعكس العدالة خارجه: غير متكافئة، غير نزيهة، غير إنسانية.

وحين يُفرج عن السجين، لا تنتهي العقوبة، بل تبدأ مرحلة جديدة من المعاناة. فالمجتمع، الذي غالبًا ما ينظر إليه بعين الريبة، لا يمنحه فرصة حقيقية للاندماج، بل يُحاصره بالوصم، ويُغلق في وجهه أبواب العمل، ويُذكّره بماضيه في كل خطوة. هذا الرفض الاجتماعي لا يُعد فقط إخفاقًا أخلاقيًا، بل يُسهم فعليًا في إعادة إنتاج الجريمة. فالسجين، حين لا يجد بابًا مفتوحًا، ولا يدًا ممدودة، ولا فرصة للعيش الكريم، يعود إلى ما يعرفه، إلى ما اعتاد عليه، إلى الجريمة التي أصبحت مأوىً حين لفظه الجميع.

في مواجهة هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في فلسفة العقوبة، وفي أدوات العدالة، وفي الغايات التي يُفترض أن تحققها المنظومة الجنائية. فبدل أن تُمارس العدالة بمنطق الانتقام، يجب أن تُمارس بمنطق الترميم. العدالة التصالحية، التي تسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين الجاني والضحية والمجتمع، تُعد من أكثر المقاربات الإنسانية والفعالة في الحد من الجريمة. فهي لا تكتفي بإدانة الفعل، بل تُحاول فهم أسبابه، وتُتيح للجاني فرصة للاعتراف، وللضحية فرصة للتعبير، وللمجتمع فرصة للمشاركة في الإصلاح. هذه العدالة، التي تُمارس بالحوار لا بالقمع، تُعيد للعدالة معناها الأخلاقي، وتُعيد للجريمة سياقها الإنساني.

ومن البدائل التي أثبتت فعاليتها أيضًا، عقوبة العمل لفائدة المجتمع. هذه العقوبة، التي تُجنّب الجاني السجن، تُلزمه بأعمال تخدم الصالح العام، وتُشعره بالمسؤولية، وتُعيد ربطه بالمجتمع. فهي لا تُعزله، بل تُدمجه، ولا تُحطمه، بل تُعيد بناءه. كما أنها أقل تكلفة من السجن، وأكثر نفعًا للمجتمع، وأقل ضررًا على نفسية الجاني. حين يُمارس العقاب كخدمة، لا كعزل، يُصبح أكثر إنصافًا، وأكثر فعالية، وأكثر إنسانية.

ولا يمكن الحديث عن بدائل العقوبة دون التطرق إلى برامج التأهيل النفسي والمهني. فالجريمة، في كثير من الحالات، هي نتيجة اضطرابات نفسية، أو فقر مهارات، أو غياب توجيه. لذلك، فإن العلاج النفسي، والتكوين المهني، والتوجيه السلوكي، تُعد أدوات أساسية لإعادة بناء الفرد، ولمنحه فرصة حقيقية للتغيير. فحين يُعامل الجاني كإنسان قابل للإصلاح، لا كخطر،أو كمرض معدٍ يجب عزله، فإن فرص اندماجه ترتفع، ومعدلات العود إلى الجريمة تنخفض.

وفي هذا السياق، لا يمكن للدولة أن تكتفي بدور القامع، بل يجب أن تتحول إلى راعٍ اجتماعي. مسؤوليتها لا تقتصر على تطبيق القانون، بل تشمل بناء بيئة تمنع الجريمة قبل وقوعها. وهذا يتطلب سياسات اجتماعية عادلة، واستثمارات في التعليم والصحة، ودعمًا للأسر الهشة، ومحاربةً للبطالة، وإصلاحًا عميقًا للمنظومة القضائية لضمان استقلالها ونزاهتها. فالدولة، حين تُمارس العدالة تمارسها كخدمة لا كقمع، وبذلك تُعيد بناء الثقة، وتُقلص دوافع الانحراف، وتُؤسس لمجتمع أكثر أمنًا واستقرارًا.

غير أن الدولة وحدها لا تكفي، فالمجتمع المدني يُعد شريكًا أساسيًا في بناء العدالة. الجمعيات، والمنظمات، والمبادرات المحلية، كلها تقوم بدور محوري في الوقاية من الجريمة، وفي دعم السجناء، وفي إعادة إدماجهم. عن طريق برامج التوعية، والدعم النفسي، والتكوين، والمرافقة، لأن هذه جميعها أدوات تُكمل دور الدولة، وتُعزز فعالية السياسات الجنائية. فحين يُشارك المجتمع في العدالة، تتحول من قانون إلى ثقافة، ومن عقوبة إلى بناء، ومن نصوص إلى قيم.

ولعل من أبرز الأدلة على فعالية هذه المقاربات، النماذج المقارنة من دول نجحت في تقليص الجريمة دون الاعتماد المفرط على السجن. ففي دول مثل النرويج، وهولندا، وكندا، نُفذت سياسات جنائية تركز على الإصلاح بدل العقاب. إن السجون هناك ليست زنازين مظلمة، بل فضاءات للتأهيل، يُعامل فيها السجين باحترام، ويُمنح فرصًا للتعلم والعمل، ويُرافق نفسيًا واجتماعيًا. فهذه الدول نجحت في تقليص نسب العود إلى الجريمة، وفي بناء مجتمعات أكثر أمنًا، دون أن تُفرط في العقوبة، أو تُهمل الإنسان.

لكن هذه النماذج لا تُبنى فقط بالسياسات، بل بالثقافة. فالعدالة، في جوهرها، ليست فقط نصوصًا قانونية، بل هي ثقافة تُغرس في النفوس، وتُبنى في المدارس، وتُعزز في الإعلام، وتُمارس في الأسرة. فحين يُربى الطفل على احترام الآخر، وعلى حل النزاعات بالحوار، وعلى رفض العنف، فإن احتمالات انحرافه تقل. وحين يُمارس الإعلام دوره في التوعية، ويُعزز القيم الإنسانية، فإن المجتمع يصبح أكثر مناعة ضد الجريمة. إن العدالة، حين تُغرس في النفوس، تُصبح أقوى من أي عقوبة، وأكثر فعالية من أي سجن.

و إنها حين تُختزل في العقوبة، تفقد معناها الأعمق، وتتحول إلى مجرد أداة ضبط، لا إلى منظومة قيمية تسعى إلى بناء الإنسان والمجتمع. فالعقوبة، في جوهرها، ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق غايات أسمى: حماية المجتمع، إصلاح الجاني، ترميم الضرر، واستعادة التوازن. وحين تُمارس العقوبة في بيئة مختلة، دون عدالة اجتماعية، ودون مؤسسات قوية، ودون ثقافة قانونية راسخة، فإنها تفقد فعاليتها، بل وقد تتحول إلى عامل من عوامل تفاقم الجريمة.

فالسجن، في حد ذاته، ليس شرًا مطلقًا، لكنه ليس حلًا سحريًا. هو أداة من أدوات العدالة، لكنه لا يمكن أن يكون الأداة الوحيدة كما هو مشهود في الدول المتخلفة، حيث تتراكم الأزمات، وتتشابك مظاهر الحرمان، وتنهار الثقة في المؤسسات، لا يمكن للعقوبة السجنية أن تُحد من الجريمة دون إصلاحات شاملة. فالعدالة هنا يجب أن تكون متكاملة: وقائية، علاجية، إصلاحية، تشاركية. يجب أن تُمارس كخدمة، لا كقمع؛ كترميم، لا كانتقام؛ كبناء، لا كهدم.

وحين تُفهم العدالة بهذا الشكل، يُصبح السجن مجرد أداة، لا غاية؛ ويُصبح المجتمع أكثر أمنًا، وأكثر إنسانية. فكل سياسة جنائية لا تضع الإنسان في مركزها، ولا تنطلق من فهم عميق للسياق الاجتماعي والاقتصادي، هي سياسة قاصرة، مهما بدت صارمة. وكل عقوبة لا تُرافقها برامج تأهيل، ودعم نفسي، وإدماج اجتماعي، هي عقوبة ناقصة، مهما طالت مدتها أو اشتدت قسوتها.

إن بناء مجتمع آمن لا يتحقق بتشييد السجون، بل ببناء المدارس، والمستشفيات، ومراكز التكوين، ومؤسسات العدالة المستقلة. ولا يتحقق بتشديد العقوبات، بل بتوسيع فرص الحياة الكريمة، وبمحاربة الفقر، والجهل، والتمييز. ولا يتحقق كذلك بإقصاء الجناة، بل بإعادة إدماجهم، وبمنحهم فرصة ثانية، وبالاعتراف بإنسانيتهم رغم خطاياهم.

خاتمة

إن السجن، في حد ذاته، ليس شرًا، وهو كذلك ليس حلًا سحريًا. ففي الدول المتخلفة، حيث تتراكم الأزمات، لا يمكن للعقوبة السجنية أن تُحد من الجريمة دون إصلاحات شاملة. فالعدالة هنا يجب أن تكون متكاملة: وقائية، علاجية، إصلاحية، تشاركية. وأن تُمارس كخدمة، لا كقمع؛ كترميم، لا كانتقام؛ كبناء، لا كهدم. فحين تُفهم العدالة بهذا الشكل، يُصبح السجن مجرد أداة، لا غاية؛ ويُصبح المجتمع أكثر أمنًا، وأكثر إنسانية.

إن العدالة ليست فقط ما يُكتب في القوانين، بل ما يُمارس في الواقع، وما يُحس به الناس في حياتهم اليومية. إنالعدالة الحقيقية هي التي تُشعر المواطن بأنه محمي، وليس مهددا؛ وبأنه محترم وليس محتقرا؛ وبأنه شريك، وليس متهما. وعندما تتحقق هذه العدالة، يصبح القانون أداة للثقة، لا للخوف؛ ويصبح السجن استثناءً، لا قاعدة؛ وتصبح الجريمة نادرة، لامتفشية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى