في الواجهةمقالات قانونية

وهـــم العدالة

وهـــم العدالة

باحث في في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

سفيان ناشط

 

في ظل القرن الحادي والعشرين وما واكبه من تطور شمل كافة الاصعدة سيما منها الثورة التكنولوجية التي تعد أهم مميزات هذا القرن الذي دخل حيز النفاذ سنة 2001، حيث ساهمت بشكل جذري في تغيير وتصادم ثقافات الشعوب والأمم بإعتبراها طفرة نوعية اسيء إستغلالها، وما نتج عن ذلك من تصدعات واختلالات من عولمة العولمة التي مست سلبا على قيمة القيم لدى المجتمعات الانسانية على اختلاف مرجعياتها الثقافية الحضارية، ومكانتها داخل المجتمع الدولي، والذي تم تقسيمه لصنفين من العوالم عالم يستفيد ظلما من خيرات هذا الكوكب وما ينعكس ذلك ايجابا على تغليب كفته اللاعادلة داخل النظام العالمي على حساب عالم ثاني ينخر جسده مخلفات دول الشمال ويقتات من فتاتها.

 

وهذا ما انعكس سلبا على الاوضاع الداخلية وفي مناحي الحياة لدى هاته المجتمعات المتخلفة، وأصبحت مصابة بعاهات مستديمة نالت من جسمها المتداعي أصلا واخضعته راكعا أرضا، ولعل أهم اعضاء هذا الجسم هو النظام القانوني التشريعي، الذي يعد من اعمق الانظمة، لما له من اثر جوهري في تحديد اسلوب ونمط حياة ومسار مجتمعات، لذلك انيطت به عناية خاصة شملت كل تمفصلاته، هادفة بذلك بناء صرح قانوني وفق رؤية خاصة لمشرعها عبر صناعته على حسب المقاس المعين وتحت الطلب المعني ووفق وعاء زمني محدد، مما يجعل جملة من الاشكاليات تثار حول فلسفة القانون كترسانة وصكوك تشريعية واثارها في تحقيق العدالة من عدمها .

 

كما سيحيلنا النقاش في هكذا مقام على التمييز بين القانون الوضعي الذي يتم صياغته وصناعته وفق شرعية السلطة التي تستمد مشروعيتها من الجماعة واخضاع الكل بدون تمييز تحت منطق أن القانون فوق الجميع في إطار تعاقد اجتماعي يصبو لتحقيق الحق والعدالة، علما أن هذه الاخيرة في اصلها تستقي مفاهيمها من الحق الطبيعي بإعتباره حرية مطلقة للفرد يفعل ما يشاء ومتى شاء وكيف شاء، وبهذا سندخل في جدال بين القانون والعدالة، فهل العدالة في أصلها ضد القانون أم ان هذا الاخير جاء ليطمس العدالة بالقانون ؟ أو أن العدالة لا ترقى من غير ان تكون مجرد وهم ؟ .

 

تبقى معالم العدالة تتحدد من منظور أفلاطون ” كونها فضيلة تقوم على انسجام القوى المتعارضة وتناسبها، فهي تتحقق على مستوى النفس حين تنسجم قواها الشهوانية والغضبية والعاقلة، كما تتحقق على صعيد المجتمع حين يؤدي كل فرد الوظيفة التي وهبته الطبيعة دون تدخل في عمل الاخرين”، وبهذا الطرح تبقى العدالة تستقي وجودها من الانسجام الذي يصعب وقوعه إن لم يكن مستحيل نظرا لطبائع الانفس التي تروم بالفطرة لفرض الوجود وإقصاء الاخر، وبالتالي ستنتهي مصائرهم إلى اندثار هذا النوع البشري لما له من أنانية الانا المفرطة ولو على حساب الغير، وبالتالي يستعصي بأن يكون هذا الانسجام قائم وسط هذا التناغم الغير الطبيعي بإعتبار الذات البشرية في أصلها يحكمها قانون الغاب وعدالة الحيوانات تحت منطق الغلبية للأقوى وهذا ما يُلاحظ على الساحة الدولية بمنطق قوانينها .

 

وبهذا التصور تُفقد العدالة الانسانية في إحقاق الحق وتجسد منطق الحقوق الانانية . وعلى نفس منوال اطروحة افلاطون يؤمن سبينوزا هو الاخر من خلال كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة بأن ” الحق الطبيعي بإعتباره تلك القواعد التي تتميز بها طبيعة كل فرد، وهي القواعد التي ندرك بها أن كل موجود يتحدد وجوده وسلوكه حتميا على نحو معين، فمثلا يتحتم على الاسماك، بحكم طبيعتها، أن تعوم وأن يأكل الكبير الصغير . وبالتالي تستمتع الاسماك، بالماء وبأكل الكبير منها الصغير، طبقا لقانون طبيعي مطلق ” .

 

وبهاته القواعد ستحول وضعية الانسان في حالة الطبيعة الكل ضد الكل، وفق هذا المنطلق يستمد الحق الطبيعي ارتباطه بالعدالة الجائرة غير مقترنة بالحقوق الوضعية . وإن كان مفهوم العدالة يُنظر له من زاوية اخرى مثالية بإعتبارها المآل الذي يبتغيه الافراد والجماعات، ويصبون إليها لإحقاق حقوقهم وحماية وصون حريتهم داخل منظومة تتكيف بين العدالة الطبيعة الجائرة وبين العادلة الوضعية المنصفة نسبيا في اطار تعاقد اجتماعي داخل نظام حالة التمدن يعيش الكل مع الكل في امان وسلام وفق قيود تفرضها العدالة الوضعية إحقاقا منها للحق وإن كانت تحد من الحرية المطلقة فهي تستقي شرعيتها ومشروعيتها تحت سقف الدولة التي جيء بها لحماية الحق والقانون للفرد والجماعة.

 

والظاهر أن المجتمعات الانسانية سيما منها المتخلفة آمنت هي الاخرى بهذا الوهم وهم العدالة معاندة غيرها من المجتمعات المتقدمة متناسية او متاجهلة بدون وعي أن منطق القانون الوضعي لا يستقيم منه ولا من خلاله بأن يتم تحقيق العدالة المنصفة مادامت ترسانته القانونية والتشريعية تفتقر في مقوماتها صون وكرامة الحقوق الانسانية تنصيصا وتطبيقا وتنزيلا وحماية .

 

وإن دفعنا بالقول أن عموم هاته المجتمعات المتخلفة توهم نفسها أنها تنطوي تحت مجسم يُنسب له اسم الدولة، والتي لاطالما تغنت عبر صناعة تشريعاتها الجوفاء الصماء الجامدة والمقيدة، كونها ترعى مجتمعها وكلها مسؤولة قانونيا ومؤمنة اقتناعا وحريصة حماية، بتكريس دولة الحق والقانون وبناء دولة المؤسسات والحريات الاساسية، وبأنها جعلت نصب أعينها الاختيار الديمقراطي كأحد أهم التوابث الامة والدولة معا جنبا لجنب في حلف مقدس ينعكس إيجابا على ملامح مجتمع ديمقراطي حداثي، ومتشبثة بخصوصيته، وتضيف مدافعة على استمراريتها، أنها تجسد إلتزاماتها من خلال إرادتها بإعتبارها انخرطت في منظومة الحقوق الانسانية الكونية، والسهرعلى التعهد بتنزيلها على نظامها القانوني، وتختم قولها بأن درب الاصلاح المنشود وإن طال أمده مستمرة عليه وفيه، وهذا تحايل ضمني إن لم نقل صريح فإن كانت هاته الدولة التي تعد مرآة لمجتمعها المتخلف بحجة احقاقها للعدالة من منظور القانون، فهذا الاخير إذا ما حاولنا تعريفه من خلال هاته البيئة الحاضنة له يمكن اعتباره تلك العصا غير المستقيمة التي تنهال على المجتمع بقواعدها القانونية الوضعية وتحد من حريته وتحمي استمرارية حُراس القانون تحت مظلة دولة الحق والقانون .

 

ففي المجتمعات المتخلفة يكون من السهل بما كان تأطيرهم قانونا كنعاج لا بد من راعي لها يؤطر مسارها، وذلك حالنا من خلال ترسانة تشريعية تصاغ بصياغة دقيقة وصناعة محبوكة انطلاقا من مرحلة الاقتراح ومرورا بالمناقشة والتصويت وانتهاء بالنشر والتطبيق، أو الاستفتاء، وكقراءة تأويلية لهذا المسار التشريعي يثار سؤال مفاذه أين يتمثل التعبير الصريح للإرادة الحرة لمن يُطبق عليهم هذا القانون، الذي كان في الاول مجرد فكرة مقترح او مشروع او “ملتمس” إذا ما كانوا من يخول لهم صناعة التشريع  يفتقرون بدورهم للشرعية والمشروعية التي جاءت مبررة لوجودهم بالقانون.

 

وتعاد الكرة كرتين وبالتالي سنتيه في هذا المدعو القانون ويتم اجهاض حرية الاختيار والارادة التي تفتقر لكل عيوبها في هذا الصدد . ويتم تكبيلنا بقواعد صماء تخدم طائفة على حساب طائفة اخرى او جيء بها لتمرير مصلحة ما ضد مصلحة اخرى، او ترغب في تكريس نمطية وثقافة ما على حساب اخرى، او تم تنزيلها للحد وافراغ من محتوى حقوق ما، وكأننا أُقحمنا بأنفسنا لإستلابنا حرية الاختيار، كوننا رغبنا في العيش تحت مظلة القانون الذي ينحو منحى إحقاق العدالة، فلا عدالة منصفة وصلنا لها ولا قانون عادل طُبق علينا، وأمام هذا الوضع غير محسود عليه بدأنا نتخبط بين الحنين صوب الحق الطبيعي الوجودي وإن كان ظالما فهو عادل، وبين الحق الوضعي الذي يغتصب حقوقنا الانانية بحجة سيادة القانون، أم أن الامر غير مرتبط بنوع الدولة وطبيعتها الايديولوجية فالنصر دائما حليف للدولة الكافرة مادامت عادلة .

 

وتبقى العدالة في “دولة القانون” تتخبط في الوهم الذي يصبو له القانون الوضعي مادام المخاطب بها تكسوه بيئة حاضنة متخلفة لا يعي ولا يميز بأن القانون هو اساس تخلفه مادم منطوي تحت مظلته وسبب حصره ومحاصرته في عالم ثالثي دون غيره، ممن يعيشون في كنف العدالة التي نجحت مجتمعاتها في تكييفها بين الحق الطبيعي والحق الوضعي، فالنصر لدولتها قائم ولا يهم أن تكون الدولة مسلمة، فمادامت غير عادلة فمصيرها ما تعيشه، حيث فضلت مجتمعاتها رمي نفسها في البحار للبحث عن عدالة الكفار هاربة من عدالة المسلمين .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى