في الواجهةمقالات قانونية

قانون الأعمال والتحولات التكنولوجية الراهنة

 

 

محمد القدري

طالب باحث بسلك الدكتوراه بكلية الحقوق سويسي

 

 

قانون الأعمال والتحولات التكنولوجية الراهنة

 

 

كما هو معروف فإن من أبرز خصائص القاعدة القانونية، كونها اجتماعية، أي أنها تتغير وتتطور حسب متطلبات المجتمع والاقتصاد، وكما هو معروف أيضا، أن السمة الحالية التي تميز السياسة الخارجية لاقتصاد المغرب هي السعي إلى الانفتاح على السوق وتشجيع الاستثمارات وذلك في ظل العولمة التي يعرفها العالم.

وعليه فإن المغرب سعى منذ تسعينيات القرن الماضي إلى ملائمة تشريعاته الوطنية مع مختلف هذه التغيرات؛ وقد ازداد هذا الاهتمام في ظل تقارير البنك الدولي خاصة في إطار ما يعرف “بمؤشر ممارسة الأعمال doing business ” الذي يقوم على تصنيف الدول على مستوى مناخ الأعمال وفق عدة مؤشرات، والتي من بينها ضرورة تبني البعد التكنولوجي على مستوى مناخ الأعمال، وتتجلى أهمية هذه التقارير في كونها يتم تداولها على نطاق واسع، كما أنها تشكل إحدى أبرز المعايير المعتمدة في منح الائتمان.

إن المغرب عمل في الآونة الأخيرة على إصدار العديد من القوانين التي همت قانون الأعمال بالأساس، وذلك سعيا منه إلى مواكبة مختلف هذه التغيرات والتحولات التكنولوجية الحالية، كالقوانين [1]87.17، 88.17[2]، 89.17[3]، [4]73.17، [5]31.18….إلخ.

وهذا التوجه الذي سار في إطاره المغرب يتلاءم والسياسة الملكية التي ما فتئت أن تؤكد في كل مناسبة على ضرورة ملائمة المنظومات القانونية مع مختلف التغيرات والتطورات، ومن أبرزها الخطاب الملكي الأخير بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية، الذي دعى إلى ضرورة اعتماد الأبناك في عملها على الوسائل التكنولوجية[6].

ويمكن القول أن إدخال وتقنين البعد التكنولوجي يبقى من سمات و خصائص المرحلة الحالية التي يعرفها المغرب، ذلك أنه قبل هذه الفترة لم تكن القوانين تعرف هذه التغييرات، باستثناء القانون 53.05 [7]المتعلق بتبادل المعطيات بشكل إلكتروني، والذي كانت الغاية من إصداره تتمثل في الرفع من قيمة التعاقدات المحررة على دعامة إلكترونية وذلك بالاعتراف بها كأداة فعالة لتبادل المعطيات القانونية بين شخصين غائبين عن مجلس العقد باستعمال وسائل تقنية حديثة غير الرسالة أو المبعوث أو المكالمة التلفونية العادية[8].

أما قانون الأعمال فقد كان يعرف تعديلات جزئية في هذا الإطار، كالقانون [9]20.05 والذي كان قد عدل مقتضيات قانون شركات المساهمة، حيث نص على إمكانية تداول الجموع العامة بالصوت والصورة، وبعض المظاهر الأخرى [10]وإذا كان قانون الأعمال يعرف نوعا من التأخر والبطئ على مستوى التحولات التكنولوجية بخلاف المرحلة الحالية، فإن الواقع العملي كان يعرف هذه التحولات، فمثلا على صعيد المحاكم التجارية وخاصة مصالح السجل التجاري، فالواقع العملي يؤكد على أخذ هذه المحاكم بالمعلوميات على مستوى عملها.

و قد يقال أن القانون هو الذي يؤثر على التكنولوجيا وليس العكس، والحق أنه في ظل الوقت الحالي، فالواقع يشهد التأثير المتبادل للحقلين معا[11].

من خلال ماسبق، فقد ارتأينا دراسة الموضوع وفق الإشكالية التالية:

إلى أي حد استطاع المشرع أن يحافظ على الأمن القانوني على مستوى العلاقات القانونية-والاقتصادية خاصة منها- سعيا منه إلى مواكبة مختلف التحولات التكنولوجية التي يعرفها العالم؟

بناء على الإشكالية المطروحة أعلاه، فإننا سنعالج الموضوع وفق التصميم الآتي:

المطلب الأول:مظاهر التحولات التكنولوجية على مستوى قانون الأعمال

المطلب الثاني:الأمن القانوني في ظل التحولات التكنولوجية الراهنة

وقد اخترنا التصميم أعلاه، لأنه في نظرنا يحيط بجوانب الموضوع، حيث سنعالج في الشق الأول من الموضوع مظاهر هذا التحول التكنولوجي على مستوى قانون الأعمال،  و مختلف التغييرات التي نتجت عن هذا التحول والتي تتمثل أساسا في الانتقال إلى الشكلية المعلوماتية، ولما كانت المواكبة التشريعية تستلزم صدور العديد من القوانين، فإنه ذلك يجب أن يتم بمراعاة مبدأ الأمن القانوني.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المطلب الأول:مظاهر التحولات التكنولوجية على مستوى قانون الأعمال

إن القانون في أدائه لعمله قد يخفت أو يقل، لكن سعيه إلى مواكبة مختلف التحولات التكنولوجية يساهم في تطويره وتحيينه على مستوى عمله[12].

وعليه فإن المشرع قد حاول مسايرة مختلف التطورات التكنولوجية على مستوى قانون الأعمال (الفقرة الأولى)، هذه المواكبة التشريعية فرضت الانتقال من شكلية كتابية إلى شكلية معلوماتية  (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى:تجليات المواكبة التشريعية للتحولات التكنولوجية

تدخل المشرع على مستوى قانون الأعمال، وحاول مواكبة مختلف التحولات التكنولوجية، سواء على مستوى القواعد الإجرائية (أولا) أو بعض القواعد الموضوعية (ثانيا).

أولا:القواعد الإجرائية والتحولات التكنولوجية

نميز في هذا الإطار بين كل من التحولات التي شملت قانون الضمانات المنقولة(1) فقانون صعوبات المقاولة (2).

 

 

 

1:على مستوى قانون الضمانات المنقولة

تتجلى أبرز الأهداف الأساسية من إصدار القانون [13]21.18، في ضمان التمويل المقرر بالنسبة للمقاولات الصغرى والمتوسطة، وأيضا على مستوى تقوية الإشهار  على مستوى إنشاء الضمانات، حيث أنه  من بين الأهداف المحددة في إطار المادة الأولى من القانون 21.18 “وضع قواعد إشهار مختلف أنواع الضمانات المنقولة والعمليات التي تدخل في حكمها في السجل الوطني الإلكتروني للضمانات المنقولة، باستثناء الرهون الحيازية”.

وبالتالي فقد استحدث القانون السالف الذكر مؤسسة جديدة ويتعلق الأمر “بالسجل الوطني الإلكتروني للضمانات المنقولة”، حيث أوجب القانون 21.18 تقييد مختلف الرهون خاصة الرهون بدون حيازة على مستوى السجل المذكور[14].

2:على مستوى قانون صعوبات المقاولة

من أبرز الخصوصيات المميزة لقانون صعوبات المقاولة هو اعتباره قانون شكل و قانون موضوع في نفس الوقت، وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب الخامس من مدونة التجارة ومنذ اعتمادة سنة 1996 لم يخضع لتعديل، باستثناء بعض التعديلات الجزئية سنة 2014 ويتعلق الأمر بالقانون [15]84.14، حيث أدخل تعديلين يتيمين فقط[16] على هذا النظام[17].

غير أن القانون 73.17 والذي قام بنسخ الكتاب الخامس وتتميمه، تضمن تعديلات جوهرية في هذا الإطار، ومن أبرزها حسب ما جاء في المادة الأولى[18] منه، إمكانية القيام بالإجراءات المقررة في الكتاب الخامس بشكل إلكتروني، وقد علق الأمر على صدور نص تنظيمي، وتجدر الإشارة إلى أن صدور النص المذكور يندرج في سياق عمل اللجنة الوطنية لمناخ الأعمال، والتي تعد المسؤولة الأساسية عن وضع القانون 73.17.

القانون المذكور تضمن مقتضيات أخرى ترتبط بتبني البعد الإلكتروني على مستوى مساطر صعوبات المقاولة، من قبيل ذلك المادة 609 من مدونة التجارة، وذلك عندما حددت الوسائل المقررة لدعوة جمعية الدائنين للانعقاد والتي من بينها إمكانية استخدام الوسائل الإلكترونية في ذلك[19].

 

 

ثانيا:البعد الإلكتروني في بعض القواعد الموضوعية

ينبغي التأكيد أن يصعب حصر القوانين الموضوعية في هذا الإطار،  إلا أننا سنركز على كل من  القانون 88.17 والقوانين المرتبطة به (1) فالقانون 31.18 وقانون مهنة وكلاء الأسفار (2).

1:الجانب الإلكتروني في القانون 88.17

تجدر الإشارة بداية إلى أن القوانين87.17، 88.17، 89.17، تم اعتمادها كمشاريع- قوانين في نفس الوقت،  إلا أن القانون 87.17 صدر قبل كل من القانونين 88.17 و89.17.

ويتعلق القانون 87.17 بملائمة اختصاصات المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية مع القانونين 88.17 و89.17؛ وتتجلى أهم الاختصاصات في هذا الإطار في  مسك السجل التجاري الإلكتروني وتدبير المنصة الإلكترونية[20].

أما القانون 88.17 فهو يتعلق بإحداث المقاولات بطريقة إلكترونية، ومن خلال تسميته يتضح البعد الإلكتروني بشكل جلي على مستواه، وعليه واستنادا إلى مقتضيات القانون المذكور فإحداث المقاولات أصبح يتم عبر المنصة الإلكترونية التي يتولى المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية بتدبيرها كما سبقت الإشارة إلى ذلك[21].

وأخيرا القانون 89.17 المعدل لمدونة التجارة، حيث قام بإحداث مؤسسة “السجل التجاري الإكتروني”، وعليه فإن مختلف التسجيلات والتقييدات والتشطيبات أصبحت تتم بشكل إلكتروني بدل أن تتم بشكل ورقي، وهذا له العديد من الإيجابيات والتي تتمثل أساسا في السرعة وتبسيط الإجراءات بما يتلاءم ومجال الأعمال.

2:التحول التكنولوجي على مستوى القانون 31.18 وقانون مهنة وكلاء الأسفار

يعتبر القانون 31.18 من القوانين المعدلة لقانون الالتزامات والعقود، وذلك في إطار تكريس قواعد الحكامة و والتصدي الفوري لظاهرة الاستيلاء على العقارات،خاصة وأن الممارسة أثبتت أن من أبرز الأساب في الاستيلاء على عقارات الغير هو وجود قصور قانوني في التنظيم القانوني للشركات المدنية خاصة التي يكون محلها عقارات[22].

لذلك فقد أتى القانون المذكور بالعديد من المستجدات في هذا الإطار و التي من أبرزها ضرورة تقييد الشركات المدنية-العقارية-في سجل خاص بهذه الشركة يمسك من طرف كتابة الضبط بالمحكمة الإبتدائية، ويتجلى التحول التكنولوجي على مستوى القانون المذكور، في أن القانون 31.18 قد نص على أن مسك السجل قد يتم بشكل ورقي أو بشكل إلكتروني[23].

القانون المذكور حمل أيضا مستجدات فيما يخص الوكالات، وذلك فيما يرتبط بالقسم السادس من الكتاب الثاني من قانون الالتزامات والعقود، وطبقا للفصل 889-1 فإنه يجب تقييد الوكالة المتعلقة بنقل ملكية عقار أو بإنشاء  الحقوق العينية الأخرى أو نقلها أو تعديلها أو إسقاطها، من طرف محررها بسجل الوكالات المتعلقة بالحقوق العينية، حيث يمسك من طرف كتابة الضبط بالمحكمة الإبتدائية، ولا تنتج آثارها القانونية إلا من تاريخ التقييد المذكور، واستنادا إلى الفصل 889-2 فإنه يحدث سجل وطني إلكتروني للوكالات، يعهد بتدبيره إلى الإدارة، تتم من خلاله إشهار جميع الوكالات المضمنة بسجلات الوكالات المتعلقة بالحقوق العينية والممسوكة من طرف كتابات الضبط بالمحاكم الإبتدائية.

أما فيما يخص القانون [24]11.16 المتعلق بمهنة وكلاء الأسفار، فقد نسخ النظام الأساسي الخاص بوكلاء الأسفار، وقد تضمن القانون المذكور عدة أحكام قانونية منها ما يرتبط بتحديد شروط تسليم الرخص فواجبات وكلاء الأسفار، الجزاءات القانونية المترتبة على الإخلال…إلخ.

وقد حدد القانون 11.16 العمليات المرتبطة بمهنة وكلاء الأسفار، ونص على أن إبرام هذه العمليات قد يتم عن بعد أو بشكل إلكتروني[25].

إلى جانب مقتضيات أخرى من القانون المذكور التي كرست التطور التكنولوجي، كالمادة 17[26].

الفقرة الثانية:التطوارت التكنولوجية والانتقال إلى الشكلية المعلوماتية:

إن ظهور العولمة، وتأثيرها على الاقتصاد، أدى إلى ظهور نوع جديد من التجارة ألا وهو التجارة الإلكترونية  صاحبه ظهور نوع جديد من الشكلية، وهو الشكلية المعلوماتية (أولا) هذه الأخيرة التي استلزمت إطار قانوني فعال لضمان الأمن القانوني (ثانيا).

أولا:التجارة الإلكترونية وبروزالشكلية المعلوماتية

يشهد العالم تطورا هائلا ومتسارعا في عالم الا تصالات، حتى أن هذا التطور يعد ثورة صناعية ثالثة تعرف بالثورة المعلوماتية التي بواسطتها بدأت تبرم العديد من الصفقات والعقود ولو عن بعد، واستجابة لهذا التطور يتعين أن تكون مقتضيات القانون مواكبة له سواء في المجال المدني أو التجاري[27].

وتشير الدراسات بشأن التجارة الإلكترونية إلى أن التجارة الدولية في الوقت الحالي أصبحت تتم بشكل كبير  بواسطة الإنترنيت، بل إن التجارة الإلكترونية أصبحت تستحوذ على التجارة الدولية، وهذا يرجع حسب الفقه إلى توفيق الأوضاع القانونية، ونمو المعرفة التقنية باستخدام الإنترنيت في مختلف دول العالم[28].

وعليه فقد باتت التجارة الإلكترونية إحدى الروافد والمكونات الأساسية في مسلسل العولمة وهي سترقى لتكون أداة جديدة لا محيد عنها في المعاملات التجارية الدولية، كما بلغ تأمين عملية الدفع عبر الأنترنيت اليوم درجة مقبولة من الضمان، وفرتها الطريقة الرقمية التي تمكن من التأكد من المعطيات الواردة في العقود عبر الأنترنيت؛إلا أنه رغم كل هذا التطور، فما زال العائق الكبير أمام سرعة انتشار التجارة الإلكترونية يتمثل في قضية الأمن[29].

وقد أفرزت لنا التجارة الإلكترونية صنفا جديدا من أصناف الشكلية يعبر عنها بالشكلية المعلوماتية، هذه الأخيرة التي تبقى كالشكلية الكتابية من حيث الأسس والتوابث، باستثناء بعض الإجراءات الخاصة بالنظم الرقمية والتي لاتؤثر في شيء في العناصر الأساسية للعقد، وبعبارة أخرى يكمن الفرق بين الشكلية الكتابية والشكلية المعلوماتية في مجال الشكل الذي يتغير وذلك بالمراهنة على الأنترنيت الذي يجرد المعلومة من طابعها المكتوب ويستعيض بالتالي عن الورق بطريقة التفاعل مع الشاشة أو الضغط على زر الحاسوب بقصد أخذ نسخة من المعلومة[30].

إن بروز الشكلية المعلوماتية نتيجة تطور التجارة الإلكترونية، يطرح العديد من الإشكاليات حول النظام القانوني لهذه الشكلية وكيفية الإثبات وتقديم الدليل بشأنها؛ ومن أجل تجاوز هذه الإشكالات فقد قام المشرع سنة 2007 بإصدار القانون 53.05، فما القواعد القانونية لهذه الشكلية وفق القانون المذكور؟

ثانيا:القانون 53.05 وتقنين الضوابط القانونية للشكلية المعلوماتية

يعد التعاقد عن بعد بطريقة إلكترونية من المواضيع اتي فرضت نفسها على التشريعات الوضعية خصوصا في ميدان المعاملات التجارية التي تستلزم ربط المواطن  بالشبكة العالمية للرواج والتبادل التجاريين، واستجابة من المشرع المغربي لهذا المد الخارجي الذي فرص عليه الخضوع لقواعد العولمة، بمختلف تجلياتها ومظاهرها القانونية فإن المشرع بادر إلى المصادقة على القانون 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية بتاريخ 2007/11/30  كإطار جديد للتعاقد بين شخصين غائبين من المجلس معدلا بذلك جملة من النصوص التشريعية في قانون الالتزامات والعقود حتى تنسجم مع التوجهات الجديدة التي أتى بها القانون الجديد[31].

وعليه فإنه في سبيل تقنين قواعد الشكلية المعلوماتية التي أصبحت تنتشر على مستوى التجارة الإلكترونية، فإن المشرع عمل إقرار بعض القواعد الخاصة في هذا الإطار، وتتجلى أساسا في استبعاد بعض المقتضيات العامة  بما يتلاءم وخصوصيات التعاقد الإلكتروني، خاصة فيما يخص الأحكام الخاصة بالتعاقد بين غائبين[32]؛ كما قرر بعض مظاهر الحماية أثناء إبرام العقد الإلكتروني وخاصة ما يتعلق بمرحلة طرح العرض أو الإيجاب المتضمن للرغبة التعاقدية[33]، ثم إقرار قواعد خاصة للإثبات[34].

وتوقيا لكل تقليد أو قرصنة للمعطيات القانونية فإن المشرع ركز في القانون 53.05 على ضرورة تأمين التوقيع الإلكتروني والتحفيز على تشفير المعلومات الخصوصية والمصادقة عليها بشكل إلكتروني[35].

 

 

 

 

 

المطلب الثاني:الأمن القانوني في ظل التحولات التكنولوجية الراهنة

إنه في إطار علاقة التكنولوجيا بالقانون، تثار بحدة إشكالية الأمن القانوني، ذلك أن سعي القانون إلى مواكبة مختلف التحولات التكنولوجية يجعله في تغير دائم  ومستمر، وهذا  يؤثر على مبدأ الأمن القانوني (الفقرة الثانية) لهذا فإن قانون الأعمال، تبنى بعض الآليات في سبيل تحقيق الأمن القانوني (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى:التحولات التكنولوجية والحاجة إلى مبدأ الأمن القانوني

رغم الاستعمال الشائع لمبدأ الأمن القانوني، فإنه قلما يتم الاهتمام بتعريف هذا المبدأ من قبل الفقه، إذ غالبا ما يقدم كإطار عام لمجموعة كبيرة من المبادئ والحقوق المرتبطة به، أو كغاية محورية لكل نظام قانوني، ومطلبا أساسيا لدولة القانون[36].

وترجع صعوبة تعريف هذا المبدأ، إلى أن الأمن القانوني متعدد المظاهر ومتنوع الدلالات، كثير الأبعاد، فضلا عن حضوره الدائم في الكثير من المجالات[37]، إلا أن يقصد بالأمن القانوني عموما  “كل ضمانة وكل نظام قانوني للحماية، يهدف إلى تأمين، ودون مفاجآت، حسن تنفيذ الالتزامات،وتلافي أو على الأقل، الحد من عدم الوثوق في تطبيق القانون”[38].

إن سعي قانون الأعمال إلى مواكبة مختلف التغييرات يؤدي إلى خلق نوع من الإضطراب القانوني، بل وحسب تعبير الأستاذ المشيشي، فإنه يؤدي إلى زعزعة استقرار القانون[39]؛ فإذا كانت جودة واستقرار الأحكام القانونية ضرورية للأمن القانوني والقضائي، فإنها سرعان ما تضعف بسبب لهث القانون ثم وهنه وعجزه عن مسايرة وتيرة التطور، بل التطاير أو التهافت التكنولوجي والعلمي، ولعل خير مؤشر على هذه الخاصية توارد مقتضيات جديدة تلزم بالمراجعة والملائمة الدورية والسهر على فعلية تطبيق القانون[40].

وعليه فإنه يقترح نفس الكاتب العديد من الحلول في سبيل تجاوز هذه الإشكاليات-خاصة وأن البرلمان لا يتوفر على الخبرات المختصة التي تساعدة على وضع تشريع يتلاءم وهذه التحولات التكنولوجية- وذلك من قبيل اعتماد الخبرة والخبراء على مستوى صياغة التشريع كما يتعين الاستفادة من خبرة مختلف المصالح الإدراية التابعة للحكومة وذلك على مستوى إعداد مشاريع القوانين[41].

 

 

 

 

الفقرة الثانية: بعض آليات تحقيق الأمن القانون على مستوى قانون الأعمال

بالرجوع إلى قوانين الأعمال المشار إليها أعلاه، نجدها قد كرست عدة آليات في سبيل مسايرة هذه التحولات وضمان مبدأ الأمن القانوني، فمثلا على صعيد القانون 88.17 فقد نص المشرع على إحداث لجنة خاصة للتتبع والتنسيق، وأوكل لها العديد من الأدوار والمهام[42]؛.هذا إلى جانب أدوار المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية، طبقا للقانون [43]13.99، والتي أساسا في تعزيز الحكامة والرقابة أساسا على مستوى العمليات الإلكترونية[44].

كما أن القانون 11.16 المتعلق بمهنة وكلاء الأسفار، أقر عدة عقوبات في مواجهة المهنيين المخلين بمقتضيات القانون المذكور، كما نص على ضرورة تطبيق مقتضيات قانون حماية المستهلك، وأوكل الرقابة لأجهزة خاصة[45].

وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن مؤتمر العدالة والاستثمار، الذي كان قد انعقد بمراكش مؤخرا، قد أقر عدة آليات في سبيل الحد من المخاطر التي قد تترتب على الوسائل التكنولوجية، وذلك من خلال عدة توصيات بخصوص محور توظيف تكنولوجيا المعلوميات على مستوى قضاء الأعمال، بالنظر إلى أهميته في التغلب على المعيقات التي تواجه تدير منظومات العدالة في مختلف بلدان العالم؛ ومن أبرز هذه التوصيات ضرورة استحضار متطلبات التحول الرقمي في إعداد القوانين الموضوعية والإجرائية ذات الصلة بمجال الأعمال مع استشراف إمكانية اعتماد لوغاريتمات “العدالة التوقعية” وتأثير ذلك على السلطة التقديرية للقاضي والمعطيات ذات الطابع الشخصي؛ وأيضا اعتماد الحكامة الرقمية في تدبير عمل المحاكم عبر شفافية الخدمات والإجراءات القضائية والإدارية التي تتم بصفة إلكترونية، تحقيقا لمبتغى لا مادية الإجراءات والمساطر، مع ضرورة انخراط كافة الفاعلين في مجال القضاء والقانون والأعمال في رهان إنجاح المحكمة الرقمية[46].

 

 

 

 

 

 

 

ختاما، يمكن القول أن المغرب قد سعى فعلا إلى ملائمة تشريعاته الوطنية مع مختلف التحولات التكنولوجية ولعل ما يؤكد هذا النجاح هو التقرير الأخير للبنك الدولي فيما يخص مؤشر ممارسة الأعمال، حيث ارتقى بالمغرب في هذا الإطار إلى المرتبة 53 عالميا متفوقا في ذلك على العديد من الدول؛ والمغرب لا تقف طموحه في هذا الإطار حيث يسعى إلى بلوغ دائرة الاقتصاديات الخمسين الأكثر جاذبية في العالم وذلك سنة 2021.

وعلى العموم، فإنه  يمكن القول أن العلاقة بين القانون والتكنولوجيا، تبقى علاقة مبهمة وغامضة، رغم ذلك فالقانون يبقى في حاجة دائمة إلى التكنولوجيا من أجل مسايرة مختلف المستجدات، كما أن التكنولوجيا في حاجة ماسة إلى القانون؛ غير أن انخراط القانون في التغير والملائمة مع هذه التحولات يتعين ألا يفقده غايتة ووظيفته العملية والواقعية والتي تتجلى في تحقيق مبدأ الأمن القانوني.

[1] – جريدة رسمية عدد 6702 (23 أغسطس 2018) ص5767.

[2] – جريدة رسمية عدد 6745 (21 يناير 2019) ص140.

[3] – جريدة رسمية عدد 6745 (21 يناير 2019) ص142.

[4] – جريدة رسمية عدد6667 (23 أبريل 2018) ص2345.

[5] -جريدة رسمية عدد 6807 (26 أغسطس 2019) ص5885.

[6] -الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعة-دورة أكتوبر- بتاريخ 11/10/2019  حيث جاء في نص الخطاب “…..ولا داعي للتذكير بأن الرواج الاقتصادي يمر بالخصوص عبر تطوير العمليات البنكية ، وأود أن أشيد هنا  بالنتائج  التي تحققت في هذا المجال خلال العقدين الأخيرين، حيث ارتفع عدد المواطنين الذين فتحوا الحساب البنكي ثلاث مرات، وهو ما يتطلب من الأبناك مواصلة الجهود باستقبال التكنولوجيات الحديثة والابتكارات المالية….”.

[7] -جريدة رسمية، عدد 5584 (6ديسمبر 2007)، ص3879.

[8] -عبد القادر العرعاري، عقد البيع، مطبعة الأمنية-الرباط، الطبعة الرابعة 2017، ص82.

[9] -جريدة رسمية عدد 5639 (16 يونيو 2008) ص1359.

[10] -وقد أشار الأستاذ بنستي إلى العديد من المظاهر الأخرى للتطور التكنولوجي، من قبيل ذلك ما جاء التنصيص عليه في إطار القانون البنكي، بشأن وسائل الأداء أو المادة 329 من مدونة التجارة، وكذلك المادة 531 من نفس القانون ومقتضيات أخرى من قانون حرية الأسعار والمنافسة.

عز الدين بنستي، من الشكلية الكتابية إلى الشكلية المعلوماتية، ص9 و10.

[11] -محمد الإدريسي المشيشي العلمي، لهث القانون وراء تهافت العلم و التكنولوجيا، مجلة المحاكم المغربية-العدد 156، ص21.

[12] – محمد الإدريسي المشيشي العلمي، مرجع سابق، ص24.

[13] -جريدة رسمية عدد6771، (22 أبريل 2019)، ص2058.

[14] -وقد نظمه المشرع في إطار الباب الرابع من القانون 21.18 وتحديدا في المواد من 12 إلى 18، غير أن الاستفادة من السجل المذكور علقها المشرع على صدور نص تنظيمي يبين مختلف الإجراءات المتعلقة بالتقييدات في السجل المذكور.

وينبغي التأكيد في هذا الإطار إلى أنه قد صدر مرسوم رقم 2.19.327 صادر في 9 صفر 1441 (8أكتوبر 2019) بتطبيق القانون رقم 21.18 المتعلق بالضمانات المنقولة وهو منشور في الجريدة الرسمية عدد 6832 (21نوفمبر 2019) ص10806.

[15] -جريدة رسمية عدد 6291 (15 شتنبر 2014) ص6882.

[16] -يتمثل التعديل الأول في التغيير الذي طرأ على عنوان الكتاب الخامس، إذ تمت إعادة تسميته، فبدل “معالجة صعويات المقاولة” أضحت التسمية الجديدة “إجراءات الوقاية والمعالجة من صعوبات المقاولة”؛ أما التعديل الثاني فيتمثل فيما تم إدخاله على مقتضيات المادة 546 من مدونة التجارة.

[17] -عبد الرحيم شميعة، شرح أحكام نظام مساطر معالجة صعوبات المقاولة في ضوء القانون 73.17، مطبعة مكتبة سجلماسة، طبعة 2018،  ص13.

[18] -نصت الفقرة الأخيرة من المادة 545 من مدونة التجارة على أنه “يتعين القيام بجميع الإجراءات المتعلقة بمساطر صعوبات المقاولة المنصوص عليها في هذا الكتاب بطريقة إلكترونية، وفق الكيفيات المحددة بموجب نص تنظيمي”.

[19] – الفقرة الثالثة من المادة 609 من مدونة التجارة “تتم دعوة الجميعة للانعقاد بواسطة إشعار ينشر في صحيفة مخول لها نشر الإعلانات القانونية والقضائية والإدارية ويعلق في لوحة معدة لهذا الغرض في المحكمة، كما يمكن الدعوة إلى انعقادها بواسطة استدعاء يوجه إلى الدائنين في موطنهم المختار، أو بطريقة إلكترونية“.

[20] -نصت المادة 3 من القانون 13.99 المتعلق والمعدل بمقتضى القانون 87.17”  تناط بالمكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية المهام التالية :
-مسك السجلات الوطنية للملكية الصناعية وتقييد جميع العقود المتعلقة بملكية
سندات الملكية الصناعية ؛
-مسك السجل التجاري المركزي الإلكتروني والمجذة الأبجدية بالنسبة إلى
الأشخاص الطبيعيين والمعنويين ؛
-القيام لحساب الدولة بتدبير المنصة الإلكترونية لإحداث المقاولات بطريقة
إلكترونية ومواكبتها، ومسك قاعدة المعطيات المتعلقة بها واستغلالها، وضمان استعمالها من قبل جميع المتدخلين بطريقة آمنة….”

[21] -جاء في المادة 1 من القانون 88.17 “من أجل إحداث المقاولات بطريقة إلكترونية، تحدث منصة إلكترونية يتولى المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية المحدث بموجب القانون رقم 13.99، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.00.71 بتاريخ 9 ذي القعدة 1420 (15 فبراير2000)، تدبيرها واستغلالها ومسك قاعدة المعطيات المتعلقة بها، لحساب الدولة، يطلق عليها “المنصة الإلكترونية لإحداث المقاولات بطريقة إلكترونية ومواكبتها”، ويشار إليها في هذا القانون باسم “المنصة الإلكترونية”……”.

[22] -المذكرة التقديمية لوزراة العدل بشأن مشروع القانون 31.18.

[23] -وجاء في هذا الإطار في الفقرة الخامسة من المادة 987-2 المضافة بموجب القانون 31.18 “يمسك سجل الشركات المدنية العقارية، على دعامة ورقية أو إلكترونية، من طرف كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية التابع لها عنوان مقر الشركة، ويراقب مسكه رئيس المحكمة أو القاضي المعين من طرفه”.

[24] -جريدة رسمية، عدد6746 (24 يناير 2019) ص203.

[25] -الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من القانون 11.16 “يمكن لوكلاء الأسفار إنجاز العمليات المنصوص عليها في هذه المادة عن بعد أو بوسيلة إلكترونية، مع التقيد بالنصوص التشريعية والتنظيمية المعمول بها”.

[26] -والتي جاء فيها “يجب على وكيل الأسفار، بالنسبة لكل مدار سياحي أو خدمة ساحية جزافية معروضة للبيع، أن ينشر ويوزع باسمه أو باسم المؤسسة المنتجة للخدمة السياحية، بوسيلة إلكترونية أو في شكل كتيبات أو مطويات، جميع المعلومات المتعلقة بالسفر والخدمات والأسعار المقترحة”.

[27] -محمد العروصي، التعاقد التجاري عن طريق شبكة الانترنيت، المجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات، عدد 10، مارس 2006، ص13.

[28] – محمد العروصي، مرجع سابق، ص14.

[29] – عز الدين بنستي، مرجع سابق، ص7.

[30] – عز الدين بنستي، نفس المرجع، ص7.

[31] -عبد القادر العرعاري، مرجع سابق، 80 و81.

[32] -ويتعلق الأمر بالفصول من 23 إلى 32 من قانون الالتزامات والعقود.

[33] -الفصل 65-4 من قانون الالتزامات والعقود.

[34] -أنظر بهذا الشأن الفصول 417-1، 417-2، 417-3 من قانون الالتزامات والعقود.

[35] -من أجل التعمق بشأن المقتضيات المتعلقة بالتعاقد الإلكتروني، أنظر بهذا الشأن، الأستاذ عبد القادر العرعاري، عقد البيع، مطبعة الأمنية-الرباط، الطبعة الرابعة 2017 ص من80 إلى 92.

[36] -عبد المجيد غميجة، مبدأ الأمن القانوني وضرورة الأمن القضائي، عرض مقدم في إطار الندوة المنظمة من طرف الودادية الحسنية للقضاة بمناسبة المؤتمر الثالث عشر للمجموعة الإفريقية للاتحاد العالمي للقضاة، الدار البيضاء، 28 مارس 2008.

[37] – عبد المجيد غميجة، مبدأ الأمن القانوني وضرورة الأمن القضائي، مرجع سابق.

[38] – عبد المجيد غميجة، مبدأ الأمن القانوني وضرورة الأمن القضائي، نفس المرجع.

[39] – محمد الإدريسي المشيشي العلمي، مرجع سابق، ص23.

[40] – محمد الإدريسي المشيشي العلمي، نفس المرجع، ص22.

[41] – محمد الإدريسي المشيشي العلمي، نفس المرجع، ص28، 29، 30.

[42] -جاء في إطار المادة 10 من القانون 88.17 ” تحدث لجنة وطنية للتتبع والتنسيق تضطلع، على الخصوص، بتتبع عملية إحداث المقاولات بطريقة إلكترونية، ومواكبتها وتنسيق تدخل مختلف الإدارات والهيائات المعنية بها وتقييم سير عمل المنصة الإلكترونية، وتقديم اقتراحات بغرض الرفع من جودة الخدمات التي تقدمها، وتطوير عملها”.

[43] -جريدة رسمية عدد 4776 (9مارس 2000)، ص396.

[44] -المادة 4 من القانون 13.99 المشار إليه أعلاه ” يعهد إلى المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية، عملا بأحكام المادة 3 أعلاه، ما
يلي:
-تلقي الطلبات المتعلقة بسندات الملكية الصناعية وتسجيلها وتسليمها ونشرها وفقا
لأحكام القانون المتعلق بحماية الملكية الصناعية؛
-تلقي تصاريح التقييد في السجل التجاري، سواء تعلق الأمر بالتسجيلات أو
التقييدات المعدلة لها أو بالتشطيبات المتعلقة بها، والعمل على تقييدها في السجل
التجاري المركزي الإلكتروني وفق أحكام القانون رقم 15.95 المتعلق بمدونة
التجارة4؛
-تمكين الإدارات والهيئات المعنية من الولوج على المنصة الإلكترونية المذكورة،
قصد القيام مباشرة أو عبر أنظمتها المعلوماتية الخاصة بها بالإجراءات المندرجة
ضمن مجال اختصاصها، فيما يخص إحداث المقاولات ومواكبتها، وإنجاز
التقييدات اللاحقة المتعلقة بها في السجل التجاري الإلكتروني؛……………”.

[45] -المادة 32 من القانون 11.16 والتي جاء فيها ” علاوة على ضباط الشرطة القضائية، يؤهل للبحث عن المخالفات لأحكام هذا القانون  ومعاينتها الأعوان المحلفون والمنتدبون خصيصا لهذا الغرض من لدن الإدارة المختصة”.

[46] -إعلان مراكش، حول العدالة والاستثمار: الرهانات والتحديات، ص8.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى