في الواجهةمقالات قانونية

الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية على إثر جائحة “كوفيد 19” يسائل مبدأ عدم رجعية القوانين – الحسن اوبــحيد

الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية على إثر جائحة “كوفيد 19”

يسائل مبدأ عدم رجعية القوانين

الحسن اوبــحيد

باحث في العلوم القانونية

انتشرت جائحة “كورونا” في العالم فدفعت الدول والأمم إلى اتخاذ تدابير فوق العادة لمواجهتها تصل إلى حد التضحية بالاقتصادات الوطنية عن طريق شل الحركة التجارية والصناعية ووقف الملاحة الجوية، بل والحد من حرية تنقل الأفراد.

والمغرب لم يحد عن هذا التوجه، بل أكثر من ذلك لجأ إلى اتخاذ تدابير استباقية غير مسبوقة تحت القيادة الرشيدة لعاهل البلاد، مرجحا بذلك صحة المواطن على صحة الاقتصاد الوطني، تدابير تستحق كل التنويه وحازت الإشادة من لدن العديد من المؤسسات الدولية والمنابر الإعلامية العالمية المختلفة بدءا بمنع التجمعات، ومرورا بإحداث صندوق خاص لمواجهة تداعيات هذه الجائحة وغيرها من التدابير المالية والاقتصادية والإدارية المصاحبة، ووصولا إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية وإقرار حجر صحي بمجموع التراب الوطني بموجب بلاغ وزارة الداخلية ابتداء من 20 مارس 2020 على الساعة السادسة مساء.

إلا أن هذه التدابير رافقها أيضا نقاش قانوني واسع حول العديد من المسائل القانونية، لا سيما بعد صدور مرسوم بقانون رقم 2.20.292 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها[1]، والذي بيّن في مادته الأولى نطاق الإعلان عن حالة الطوارئ، بحيث يمكن أن يكون على صعيد جهة أو عمالة أو إقليم أو على صعيد مجموع التراب الوطني عندما تكون حياة الأشخاص وسلامتهم مهددة من جراء انتشار أمراض معدية أو وبائية، واقتضت الضرورة اتخاذ تدابير استعجالية لحمايتهم من هذه الأمراض، والحد من انتشارها. ونصّ كذلك على أن الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية يكون بمرسوم يتخذ بناء على اقتراح مشترك للسلطتين المكلفتين بالداخلية والصحة يحدد نطاقها الترابي، ومدة سريان مفعولها، والإجراءات الواجب اتخاذها مع إمكانية تمديدها بنفس الطريقة ووفق نفس الشروط.

وخوّل للحكومة، بمقتضى المادة الثالثة منه، وعلى الرغم من جميع الأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، صلاحية اتخاذ كافة التدابير اللازمة من أجل التدخل الفوري والعاجل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض، وتعبئة جميع الوسائل المتاحة لحماية حياة الأشخاص وضمان سلامتهم عن طريق مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية، أو بواسطة مناشير وبلاغات مختلفة. وأكثر من ذلك فسح المجال أمامها، طبقا للمادة الخامسة منه، لكي تتخذ، وبصفة استثنائية، أي إجراء ذي طابع اقتصادي أو مالي أو اجتماعي أو بيئي يكتسي صبغة الاستعجال إذا كان من شأنه أن يسهم، بكيفية مباشرة، في مواجهة الآثار السلبية المترتبة على إعلان حالة الطوارئ الصحية المذكورة.

وحماية لحقوق المواطنين والمتقاضين نص، بمقتضى المادة السادسة، على وقف سريان جميع الآجال المنصوص عليها في النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، على أن يستأنف احتسابها، فيما تبقى منها طبعا، ابتداء من اليوم الموالي ليوم رفع حالة الطوارئ. وتستثنى من هذه الأحكام آجال الطعن بالاستئناف الخاصة بقضايا الأشخاص المتابعين في حال اعتقال، وكذا مدد الوضع تحت الحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي.

وكما هو متعارف عليه في المجال القانوني، سيكون وقت دخول المرسوم بقانون حيز التنفيذ هو تاريخ نشره في الجريدة الرسمية، أي يوم 24 مارس 2020، مادام أنه لم ينص على تاريخ آخر. وهنا مكمن الإشكال، بحيث أفرز هذا الأمر فراغا بالنسبة للفترة ما بين التاريخ المحدد بمقتضى بلاغ وزارة الداخلية بالإعلان عن حالة الطوارئ في يوم 20 مارس وتاريخ نشر المرسوم بقانون المتعلق بحالة الطوارئ بالجريدة الرسمية، أي يوم 24 مارس 2020. فهل يشمل وقف الآجال المنصوص عليه في المرسوم بقانون أيضا الفترة ما بين 20 و24 من مارس؟ إذا كان الأمر بالإيجاب فبناء على أي سند قانوني، علما أنه ليس للقانون أثر رجعي؟ وإذا كان بالسلب، فكيف أغفلت الحكومة التنصيص على رجعية المرسوم بقانون؟ وهل حدث ذلك سهوا أم قصدا؟ هل بالإمكان تدارك الأمر بالتنصيص في القانون الذي سيصدر لاحقا عن البرلمان، بعد المصادقة على المرسوم بقانون، على الأثر الرجعي لقانون حالة الطوارئ؟ ألن يتعارض ذلك مع المبدأ الدستوري القاضي بعدم رجعية القوانين (الفصل السادس من الدستور) احتراما لدستورية القواعد القانونية وتراتبيتها؟ هل ستكيف تدابير الحجر الصحي في الفترة المذكورة على أنها قوة قاهرة حالت دون احترام الآجال من قبل المواطنين والمتقاضين حفاظا على حقوق هؤلاء؟

كلها إذن أسئلة تفرض نفسها بشدة، وتستوجب نقاشا قانونيا رصينا، واستحضار المصلحة العامة ومتطلبات الأمن القانوني، درءا لهدر الحقوق وحفاظا على استقرار المعاملات مع مراعاة الوضعية الراهنة التي تكتسي طابعا خاصا واستثنائيا. وحسبي في هذه المقالة أن أسهم في هذا النقاش وإذكائه لا أن أجيب أجوبة قاطعة عن الأسئلة المذكورة، فذلك من شأن فقهاء القانون الدستوري، فضلا عن أن مسألة عدم رجعية القوانين من المسائل الشائكة في الميدان القانوني، وخاصة في غياب نظرية منسجمة ومتكاملة لهذا المفهوم.

وتأسيسا على ما سبق، يقتضي تناول هذا المفهوم تحديد مضمونه (أولا) قبل بيان حدوده (ثانيا).

أولا: مضمون مبدأ عدم رجعية القوانين

يقصد برجعية القانون صلاحية تطبيقه على الوضعيات القانونية الناشئة قبل دخوله حيز التنفيذ وكذا على الآثار المترتبة عن هذه الوضعيات. والأصل أن القانون ليس له أثر رجعي، وتبنى التشريع المغربي هذا المبدأ منذ دستور 1962 (في فصله الرابع) وتم تأكيده في دستور 2011 ونص عليه في فصله السادس، ويفيد هذا المبدأ بأن القانون الجديد لا يمكن أن يطبق على الوضعيات القانونية التي استنفذت آثارها في ظل القانون القديم. ولذلك لا يجوز كأصل عام تطبيق القانون الجديد على التصرفات والوقائع القانونية التي وقعت قبل سريان مفعول القانون الجديد.

ومن ثم فالمبدأ يروم حماية حرية الإنسان، فهذا الأخير بحاجة إلى الأمن القانوني. وبالتالي لا يمكن الحديث عن هذا الأمن إذا كان بالإمكان التشكيك في التصرفات المبرمة من قبل الأفراد تطبيقا للقوانين والنظم الجاري بها العمل.

ولا يكفي الوقوف عند المضمون للإحاطة بهذا المبدأ، بل إن معرفة حدوده هي الأخرى تكتسي أهمية بالغة لمعرفة ما إذا كانت هذه القاعدة تطبق على الإطلاق، أم ترد عليها بعض الاستثناءات، ولتكتمل الصورة لا بد من معرفة كيف تصدى التشريع المغربي لهذا الأمر.

 ثانيا: حدود إعمال مبدأ عدم رجعية القوانين

تبنّت جلّ التشريعات -إن لم نقل جميعها- مبدأ عدم رجعية القوانين، إلا أن صرامة إعمال هذا المبدأ تختلف من تشريع لآخر. ولذلك، وقبل الخوض في موقف التشريع المغربي من هذه القاعدة، ومدى إمكانية تطبيقها على نازلة الحال، سنعرّج بداية على موقف التشريع الفرنسي.

1- موقف التشريع الفرنسي من قاعدة عدم رجعية القوانين

يرى البعض أن مبدأ عدم رجعية القوانين هو موجه بالأساس إلى القاضي والسلطات الإدارية، فهو ليس إلا مبدأ تأويليا أو تفسيريا، إذ في غياب مقتضيات انتقالية، يتوجب على القاضي تطبيق القانون الجديد بدون أثر رجعي. مشيرا إلى أن هذا المبدأ ليس موجها إلى المشرع، عدا في المادة الجنائية، ومن ثم بإمكان هذا الأخير أن ينص على رجعية القوانين الصادرة عنه[2]. إلا أن هذه الصلاحية ليست على الإطلاق بل هي مقيدة بشروط فرضها حكماء المجلس الدستوري الفرنسي، وسايرهم في ذلك مجلس الدولة ومحكمة النقض الفرنسيين.

وهكذا نجد أن المجلس الدستوري الفرنسي قد استوجب لإعمال مبدأ رجعية القانون أن يكون هناك دافع ملح واضطراري تفرضه المصلحة العامة[3] حيث ورد في أحد قراراته:” إذا كان بإمكان المشرع أن يعدّل بأثر رجعي قاعدة قانونية أو يصادق على عمل [أو تصرف] إداري أو قاعدة من قواعد القانون الخاص، فإن ذلك مشروط بأن يحترم هذا التغيير أو المصادقة القرارات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به وكذا عدم رجعية العقوبات والجزاءات، وأن المساس بحقوق الأشخاص الناتج عن التغيير أو المصادقة المذكورين يجب أن يكون مبررا بدافع اضطراري أملته المصلحة العامة.” وهو ما تم تأكيده في قرارين صدرا عنه لاحقا سنة 2014[4]. بل ولطّف نفس المجلس في قرار آخر من توجهه، لما فسح المجال أمام المشرع للمصادقة على عمل أو تصرف بأثر رجعي بمجرد ما تقتصيه مصلحة عامة كافية (intérêt général suffisant) وذلك بغية اتقاء الصعوبات التي يمكن أن تنجم عن إلغائه، مع مراعاة ضرورة تحديد نطاق هذه المصادقة بشكل قاطع، حتى لا يكون من أثرها منع كل مراقبة قضائية للتصرف المصادق عليه إعمالا لمبدأ فصل السلط[5].

ويشترط بعض الفقه[6]، علاوة على ما تقدم، ألا يتجاهل العمل المعدّل أو المصادق عليه أي قاعدة أو مبدأ ذي قيمة دستورية، عدا إذا كان الدافع الاضطراري نفسه من قيمة دستورية، وأن يكون نطاق التغيير أو المصادقة محددا بصفة قطعية.

ويشير نفس الفقه[7] إلى أن مراقبة عدم رجعية القوانين يمكن أن تتم كذلك بالاستناد إلى مبدأ الأمن القانوني الذي ينطوي على “جودة نظام قانوني بالشكل الذي يضمن للمواطن مقروئية وثقة فيما يشكل قانونا في لحظة معينة، وما يمكن أن يصير قانونا في المستقبل.” بحيث أصبح هذا المبدأ يفرض نفسه تدريجيا في المشهد القانوني كوسيلة لمراقبة القوانين ذات الأثر الرجعي؛ على أمل أنه إذا لم يكن من شأنه أن يمنع عدم رجعية القوانين، فهو على الأقل سيعمل على تأطيرها. وفي هذا الصدد لجأ مجلس الدولة الفرنسي إلى هذا المبدأ لرفض إعمال رجعية مرسوم يتعلق بالموافقة على مدونة أخلاقيات مهنة مراقب الحسابات[8].

ولا توضع جميع القوانين في كافة واحدة بالنسبة إلى مبدأ عدم رجعية القوانين، بل منها ما يطبق بأثر رجعي كالقوانين المفسرة وقوانين المصادقة. فالأولى تستهدف تقديم توضيحات وتفسيرات حول المعاني الغامضة في قانون قائم أصلا -أي القانون المفَسَّر- ومن ثم وجب أن ينطبق نطاق القانون الجديد -أي القانون المفسِّر- كلية مع نطاق القانون المفسَّر. أما قوانين المصادقة (lois de validation)، فهي بطبيعتها قوانين تطبق بأثر رجعي.  وتفيد المصادقة التشريعية أو قانون المصادقة “كل تدخل من قبل المشرع، بواسطة نص يغيّر بأثر رجعي حالة قانونية، سيما تلك المتأتية من قرارات قضائية، يسمح بإضفاء الطابع القانوني على تصرفات (actes) قانونية، ناشئة أو ستنشأ مستقبلا، والتي يمكن أن تكون مشروعيتها (légalité) موضع شك أمام محكمة إدارية أو قضائية.”[9] ويشترط في التدخل أن يستهدف مصلحة عامة ومشروعة وأن يكون متناسبا مع الغاية المأمولة، الأمر الذي ينتفي مثلا في الحالة التي يسحب فيها القانون ذي الأثر الرجعي معاش العجز نتيجة تعديل نسبة ومدة الاشتراك[10].

وذهب البعض الآخر[11] إلى أن إضفاء الطابع الرجعي على قانون ما يقتضي أن يمس أو يهدد هذا القانون نظامية (la régularité) تصرف وقع قبل دخوله حيز التنفيذ. بمعنى أن الحديث عن قاعدة “عدم الرجعية” يستوجب “ألا يهدد أو يمس قانون ما تصرفا أُنجِز قبل دخوله حيز التنفيذ.” وبعبارة أخرى يجب على المحكمة أن ترفض إعمال القاعدة القانونية الماسة بنظامية تصرف أنجز قبل دخولها حيز التنفيذ، عدا إذا كان هذا القانون بأثر رجعي، وهو أمر لا يفترض. ولنضرب لذلك مثلا، فلو أن عقدا رضائيا صار، بموجب القانون الجديد، عقد شكليا تتوقف صحة انعقاده على شرط الكتابة، وأراد المشتري التمسك ببطلان العقد المبرم في ظل القانون القديم تطبيقا للقانون الجديد. ففي هذه الحالة سيهدد إعمال القانون الجديد نظامية التصرف وصحته، وبالنتيجة فقاعدة “عدم الرجعية” ستعرف طريقها إلى التطبيق. وخلص ذات الفقه إلى أن قاعدة “عدم رجعية القانون” هي ذات تطبيق موضوعي، فيما يكتسي إعفاء (exemption) القانون الجديد طابعا تقديريا، فالظاهرتان متباينتان ومتتاليتان، ومن ثم وبصرف النظر عما إذا كان القانون بأثر رجعي أم لا، فالإعفاء القضائي يظل واردا وممكنا بالنسبة لبعض الأشخاص.

ويظهر مما سبق أن المشرع الفرنسي يتوفر على إمكانية إصدار القانون بأثر رجعي، سيما وأن تكريس مبدأ عدم الرجعية مقتصر على الصعيد القانوني والتشريعي فقط، ولا يرقى إلى مبدأ دستوري. ولكن ماذا عن المشرع المغربي، هل بإمكانه أن يسن قوانين بأثر رجعي إسوة بما يجري في التشريع الفرنسي؟

2- موقف التشريع المغربي من مبدأ عدم رجعية القوانين

إن الجواب عن هذا السؤال يقتضي التمييز بين مرحلتين: مرحلة ما قبل التنصيص الدستوري على هذه القاعدة -أي ما قبل سنة 1962- ومرحلة التنصيص الدستوري على هذا المبدأ، أي منذ سنة 1962 التي تم فيها التصويت على أول دستور للمملكة.

لا شك أن المرحلة السابقة على دسترة هذا المبدأ، لا تثير أي خصوصيات تذكر، إذ بإمكان المشرع أن يضع قوانين بأثر رجعي، وقد حدث ذلك فعلا في أكثر من مناسبة، حيث صدرت عدة ظهائر بأثر رجعي في هذه المدة، ونذكر منها: مدونة العدالة العسكرية بتاريخ 10 نونبر 1956، وظهير 27 مارس 1958 المحدث للجنة المراقبة بخصوص مؤامرة 20 غشت 1953، وظهير 29 أكتوبر 1959 المتعلق بالزيوت المسمومة. فكان هذا المبدأ آنذاك قاصرا على السلطة التنظيمية والسلطة القضائية. بحيث إن جميع النصوص التنظيمية الصادرة عن الوزير الأول وقتئذ والوزراء يجب أن تحترم مبدأ عدم رجعية القانون تحت طائلة الطعن فيها بسبب تجاوز السلطة أو الدفع بعدم المشروعية[12]، ولم يتأخر المجلس الأعلى[13]، بتاريخ 28 ماي 1959، في نقض قرار لوزير الداخلية بتوقيف موظف قبل تبليغه إياه بدعوى أن القرار طبق بأثر رجعي[14].

إلا أنه بتبني دستور المملكة سنة 1962، حرص المسؤولون على ترسيخ هذا المبدأ على صعيد الدستور نفسه، وتم تأكيده في الدساتير اللاحقة (راجع الفصل السادس من دستور 2011) ليطرح السؤال حول أثر ذلك على رجعية القانون.

إن التكريس الدستوري لهذا المبدأ يجعل منه مبدأ مطلقا يقيد كل أجهزة الدولة: السلطة التشريعية والسلطتين التنفيذية والقضائية. فلا يملك البرلمان أن يصوت على قانون بأثر رجعي، ولم يعد بإمكان رئيس الدولة أن يصدر ظهائر تنتج أثرا رجعيا، كما ليس بمقدور القضاء أن يتخذ قرارات قضائية بأثر رجعي[15].  ولكن هل يعني ذلك أنه لم يعد يقبل أو يحتمل أي استثناء؟

لا يقدم الدستور أي توضيحات أو مؤشرات في هذا الصدد، ويمكن أن يحمل هذا السكوت إما على معنى الرفض وإما على معنى القبول، ولكن الصواب في نظر بعض الفقه[16] أن يتم التمييز بين أمرين:

– إذا ما تم الأخذ بنفس الأسباب والدوافع الكامنة وراء اعتماد مبدأ عدم رجعية القوانين، سيكون جائزا استبعاد تطبيق هذا المبدأ عندما لا يشكل ذلك تهديدا لاعتبارات العدالة والأمن والنظام داخل المجتمع. وهكذا يطبق مثلا القانون الأصلح للمتهم في المادة الجنائية دون أن يشكل ذلك خرقا لمقتضيات الدستور[17]، والأمر نفسه بالنسبة للقوانين التي تقضي بتصحيح الأخطاء المادية أو إدراج ما تم إغفاله عند نشر النصوص القانونية في الجريدة الرسمية.

– وفي المقابل، إذا كان تطبيق القانون بأثر رجعي يتعلق فقط باعتبارات الملاءمة واختيارات السياسة التشريعية، فذلك سيكون مخالفا لما قضى به الدستور. وهذا شأن النصوص التي تجرم أفعالا جديدة أو تشدد في عقوبة جرائم موجودة.

وهكذا، وعقب أحداث الصخيرات لعاشر يوليوز 1971، عرفت محاكمة المتمردين إشكالا قانونيا فيما يخص رجعية القانون الصادر في 26 يوليوز 1971، والذي دخل حيز التنفيذ في 28 منه، بسبب أنه سيطبق على أحداث سبقت صدوره، إلا أن ما خفّف من حدة الإشكال كون معظم مقتضياته تدخل في زمرة قواعد الشكل، ومن ثم كان تطبيقها بأثر رجعي أمرا مقبولا[18].

ومع ذلك يجب الاعتراف بأن الاجتهاد القضائي، سيما للمجلس الدستوري[19]، لا يتطابق بشكل مطلق مع هذا المبدأ، بل إنه على العكس من ذلك فسح المجال لمخالفته كلما اقتضى الصالح العام ذلك متأثرا في ذلك بنظيره الفرنسي كما تقدم معنا. إذ في قرار صادر عنه بتاريخ 31 دجنبر 2001[20] قَبِل بأن استحضار المصلحة العامة كاف لخرق المبدأ الدستوري المذكور، وورد في إحدى حيثياته:” لكن، حيث إن مبدأ رجعية القانون المنصوص عليه في الفصل 4 من الدستور لا يشكل قاعدة مطلقة، إذ ترد عليه استثناءات تقوم بخصوص قانون المالية على معيار يبررها، يستند إليه المشرع في إصلاح أوضاع غير عادية محددة من طرف الإدارة وتهدف إلى الصالح العام.” وبناء على نفس القرار يكون إعفاء القوات المسلحة الملكية من الرسوم والضرائب عند الاستيراد بأثر رجعي يسري من فاتح يناير 1996، وتكون رجعية القاعدة القانونية التي تنص على ذلك قد استندت إلى معيار الصالح العام لتصحيح وضعية محددة، مما يجعل القاعدة غير مخالفة لأحكام الفصل الرابع من الدستور.

ومما سبق، يتضح أنه بالرغم من دستورية مبدأ عدم رجعية القوانين، فالأمر لا يجب أن يصل إلى حد جعله قاعدة مطلقة، وبالنتيجة تعطيل رجعية القوانين بشكل كامل، وإنما يجب التعامل مع هذا المبدأ وفق منطق يراعي الأمن القانوني ويستحضر اعتبارات العدالة والنظام داخل المجتمع، الشيء الذي سيسمح بخرقه جزئيا كلما اقتضت دوافع ملحة واضطرارية تتعلق بالمصلحة العامة، الأمر الذي ينسحب على الوضعية الراهنة للبلاد، بل وجميع أرجاء المعمور، والتي تمر بحالة وبائية استثنائية اقتضت اتخاذ تدابير مستعجلة للحفاظ على حياة المواطنين وسلامتهم – وهي بالمناسبة أسباب وحقوق تكتسي هي الأخرى قيمة دستورية (الفصلان 20 و21 من الدستور)- والتي قد تفرز بعض الإشكالات القانونية بخصوص وقف الآجال خلال المدة ما بين 20 و24 من مارس 2020.

ومن ثم نعتقد أن بإمكان المشرع، بالاستناد إلى اجتهاد المجلس الدستوري، وتغليبا لاعتبارات المصلحة العامة، أن يتدارك الأمر عبر التنصيص على رجعية القانون في الشق المتعلق بوقف الآجال في هذه الظروف الاستثنائية، حفاظا على الحقوق من الهدر واستتبابا وصونا للأمن القانوني من الاضطراب.

وإلى أن ينجلي موقف المشرع من هذا الإشكال، نأمل، بالنسبة للفترة الممتدة بين 20 و24 من مارس 2020، اعتبار الإعلان عن حالة الطوارئ بموجب بلاغ وزارة  الداخلية التي اضطر معها المواطن التزام منزله امتثالا لتعليمات وأوامر السلطات العمومية المختصة، بمثابة عذر مقبول وقوة قاهرة تقف عائقا دون ممارسته لحقوقه داخل الآجال القانونية، كما نشاطر رأي الأستاذ حكيم وردي فيما ذهب إليه  من اعتبار يوم 16 مارس تاريخ تعليق العمل بالجلسات تحسبا لانتشار داء كورونا هو من قبيل القوة القاهرة التي تقف حائلا دون ممارسة الطعون داخل الآجال. وبالتالي يتعين القول بتوقيف مدة سريانها[21].

 

[1] – منشور بالجريدة الرسمية عدد 6867 مكرر، ص 1782.

[2] – www.cours-de-droit.net.

[3] – cons. const. 14 fév. 2014, n° 2013-366.

[4] – الأول بتاريخ 14 فبراير 2014 تحت رقم n° 2013-366، والثاني بتاريخ 24 يوليوز 2014 تحت رقم n° 2014-695.

[5] – cons. const. 21 déc. 1999, n° 99-422.

[6] – Malpel Bouyjou, conflits de lois dans le temps, p. 63.

[7] – Malpel Bouyjou, op.cit, p. 64.

[8] – CE, ass. 24 mai 2006, réq. 278220.

[9] – Malpel Bouyjou, op. cit., p. 67 et s.

[10] – Rép. De procéd. Civile, p. 2.

[11] – Michel Krauss, réflexions sur la rétroactivité des lois, RGD.

[12] – Mohammed Jalal Essaid, introduction à l’étude du droit, éd. 2010, p. 260 et s.

[13] – نشير إلى أن تسمية المجلس الأعلى قد استبدلت ب ” محكمة النقض ” بمقتضى القانون رقم 11.58 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.170 بتاريخ 25 أكتوبر 2011 والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 5989 مكرر بتاريخ 26 أكتوبر 2011، ص 5228.

[14] – أشار إليه:

– Mohammed Jalal Essaid, introduction à l’étude du droit, éd. 2010, op. cit., 260 et s.

[15] – محمد جلال السعيد، مدخل لدراسة القانون، طبعة 1993، ص 181.

[16] – محمد جلال الدين، مدخل لدراسة القانون، مرجع نفسه، 181.

[17] – انظر قرار المجلس الأعلى بتاريخ 24 أكتوبر 1968، قضاء المجلس الأعلى عدد 5.

[18] – محمد جلال الدين، مدخل لدراسة القانون، مرجع نفسه، ص 182.

[19] – تجدر الإشارة إلى أنه وفي نطاق الإصلاحات الدستورية التي أقرتها المملكة بموجب الدستور الصادر في 29 يوليو 2011، المتمثلة بالخصوص في توسيع الحقوق والحريات العامة وترسيخ المؤسسات والآليات الكفيلة بمواصلة بناء دولة ديمقراطية حديثة، تم إحداث محكمة دستورية حلت محل المجلس الدستوري.

– للمزيد حول تنظيم وتأليف هذه المحكمة وسيرها، يراجع القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية، الصادر بتنفيذه ظهير شريف رقم 1.14.139 بتاريخ 13 غشت 2014، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6288 بتاريخ 4 شتنبر 2014، ص 6661.

[20] – قرار المجلس الدستوري صادر بتاريخ 31 دجنبر 2001 تحت رقم 467-2001، ملف رقم 557/2001.

[21] – حكيم وردي، آجال كورونا، مقال منشور بجريدة أحداث أنفو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى