بحوث قانونية

الإثبات في المادة التجارية

الإثبات لغة هو تأكيد الحق بالبينة، وهو في لغة القانون يعني إ قامة الدل يل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون لتأكيد حق متنازع فيه له أثر قانوني، لذلك كان الإثبات في جوهره سواء أمام المحاكم التجارية أو غيرها إقناعا للقضاء بإدعاء أو ذاك الأطراف .
ولقد مر الإثبات بعدة مراحل عبر التاريخ، ففي عصور ما قبل القضاء، كان الحق مرتبطا بالقوة، أما في العصر الحديث فأصبحت للإثبات أهمية القانونية والعملية في فض المنازعات في مختلف أنواع القضاء.
ويكتسي هذا الموضوع أهمية نظرية، تكمن في الإسهامات الفكرية التي تناولته، وأخرى عملية تتجلى في أن الإثبات يعد الوسيلة المعتمد عليها في إثبات الحقوق وصيانتها، والأداة التي تمكن القاضي في المجال التجاري من التحقق في الوقائع القانونية، ذلك أن الحق أن لم يكن مقرونا بتقديم دليل يثبت وجوده فإنه يبقى مجرد إدعاء.
وإذا كانت المعاملات التجارية تقتضي السرعة والثقة والائتمان، كأحد الدعائم الأساسية لنمو وازدهار التجارة، فإن انفراد المعاملات التجارية بخصوصياتها سير في هذا الاتجاه، حيث إن دعم الثقة بين التجار يستوجب حرية الإثبات أمام القضاء التجاري، وكما هو معلوم فوسائل الإثبات معمول بها في المجال المدني والتجاري على حد سواء.
وبالرجوع إلى مقتضيات المادة 44 3 من قانون الالتزامات والعقود يتبين أن المشرع المغربي قرر تقييد الإثبات كمبدأ عام دون التمييز بين العمل التجاري والعمل المدني، إلا أنه تدارك الأمر في المادة 448 من نفس القانون المشار إليه أعلاه بالنص على أنه "استثناءا من الأحكام السابقة يقبل الإثبات بشهادة الشهود بين التجار فيما يخص الصفقات التي لم تجر العادة بتطلب الدليل الكتابي لإثباتها".
الأمر الذي يستشف منه مبدأ حرية الإثبات في المعاملات التجارية بين التجار، تبعا لمبدأ الثقة والائتمان كأحد مقومات التجارة، وتنبغي الإشارة إلى أن العرف التجاري هو مصدر حرية الإثبات في المادة التجارية، نقل هذه القاعدة من عرف إلى نص قانوني.
غير أن اشتراط الإثبات بشهادة الشهود لا يمنع من تطلب الدليل الكتابي في الإثبات في علاقة التجار مع غيرهم في الإطار الأعمال المختلطة.
ومن خلال ما تقدم يطرح السؤال التالي كيف تعامل القضاء التجاري مع مبدأ حرية الإثبات في المادة التجارية؟

المبحث الأول: حرية الإثبات في المعاملات التجارية
المطلب الأول: وسائل الإثبات في المعاملات التجارية
إذا كان الأصل في المادة المدنية هو تقييد الإثبات بدليل المادة 443 من قانون الالتزامات والعق ود، فإن المبدأ في المادة التجارية هو حرية الإثبات، وهذا ما يستفاد من مقتضيات المادة 448 من نفس القانون المشار إليه، وذلك حينما يتعلق الأمر بصفقات لم تجر العادة بتطلب دليل كتابي لإثباتها، وهذا المقتضى منصوص عليه أيضا صراحة في مدونة التجارة الجديدة في مادتها 334 التي تنص "تخضع المادة التجارية لحرية الإثبات، غير أنه يتعين الإثبات بالكتابة إذا نص القانون أو الاتفاق على خلاف ذلك".
من خلال تحليل دقيق لهذه المادة يتبين أنها جاءت صريحة فيما يخص أخذ المشرع المغربي بمبدأ حرية الإثبات في المادة التجارية مسايرة لباقي التشريعات المقارنة، وذلك استجابة لما تتطلبه التجارة من ثقة وائتمان وسرعة، إذن أن التاجر يسعى دائما من وراء معاملاته التجارية إلى تحقيق الربح، بإبرام أكبر عدد من الصفقات التجارية في أقصر وقت، ومن شأن اشتراط كتابة العقود التي يبرمها مخالفة هذه المبادئ، لما في ذلك من تعطيل لمصالح الطرفين، وتعقيد المعاملات التجارية.
بالرجوع إلى بعض التشريعات المقارنة كالتشريع المصري الذي ينص في المادة 20 منه قانون الإثبات على أنه تستثنى المواد التجارية من وجوب الإثبات بالكتابة إذا زادت قيمة التصرف على عشرين جنيها، إذن الت صرف القانوني التجاري يجوز إثباته بشهادة الشهود وبالقرائن حتى لو كانت قيمته تزيد على عشرين جنيها أو كان غير محدد القيمة
وبالرجوع إلى القانون 88-9 المتعلق بالمحاسبة العمومية، نجد أن المشرع المغربي حدد فئة الأشخاص الملزمين بالتقيد بقواعد المحاسبة هذه الفئة من التجار تتمثل في كل شخص طبيعي أو معنوي له صفة تاجر، فهو ملزم بمسك محاسبة منتظمة تتعلق بحركات الأموال التي ترد على منشأته.
وكما هو معلوم فالأصل في الفقه والتشريع الحديثين هو حرية الإثبات في المواد التجارية مهما كان المبلغ المراد إثباته، خلافا للمعاملات المدنية التي يجب فيها تقديم الدليل الكتابي في إثبات ما يتجاوز مبلغا معينا ينص عليه القانون ، وقد كرس الاجتهاد القضائي المغربي مبدأ حرية الإثبات في المجال التجاري من خلال عدة أحكام وقرارات، حيث ورد في أحد حيثيات قرار المجلس الأعلى " أن المحكمة اعتبرت شهادة الشاهدين المستمع إليهما في المرحلة الابتدائية غير كافية لإثبات مديونية المطلوب بالنقض باعتبار أن المبلغ المدعى عليه يفوق 250 درهما على الرغم من أن المعاملة حسب ما وقع التمسك به بين تاجرين بصدد معاملات تجارية ويمكن الاعتماد فيها على شهادة الشهود استثن اءا من القاعدة العامة كما تقضي بذلك الفقرة الأخيرة من الفصل 448 من قانون الالتزامات والعقود، مما يكون معه القرار المطعون فيه اعتمد الفصل 444 من قانون الالتزامات والعقود دون الثبت من صفة الدين والطرفين خرقا لمقتضيات الفصلين المذكورين".
وتجدر الإشارة إلى أن الوثائق المحاسبة التي ألزم المشرع المغربي التجاري بضرورة مسكها لتعلقها بمعاملاتهم المالية وبحركتهم التجارية، إذ أن هذه الأخيرة بمثابة الوجه الحقيقي لأصول وخصوم التاجر سواء أكان تاجرا طبيعيا أو معنويا، حتى يتسنى للأغيار من تجار وغيرهم معرفة وضعية التاجر المالية، وبذلك نجد المشرع ألزم صراحة التجار بمسك محاسبة خاصة بمعاملاتهم التجارية، وهذا ما نلمسه صراحة في القانون 88-9 المتعلق بمسك القواعد المحاسبة المفروضة على التجار ، وحجية هذه الوثائق تختلف بحسب ما إذا كانت لمصلحة التاجر أو ضده، إذن فما هي هذه الوثائق المحاسبية؟ وما هي شروط مسكها من طرف التجار؟
حجية الوثائق المحاسبية لمصلحة التاجر وشروط مسكها
إذا كانت الدعوى مرفوعة من تاجر ضد تاجر آخر بصدد منازعة تجارية، فإنه يكون للتاجر أن يعتمد على وثائقه المحاسبية وذلك لإثبات صحة ما يدعيه، وهذا ما نجده في الم ادة 19 من مدونة التجارة من خلال قراءة متأنية لهذه المادة يتبين أنها المشرع المغربي اشترط شروطا يجب توفرها في المحاسبة ألزم القانون التجار بمسكها، وتتجلى هذه الشروط في أن هذه المحاسبة يجب أن تكون ممسوكة بانتظام من طرف التاجر حتى تكون لها حجة في مواجهة خصمه التاجر، وفي هذا الصدد ألزم التجار بإتباع شكليات وشروط موضوعية في الوثائق المحاسبية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على رغبة المشرع في أن تكون هذه المحاسبة تعبيرا صادق عن معاملاته، حتى يتسنى للأغيار المتعاملين معه معرفة أصول وخصوم منشأته وبذلك يكونون مطمأنين على مصير المعاملة التجارية، وحتى تكون هذه الدفاتر المحاسبية وسائل إثبات مجدية أمام القضاء، وإلا ما الفرض من فرضها على التجار.
ولا يكفي أن تكون المسألة المراد إثباته واقعة بين التجار، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، بل لا بد من توفر شرط آخر وهو كون المعاملة متعلقة بعمل تجاري فإذا كانت المنازعة مدنية بالنسبة لأحد الطرفين، فإن العقد يكون ذو طبيعة مختلطة، ولا يكون محاسبة الممسوكة من طرف التاجر حجة على خصمه في هذه الحالة
ولكنه جعله الحجية للاعتراف المكتوب من الخصم في تلك الدفاتر وفقا لما هو منصوص عليه في الم ادة 433 من ق ل ع والتي ورد فيها " أن ما يقيد في الدفاتر التجارية الكاتب المكلف بها أو المكلف بالحسابات يكون له نفس قوة الإثبات كما لو قيده نفس التاجر الذي كلفه…"، ولقد أفرد قانون الالتزامات والعقود خمسة فصول تتعلق بالإثبات، وبعضها يتعلق بتقديم الدفاتر إلى القضاء وإطلاع الخصم عليها، والملاحظ أن القانون المدني المغربي لم يجعل لدفاتر التجار حجة لهم أو عليهم.
تنص الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 88-9 المشار إليه سابقا، على أن التاجر يجب عليه أن يسجل في محاسبة جميع الحركات المتعلقة بأصول وخصوم منشأته، مرتبة حسب تسلسلها الزمني، عملية بعملية ويوما بيوم، ويجب أن يتضمن المستند الذي يثبتها، ذلك أن المحاسبة التي لا تتضمن كشطا أو كتابة في الحواشي، أو الفراغات تدعو للاطمئنان إلى ما تضمنته وتبقى جديرة بالاعتراف لها بالحجية أمام القضاء، وفي هذا الصدد ذهب الاجتهاد القضائي المصري إلى أن مناط جواز قبول البيانات المقيدة في الدفاتر التجارية كدليل بين التجار أن تكون هذه الدفاتر منتظمة .
كما يجب أن يكون الخصم الذي تمسك ضده بما هو وارد في الوثائق المحاسبة تاجر أي تكون الدعوى قائمة بين تاجرين يلتزمان معا بمسك المحاسبة، حتى يتسنى لكل منهما مضاهاة الآخر لإقناع القاضي بأحقية ما ورد في المحاسبة، ولقد نصت المادة 14 من القانون التجاري المغربي الملغى، على أنه يمكن للقاضي أن يقبل الدفاتر التجارية الممسوكة بانتظام كحجة بين التجار بصدد المعاملات التجارية، كما نصت على ذلك المادة 433 من قانون الالتزامات والعقود "إذا تضمنت دفاتر التاجر تقييدا صادرا من الخصم الآخر أو اعتراضا مكتوبا منه، وإذا طابقت نظيرا موجودا في هذا الخصم، فإنها تكون دليلا تاما لصاحبها وعليه".
يتبين من خلال ما سبق أن دفاتر التاجر التي يسجل فيها مجمل عملياته التجارية بشكل متسلسل، تعتبر حجة عليه، ذلك أن ما هو مدون بهذه الدفاتر يعد بمثابة إقرار مكتوب، سواء كتبه بخط يده، أو أمر شخصا آخر للقيام بهذه العملية تحت مراقبته، ويعتبر حجة له وعليه، سواء كان خصمه تاجرا، وسواء كان النزاع تجاريا أو مدنيا، وبذلك فدفاتر التاجر تعتبر سلاحا ذو حدين، ذلك أن الأصل أن الشخص لا يمكن اصطناع دليلا لمصلحته، حتى ولو كان تاجرا، وكانت دفاتره ممسوكة بانتظام، ومع ذلك تعتبر الوثائق المحاسبية المستوفية للشروط المنصوص عليها قانونا، وسيلة من وسائل الإثبات التي يعول عليها من أجل فض المنازعات التجارية في أقرب وقت، وهذا استثناءا من القاعدة العامة (لا يجوز للشخص أن يصطنع دليلا لنفسه)، وإذا كانت هذه المقتضيات الواردة في الوثائق المحاسبية للتاجر حجة له ضد خصمه التاجر الآخر، فما مدى حجية المحاسبة في الإثبات ضد التاجر صاحبها؟
مدى حجية الوثائق المحاسبة في الإثبات ضد التاجر
بالرجوع إلى مقتضيات المادة 19 من مدونة التجارة المغربية، نجدها تنص على أنه "يجوز للغير أن يحتج ضد التاجر بمحتوى محاسبته ولو لم تكن بصفة منتظمة"، وهذه ميزة حسنة للمشرع المغربي حتى لا يستثنى للتاجر الغير الممسوكة محاسبته بانتظام، أن يستفيد من إهماله ويعامل معاملة أحسن من التاجر الذي تقيد بمقتضيات قانون 88-9 المشار إليه، وفي هذا الإطار يستوي في ذلك أن يكون النزاع تجاريا أو مدنيا، مادام أن قوة الدليل مستنبطة من اعتراف التاجر على نفسه بواقعة معينة، ومن الثابت أيضا فقها وقضاءً أن أحق ما يؤاخذ به المرء هو شهادته على نفسه، وهذه الأخيرة المستمدة من وثائق التاجر المحاسبية باعتبارها إقرارا منه على صحة عملياته التجارية التي تقبل التجزئة وذلك طبقا لمقتضيات الفصل 414 من ق ل ع ، فمثلا إذا أبرمت صفقة ما بين تاجرين لا يجوز لأحدهما التمسك بما و رد في محاسبة التاجر الآخر عند تسلم البضاعة مثلا، وإهمال البيان الخاص بسداد ثمنها، وفي هذا الصدد ذهب القضاء المصري إلى أن الخصم لا يستطيع إذا أراد أن يستخلص من الدفاتر التجارية دليلا لنفسه أن يجزئ ما ورد فيها فيستبعد ما كان مناقضا لدعواه، ذلك أن الإثبات بالمحاسبة ليس قاطعا.
وبالتالي فإن للخصم أن يقيم الدليل العكسي وذلك بأية وسيلة من وسائل الإثبات، أخذا بعين الاعتبار مبدأ حرية إثبات في المادة التجارية، حيث يجوز نفي ما يثبت بالدفاتر التجارية لمصلحة المتمسك بها ضد خصمه بكافة طرق الإثبات .
كما تلعب الوثائق المحاسبة الممسوكة وفقا لمقتضيات القانون رقم 88-9 حجة أمام القضاء، لفض النزاعات التي قد تنشأ بين التاجر وبين إدارة الضرائب، ذلك أن المحاسبة المنتظمة الخالية من كل إخلالات أو إهمال وفقا لما تنص عليه المادة 22 من القانون رقم 88-9 المتعلق بالمحاسبة الواجب على التجار مسكها، ونفس المقتضى يستشف من مقتضيات المادة 23 لمفهوم المخالفة، تكون حجة لمصلحة التاجر في مواجهة إدارة الضرائب، وفي حالة إدعاء هذا الأخير العكس يجب عليها إثبات ذلك.
إلى جانب الدفاتر التجارية هناك مجموعة من الوثائق المحاسبة المساعدة التي يتعامل بها التاجر، وردت الإشارة إليها في المواد 417 و428 إلى 430، و439 من قانون الالتزامات والعقود .
وسنقتصر في عرضنا هذا على أهم هذه الوثائق المساعدة:
 التأشير على سند الدين: نصت المادة 439 من قانون الالتزامات والعقود على أن "التأشير من الدائن على سند الدين بما يفيد براءة الذمة ولو لم يكن موقعا منه أو مؤرخا، دليلا عليه ما لم يثبت العكس"، ويلاحظ من خلال هذا الفصل أن المشرع المغربي لم يستوجب توفر أي شرط شكلي في التأشير على سند الدين، حيث يتعين على الدائن المدعي بانشغال ذمة المدين إثبات ذلك.v
 الفاتورة: تعتبر الفاتورة وثيقة محاسبة مهمة في الإثبات لمصلحة التاجر الذي حررها، وإذا كان القانون التجاري المغربي القديم لسنة 1913 – الملغى- قد علق القوة الثبوتية للفاتورة بخصوص الأشرية والبيوع على شرط حملها صبغة القبول من طرف المدين الذي يواجه بها".v
فإن مدونة التجارة الجديدة لم تتضمن أية إشارة إلى القوة الثبوتية للفاتورة، وينص الفصل 417 من ق ل ع الذي ينص على انه "… ينتج الدليل الكتابي… ويمكن أن ينتج أيضا عن… والفواتير المقبولة" هو الحل الممكن فيما يخص حجية الفاتورة.
وبالرجوع إلى الاجتهاد القض ائي في هذا المجال نجده ذهب إلى أنه " … وحيث إن المحكمة بإطلاعها على الفاتورات المذكورة تبين لها أنها لا تحمل لا توقيع المدعي عليها ولا ختمها ولا أية تأشيرة تفيد تعلقها بها، وحيث إن المدعية لم تعزز هذه الفاتورات لا بأدنات طلب ولا بأية وثيقة أخرى، مما قضت معه المحكمة برفض طلب المدعية والحكم عليها بالصائر" . 
 كشف الحساب البنكي كوسيلة إثبات في العقود التجارية: في إطار المعاملات التي تربط بين الأبناك وزبنائها خاصة التجار منهم، تعمد الأبناك إلى فتح ما يسمى بالحساب الجاري، وتدون في هذا الأخير جميع العمليات المالية التي يقوم بها صاحب الحساب في قائمة الدائنية أو المديونية، تنتهي برصيد لصالح أحد طرفي العقد، وهذا ما يدفع بنا إلى التساؤل عن مدى حجية كشف الحساب البنكي في الإثبات، مادام عقد الحساب البنكي عقد تجاري بطبيعة.v
ولقد أشار المشرع المغربي في مدونة التجارة، خصوصا المادة 492 منها إلى كون كشف الحساب يعد وسيلة إثبات بين المؤسسة البنكية وزبونها، وفقا للشروط الواردة في المادة 106 من الظهير الشريف رقم 147-93-1 الصادر في 6 يوليوز 1993 المتعلق بنشاط مؤسسات الائتمان ومراقبتها.
ومن خلال المادة 106 من القا نون السالف الذكر، نجد المشرع وضع مجموعة من الضوابط يجب توفرها لاعتماد الحساب البنكي كوسيلة إثبات أمام القضاء بين البنوك وزبنائها، وتتلخص هذه المقتضيات فيما يلي:
1. أن يتم إعداد كشف الحساب من طرف المؤسسة البنكية وفقا للكيفية التي يحددها وإلى بنك المغرب، بعد موافقة لجنة مؤسسات الائتمان.
2. أن يكون النزاع بين البنك وأحد عملائه التجار.
3. ألا يكون هناك ما يثبت عكس ما يتضمنه كشف الحساب المتمسك به، من خلال هذه الشروط يتبين أن اعتماد كشف الحساب كوسيلة للإثبات أمام المحاكم التجارية، بين البنك وزبونه فيما قد ينشأ بينهما من نزاع، رهين بمدى توفر العميل على صفة تاجر، بالرغم من اعتبار العقود البنكية عقودا تجارية، تختص المحكمة التجارية بالنظر في النزاعات المرتبطة بها وفقا لأحكام المادة 5 من القانون المتعلق بالمحاكم التجارية.
على أنه من الناحية العملية، صدرت بعض الأحكام في هذا الشأن مخالفة لما ورد في مقتضيات المادة 106 من القانون المتعلق بنشاط مؤسسات الائتمان السالفة الذكر، لم يتم التميز بين العميل التاجر والعميل غير التاجر، فيما يتعلق بحجية كشف الحساب في الإثبات، حيث اعتبرت المحكمة التجارية بالدار البيضاء كشف الحساب المقدم من مؤسسة الائتمان (البنك) بصفته مدعى، كوسيلة إثبات لفض نزاع ناشئ بينه وبين زبون لا يتوفر على صفة تاجر
ولعل هذا ما يثير ملاحظة أساسية وهي خرق شرط أساسي متضمن في المادة السالفة الذكر، حيث إن دفع المدعى عليه باستبعاد اعتبار هذا الكشف الحسابي وسيلة إثبات، وعدم الاستجابة إلى هذا الطلب من شأنه أن يفرغ مقتضيات المادة 492 من مدونة التجارة المغربية ، والمادة 106 من القانون المتعلق بنشاط مؤسسات الائتمان ومراقبتها من مضمونها.
وهذا ما سيجعل مثل هذه الأحكام عرضة للنقض أمام المجلس الأعلى لخرقه القانون، وما يتبع ذلك من طول المسطرة، وعرقلة الحياة المهنية للتاجر.
كما أن تطور الوسائل المعلوماتية في اقتحامها النشاط التجاري والمالي، للمؤسسات البنكية والمالية وما صاحبه من إشكالات عملية فيما يخص الاستناد على هذه في وسائل الالكترونية في الأداء وحول قيمتها في الإثبات أمام القضاء.
إن أهم ما يميز هذه العمليات التجارية التي تتم بواسطة الوسائل الالكترونية كونها غير مادية، لأنها لا تكون موضوع تحرير سند كتابة مما يكون معه من الصعب إثباتها عند حدوث نزاع بين التجار، ونظرا أيضا لتعلق الإثبات بالوقائع القانونية، حيث إذا كانت مادية يجوز إثباتها أمام القضاء بطرق الإثبات المنصوص عليها في القانون، وأمام تطور استعمال الوسائل المعلوماتية في المعاملات التجارية وتنوعها أصبح يطرح الإشكال بخصوص إثبات هذا النوع من المعاملات التجارية، ومدى حجة هذه الوسائل في الإثبات.
يمكن تعريف التوقيع الالكتروني بأنه ذلك التوقيع الناتج عن إتباع إجراءات محددة تؤدي في النهاية إلى نتيجة معينة معروفة مسبقا، ويكون مجموع هذه العمليات هو البديل الحديث للتوقيع التقليدي اليدوي .
لقد اختلفت الآراء الفقهية حول حجية هذه الوسائل الالكترونية في الإثبات أمام القضاء، فبينما ذهب جانب من الفقه إلى تجريد هذه الوسائل من أية قيمة إثباتية لكونها لا تتطابق مع قواعد الإثبات القانونية ولا يمكن اعتبارها وسائل إثبات مكتوبة، فبينما ذهب جانب آخر من الفقه إلى اعتبار الوسائل الالكترونية ذات قيمة إثباتية أمام القضاء وإن كان أصحاب هذا الرأي الأخير قد اختلفوا حول الأسس القانونية التي يمكن الاعتماد عليها في هذا المجال، منهم من استند إلى أحكام المادة 417 من قانون الالتزامات والعقود، باعتبار أن المستندات المعلوماتية بداية حجة يمكن تعزيزها بوسائل إثبات أخرى كاليمين المتممة أ و شهادة الشهود.
غير أن استعمال الوسائل المعلوماتية في الإثبات أصبح ضرورة تقتضيها المعاملات التجارية الداخلية أو الدولية على حد سواء، نظرا لما توفر من مزايا في تسهيل الأداءات فإن حل هذا الإشكال يقتضي تدخل من المشرع بنص صريح لتحديد مدى القوة الثبوتية لنسخ المعلوماتية في الإثبات خصوصا في المادة التجارية، وذلك مواكبة لما سار عليه المشرع الفرنسي الذي جعل لنسخ المعلوماتية قوة ثبوتية في المعاملات التجارية شريطة أن تكون وفية للمضمون المسجل في الحاسوب وأن تكتسي طابع الديمومة
ومما لاشك فيه أنه سوف تطرح أمام القضاء المغربي قضايا من هذا النوع بحكم شيوع استخدام المعلوميات في الحقل التجاري خاصة في ظل العولمة وإكراهاتها، لذلك يبقى من الضروري أن يحضى التوقيع الالكتروني بالاعتراف له بالقوة الثبوتية كحجة للإثبات كحجة للإثبات إمام القضاء على غرار التوقيع اليدوي، خصوصا إذا علمنا أن هذا الأخير يمكن أن يشوبه التزوير أو التقليد
وهكذا إذا كانت المادة التجارية تخضع لمبدأ حرية الإثبات إلا أن هذا الأخير وردت عليه مجموعة من الاستثناءات، وذلك باشتراط الكتابة إما بنص القانون أو باتفاق الأطراف على ذلك وهذا ما سنتطرق إليه في المطلب الثاني.
المطلب الثاني: بعض الاستثناءات الواردة على هذه الوسائل
بالرجوع إلى مقتضيات المادة 448 من قانون الالتزامات والعقود والمادة 334 من مدونة التجارة نجد أن المشرع المغربي أقر صراحة مبدأ حرية الإثبات في المادة التجارية، حيث تنص المادة 448 من ق ل ع على أنه "… يقبل الإثبات بشهادة الشهود… بين التجار فيما يخص الصفقات التي لم تجر العادة بتطلب الدليل الكتابي لإثباتها"، وهذا نما يستشف منه مفهوم المخالفة أن هناك بعض الصفقات التي لابد من إثباتها كتابة، أما بخصوص المادة 334 من مدونة التجارة، فقد نصت على أنه "…غير أنه يتعين الإثبات بالكتابة إذا نص القانون أو الاتفاق على خلاف ذلك".
ومن خلال هذه المادة يتبين أن هناك استثناءً يرد على مبدأ حرية الإثبات وهو وجوب الكتابة في إبرام بعض العقود نظرا لأهميتها العملية وقيمتها المالية، كما أن مبدأ حرية الإثبات في المادة التجارية ليس من النظام العام، إذ أنه مبدأ مصدره الأعراف التجارية، ورغم التنصيص عليه صراحة في قانون التجارة، فهو ليس بقاعدة آمرة، بل يجوز لطرفي العقد الاتفاق على مخالفته وذلك بأن يشترطا ضرورة صدور عقد في شكل كتابي من أجل تجنب المشاكل التي يمكن أن تترتب عن عدم وجود الدليل الكتابي، كحجة تسهل وظيفة القاضي في البت في النزاع بسرعة ودقة.
قلنا سابقا أن الإثبات حر في الميدان التجاري، وذلك لما تتطلبه التجارة من ثقة وسرعة وائتمان، لكن هذا لا يمنع من إبرام بعض العقود كتابة كما هو الشأن بالنسبة للعقود البحرية، ومن بينها إيجار السفينة الذي هو عقد بمقتضاه يلتزم المؤجر مقابل أجرة، بان يضع تحت تصرف المستأجر سفينة معينة أو جزء منها، ولقد اشترط المشرع المغربي كتابة عقد إيجار السفينة وتقييدها في سجل خاص بها، إذا كانت مدة الإيجار تزيد عن سنة، حيث يحتج بهذا التسجيل على مشتري السفينة، ويلاحظ أن المشرع لم ينص على شكل معين لإثبات العقد، بل اشترط الكتابة فقط، ونعتقد أن ضرورة ورود هذا العقد في شكل كتابي له أهمية من الناحية العملية نظرا لقيمة السفينة كمال منقول، ولدورها الهام في عقود النقل البحرية، كعقود تجارية، كما أن عقد رهن السفينة يسجل في سجل الخاص بها وتبقى حيازتها للمالك الأصلي، ويوضح خصوصية القانون البحري، ذلك أنه جانب الشروط اللازمة لكل عقد من أهلية ورضى، ومحل وسبب، فإن إبرام عقد رهن السفينة يشترط فيه توفر الشكل الكتابي للعقد سواء كانت الكتابية رسمية أو عرفية حس ب مقتضيات الفصل 83 من مدونة التجارة البحرية، والمادة 75 من مشروع المدونة البحرية ويتم تسجيل هذا الرهن في سجلين أحدهما خاص بمصالح الملاحة البحرية بميناء التسجيل أو بميناء البناء، إذا كانت السفينة قيد الإنشاء، والآخر خاص بمحافظ الرهون بمديرية الملاحة التجارية.
كما أن نقل ملكية السفينة بين المتعاقدين أو بالنسبة للغير لا يتم إلا بعد تسجيلها في سجل السفن الذي تمسكه مصلحة الملاحة في ميناء كل مقر قيادة بحرية رئيسية أو فرعية هو إجراء إداري يعطي للسفينة الحق في حمل الراية المغربية التي تعبر عن وجود رابطة قانونية جوهرية بينها وبين الدولة التي تحمل جنسيتها، ثم بعد ذلك يجب تسجيل كافة البيانات المتعلقة بالسفينة لدى المصالح المركزية لوزارة الملاحة التجارية أو الصيد البحري
المبحث الثاني: مبدأ حرية الإثبات في ظل الاجتهاد القضائي
مر بنا أن المبدأ المعمول به في المادة التجارية هو حرية الإثبات أمام القضاء، غير أن هذا المبدأ يطرح مجموعة من الإشكاليات العملية أمام القضاء خاصة عندما تكون الوسائل المتمسك بها غير مستوفية لشروط التي يتطلبها القانون، وأيضا في الحالة التي تكون فيها المنازعة ذات طبيعة مختلطة فما هو موقف الق ضاء من هذه الإشكاليات.
المطلب الأول: سلطة القضاء التجاري في التعامل مع وسائل الإثبات
تمت الإشارة إلى أن دور الوثائق المحاسبة المنتظمة في الإثبات أمام القضاء التجاري، لكن هذا لا يعني مطلقا أن هذه الوثائق متى كانت مستوفية للشروط السالف ذكرها، تلزم المحكمة، بل يمكن لهذه الأخيرة أن ترفض هذه الوثائق في حالة وجود دليل آخر أقوى منها، مما يستشف معه أن للقاضي سلطة تقديرية واسعة في التعامل مع مبدأ حرية الإثبات المعمول به في المجال التجاري، وهذا ما يستنبط من خلال مقتضيات المادة 19 من مدونة التجارة المغربية في فقرتها الثانية "… إذا كانت تلك المحاسبة ممسوكة بانتظام فإنها تكون مقبولة أمام القضاء كوسيلة إثبات بين التجار في الأعمال المرتبطة بتجارتهم"، مما يلاحظ معه أن الصيغة التي وردت بها هذه المادة تفيد الجواز وليس الوجوب، دون الإشارة إلى إلزام القاضي بالأخذ بها.
غير أن استبعاد القاضي للوثائق المحاسبة في الإثبات أمامه، يستدعي تعليل قراره الرافض للأخذ بهذه الوسائل كوسيلة إثبات، إذا تمسك بها التجار، حيث أن انعدام التعليل في هذه الحالة يعرض قراره للنقض أمام المجلس الأعلى، باعتباره محكمة قانون، لذلك إن إعراض قاضي ال موضوع عن التقدير الشامل لكل ما يعرض عليه من عناصر الإثبات، وغموض الأسباب التي بني عليها حكمه بشكل لا يساعد على معرفة ما إذا كان قد استند في الحكم على أسباب واقعية أو قانونية تعتبر صورة لانعدام الأساس القانوني للحكم كسبب من أسباب الطعن بالنقض .
وهكذا إذا كانت المادة 492 من مدونة التجارة حددت الشروط الواجب توافرها في كشف الحساب كوسيلة إثبات أمام القضاء، فإن توفر هذه الشروط، لا يلزم القاضي تلقائيا بالأخذ بها كوسيلة لفض جميع المنازعات الناشئة بين البنوك وزبنائها، ذلك أنه رغم النظر في المنازعات المتعلقة بالعقود البنكية مثلا كعقود تجارية تختص بها المحكمة التجارية، إنه يجب التمييز بين العميل التاجر وغير التاجر لكن ما يلاحظ على القضاء التجاري بالمغرب، هو اعتماده كشف الحساب البنكي كوسيلة إثبات، بغض النظر عن صفة العميل، وهذا ما يستوجب إعادة النظر في مثل هذه الأحكام نظرا لكون العقود ذات الطبيعة المختلطة تخضع لنظام إثبات مزدوج.
كما أن المشرع المصري سار في نفس الاتجاه، حيث هو الآخر منح للقاضي سلطة تقديرية في التعامل مع وسائل الإثبات في المادة التجارية، ذلك أن الإثبات بالبينة والقرائن في المسائل التجارية أمر جوازي ل لقاضي، كما هو شأن الإثبات في أية مسألة أخرى، فله سلطة تقديرية في رفض الإثبات بالبينة والقرائن إذا رأى أن الإثبات بهما غير مستساغ، وبالتالي تعتبر البينة والقرائن في بعض الحالات بداية حجة قد يرى القاضي ضرورة تعزيزها بالكتابة (بما هو مدون في الدفاتر التجارية خاصة)، لاسيما إذا كانت التصرفات المراد إثباتها ذات قيمة كبيرة ومن الصعب ضبطها بدون كتابة، وهكذا فالقاضي التجاري المصري يقدر ما إذا كانت البينة المقدمة للإثبات كافية لإقناعه بصحة الواقعة المدعى بها ، ويجوز لأطراف الدعوى أن يتفقوا على أن يكون الإثبات فيما بينهم في المسائل التجارية بالكتابة من أجل تجنب ما قد يطرح بينهما من نزاع، قد يعرقل سير عملياتهم التجارية.
كما يجوز للمحكمة التجارية أن تأمر بتقديم الوثائق المحاسبة أو بالإطلاع عليها، ذلك أنه برجوع إلى مقتضيات المادتين 22 و24 من مدونة التجارة المغربية يثبت أنه للمحكمة حق الأمر بتقديم الوثائق المحاسبية أو الأمر بالإطلاع عليها.
بالرجوع إلى المادة 23 من مدونة التجارة المغربية، نجد أنها عرفت التقديم (أو كما يطلق عليه بعض الفقه بالإطلاع الجزئي، أي استخراج المحررات التي تهم فقط النزاع المعروض على المحكمة وعدم تجاوز ذلك) ويجوز للمحكمة في هذا الإطار أن تأمر بالتقديم الوثائق تلقائيا أو بناءً على طلب من أحد الأطراف كما توحي بذلك المادة 22 من مدونة التجارة، ومن هذا المنطلق تبقى للمحكمة السلطة التقديرية في الاستجابة إلى طلب خصم التاجر بتقديم دفاتر خصمه، ما لم يدعم طلبه بمستندات قوية بشكل يجعل المحكمة مقتنعة بوجود دلائل قوية في الدفاتر التجارية قد تؤيد مزاعم الخصم، وذلك من اجل تجنب الدعاوى الكيدية التي لا يستهدف من ورائها صاحبها إلا النيل من سمعة التاجر الخصم وإغراقه المحاكم التجارية سيل من الدعاوى، خصوصا ونحن نعلم تشعب القضايا التجارية، وكذلك حفاظا على أسرار التاجر المهنية خصوصا في بعض الأنشطة التقنية وتجنب للمنافسة الغير المشروعة.
كما أن المادة 25 من مدونة التجارة جعلت من رفض التاجر تقديم محاسبة المتعلقة بمعاملاته التجارية، بمثابة إقرار ضمني منه على صحة ما يدعيه خصمه، وبذلك يكون المشرع قد أحسن صنعا بمعاملته التاجر سيء النية الذي يمتنع عن تقديم دفاتره المحاسبية بنقيض قصده، وتبقى للقاضي في هذه النقطة سلطة الاعتماد على وسيلة إثبات أخرى من أجل فض النزاع، كتوجيه اليمين المتممة للخصم الآخر لتعزيز إدعاءاته، وهذا ما يطرح العديد من الإشكاليات فيما يخص اللجوء إلى الحكم التمهيدي في توجيه اليمين المتممة، وهذا من شأنه المس بمبدأ السرعة التي تتطلبها الحياة التجارية بشكل عام.
الأمر بالإطلاع على الوثائق المحاسبية
نصت المادة 24 من مدونة التجارة على أنه "الإطلاع هو العرض الكامل للوثائق المحاسبية، وفي هذا الأمر إجبار للتاجر بتسليم وثائقه المحاسبية للقضاء، ليسلمها على الخصم، ليستنبط منها هذا الأخير ما يؤيد دعواه، شريطة توفر ضرورة تقتضي هذا الإطلاع، وقد يكون هذا الإطلاع إما بأمر من القاضي أو بطلب من أحد الخصوم، أثناء النزاع المعروض على المحكمة أو حتى قبل وقوعه، هذا وإذا كانت بعض القوانين المقارنة كالتشريع المصري لم تبين طريقة الإطلاع على الوثائق المحاسبة للتاجر، فإن المشرع المغربي لأطراف النزاع اختيار طريقة الإطلاع، وفي حالة عدم اتفاقهما على طريقة موحدة، فإن إيداع هذه الوثائق يكون بكتابة الضبط المحكمة المختصة للنظر في النزاع.
لكن ما يثير الانتباه هو أن إطلاع الخصم على دفاتر خصمه التجارية، يعد إجراء خطير يمس بمبدأ أسرار تجارة خصمه، ذلك بإطلاعه على محاسبته وماليته، وأرباحه وخسائره، وموردي السلع، والأشخاص المتعاملين معه في الحقل التجاري، مما قد يعرض مصالح الخصم لأضرار فادحة (كالمنافسة غير المشروعة، واستمالة الزبائن بطريقة غير مباشرة) لذلك يبقى الإطلاع إجراءا استثنائيا حيث إن الضرورة يجب أن تقدر بقدرها، وهذا ما دفع بالمشرع المغربي إلى حصر حالات الإطلاع على الوثائق المحاسبة والاستثناء لا يجوز التوسع فيه، ولا يقاس عليه
حالة التركة: إذا وقع خلاف بين الورثة التاجر المتوفى، فيما يخص نصيب كل واحد منهم من تركة مورثهم، وكانت الوثائق المحاسبية للتاجر الهالك في حوزة أحد منهم، فإنه يبقى لكل وارث أن يطلب من القضاء الاطلاع على محاسبة التاجر لمعرفة نصيبه من التركة، وحتى يتمكن من الإطلاع على التصرفات التي قام بها التاجر المتوفى أثناء مرض الموت، ومن تم الطعن فيها أمام القضاء، ويذهب أغلب الفقه إلى أن حق الإطلاع في هذه الحالة مقتصر على الورثة والموصى لهم دون غيرهم من الدائنين ما دام لهؤلاء حق طلب تقديم هذه الوثائق أما المحكمة إذا ما عرض عليها النزاع.
حالة القسمة: غالبا ما نجد أن القسمة في المادة التجارية تنصب على الشركات التجارية بعد تصفيتها، حيث يحق لكل شريك في هذه الحالة اللجوء إلى المحكمة لاستصدار أمر بالاطلاع على الوثائق المحاسبة للشر كة المعنية بالأمر حتى يتسنى لها معرفة نصيبه من ناتج تصفية الشركة، وفي هذا الصدد ينص الفصل 1077 من ق ل ع على أن "يجب على المصفي أن يقدم للمالكين على الشياع أو الشركاء بناءً على طلب أي منهم البيانات الكاملة في حالة التصفية وأن يضع تحت تصرفهم الدفاتر والمستندات المتعلقة بأعمال الشركة".
وفي هذا الإطار سار جانب من الفقه المصري على أنه بالنسبة للأموال المشاعة التي يحق للقاضي الأمر بتقديم الدفاتر التجارية للإطلاع عليها، ولا يقتصر على الأموال المملوكة على الشياع بين الشركاء في شركة تجارية، وإنما اختلاط أموال التاجر وزوجته، إذا تم الزواج على هذا المقتضى، ذلك أنه في حالة وقوع طلاق أو وفاة بين الزوجين، ولزمت التصفية يجوز للمحكمة أن تأمر بإطلاع الزوجة أو ورثتها، أو الزوج أو ورثته على الدفاتر ليتسنى لكل واحد معرفة نصيبه من الأموال المشتركة
حالة التسوية أو التصفية القضائية: تلعب الوثائق المحاسبية دورا مهاما في إثبات الوضعية المالية والاقتصادية للمقاولة الخاضعة لمسطرة التسوية القضائية والتصفية القضائية، حيث إنها تمكن المحكمة من معرفة الحجم المالي للمقاولة المعنية وذلك بالاستناد إلى لائحة الدائنين والمدينين وجرد كل الأموال المنقولة وغير المنقولة للمقاولة.
في هذا الإطار يجوز لسنديك التصرف باسم الدائنين ولفائدتهم كأن يطلب الاطلاع على الوثائق المحاسبية للمقاولة المدينة، كما أن السنديك وحده الصفة لتصرف باسم الدائنين ولفائدتهم مع مراعاة الحقوق المعترف بها للمراقبين، كما يجب على السنديك أن يعيد فورا إلى رئيس المقاولة كل الرسائل التي لها طابع شخصي، كما أن له الحق في مطالبة رئيس المقاولة أو من كل أحد من الغير الحائز على الوثائق والدفاتر المحاسبية بتقديمها إليه قصد دراستها
كما يحق للمراقبين وممثلي الدائنين إذا تم تعينهم الاطلاع على الوثائق المحاسبية الخاصة بالمقاولة الموجودة في حالة صعوبة وفقا لمقتضيات المادة 645 من مدونة التجارة.
حالة اشتراك الوثائق المحاسبية بين الأطراف: يظهر من خلال تحليل المادة 24 من مدونة التجارة المغربية أنها جاءت مبهمة ولم توضح المقصود بالاشتراك الوثائق المحاسبية بين الأطراف، ذلك أنه إذا كان المشرع المغربي استقى هاته القاعدة عن المشرع الفرنسي فإن هذا الأخير يعتمد على نظام اختلاط أموال الزوجين، أما بالنسبة للمغرب فقد ورد في المادة 49 من مدونة الأسرة أن لكل واحد من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن ذمة الآخر، غير أنه يجوز لهما في إطار تدبير الأموال التي تكتسب أثناء قيام الزوجين واتفاق على استثمارها وتوزيعها دون تحديد إطار واضح المعالم في طريقة تدبير هذه الأموال خصوصا إذا كان كل من الزوجين تاجرا.
ونعتقد أن هذه الحالة من باب الحشو إذ كان على المشرع الاكتفاء بالحالات المشار إليها سابقا.
إذا كان – كما سبقت الإشارة إلى ذلك- مبدأ حرية الإثبات هو السائد في المادة التجارية فكيف يتم الإثبات في العمل المختلط.

المطلب الثاني: إشكالية الإثبات في العمل المختلط
نعلم أن مبدأ تقنين الإثبات في المادة المدنية هو الذي يحكم هذه الأخيرة، وفقا لمقتضيات المادة 443 من قانون الالتزامات والعقود، ولعل ما يثير الانتباه هو أن هنا المبدأ يواجه به التاجر أمام القضاء في النزاعات ذات الطبيعة المختلطة، كالنزاع الذي يثور بين مزارع وتاجر الحبوب الذي يقتني المواد بنية بيعها ويضارب على الربح، وإن كان المزارع في وقتنا الحالي يعتمد على شراء أساليب متطورة (استعمال الأسمدة، البذور المنتقاة) المضاربة على وسائل الإنتاج مما يستوجب اعتبار نشاطه هذا نشاطا تجاريا وفقا لنظرية القياس القائمة على معايير قانونية (نظرية المشروع) أو المق اولة، والعبرة هنا بطبيعة النزاع لا بنوع المحكمة المعروض عليها، وهذا من شأنه أن يعطل أمد النزاع أمام القضاء إذ أن هذا يتعارض مع ما تقتضيه التجارة من سرعة وثقة وائتمان، إذ أن اشتراط الدليل الكتابي في المعاملات التي تزيد قيمتها على 250 درهم، يبقى في نظرنا شرطا مجحفا في حق التاجر، ذلك أن هذا المبلغ هو ذو قيمة زهيدة في عصرنا الحاضر، إذ العديد من التجار يبرمون عقودا مع غيرهم من الأشخاص المدينين دون تحريرها، إذ أن التاجر يضارب من أجل إبرام أكثر عدد من الصفقات في وقت وجيز، مما يستدعي معه إعادة النظر في مقتضيات المادة 443 من ق ل ع.
حيث أن خضوع الإثبات في المنازعات ذات الطبيعة المختلطة لمعيار مزدوج، يخدم مصالح الطرف المدني، أكثر من الطرف الذي يعد العمل بالنسبة إليه تجاريا، حيث يجوز للطرف المدني اللجوء إلى جميع الوسائل الإثبات في مواجهة خصمه التاجر، في الوقت الذي يلزم فيه هذا الأخير بالدليل الكتابي كلما تجاوز قيمة الدعوى المبلغ المشار إليه أعلاه.
من خلال ما تمت الإشارة إليه سلفا، يتبين أن إقرار المشرع لقواعد إثبات ذات طبيعة مزدوجة، في الأعمال المختلطة له ما يبرره في نظر المشرع، الذي يستهدف إقرار حماية للطرف المدن ي حتى لا يعامل بقواعد الإثبات خصمه التاجر.
استثناءا مما سبق، يمكن للطرف الذي يعد العمل تجاريا بالنسبة إليه، إقامة الدليل أمام القضاء بكافة وسائل الإثبات، بما في ذلك شهادة الشهود، حتى ولو تجاوز مبلغ الدعوى 250 
رهما، وهذا من شأنه تخفيف عبء الإثبات عن الطرف التاجر، إذ يمكنه في حالة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي (كسرقة هذه الأوراق أو تلفها، كما يمكن الاعتماد على الأعراف التجارية في إبرام بعض الصفقات التي لا تتطلب دليلا كتابيا لإثباتها وفقا لما نص عليه المشرع المغربي في المادة 448 من ق ل ع.
كما أن إثبات الرهن الحيازي التجاري يخضع لمبدأ حرية الإثبات سواء كان خصم التاجر مدنيا أو تاجرا ومهما كانت قيمة هذا الرهن، وهذا ما تنص عليه المادة 338 من مدونة التجارة المغربية والتي أحالت على مقتضيات المادة 334 من نفس القانون (أي مبدأ حرية الإثبات)، بذلك أن الرهن الحيازي المتعلق بضمان معاملة تجارية يعد رهنا تجاريا، كالتاجر الذي يرهن أصله التجاري من أجل اقتراض مبلغ من المال من طرف غير تاجر، فلا يمكن القول أن هذا الرهن ذو طبيعة مختلطة، ولو كان مبلغ القرض يفوق 250 درهم

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى