بحوث قانونيةفي الواجهةمقالات قانونية

الإصلاح الجبائي في النموذج التنموي رافعة لتشجيع الاستثمار وتحقيق التنمية المستدامة ذ. الحسن المير

الإصلاح الجبائي في النموذج التنموي رافعة لتشجيع الاستثمار وتحقيق التنمية المستدامة

ذ. الحسن المير

دكتور في القانون العام والعلوم السياسية

مقدمة:

إن الارتباط الوثيق بين التنمية والضريبة يجعلهما على صلة مترابطة في سبيل بناء تفاعل واقعي وإصلاحي بين المنظومتين، يستمد قوته من معالجة كافة الاختلالات والمعضلات التي تعرفها منظومتي التنمية والضريبة، وكذا من خلال توجيه أهداف الضريبة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية باعتبارها أحد أهم وسائل السياسة المالية للدولة، سواء تعلق الأمر بالتوزيع العادل للدخل الوطني أو عن طريق العدالة الضريبية بداية من فرضها إلى اقتطاعها وتحصيلها وفق أساس وقواعد عامة تحقق ذلك أو من خلال مساهمة الجميع في عملية التنمية بشكل عادي كمفهوم واسع للعدالة الاجتماعية، حيث يتحقق ذلك من خلال مساهمة الحصيلة المالية للضرائب في النفقات العامة واستخدام تلك الحصيلة في سيادة الاستثمارات وإنشاء المرافق العامة والمؤسسات التعليمية مما يؤدي إلى خلق فرص عمل والحد من البطالة ويساهم في زيادة الأجور وتحديد السياسات لدعم للفئات المحرومة والهشة.

فلقد ظهرت الحاجة إلى نموذج أمثل قادر على تحقيق التنمية عقب الحرب العالمية الثانية نتيجة للحاجة السياسية لخلق نوع من التمايز النظري في عالم الثنائية القطبية، وتم استخدام هذا التمييز كأساس لتقسيم دول العالم بين القطبين الكبيرين حينذاك، وأنتجت كما هائلا من النظريات التي تضع منهجا وقالبا لطريق التنمية، وافترقت هذه النظريات بالأساس وفقا للمعيارين الاقتصادي والسياسي حيث نجد النظريات الليبرالية والرأسمالية، التي تعتقد في قيادة القطاع الخاص للتنمية مقابل للدور المحدود للدولة، وهناك أيضا النظريات التي تنطلق من مسألة التوازن بين الدولة والمجتمع وتنبني على ترتيب طبيعة العلاقة بينهما وتقسيم الأدوار بين دولة قوية ومجتمع قوي، بينما طرحت نظريات أخرى مفهوم الحكامة ووضعت بعد ذلك المعايير التي تقيم الأداء الحكومي، مثل الشفافية والمساءلة والمحاسبة والتقييم والمراقبة والكفاءة.

ومنذ بدايات ثمانينات القرن الماضي، بدأ العالم يصحو على ضجيج العديد من المشكلات البيئية الخطيرة التي باتت تهدد أشكال الحياة فوق كوكب الأرض، فكان لابد من إيجاد فلسفة تنموية جديدة تساعد في التغلب على المشكلات التي يواجهها المجتمع الدولي، وهنا تبلور مفهوم التنمية المستدامة والذي ظهر في تقرير لجنة العالمية للبيئة والتنمية الصادر عام 1987، حيث التنمية المستدامة بأنها تنمية وتلبية حاجات الحاضر دون الحد من قدرة الأجيال المستقبلية على تلبية حاجتها، من خلال استخدام المستدام للموارد الطبيعية جانبا إلى جنب مع النمو الاقتصادي والانسجام الاجتماعي، كما يشترط في التنمية المستدامة الحرص على عدم تناقص الرصيد الأساسي من الموارد البيئية للمجتمع أو الدولة مع مرور الوقت.

وخلال سنة 2000 اتفقت الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة على تحقيق ما يسمى: “بالأهداف الإنمائية للألفية” بحلول سنة 2015 وتتمثل في ثمانية أهداف وهي: القضاء على الفقر المدقع والجوع ويتضمن هذا الهدف تخفيض نسبة السكان الذين يقل دخلهم اليوم عن دولار واحد إلى النصف وكذلك توفير العمالة الكاملة والمنتجة والعمل اللائق للجميع وتخفيض نسبة السكان الذين يعانون من الجوع إلى النصف في الفترة الممتدة ما بين 1990 و2015، تحقيق تعميم التعليم الابتدائي كفالة تمكن الأطفال في كل مكان سواء كانوا ذكورا أو إناثا من إتمام مرحلة التعليم الابتدائي بحلول عام 2015، تقليل وفيات الأطفال ويتضمن هذا الهدف تعميم إتاحة خدمات الصحة الإنجابية بحلول سنة 2015 تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة وتحسين صحة الأمهات ومكافحة الايدز والملاريا وأمراضا أخرى، وضمان الاستدامة البيئية ثم إقامة شراكة عالمية من أجل التنمية ويشمل هذا الهدف إقامة نظام تجاري ومالي يتصف بالانفتاح والتقييد بالقواعد والقابلية للتنبؤ به وعدم التمييز ومساعدة الدول الأقل نمو ووضع برنامج لتخفيف عبئ الديون على تلك الدول.

اتفقت الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة في قرار الجمعية العامة بتاريخ 25 شتنبر2015 وبعد ذلك في فاتح يناير2016 على ما سمي أهداف التنمية المستدامة والمعروفة رسميا باسم “تحويل عالمنا” وأدرجت في خطة التنمية المستدامة لعام 2030 وهي 17 هدفا:

“القضاء على الفقر التام على الجوع الصحة الجيدة التعليم الجيد، المساواة بين الجنسين، المياه النظيفة، الطاقة النظيفة، العمل اللائق، النمو الاقتصادي، الصناعة والابتكار والبنية التحتية، الحد من أوجه عدم المساواة، مدن ومجتمعات محلية مستدامة، الاستهلاك والإنتاج المسؤولان، العمل المناخي، الحياة تحت الماء والحياة في البر، السلام والعدالة والمؤسسات القوية”.

وهناك 169 غاية للأهداف 17 كل هدف يقابله من واحد إلى ثلاثة من المؤشرات المستخدمة لقياس التقدم المحرز مع وجود 340 تقيس لمستوى الامتثال.

واعتبارا للسياق الدولي الذي يعرفه موضوع التنمية المستدامة، ومن منطلق النموذج التنموي الذي يعد إطارا عاما يؤدي في نهاية المطاف إلى إنجاح عملية التنمية بشكلها العام والشمولي، حيث يفترض تدخل كل المؤثرين والفاعلين في السياسات العمومية وتجسيده من خلال برامج تنموية ملموسة على أرض الواقع، وهنا تشكل الخطب الملكية الخطوط العريضة لسياسة النموذج التنموي، وكذا في تحديد السبل الكفيلة لتدبير القضايا التنموية المرتبطة بها.

ونظريا فمصطلح النموذج التنموي قد يعني من جهة الميزة أو المميزات التنموية لبلد ما أو منطقة معينة، كما قد يعني من جهة أخرى التركيب الذي ينبني عليها مسلسل التنمية بحيث يكون منطلقا وأرضية ناجعة لإبداع الصيغة الملائمة لمعادلة النمو والتنمية، وضمان التفاعل الإيجابي بين مستويات التطور الكمي للاقتصاد الوطني ومستويات التغيير النوعي في البنية الاجتماعية، وبمقتضى هذا الأمر يتم رفع الالتباس الحاصل والتمييز بين نموذج النمو المتجسد في الرفع من المداخيل القابلة للتوزيع باعتبار تطور الناتج الداخلي الخام ونجاح نماذج التنمية المتمثلة في الترجمة الاجتماعية للمجهود الاقتصادي المقترنة بمؤشرات متعددة من قبيل أمد الحياة والولوج إلى التربية وضعية حقوق الإنسان والوضع البيئي وغيرهم.

على العموم فإن النموذج التنموي يعبر عن مجهودات الدولة لتحقيق التنمية، والتقدم والرفاه ورفع الطاقة الإنتاجية وزيادة حجم الناتج الداخلي الخام، وهو لا يقتصر على السياسات الاقتصادية الصرفة التي تعتبر أساس النماذج التنموية الكبرى وإنما يطال أيضا السياسات الاجتماعية والبيئية التي تعتبر مستويات متقدمة للتنمية، وأصبحت مرتبطة بالتنمية الاقتصادية لشموليتها في الوقت الراهن.

لقد رصدت مجموعة من الخطب والتقارير الصادرة عن المؤسسات الدستورية من قبيل المؤسسة الملكية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وكذا الدراسات والأبحاث الصادرة عن اللجنة المكلفة بصياغة مشروع النموذج التنموي والمندوبية السامية للتخطيط، عن وضعية النموذج التنموي القائم بالرغم من التطور الحاصل على مستوى النموذج الاقتصادي، فإن النموذج التنموي المغربي يقول الملك محمد السادس: “أصبح اليوم غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية“. وعلى هذا الأساس وبغية تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ينبغي أن يتوجه النموذج التنموي الجديد نحو إعادة الأولويات الوطنية بطريقة متدرجة تمكن من الانتقال من اعتماد آليات للدعم الاجتماعي إلى إقرار منظومة للحماية الاجتماعية.

إن النموذج التنموي الحالي – بحسب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي – لم يعد قادرا على إحداث تطوير مضطرد للنشاط الاقتصادي بحيث يسمح بخلق الثروة وتداولها، فإلى جانب ضعف وتيرة النمو خلال السنوات الأخير فإن جودة هذا النمو كانت غير كافية كما يتبين من بطء التحول الهيكلي للاقتصاد.

فعلى الرغم من الجهود المبذولة في مختلف الاستراتيجيات القطاعية التي سمحت بالنهوض بعدد محدود من القطاعات صناعة السيارات الطيران مشتقات الفوسفاط، فإن تطور الإنتاجية يظل محدودا إذ لا يزال النمو معتمدا على الفلاحة والحال أنها خاضعة دائما للتقلبات المناخية، كما أن الاقتصاد المغربي يتسم بهيمنة القطاع الثالث – قطاع الخدمات – إلا أن هذا القطاع تغلب عليه الخدمات ذات القيمة المضافة المنخفضة.

ويشكل الاستثمار نوعا من أنواع إنتاج الثروة التي تنبني على توظيف المدخرات المالية من أجل تحصيل الأرباح والمساعدة في إعادة إنتاج القيمة المضافة للمجتمع، وهو الرافعة الأساسية لكل بناء اقتصادي. ومن هنا نساءل السياسة التدبيرية للتحفيزات الجبائية ومدى توسيع الموارد الضريبية خدمة للاستثمار وتحقيقا للتنمية المستدامة.

المحور الأول: أية سياسية تدبیریة فعالة للتحفيزات الجبائية؟

بحسب تصريح السيد وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة بمناسبة تقديم مشروع القانون الإطار للإصلاح الجبائي، فإن ارتباط الاختلالات والنواقص التي تحد من فعالية وعدالة النظام الضريبي المغربي تعود بالأساس إلى ظاهرة من خلال تقارير المؤسسات الدستورية أو الفاعلين الاقتصاديين أو المواطن بصفة عامة، وهي مسألة النفقات الجبائية حيث أن كثرة التحفيزات الضريبية وانعدام وسائل ناجعة لتقييمها يؤثر سلبا على خزينة الدولة، بل ويحدث ضررا بقواعد المنافسة الحرة كما يتنافى مع مبدأ المساواة أمام الضريبة.

ومن جهته يرى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بضرورة مراجعة شروط إرساء التدابير التحفيزية بما فيها تلك الموجهة للاستثمار، وعليه من أجل الحد من تفشي ظاهرة الريع وتجنب الانعكاسات السلبية التي تحول دون تحقيق ديناميكية حقيقية للتنمية يقترح المجلس وضع إطار صارم وشقيق يتيح توجيه الامتيازات الضريبية بطريقة مضبوطة نحو الأنشطة المحدثة لفرص الشغل اللائق وبأعداد مهمة والمولدة للقيمة المضافة الوطنية المستدامة والتي يمكن قياس فعاليتها و تأثيرها.

كما ينبغي أن يمكن هذا الإطار من تقديم تدابير الدعم المبررة بناء على طبيعتها في شكل إعانات مالية من الميزانية العامة للدولة، والتي يتعين تطويرها قبل اللجوء إلى الدعم عن طريق المنظومة الجبائية، وبالنسبة لجميع أوجه الدعم سواء المخصص من الميزانية العامة أو الصبغة الضريبية فإن التحليل السليم والقبلي لتأثيرات هذا الدعم يعد أمرا حتميا، وينبغي أن يصبح قياس التأثير الحقيقي، ومن تم التثبت ما مدى تحقيق الأهداف الاستراتيجية المسطرة والمحددة بالأرقام حسب كل سنة وليس في نهاية الفترة المشمولة بالدعم، کشرط أساسي لاتخاذ قرار الإبقاء أو التخلي عن التدبير التحفيزي المشروط، ويتعين تقييم تلك الآثارعلى تحسين إنتاج القيمة وخلق فرص الشغل والتحول الإيكولوجي والرقمي للمجتمع وتعزيز القدرات البشرية مع توسيع نطاق الاقتصاد الاجتماعي، حيث يجب أن تهم عملية تقييم وقياس تأثير الأضرار المحتملة التي قد يلحقها مقتضى ضريبي معين بقطاعات أخرى.

وفي ضوء الإصلاح الضريبي المنشود يبقى من الضروري الوقوف عند الاستثناءات الضريبية والنفقات الجبائية لكي يتم تنقيحها والإبقاء فقط على تلك التي تستجيب للمعايير المحددة سلفا، والتي تثبت جدواها الاقتصادية أو الاجتماعية القابلة للقياس مع ضرورة التخلي عن الاستثناءات والامتيازات الضريبية الأخرى جديدة من الريع.

ومن أجل تدبير أفضل للنفقات الجبائية، يوصي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بضرورة افتحاص جميع النفقات الجبائية وتمحيصها وتقييم نجاعتها وتحديد المدة الزمنية اللازمة للجوء إليها مع احترام المبادئ الأساسية التالية :

  • تقييم التحفيزات الجبائية بشكل قبلي قبل دخولها حيز التنفيذ.
  • اعتماد آليات لقياس التأثير والتقييم في ضوء الأهداف المسطرة بمجرد اعتماد تحفيزات الجبائية.
  • ضمان تحقيق الأهداف المنشودة من تقدير التحفيزات الجبائية المشمولة بالتنفيذ كمرحله بعدية.

أما فيما يتعلق بمنظور اللجنة الخاصة للنموذج التنموي فهي ترى بأن النظام الضريبي المغربي يجب أن يكون مصدرا مهما من مصادر تمويل مشاريع النموذج التنموي الجديد عبر تعبئة كامل الإمكانات الضريبية للاقتصاد الوطني من أجل تصحيح تفاوتات التوزيع الأولي للثروات والدخل ودعم القدرة الشرائية للمغاربة وتعزيز القدرة التنافسية للمقاولات مع التوجيه المكثف للادخار الوطني الخاص والمؤسسات نحو الاقتصاد المنتج والسلاسل المستقبلية مع ضمان شفافة تعزز الثقة في النظام الضريبي.

فالتحفيرات الجبائية بحسب منظور اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي لا تشجع بما فيه الكفاية على خلق المقاولات والابتكار والبحث العلمي والتحول الايكولوجي بالرغم من أن تكلفتها في الميزانية العامة للدولة تبلغ حوالي 3 % من الناتج الداخلي الخام -وهي بالمناسبة القيمة التمويلية التقريبية التي يطمح مشروع النموذج التنموي الجديد لتعبئتها بقصد تمويل تنزيل مشروع النموذج التنموي بصفة سنوية.

كما أن غياب تقييم أثر هذه التحفيزات يمكن أن يشكل فرصا لجني منافع استثنائية من شأنها تغذية حالات الريع، كما أن التحفيزات الضريبية في المجال الاجتماعي ليست معبئة بشكل كافي من أجل تقليص الفوارق عبر التمويل الخدمات العمومية والحماية الاجتماعية، لذلك تؤكد اللجنة الخاصة بمشروع النموذجي تعبئة الضريبة في خدمة التنافسية للمقاولات والابتكار والبحث وتنويع الإنتاج والتحول الإيكولوجي والأنشطة ذات الأثر الاجتماعي صوب القطاعات المنتجة ودعم الابتكار.

ومن جهتها قامت المديرية العامة للضرائب بإجراء دراسة تقييمية صادرة سنة 2019 لسياسة تدبير النفقات الجبائية التي توظفها الدولة في إطار سياسة الدعم الفائدة بعض الفئات من الملزمين أو الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، بحيث قامت بإجراء فحص معمق لتأثير التقييم المستقبلي أو المرجع الجديد للاستراتيجيات وتحديد النفقات الجبائية وبنية تكلفتها الاجتماعية بناء على وضع مقارنة ما بين التحفيزات الجبائية لسنة 2017 وفقا للنظام المرجعي الضريبي القديم من أجل تقييم الفارق بينهما، وبذلك فإن النظام المرجعي الجديد الذي تم اقتراحه يشكل على وجه الخصوص رؤية واستهداف أفضل للنفقات الجبائية، وتقسيم التدابير استنادا إلى دراسة الآثار السوسيواقتصادية، وخلصت الدراسة إلى مجموعة من الخلاصات الأساسية نسردها كما يلي:

مكنت الدراسة من المقارنة ما بين عدد التدابير الإعفائية في المرجع القديم، والتي بلغت 418 في حين أن عددها في المرجع المستهدف الجديد بما يناهز 291 أي بنسبة تخفيض بلغت 30 في المئة.

وبخصوص توزيع التدابير الإعفائية بحسب طبيعة الضريبة وبمقارنة ما بين سنة 2017 و2018 قدرت المديرية حجم التكلفة المالية للإعفاءات بما يناهز 29.27 مليار درهم خلال سنة 2018.

لقد قدمت الدراسة المنجزة تشخيصا مفصلا حول حجم الإعفاءات الضريبية من حيث عددها الكبير والذي يتجاوز 295 إعفاء أو بالنظر كذلك إلى حجمها المالي، والذي يناهز 30 مليار درهم، دون تقييم تأثير هذا المبلغ سنويا على القطاعات المستفيدة منه مما يجعلها دراسة تتسم بالنقصان وعدم الشمولية وتتطابق مع خلاصات الهيئات التقريرية حول كونها لا تشكل انعكاسا لخلق الثروة في المجالات التي تلامسها ولا تمكن من ادخار الرأسمال الكافي للاستثمار بقدر ما تقدم إشكالا جديدة من الريع الضريبي.

إن التحفيزات الجبائية في جوهرها تعد تقنية من بين التقنيات الجبائية، التي تستطيع السلطات الضريبية خلق شيء من التوازن في قراراتها الجبائية ومنح فرص التنمية لبعض القطاعات أو الجماعات التي تعوق الضريبة تقدمهم فهي آلية لتشجيع الاستثمار وخلق التنمية المستدامة إذا ما تم استعمالها على المنحى الجيد، غير أن قيام دور الإصلاح في تنمية الاستثمار لن يتأتى إلا بوجود الإرادة السياسية في الإصلاح الجبائي والحد من التأثير على صناعة القرار الجبائي مع عقلنة اللجوء إلى تقنية التحفيزات الجبائية خدمة للاستثمار.

أولا: ضرورة الحد من التدخل في التأثير على القرارات الجبائية

سبقت الإشارة إلى أن هناك مجموعة من المتدخلين في صناعة القرار الجبائي وهذا هو جوهر الديمقراطية، لطالما كون الهدف منها مراعاة المصلحة العامة على المصلحة الشخصية وإذا كان من المقبول تدخل السلطات الحكومية والإدارية والبرلمانية في عملية صيرورة القرار الجبائي، فإنه لا يمكن أن نوجد مبررات تدخل القوى الضاغطة الأخرى التي تتخذ شكل لوبيات تحمي مصالحها المالية على حساب الملزمين، الذين لا يجدون من يمثلهم بحيث أنهم -أي اللوبيات- يشكلون التهديد الحقيقي للعملية الديمقراطية والتنموية على حد سواء، وذلك بالتأثير في نشأة القرار الجبائي التفضيلي عن الفئات والقطاعات التي يجب أن يستهدفها في ما يخدم مصالحها الضيقة.

فعلاقة اللوبيات بالدولة هي علاقة غريبة ومتنافرة حينما يتعلق الأمر بالواجبات الضريبية وأقل قدر ممكن من الضريبة في تحقيق هامش أكبر من الربح، وفي نفس الوقت فإنها علاقة ود وتقارب من الدولة التي تعتبر الطرف المنظم للتحفيزات الجبائية، بالإضافة إلى دورها الأمن والتنظيم ودورها في التجهيز وإیجاد البنية التحتية أو في كل ما يتعلق بتسهیل شروط تحقيق الربح بالنسبة لهذه الطبقة.

لذلك فإن الدولة التي تجمع الضرائب، يجب أن تكون في مستوى أدني بمقابل الدولة التي ستوزع المساعدات وتضمن تنظيم الأمن لتكون في مستوى أعلى- وهو تشبيه حقيقي لتغيير مكانة الدولة- بالنسبة لهذه التنظيمات، وبالتالي فان أول خطوة نحو وقف نزيف التحفيزات الضريبية في خدمة المصالح الشخصية هو القطع تماما مع تلك الممارسات، والتحديد الدقيق للمتدخلين الحقيقيين في صناعة قرار التحفيزات الجبائية، حتى لا تبقى الأدوار مختلطة ومنقسمة بين نوعين من الفاعلين نوع صوري يهدف إلى إعطاء الشرعية للقرارات الجبائية ونقصد هنا البرلمان والحكومة، والمتدخلين الذين يسيرون المشهد الضريبي وهم في حالة تخفي ونتحدث هنا عن جماعات الضغط واللوبيات وكذا المؤسسات المالية الخارجية.

ثانيا: تحديد استراتيجية واضحة لتدبير التحفيزات الجبائية

إن البحث عن عقلنة التدخل الجبائي، فيما يتعلق بتدبير تقنيات التحفيزات الجبائية يمر جنبا عبر اعتماد سياسة جبائية فعالة تقتضي تجاوز الممارسات الارتجالية التي طبعت استخدامها في العقود الأخيرة لما كانت تتسم به أغلب الإجراءات التحفيزية الجبائية بظرفية محددة أو بتأثير جهة معينة أو لتجاوز أزمة قطاع معين مما أثر على صيرورتها وجعل مسارها غير واضح ومحدد بأهداف.

وبالتالي فنظرية التخطيط المحكم لأهداف التدخل الجبائي، هو معطى لا يحضر بالشكل الكافي في ذهن السياسة الضريبية المغربية، في حين أن التخطيط مسألة ضرورية وحيوية على اعتبار أن التنمية الحقيقية لا تتحقق بفعل الصدفة ولكنها تتحقق تبعا لنهج السياسة الملائمة ومحددة تعتمد توجهات ودراسات متخصصة وترسم مسار هذه التنمية بكل دقة وبإعمال المفهوم الجديد لسياسة التحفيزات الجبائية، والذي يقضي بالمقابل في ما يخص العلاقة التي تجمع الدولة والطرف المستفيد من هذا التحفيز الجبائي مقابل الاستفادة من الامتيازات الجبائية، واحترام ما تم التعهد به عند رغبته في الاستثمار أو الاستفادة من التخفيض الضريبي، وهذا ما يحيلنا إلى شرط مهم لا بد من توفره في تقييم السياسة الجبائية وهو شرط المراقبة والتتبع لكل المشاريع التنموية وكل القطاعات التي تستفيد من النظام التفضيلية، حتى يتم في النهاية تقييم ما تم إنجازه ومقارنة بالأهداف التي كانت مسطرة قبل الاستفادة من الإعفاء، ولما لا إقرار نوع من الجزاءات على المشاريع والمقاولات المستفيدة من النظم التفضيلية، والتي لم تحقق الأهداف المرجوة مثل التجربة التي مرت في مجال العقود الاستثمارية الخاصة، التي وإن كانت من أوجه الأنظمة الجد الخاصة في الاستفادة من الامتيازات الضريبية، فإنها على الأقل تشكل إطارا قانونيا يوضح طبيعة العلاقة ما بين الدولة والمقاولة صاحبة الاستثمار.

ثالثا: الإرادة السياسية وسيلة ناجعة لترشيد النفقات الجبائية

تشكل الإرادة السياسية في إصلاح منظومة التحفيزات الجبائية عاملا رئيسيا لخلق الإصلاح ولضمان استمراريته،خاصة وأن هناك ارتباطا وثيقا ما بين نسبه ونجاح الإصلاحات الجبائية في دول العالم الثالث ومدى قدرة النظام السياسي القائم على التغيير، أي أن هناك علاقة طردية بين تقدم نسبة الإصلاحات الجبائية الهادفة ومدى قوة أو ضعف الإرادة السياسية للبلد محل الإصلاحات، ففشل الإصلاحات الجبائية التي عرفها المغرب خلال العقود الأخيرة مرده أساسا إلى ضعف أو غياب الإرادة السياسية، لأن التقنيات الجبائية مهما بلغت من دقة متناهية ومهما بلغ عددها فإنها تبقى قاصرة على بلوغ الهدف المرجو ويبقى أثرها ضعيفا بدون توفر الإرادة الصريحة في الإصلاح.

والأمثلة كثيرة ومتعددة في هذا السياق، وهي على سبيل التعداد لا الحصر ما يمكن أن نضر به القطاع العقاري، حيث تقوم اللوبيات العقارية بالحصول على المزيد من الإعفاءات و الامتيازات ورفضها بل ومقاومتها لكل الإصلاحات الجبائية التي يمكن أن تمس بمكتسباتها، والحال كذلك في مجال القطاع الفلاحي، وهو القطاع الذي يستفيد من إعفاءات مهمة لا يمكن أن تعود أسبابها إلى الظروف المناخية الصعبة التي يمر منها المغرب ، ولكن تعود عواملها إلى الرغبة في الحفاظ على التوازنات السياسية الكبرى طالما أنه يشكل الورقة الرابحة في كل الانتخابات التشريعية أو الجماعية.

وعليه نخلص إلى أن وجود دولة قوية تمتلك إدارة جبائية قوية وإدارة سياسية قوية يمكن أن تجعل من التحفيزات الجبائية إلي ناجعة وفعالة لتحقيق التنمية المستدامة وتوسيع دائرة الاستثمارات الداخلية والخارجية بل وخلق فرص الشغل لكافة الفئات المستهدفة.

المحور الثاني: توسيع الموارد الضريبية لخدمة الاستثمار

تكاد أهمية الدور الاقتصادي للضريبة تماثل أهميتها على المستويات المالية والاجتماعية، وذلك بالنظر لما للسياسة الجبائية من تأثير بالغ على الاستقرار الاقتصادي والضبط الذاتي للسوق الاقتصادية والمالية l’auto régularisation du marché économique et financier.

فنظرا للأهمية القصوى لمطلب تنمية الاقتصاد الوطني غالبا ما يعتبر النظام الجبائي المدخل الرئيسي الذي تلج منه كل الإصلاحات، ولهذا شكل الإصلاح الجبائي جناحا أساسيا في استراتيجية التقويم الهيكلي وفي القانون الإطار للإصلاح الجبائي رقم 19.69 من حيث المبدأ في وضع استراتيجية مستقبلية لتطوير الأنظمة الجبائية وعصرنتنها وجعلها أكثر انسجاما والمساهمة في انفتاح الاقتصاد وتشجيع الرأس المال الخاص.

وإذا كان من البديهي من حيث المبدأ أن للضريبة بطبيعتها تكلفة فإنه من جهة ثانية يبقى لها تأثير سلبي على الاقتصاد، وهو ما يصطلح عليه الاقتصاديون إسفين الضريبة TAX WEDGE حيث من الثابت أيضا أن للسياسة الضريبية انعكاسات هامة على النشاط الاقتصادي، فمن جهة تشكل الضرائب أهم المصادر المتاحة لتوفير الموارد المالية للدولة، وتخفيض العجز الميزانياتي وتقليل اللجوء إلى الإصدار النقدي مع ما يصاحب ذلك من تضخم ومشاكل أخرى، ومن جهة أخرى تعتبر الضرائب من الوسائل اللازمة لتنشيط وتحفيز الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية بغرض زيادة الإنتاج ومواجهة المشاكل التضخمية وخلق الثروة وتحفيز عملية امتصاص البطالة، وكلها أمور تلعب دورا حاسما في تحديد اختيارات الاستثمار استراتيجية للدولة فالمستثمر حين يقرر اختیار دولة ما للاستثمار بها فإن طبيعة النظام الجبائي والضرائب ستخضع لها أرباحه وأنشطة تشكل أهم التساؤلات التي تشغل باله.

إن الاستثمار هو محور التنمية من حيث كونه يمثل أداة لتحقيق النمو الاقتصادي، إذ أن معدل هذا النمو يتوقف على كمية الاستثمارات وتوزيعها بين الفروع المختلفة للنشاط الاقتصادي والضريبة، ولها تأثير خاص في الميل إلى الاستثمار فعندما تفرض على قطاع اقتصادي ما بمعدل منخفض أو يكون فيه الإعفاء واسعا، حيث يوجه الفاعلون الاقتصاديون استثماراتهم نحو هذا القطاع لأنه يحقق نسبة ربح أكبر ومقابل ذلك تكون الضريبة أداة فعالة مع توظيف رؤوس الأموال في القطاعات الإنتاجية الخاضعة لمعدل ضريبي مرتفع.

والمفروض في هذا الإطار الأخذ بعين الاعتبار عند فرض الضريبة وتحديد أحكامها فيما إذا استفادت الدولة من العائد الاقتصادي للاستثمار كالتشغيل وتنمية الاقتصاد وتشجيع الصادرات، وذلك بهدف زيادة الدخل الوطني وتوفير الحماية الملائمة للاقتصاد الوطني وتوجيه المبادرة والاستثمار الخاص بشكل يتوافق مع مخططات التنمية الاقتصادية الوطنية.

ومن الواضح أن الدولة أثناء توظيفها للآلية الجبائية لتوجيه القطاع الاقتصادي ركزت بشكل كبير على مر العقود الماضية على منح وإنتاج ترسانة من الامتيازات الجبائية لتشجيع الادخار الخاص على أساس الاعتقاد بأنه على الرغم من الأضرار المالية المترتبة عن هذه السياسة بالنسبة لخزينة الدولة، فإن التوظيف المستقبلي للمدخرات في خلق الاستثمارات المنتجة سيقوم بتعويض الخسائر المسجلة وستكون له نتائج إيجابية على الاقتصاد الوطني.

غير أن ذلك لم يحدث كما تم التنظير له وبقيت الاستثمارات محدودة مقارنة مع الامتيازات الممنوحة، فالأمر لم يكن يتعلق فقط بالضغط الجبائي المفروض على المقاولات، بل كان متصلا بعدة عوامل اقتصادية وسياسية أخرى بإضافة إلى كون المستفيدين من الإعفاءات والامتيازات لم يقوم بتعبئة الادخار واستثماره في قطاعات أكثر إنتاجية بدل ذلك إلى تجميد أموالهم أو تهريبها نحو الخارج.

وبناء على ذلك فان السياسة الضريبية ينبغي أن ينظر إليها في هذا الإطار من زاويتين، الزاوية الأولى تحتل فيها الآلية الجبائية مكانة أساسية على مستوى استقرار المالية العمومية باعتباره عاملا رئيسيا لتحقيق التنمية المستدامة وضمان استقلالية القرار المالي والاقتصادي، إضافة إلى تهيئ البنيات التحتية وتوفير الخدمات الأساسية العمومية، وهي أمور كلها لا يمكن أن تتحقق في غياب موارد جبائية كافية لتغطية الإنفاق العمومي الزاوية الثانية تتعلق بتأثير السياسة الجبائية على مجال الاستثمار، وفي هذا الشق بالضبط ينبغي التعامل بكثير من الحذر والدقة، ذلك أن المردودية الاقتصادية للتحفيزات الجبائية عموما لا تكون مضمونة، وتبقى أفضل استراتيجية معتمدة لتشجيع الاستثمار المستدام هي التي ترتكز على تأسيس إطار قانوني وتنظيمي مستقر وشفاف وتنزيل نظام جبائي مواكب ومتوافق مع المعايير الدولية، كما يجب تجنب الاعتماد على التدابير التشجيعية الجبائية غير المباشرة والحد من السلطة التقديرية خلال المستفيدين من الامتيازات الجبائية.

ومن الضروري على الإعانات المقدمة من طرف الدولة في شكل تخفيضات أو إعفاءات ضريبية، أن تكون أكثر إنصافا وأن لا تؤدي إلى إنتاج اقتصاد الريع، فحينما تستفيد بعض الأنشطة أو القطاعات من الدعم المفرط يمكن أن يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية على الاستثمار بتلك القطاعات الاقتصادية، مما قد يؤثر على كفاءة الاقتصاد الوطني برمته لابد من إرساء آليات قارة لتقييم السياسات الدعم بشكل سنوي وقياس مدى فاعليتها وانعكاساتها على النسيج الإنتاجي وعلى الاستثمار.

هذا ويبدو أن النظام الجبائي الحالي يفتقر إلى رؤية واضحة من شأنها أن تعزز ثقة الفاعل الاقتصادي وتساعده على اتخاذ قراراته الاستثمارية، ولمواجهة هذا الإشكال لا بد من إعداد میثاق للاستقرار الجبائي يلزم الدولة بتبني سياسة جبائية قارة ويمكن المقاولات من الاطلاع على تطور الضغط الجبائي وتفادي التعديلات الطارئة التي تلحق القوانين الضريبية بشكل مستمر بموجب القوانين المالية السنوية.

وفي نفس الاتجاه لا بد من اتخاذ بعض التدابير التي تعد ضرورية لتدعيم حکامة النظام الجبائي والرفع من أدائه وأيضا تحسين مستوى الالتزام الضريبي وأهمها: تبسيط التشريعات الجبائية وحذف الأحكام الغامضة، ثم تجنب فرض الأعباء الإدارية غير الضرورية على دافعي الضرائب مع تحسين خدمات الدعم والمساعدة المقدمة للملزمين من اجل الوفاء بالتزاماتهم الجبائية وفي المقابل تدعيم مهام التحصيل عن طريق استهداف عملية التفتيش على أساس تقييم معمق للمخاطر the basis of thorough rick assenssement.

ويبقى تحقيق التوازن بين تخفيف الضغط الجبائي المفروض على المقاولات من جهة وضمان المداخل الجبائية اللازمة لتمويل خزينة الدولة، من جهة ثانية أكبر تحدي على مستوى تحديد السياسة الجبائية للدولة وفي سبيل تحقيق هذا التوازن لا بد من السعي إلى توسيع الوعاء الجبائي وإدماج القطاع غير مهني كل ومراجعة منظومة النفقات الجبائية.

أن الضرائب المفروضة على المقاولات تحتاج إلى مراجعة أحكامها بشكل يوفق بين خصوصیات النسيج الاقتصادي الوطني والمعايير المعتمدة على الصعيد الدولي وفي مقدمة هذه الضرائب التي تحتاج إلى المراجعة: الضريبة على القيمة المضافة التي يجب أن تتسم بحياد أکبر ولا تحمل المقاولات عبئها إلا في حدود ما تخلقه من قيمة مضافة حتى لا تبقى عائقا أمام القدرة الاستثمارية للمقاولات.

وأما بخصوص الضريبة على الشركات فإنه بدل الاحتفاظ بالسعر الموحد لها كيف ما كان حجم وطبيعة نشاط المقاولة، ويظهر من الصائب التنصيص على أسعار مختلفة تتلاءم وبنية النسيج الاقتصادي والقدرة التكليفية لمختلف أصناف الفاعلين الاقتصاديين، وهو المقتضى الذي تم إقراره بالفعل ابتداء من قانون مالية 2016، حيث تبقى أحسن التدابير الجبائية المنشودة في هذا الإطار على غرار ما تم تحقيقه بعدة دول متقدمة ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تلك التي تدعم الادخار وتشجع الاستثمار وتساهم في خلق فرص الشغل وتسريع وتيرة النمو، كما أن تخفيض نسب الضريبة على الشركات يجب أن يؤدي إلى جذب الاستثمارات الأجنبية موازاة مع تعزيز تنافسية المقاولات الوطنية دون المساس بالوظيفة التمويلية المحلية أو الوطنية.

لما كانت الوظيفة الرئيسية للاقتطاعات الإجبارية الضريبية هي تمويل النفقات العمومية العادية كان لزاما على السلطات العمومية أن تبحث بشكل مستمر عن الوسائل الكفيلة بتدعيم المردودية المالية لهذه الاقتطاعات، وفي سبيل ذلك تم وضع تطبيق العديد من الإصلاحات التي كانت تتوخى تحسين مردودية النظام الضريبي وتعبئة المداخيل الجبائية، لتكون كافية ومستويات الإنفاق العمومي المطلوب حيث تجدر الإشارة إلى أنه ابتداء من سنة 2008 بلغت الموارد المالية للدولة المتحصلة من العمليات الضريبية 27 في المائة من الناتج الداخلي الخام لتستقر سنة 2012 في حدود 24.5 % من الناتج الداخلي الخام، وهو ما يناهز نقطتين ونصف وما يجعل هذه الموارد غير كافية لتصل إلى المستوى المرغوب فيه.

إن تحدي الرفع من مستوى الموارد الجبائية هو أمر يتطلب مراجعة وإصلاحا شاملا لمكونات النظام الضريبي، كما أن نذرة هذه الموارد وميلها إلى التناقص سنة بعد أخرى وازدياد الحاجة إلى الأموال لمواجهات إكراهات التنمية يفرض البحث المتواصل على مصادر المالية لتنمية موارد الدولة إذا كان الأمر يتطلب خلق ثروات جديدة، هذه الثروات وغيرها تعود على خزينة الدولة بكيفية مثمرة يتوقف على إصلاح النظام الجبائي للارتقاء به إلى مستوى النجاعة والمردودية الجيدة وكذا تأهيله لمواجهة تحديات العولمة وما يترتب عنها من انعكاسات سلبية على موارد الدولة.

وبناء على ذلك فإن تحسين مردودية النظام الجبائي، تقوم على معالجة مجموعة من الاختلالات التي تعتري هذا النظام بواسطة استراتيجية شاملة تقوم على أساس إصلاح جوانب القصور التي تعاني منها مكونات النظام الجبائي في تثمين جوانبه الإيجابية.

فالنظام الجبائي الجيد هو النظام الضريبي الفعال الذي يوفق ويوازن ما بين الأهداف المالية والاقتصادية والاجتماعية بالنظر إلى التعارض الذي تعرفه هذه الأهداف وبين وضعه لقواعد وأحكام القانون الضريبي بما يراعي ويضمن مصلحة كل من الدولة والملزم والمجتمع. فكيف إذا يمكن الزيادة في المداخل الجبائية دون الإخلال بمتطلبات بلوغ فعالية النظام الضريبي ودون اتقان الضغط الجبائي على الاقتصاد؟

أن الإجابة على هذا التساؤل تفرض علينا الإحاطة بالنقاط التالية :

أولا: توسيع الوعاء الجبائي

لقد دعا المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وكذا تقرير لجنة النموذج التنموي الجديد وكذا قانون الإطار الإصلاح الجبائي رقم 19.69 الذي يعتبر بمثابة الحصيلة النهائية للمشاورات المنبثقة عن المناظرة الوطنية للجبايات خلال سنة 2019، ولقد أجمع كافة المتدخلين سواء كفاعلين اقتصاديين أو حكوميين على ضرورة توسيع الوعاء الجبائي عبر تجاوز إشكالية تعارض الوعاء الجبائي القائم مع أهداف النظام الضريبي، وتحويلها من التعارض إلى تكامل عبر ضبط أفضل مقتضيات الوعاء القائم، وإعادة تقویم أفعاله وإرساء معيار الفاعلية وعدم تركيز الفرد الجبائي على قاعدة ضيقة من الملزمين، حيث يجب العمل على توسيع الوعاء الجبائي بشكل يسمح بتنمية القطاع الخاص، وبروز المقاولات الصغرى والمتوسطة كممون جديد لخزينة الدولة النشاط الاقتصادي.

ومن الواضح أن الإصلاحات الجبائية الأكثر نجاعة في هذا الإطار، والتي تجعل من النظام الجبائي يبدو أكثر فاعلية وشفافية وبساطة، وهي تلك التي تهدف إلى تخفيض معدلات الضريبة المفوضية على الأنشطة الاقتصادية موازاة مع الاجتهاد في توسيع مجال الأنشطة الخاضعة للضريبة.

إن توسيع الوعاء الجبائي وهدف يتطلب تحقيقه اعتماد عدة تدابير وإجراءات أهمها التحكم في الإعفاءات الجبائية والحد من تأثيرها السلبي على تمويل خزينة الدولة ومحاربة الغش والتهرب الضريبيين مع ضبط الانفلاتات التي قد تصدر عن عدم مساهمة القطاع الغير مهي كل في تغذية خزينة الدولة.

ثانيا: محاربة الغش الضريبي

لقد نص القانون الإطار رقم 19.69 المتعلق بالإصلاح الجبائي، على تجريم التهرب الضريبي عبر سن مجموعة من التدابير بهدف محاربة الغش والتهرب الضريبيين وكذا حالات التعسف في استعمال حق يخوله القانون لا سيما من خلال تطبيق جزاءات على المخالفات الجبائية، وذلك مع التقيد بمبدأ تناسبية الجزاءات مع خطورة المخالفات المرتكبة، وهي التدابير التي سبق للدولة أن شرعتها خلال القانون المالي لسنة 2021عندما نصت على مجموعة من الجرائم التي تعتبر بمثابة غش ضريبي في المدونة العامة للضرائب.

وبالنسبة لاشك إليه الغش الضريبي فإنه أمام فشل مختلف المقاربات الجزئية والضيقة المعتمة للحد من خطورة هذه الظاهرة استراتيجية دقيقة لمحاربة الغش والتهرب الضريبيين، حيث تنبني على تقوية آلية المراقبة الجبائية وإحداث أجهزة ومؤسسات خاصة بمكافحة الغش موازاة مع تدعيم روح المواطنة الجبائية لدى الملزم بالضريبة وهو الأمر الذي يمكن أن يتحقق بوجود إرادة سياسية حقيقية ترمي فعلا إلى التقليص من حدة اللجوء إلى الغش الضريبي.

ثالثا: إدماج القطاع غير مهيكل

إن أکبر رهان للدولة في الفترة الحالية، وخاصة أثر التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا خلال سنوات 2020، والتي أظهرت بما لا يدعو مجال للشك حجم الساكنة النشيطة في القطاع غير مهيكل التي تعيش داخل هذا القطاع. فلقد أضحى الرهان هو إدماج القطاع الغير مهيكل في الدورة الاقتصادية للبلد ومحاولة تشجيعه والتحكم فيه خاصة وأن الأنشطة الموازية له ذات حجم كبير وتشكل احتياطيا مهما، هو ما يفسر توفر فرصا كبيرة للشغل، ويتيح إمكانية للاستهلاك بأسعار منخفضة كما يمثل كذلك مصدر للمنافسة وجب تشجيعها ودعمها بالمصادر التمويلية لخلق نوع من الإنصاف ما بين المقاولات وكذا تغذية خزينة الدولة.

إن إدماج النشاط غير مهيكل لا يجب أن يرتكز على المقاربة الجذرية من خلق مناخ اقتصادي مناسب، يتيح له إمكانية الولوج إلى التمويلات المالية وإحداث نظام جبائي خاص يراعي البساطة وعدم التعقيد والوضوح والتشجيع على الأداء الطوعي للضريبة وذلك بغية انتظام القطاع غير مهني كل في السلسلة الاقتصادية المنظمة وتكريس الاقتطاعات الضريبية التي قد تكون آنذاك مفهومة ومقبولة، فبنظرنا الخاص يمكننا القول أن القطاع غير مهيكل يشكل حقلا لممارسة رفض الجباية من قبل المنضويين تحت لوائه فما من نظام فيه ظلم لا وسيدفع بالخاضع للضريبة إلى الاقتصاص لنفسه عبر اللجوء إلى الأنشطة الخفية.

وعموما فإن النظام الجبائي الجيد الذي من شأنه أن يضمن تحصيل مداخيل مرتفعة موازاة مع ضمان باقي الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية يجب أن تتوفر فيه مبادئ العدالة الاجتماعية والعدالة الضريبية المحورية لأي إصلاح جبائي.

خاتمة

إن نجاح النموذج التنموي لا يرتبط بأفضل وأحسن الخطط والاستراتيجيات العلمية في مجال التنمية البشرية، بقدر ما يرتبط أولا بوجود إرادة سياسية وحقيقية للفاعلين في اتخاذ القرار الجبائي، وبتظافر العوامل والأسباب التي تجعل من المقاربة التشاركية أرضية خصبة لإنتاج سياسة جبائية متوازنة مع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية و بيئية طبقا لما جاء في خطاب الملك محمد السادس – بمناسبة الذكرى 28 لعيد العرش بتاریخ 2017/07/29- حين قال:”أننا نستطيع أن نضع أنجح نموذج تنموي وأحسن الخطط والاستراتيجيات إلا أنه:

  • بدون تغيير العقليات.
  • و بدون توفر الإدارة على أفضل الأطر.
  • و بدون اختيار الأحزاب السياسية لأحسن النخب المؤهلة لتدبير الشأن العام.
  • وفي غياب روح المسؤولية والالتزام الوطني.
  • فإننا لن نحقق ما ننشده لجميع المغاربة من عيش كريم”.

ومن هنا نستشف أن نجاح النموذج التنموي وفقا للرؤية التي وضعتها اللجنة الخاصة بهذا المشروع وكذا بمقتضی مضمون قانون الإطار الخاص بالإصلاح الجبائي يرتبط بصلة وثيقة بالتدابير التالية :

  • ضرورة جعل النظام الضريبي القائم على اتصال وثيق مع باقي محاور السياسات العمومية بما يستجيب والرفع من النجاعة الاقتصادية والحد من التفاوتات الاجتماعية والحفاظ على مستويات معقولة من العدالة الضريبية.
  • توزيع العبء الضريبي بين مكونات الساكنة الضريبية، بما يضمن التوسيع الجيد للوعاء الضريبي وبما يحافظ على القدرة الشرائية للمواطنين و يدعم الاستهلاك.
  • جعل التحفيزات الضريبية في خدمة الاستثمار ودعم المجالات الاجتماعية بسن تدابير تحافظ على المكتسبات المحققة وتساهم في الدعم المباشر أو غير المباشر للفئات الاجتماعية الهشة.
  • دعم اندماج القطاع غير المهيكل عبر تسهيل الولوجية إلى الدعم العمومي والخاص مع سن سياسة تضريبية ملائمة لخصوصية هذا القطاع.
  • تعزيز تدابير مناخ الثقة بين الإدارة الجبائية والملزمين بالضريبة عبر الحفاظ على الأمن القانوني للملزم والرفع من مستوى المواطنة الجبائية لهذا الأخير بما يرتقي به من مصاف الملزم بالضريبة إلى المساهم في تغذية خزينة الدولة.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى