بحوث قانونية

الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان: أي إنصاف.. أية مصالحة؟!

مقدمـــــــــــــة:

سنوات الجمر والرصاص، وارتفاع المديونية، التعددية الحزبية الصورية، الواقع الاجتماعي القاتل المفضي إلى قوارب الموت، انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في الفترة الأخيرة، العزوف عن الممارسة السياسية، … مشاكل حقيقية يتخبط فيها المغرب والجميع يقر بذلك، لكن في مقابل هاته الصورة القاتمة ترسم السلطة السياسية أخرى بألوان زاهية خطوطها العريضة هي "الطي النهائي لملف سنوات الجمر والرصاص"، انتخابات حرة ونزيهة، انتقال ديمقراطي ملموس، انفراج على مستوى ممارسة الحقوق والحريات، نمو اقتصادي مطرد، تخليق الإدارة والحياة العامة.

هذه هي أهم سمات وخصائص الوضع الداخلي للبلاد، والذي لا يمكن فهمه طبعا بفصله عن المحيط الدولي، الذي يهيمن فيه مشكل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على باقي المشاكل الأخرى نظرا لكونه يعرف محطة جديدة تتجسد في أحداث "هيئة الإنصاف والمصالحة" بعد انصرام عقد على انطلاق مسلسل تسويته.

إن صعود مشكل الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان إلى واجهة الحدث لا يعني أنه المشكل الحقيقي الذي ظلت البلاد حبيسة لنتائجه الوخيمة طيلة عقود، بقدر ما هو إقرار بواقع اتسم بالتوتر وانسداد الأفق أمام شرائح واسعة من الشعب المغربي الشيء الذي وجد ترجمته في الواقع على شكل حركات احتجاجية وسياسية همت مختلف مناطق المغرب، فكان أن قدمت لها الدولة الجمر والرصاص تعبيرا عن كرم الضيافة، وضمتها بالأحضان في معتقلات الموت، وهناك أشياء أخرى كثيرة، لا بل خطيرة، إنها الواقع الاجتماعي المزري (الفقر، المرض، الأمية…..)، والواقع الاقتصادي المتدهور (انخفاض الدخل، ارتفاع العبء الضريبي الملقى عاتق الشرائح الشعبية….)، على المستوى السياسي، المشاركة السياسية منعدمة، هذه لمحة موجزة وعابرة عن المشاكل الحقيقية التي عرفتها البلاد والتي تستدعي حلولا حقيقية.

لكن حتى في الحالة التي تتم فيها مقاربة موضوع الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المتسمة بطابع كثيف وممنهج على أنها أخطاء الدولة وعلى أنها الخيار الأقل سوءا من بين مجموعة من الخيارات السيئة، في سبيل الحفاظ على كيان الدولة وعلى الإجماع الوطني،… وبالتالي ضرورة توحيد الجهود من أجل تجاوز الماضي الكئيب ونيره الثقيل، أي في الحالة التي يتم فيها البحث عن حل لمشكل الانتهاكات الجسيمة بمعزل عن الوضعية الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية المصاحبة التي تستدعي حلولا عملية وملموسة، فإنه من غير الممكن الوصول إلى تسوية ترضي الجميع في خارج الإشراك الفعلي والملموس للضحايا المباشرين والإستجابة لمطالب الهيئات التي تعبر عن مطالبهم والتي تعني الإستجابة لها إمكانية الحديث عن الإنصاف وعن المصالحة والحقيقة بخصوص هذا الملف. ولما كانت مشاكل المجتمع المغربي عديدة ومتنوعة فإنه ينضاف إليها عدد آخر بسبب طبيعة الحلول المقترحة، وكمثال على ذلك عدم إثارة المسؤولية الجنائية للمسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة والربط الميكانيكي بين الدفاع عن المساءلة وإثارة الفتن…

وارتباطا بموضوع الانتهاكات الجسيمة، فما هي الأسباب العميقة لظهور الدولة خلال سنوات الرصاص بذلك الوجه الرهيب؟ وما هي الخلاصات التي يمكننا استنتاجها من التجارب الدولية التي عاشت هي الأخرى مشكل القمع؟ وماذا عن المساءلة الجنائية، باعتبارها من أعقد المشاكل التي تطرح في هذا الصدد؟ وهل تم فعلا القطع مع القمع كأسلوب لا بديل عنه للتعاطي مع المواطن؟ وماذا يعني أن تستمر في الوجود ظاهرة الانتهاك الجسيمة لحقوق الإنسان؟ هذه إذن هي الأسئلة التي تسعى هذه المحاولة إلى إجابة عليها أو على الأقل توضيحها.

 

 

 

 

 

 
  Zone de Texte: الفصل الأول:

العنف السياسي من زاوية الفكر السياسي.



 

 

 

كل محاولة للكتابة في موضوع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مهما كانت بسيطة أو مبتذلة تقتضي في أول ما تقتضيه تحديد الأطراف الفاعلة والمفعول فيها والآليات المعتمدة وكذلك مواقع كل طرف، ببساطة إنها محاولة تأصيلية للظاهرة باعتبارها نتيجة مباشرة وحتمية لظاهرة أخرى تعد سببا لها، إنها العنف السياسي متعدد التجليات والقنوات في الواقع المعاش المختلف المجتمعات وعلى مر العصور. فهذه الظواهر قديمة قدم التاريخ البشري ذاته، لكن البناءات النظرية التي تسعى إلى تقديم إجابات عن أسبابها وتجلياتها وآلياتها معالجتها بطريقة علمية، تبقى حديثة نسبيا ومتعددة الشيء الذي يعني أنها جميعا عاجزة عن تقديم إجابات قاطعة، وإن كانت لا تخلو من الصحة، زيادة على هذا فإن كل مقاربة تعبر عن مصالح مناصريها وتدعيما لموقعهم وفي الوقت نفسه هي تسعى إلى تفنيد المقاربات المغايرة.

يعد تدمير كينونة الإنسان، في مختلف أبعادها "الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية"، وممارسة العنف لأغراض سياسية متمثلة أساسا في الوصول إلى السلطة أو الحفاظ عليها أو هما معا، ممارسات تتسم بالتنظيم والمنهج المحكم والمكثف يلتجئ إليها كل طرف من أجل إزاحة منافسيه عن سدة الحكم. طبعا صراع بهذا الشكل ذو الدمار الفادح يتم داخل المجتمعات/الدول التي لم تستطع وضع قوانين وضوابط واضحة للعبة السياسية وبالتالي الوصول إلى السلطة وممارسة أعمال الحكم.

حماية حقوق الإنسان وحرياته، تحقيق أمنه وسعادته، رقيه وازدهاره… هي الغايات الافتراضية المنتظرة من جهاز الدولة ومن ممارسة الحكم، لكن المشكل يثار بحدة عندما تكون النتيجة عكسية، وبإصرار من القائمين على ذلك الجهاز بمبررات مختلفة "المصلحة العليا للدولة" "الوحدة الوطنية"، ووفق منظور مطلق للسلطة، إنه من غير الضروري أن يعبر كل نظام بصراحة عن مفهومه للسلطة لأن ذلك يبدو واضحا من خلال ممارساته التي تتراوح بين حدين، الأول يقترب من الغايات الافتراضية السالفة الذكر والآخر يبتعد عنه، وبين هذين الحدين تتموضع الأنظمة ومعها أشكال وخطورة انتهاكات حقوق الإنسان.

الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها في المجال الحقوقي والقانون الدولي الإنساني تشتمل على أصناف متعددة تتمثل في الإعدام خارج نطاق القانون، التعذيب، التعذيب المفضي إلى الموت أو إلى عاهات بدنية وعقلية، الإغتصاب… لكن هناك مجموعة من المقاربات الاختزالية التي تقتصر فقط على تلك التي تتماشى مع مقاييس خاصة بالأطراف القائلة بها.

وبما أن العنف أحد الخصائص المميزة للطبيعة البشرية عموما، وفي المجال السياسي على وجه الخصوص، فإن مفهوم العدو يشكل أحد الأركان الجوهرية المؤسسة للشأن السياسي، خصوصا في الدول التي لم تفرز ضوابط اللعبة السياسية ولا تحترمها في حال استيرادها، ومن هنا فإنه من الضروري مقاربة مفهوم العنف السياسي من زاوية الفكر السياسي، فمعظم الدول/الأنظمة المتخلفة التابعة تثبت ممارساتها بالملموس وفاء منقطع النظير لتعاليم "مكيافيل" و"هوبز"… تعاليم تمجد القوة وتشرعن العنف ضد الشعب وتنظر للسلطة المطلقة، فإذا كانت هذه النظريات مقبولة في حينها، فإنه من غير المقبول أن تبقى سارية المفعول في الوقت الحاضر.

إنه من الضروري الوقوف على جوهر العمل السياسي في ارتباطه بالعنف وعلى تعاليم منظري الاستبداد من أجل فهم حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب الممتدة من 1956 إلى 1999، وما بعدها، إن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هي نتيجة للعنف السياسي وأشكال هذا العنف الأكثر خطورة ترتبط طرديا مع إطلاقية السلطة، أي أن هناك علاقة تناسبية بينها فكلما كانت السلطة أكثر تركيزا وإطلاقية كلما كانت الانتهاكات والجرائم المرتكبة أشد خطورة وذات طابع ممنهج ومكثف الشيء الذي يضفي عليها طابع الصعوبة والتعقيد زيادة على التعتيم الذي يصاحبها والتخفي والتستر الذي يمارس به بأيدي تتقن فن الجريمة وفن إخفاء معالمها…

في هذا الفصل سأقوم بمحاولة توضيح العلاقة التلازمية بين السياسة والعنف، والمفهوم "الهوبزوي" للسلطة في "مبحث أول" واستحضار بعض المحطات والنماذج من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب التي تدخل في نطاق الاختصاص الزمني لهيئة الإنصاف والمصالحة في "مبحث ثان".

المبحث الأول:

 السلطة السياسية والعنف.

محاولة فهم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بصفة عامة وفي المغرب على وجه الخصوص تستلزم توضيح طبيعة العلاقة التلازمية بين السياسة والعنف ومفهوم هوبز للسلطة، وذلك في مطبين:

المطلب الأول: السياسة والعنف/عنف الدولة.

إن اللعبة السياسية تقوم في الأساس على فكرة النظام، لها شروط وقواعد وقوانين معينة، ومرسومة سلفا، ويتحتم على من يخوض معركتها الإلتزام بتلك الشروط والقواعد والقواعد التي تتضمن من جملة ما تتضمن إمكانية الرفض أو الرفض المتبادل، فهناك إرادة أو إرادات إنسانية رافضة تنتظر توفر الظروف المواتية حتى تحبط ما يخططه سواها، بهدف تحقيق انتصار سياسي معين أو بهدف تعطيل اللعبة وقوانينها، ووضع قوانين جديدة لا تقل حرمة وحصانة عن السابقة.[1]

إن عامل النزاع الملازم لجهور السياسة من شأنه أن يخلق حالة مستمرة من العنف، تتعلق جسامتها وخطورتها بالأشكال والمظاهر التي يمكن لهذا الأخير أن يرتديها، ففي العصر الحديث القائم على التقنية، بشكل العنف، بما له من قدرة تدميرية قادرة على إثبات فعاليته، موضوع إغراء تقع في تجربته الدولة، خاصة في البلدان المتخلفة التابعة، وتسعى إلى استعماله بشكل علني أو ضمني من أجل ترسيخ سلطتها، وتوسيعها على الشعب والكيانات السياسية الأقل نموا وتقدما.

إن الدولة لم تتوصل إلى ما هي عليه من سلطة وسيطرة إلا بعد استغلالها وتنظيمها الدقيق للعنف، أي بجعله مؤسسيا يشيع ويمتد في المؤسسات[2] وطرق التفكير والعمل والإنتاج والإستهلاك، ففي معظم الأحيان تميل الدولة إلى استعمال وسائل وطرق من العنف في تنفيذ سياستها تناقض مفهوم الرفاهية والاستقرار الذي يشكل أحد الأهداف الأساسية للنشاط السياسي، فيقتضي هذا الميل تبريرا استثنائيا من قبيل "المصلحة العليا للدولة" "المصلحة القومية"، إن المصلحة العليا للدولة تقترن في أغلب الأحيان بضرورة تجاوز القوانين والقيم الأخلاقية، وإن كانت هناك اتجاهات فكرية معارضة لهذا التعريف السلبي، فهل يمكن للمعنى السلبي للمصلحة العليا للبلاد، أي التجاوز المقبول على أساس الضرورة أن يبرر أعمال عنفية صادرة عن الدولة، وتبدو محفوفة بالغموض والإبهام، وتفوق شراسة وقساوة الجرائم التي اتهمت بها جماعة من الناس.[3]

لكن في هذه الحالة ثمة خطر كبير يكمن في استعمال هاته الطرق والوسائل يتعدى كونه عرضيا ووقتيا، إذ يظهر وكأنه حاجة ضرورية تصلح لجميع الظروف ولمواجهة مختلف الأحداث نظرا لمفعوله السريع والمجدي، وغالبا ما تترك تلك الدولة خطورة الوضع الناتج عن هذه الحالة، وخطورة تأثيرها في الرأي العام، فتعمد إلى التأكيد على إظهاره بأنه حالة خاصة أو استثنائية وأن الأمور ستعود إلى مجراها الطبيعي حالما يزول الخطر الذي يهدد البلاد، لذلك فإن هذا الموقف الدعائي بالأساس يلصق الصفة اللاأخلاقية التي تلابس استعمال العنف بجميع أشكاله، بالعدو السياسي، إنهم دائما الآخرون الذين يقدمون للرأي العام على أنهم قوة لاأخلاقية، دنيئة تهدد المصالح الوطنية والقومية وتعرض سلام المجتمع ووجوده لخطر الموت[4]، ومن تمة ضرورة الرد والمجابهة بأساليب أشد عنفا، لكن في حقيقة الأمر، وكما يرى "Guglieno Ferrero" في كتابه "Pouvoir et l’égalité" "السلطة والمشروعية" بأن الدولة تلجأ إلى أعمال عنيفة في غاية الشراسة* لما يبدو لها أن مشروعيتها مهددة، وأنها متهاوية وآيلة إلى الأفول[5].

إن مختلف الدول تحرص على إصدار مجموعة من القوانين تقضي بإنشاء أجهزة أمنية هدفها العلني هو النضال ضد أعمال التخريب والحفاظ على أمن المجتمع ومصلحته، كما تقضي بإنشاء المعتقلات السرية والمعسكرات وكل ما يسهل لها القيام بهمة الفتك بالمعارضين، فتعدد هذه الوسائل والآليات وضخامتها وولائها التام هو الذي يجعل تدمير الطرف الذي يتبنى فهما آخر للسلطة أمرا يسيرا وبأشكال متعددة* لا تكون في أغلب الأحيان مباشرة، إذ غالبا ما يتم اللجوء إلى طرق ملتوية من أجل التخفي والتستر سواء خلف التأويلات المجحفة والشاذة للقانون الموضوع بشكل مطاط ومتشابه من أجل هاته الغاية أو خلف الإعلام الدعائي الموجه، وهذا ما يفتح هوة يصعب ردمها بين الغايات الإفتراضية للدولة وبين ممارستها الفعلية، كما يفتح المجال للتمييز بين النظام الدستوري والنظام السياسي في الدولة، فالأول يعرف بالنظر إلى الدساتير والقوانين المكتوبة المعترف بها رسميا، أما الثاني فيدل على النمط العيني والطرق الخاصة والشخصية التي يتبعها أصحاب السلطة في تحقيق وتطبيق القوانين والدساتير، ومن تمة فإنه شكل الوجود المعين للنظام الدستوري.

ففي هاته الحالة، وهي أغلبها، الطرف الفاعل هو الدولة والطرف المفعول فيه هو الشعب عموما وقواه الحية على وجه الخصوص، أما الآليات والميكانيزمات فهي متعددة ومختلفة، عنيفة وقمعية، سرية وعلنية، وبإجراء المقارنة بين العلنية والسرية تنظر هذه الأخيرة للمواطن البسيط، وكأنها إجراءات قانونية عادلة ضد الخارجين عن القانون، لكنها لم ولن تكون كذلك، إن وراء واجهة السلطة الدستورية والقانونية الظاهرة تناط بأجهزة البوليس السري صلاحيات استثنائية تعطيها مجالا واسعا من حرية الحركة والتصرف باسم القانون، لحل بعض العوائق بصورة نهائية وقاطعة، إن المحاكمات السياسية التي يراد لها أن تكون علنية لتترك في الرأي العام انطباعا بأنها غير منحازة وموضوعية، هي واضح على تورط مختلف أجهزة الدولة، فالإتهامات التي توجه علنا للمتهمين مدروسة مسبقا في مكاتب البوليس السري، وبهذه الطريقة كما بطرق أخرى ملتوية تفكك جماعات المعارضين وتصفى الشخصيات السياسية الكبيرة.[6]

طبعا الانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان لا يعني فقط تعرضه للإعتقال أو التعذيب… بل إن الأمر يأخذ أبعادا أخرى أشد خطورة تتجسد أساسا في الإستغلال الذي تتعرض له شرائح واسعة من الشعب، سواء تعلق الأمر بالاستغلال الرأسمالي القائم على الربح ومراكمة الثروات من خلال امتصاص فائض القيمة ومعها دماء كل العمال والبسطاء الذين لا يملكون إلا قوة العمل وهم ملزمون على بيعها بأبخس الأثمان… أو تعلق بنهب المال العام وكافة الجرائم المالية والاقتصادية التي يرتكبها القائمون على جهاز الدولة، وفي ظل واقع اقتصادي كهذا فإن هاته الشرائح التي تشكل في نهاية المطاف عموم الشعب، تعاني من الفقر والأمية والجوع والمرض وكل ما يقتل في الإنسان إنسانيته وكرامته… وفي واقع كهذا ستكون كل الجهود والطاقات موجهة للحفاظ على الوضع القائم وإعادة إنتاجه.

إن وجود ممارسات من هذا القبيل تثبت بما لا يدع مجالا للشك تورط الدولة في جرائم بشعة يصعب على المنطق البشري أن يتركها تمر هكذا من دون مساءلة ومن دون عقاب ومن دون وضع ضمانات حقيقية تحول دون التجائها إلى تلك الممارسات أو أخرى جديدة تتماشى مع طبيعة المرحلة، وبما أن المغرب عرف أنواعا لا حصر لها من الخروقات والإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان طيلة أربعة عقود، فإن هذا المطلب حاول توضيح طبيعة العلاقة بين الدولة والشعب في المجتمعات المتخلفة تحديدا (والمغرب واحد منها) وكيف أن الأولى لا تهتم إلا بمصالحها المتناقضة مع مصالح الشعب، وكيف تطوع الشعب باستعمال العنف الشيء الذي ينتج عنه ما يعرف بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وطبعا هاته الحقوق هي حقوق مدنية وسياسية الشيء الذي يعد انتهاكها أشد خطورة وبشاعة، ففي واقع اقتصادي مزري قائم على اقتصاد الريع ويقدم إعفاءات ضريبية لكبار الملايين وتسهيلات وتدليل مطلق للرأسمال العالمي لنهب خيرات البلاد يكون من المستحيل عليه بناء اقتصادي وطني، وكما تثبت التجربة فإن الوجه السياسي لواقع اقتصادي كهذا هو الآخر سيكون فاسدا.

في المطلب الموالي سأحاول توضيح الفهم "الهبزوي" للسلطة وإلى أي حد يتجسد في الدولة المغربية.

 

المطلب الثاني: المفهوم الهبزوي للسلطة/الدولة.

هوبز مفكر إنجليزي عاش في القرن 17، واحد من منظري العقد الاجتماعي، إن نظرية العقد الاجتماعي حسب هوبز تقوم على افتراض وجود حالة الطبيعة التي تنعدم فيها كل سلطة منظمة وإن حالة الفطرة هاته تتسم بكون الإنسان أناني وانتهازي لا تحكمه إلى مصالحه التي يحصل عليها بالقوة ولا يستطيع حمايتها إلا بتوفره على المزيد منها، وفي ظل حياة كهاته يطبعها الخوف والإضطراب لن يتمكن الإنسان أن ينعم بأي شيء، بل تحت طائلة انقراض النوع البشري يجب عليه أن ينتقل إلى الحلة المدنية من خلال عقد يتنازل بمقتضاه الأفراد فيما بنيهم لصالح طرف ثالث هو الدولة، هذا الطرف الذي يكون مطلق السلطة ولا تقيده أية إلتزامات هو وحده القادر على توفير الحماية والأمن للإنسان.

لن أدخل في تفاصيل حالة الطبيعة عند هوبز ولا في مبررات الإنتقال إلى الدولة ولا إلى كل التفاصيل التي يرتكز عليها من أجل المفاضلة بين أشكال الحكم الأساسي بالنسبة لي والذي أظن أنه يخدم الموضوع هو حدود سلطة الدولة عنده، إن وجدت، من أجل تحقيق العلة الأساسية من وجودها والمتمثلة أساسا وفقط في توفير الأمن والسلام، ما يصطلح عليه في الوقت الراهن "المقاربة الأمنية" "إديولوجية الأمن القومي".

صاحب السيادة هو السلطة التشريعية الوحيدة، ليس ثمة من قانون إلا من أمره الصريح… إن الحق في نظر هوبز ليس له ولا يمكن أن يكون له سوى منبع واحد: الدولة، أي السلطة، أي الآمرية.[7]

إن السلطة الفرد/أو الأفراد القائمين على جهاز الدولة/الدولة وحدهم لهم الحق في وضع القانون وإلغائه دون أن يكون للشعب حق الإعتراض، فإرادة الدولة/السيد تعبير عن مجموع إرادات الرعايا/ المواطنين بالتالي لا يمكن اعتبار هاته الإرادة التي تأخذ شكل القانون على أنها ظالمة، ومجافية للعدل، فقوانين كهاته تلزم فقط المخاطبين بأحكامها دون واضعها، فالسيد لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون ملزما باحترام القوانين التي وضعها هو بنفسه ومن دون أن يكون له في ذلك شريك، إن مبدأ فصل السلط مرفوض جملة وتفصيلا لأنه يمس بالسلطة السيدة التي هي في الأساس واحدة وموحدة وغير قابلة للتجزيء، لأن ذلك سيكون مصدرا للشقاق بين المستحوذين على مختلف الأجزاء زيادة على أن الذين يظنون بقابليتها للتجزيء يخطئون في فهم جوهرها، ولأن إعطاء الرعية حق مناقشة أفعال السيد والتمييز فيها بين ما هو عادل وما هو ظالم جرم وتطاول ممنوع فواجب الرعية هو الطاعة.

يستبعد هوبز كل صيغة مختلطة من شأنها تقسيم السلطة السيدة وتجزئتها لقطع وزمر تستبسل في تهديم بعضها البضع، "رأيت مرة رجلا نبت في جنبه رجل آخر مزود بدوره برأس وذراع وصدر وبطن، فلو كان هناك رجل ثالث نابت في الجنب الآخر –أضاف هوبز ساخرا- لكان بالإمكان مقارنة هذا الشذوذ في الجسم الطبيعي بالشكل الذي يمثله الشكل المختلط للدولة.[8]

إنها سلطة مطلقة وغير محدودة، ويجب أن تكون كذلك يكون المجتمع المدني قابلا للحياة، وعليه فإن السيد هو الذي يعود له من الآن فصاعدا، أن يقرر قطعا ما هو الخير والشر، والعدل والظلم، ومالك ومالي، الملكية التي هبة من السيد، وكذلك أن الدولة يقوم بدور الشرطة الفكرية أي المتعلقة بالمذاهب أي أن يقوم بنشر المذاهب الصالحة بنشاط وحظر المذاهب الخاطئة مصدر التمردات، وكذلك بدور الشرطة المسماة بالروحية، وذلك بالقدر الذي تتطلب فيه حاجيات السلام والملكية كل هذه الحقوق، وباختصار فإن السيد بهذا المقدار هو سيد القانون والملكية والآراء والمذاهب والدين أيضا"[9].

طبعا هناك العديد من الانتقادات الجوهرية التي يمكن توجيهها لنظرية العقد الاجتماعي هاته والمتمثلة أساسا في استنادها على حالة طبيعة لم يؤكدها دليل علمي، كما أن الخصائص التي ألصقها "هوبس" بالإنسان لا تعبر عن الطبيعة البشرية كما أن هناك مجموعة الإنتقادات الأخرى، لكن المثير للإنتباه هو أن المفهوم "الهوبزوي" المطلق للسلطة وجد تجسيدا عمليا له في العديد من الدول التي تتجسد فيها تعاليم منظر الإستبداد هذا.

وبرجوعنا إلى سنوات الرصاص نجد أن مفاهيم الدولة وتوجهاتها هي وحدها الصحيحة والمقبولة، ويتم تكريسها عن طريق مؤسسات صورية وخاضعة، فبالإضافة إلى سلطة الدولة السياسية المتعاظمة فإنها استأثرت بكل المقدرات والموارد الاقتصادية، فماذا كانت النتيجة؟ لقد كانت الحصيلة ثقيلة، مجتمع متخلف يعاني الفقر والأمية والمرض والبطالة ويبتلع خيبات الأمل عن مضض زيادة على آلاف المعتقلين والمختطفين والمختفين والذين تعرضوا للتعذيب والاغتصاب والإعدام خارج نطاق القانون…

المبحث الثاني:

نماذج ومحطات من العنف السياسي بالمغرب ما بين

 56 و99.

بالاستناد إلى المعطيات الواردة في المبحث السابق والتي تجسدت بقوة في مغرب ما بعد الاستقلال السياسي، الذي تجسده اتفاقية "إيكس ليبان" والتي طبعا لم تغفل مصالح الرأسمال الفرنسي وامتيازاته وربط المغرب اقتصاديا بالسوق العالمي عموما والفرنسي على وجه الخصوص نظرا لاعتماده على تصدير بعض المواد الأولية واستقبال المنتوجات المصنعة الأجنبية، مغرب يعاني من تفاقم البطالة وضعف المستوى الصحي والثقافي ونقص التغذية والإنفجار الديمغرافي على المستوى الاجتماعي، أما المستوى الاقتصادي، فإن أهم سماته هي هيمنة القطاع الزراعي على باقي القطاعات الأخرى، وضعف الإنتاجية والتخصص في تصدير المواد الأولية القليلة التنوع وضعف معدلات الاستثمار هذا في الوقت الذي يتم فيه إثقال الخطابات الإيديولوجية بشعارات تبشر بالتنمية التي لم تتحقق.

وفي ظل هذا الواقع المتأزم على مختلف المستويات لجأت الدولة إلى العنف والقمع كخيار لا بديل عنه من أجل الإجابة على أية حركة احتجاجية على الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتأزمة والتي تعيد إنتاج هذه الأزمة التي طالت شرائح واسعة من الشعب المغربي، إن لم نقل عمومه، كانت نتيجة للسياسات الاقتصادية اللاشعبية المتمثلة في تقديم إعفاءات ضريبية لكبار الملاكين العقاريين وللرأسمال الأجنبي وزيادة العبئ الضريبي على الشرائح البسيطة والضعيفة وتهميش العالم القروي وغياب أية سياسة تصنيع حقيقية أو إصلاح زراعي كفيل ببناء اقتصاد وطني حقيقي، ناهيك عن الجرائم المالية المتمثلة في الاختلاسات ونهب المال العام وكل العمليات المشبوهة التي تتاجر بدماء الكادحين من خلال الزج القسري للبلاد في السوق العالمية الذي لا يخدم إلا تلك الأقلية المهيمنة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، كل هذه الممارسات تعد جرائم نكراء ارتكبت في حق الشعب المغربي الذي قدم خبرة أبنائه فداء للوطن من أجل الحصول على الاستقلال السياسي ومن أجل تصحيح وتغيير الأوضاع القاتمة.

لقد سخرت الدولة كل الأجهزة القمعية، من أجل التصدي لكافة المطالب العادلة والمشروعة للفئات المسحوقة والمكتوية بنار الفقر وغلاء المعيشة والأمية والمرض… وما النتائج الكارثية التي خلفتها سنوات الرصاص إلا خير شاهد على تعاطي الدولة القمعي والممنهج مع الحركات الاحتجاجية والسياسية التي عرفها المغرب (أحداث الريف 1958، انتفاضة البيضاء 1965، انتفاضة 1981، انتفاضة الخبز 1984، أحداث فاس 1990) واجتثاث الحركات الماركسية اللينينية ("23 مارس" 1970، "إلى الأمام" 1970، "لنخدم الشعب" 1972) فطيلة أربعين عاما أزمة الشرائح الواسعة تعيد إنتاج ذاتها والفئات المستفيدة تعمق مكاسبها ونهبها للشعب، والآلية هي ذاتها من أجل الإجابة على جميع المطالب العادلة والمشروعية لأبناء هذا الشعب الجريح على كافة المستويات الاقتصادي والسياسي والإديولوجي.

الآن وبعد استحالة الاستمرار في التعتيم على هذا الوضع القائم وتماشيا مع المتغيرات الدولية، صار من الضروري الحديث عن طي صفحة الماضي الأسود من خلال إحداث هيئة وطنية هي "هيئة الإنصاف والمصالحة" من أجل الحقيقة والإنصاف والمصالحة، حقيقة الإختفاء القسري والإعتقال التعسفي مع إغفال تام للجرائم الإقتصادية ومن دون ذكر لأسماء الجلادين ولإنصاف ضحايا الجريمتين السابقتين بمنحهم تعويضات من أموال الشعب، وللمصالحة، مصالحة الشعب المغربي مع تاريخه، تاريخ الإعدامات والإعدام خارج نطاق القانون والتعذيب والتعذيب المفضي إلى الموت أو إلى عاهات والاعتقال والاختطاف والاغتصاب، انتهاكات جسيمة عديدة وبالجملة، وفيما يلي بعض نماذجها.

أولا: انتفاضة 23 مارس 1965.

I ـ السياق.

شهرا بعد الخطاب الملكي الداعي إلى الإتحاد حول شخصه، في 18 نونبر 1963 افتتحت الدورة البرلمانية بحضور كل نواب المعارضة، باستثناء الفارين أو المسجونين، فالإتحاد الوطني للقوات الشعبية محروم من أغلب مسيريه، الشيء الذي دفعه إلى نسيان مواقف بن بركة، والإلتحاق بمقاعد البرلمان، والتعبير عن نية المشاركة في الحكومة، الشيء الذي أعطى مكسبا مهما للملك، مكسب ينسي فشل الانتخابات.

فحضور أكبر قوة معارضة في المجلس تعطي للملاحظين المغاربة والأجانب صورة الديمقراطية التعددية، في الوقت الذي كانت فيه قضية المؤامرة أمام القضاء[10].

وفي 20 غشت سيتم تحويل عقوبة المحكوم عليهم بالإعدام إلى المؤبد، كما سيتم تشكيل حكومة جديدة بظهير ملكي احتل فيها العسكريين نسبة مهمة، فالجنرال "أوفقير" وزيرا للداخلية والجنرال "أمزيان" وزيرا للدفاع الوطني، و"احمد باحنيني" الذي خسر الانتخابات في فاس أمام "علال الفاسي" أصبح وزيرا أولا[11].

في هذه الظروف ظهر الإتحاد الوطني لطلبة المغرب كمجال وحيد للمواقف الراديكالية، فاستقطب جماهير الشباب، وشهدت السنة الجامعية 63-64 عددا كبيرا من الإضرابات الطلابية التي كانت تتم بدعم من مسيري الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، وفي مؤتمره التاسع ذكر بشكل ضمني بمواقف الإتحاد الوطني للقوات الشعبية من خلال طلبه من القصر "إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وتعيين حكومة شعبية وإنجاز الإصلاحات الجذرية للممثلين المعتمدين على الشرائح الشعبية"، ووعيا بخطورته قررت الحكومة حله، في 15 أكتوبر 1964 لكنها تراجعت تحت ضغط نضال الطلبة، ليظل هم ضبط ومراقبة الطلبة/الشباب قائما[12].

لقد كان المستفيد هو البرجوازية الحضرية الجديدة، التي بحثت عن امتيازاتها من خلال تصدير المواد الأولية، بمبرر أنه سيسمح بتنمية العالم القروي، لكن النتيجة كانت الإفقار الشديد للمواطنين البسطاء، الذين حكم عليهم الجفاف بالهجرة، أو حكم عليهم الإغلاق المتزايد للمعامل نظرا لهجرة المعمرين بالعطالة، دون أن تكون هناك سياسة صناعية حقيقية بديلة.[13]

II ـ الأحداث.

في هذا السياق قام المتظاهرون في 23 مارس 1965، بسبب دورية "يوسف بلعباس" وزير التربية الوطنية التي أعلن فيها منع التلاميذ الذين تتجاوز أعمارهم 17 سنة من ولوج السلك الثاني بالثانويات، أي 60% من مجموع التلاميذ في الوقت الذي كان فيه عدد الحاصلين على شهادة البكالوريا قليلا جدا 1500 تلميذ سنويا إلى حدود سنة 1965، إنه رمز له قوة كبيرة في الإثارة والتحريك كما يظهر من خلال الدورية.

لقد دخل تلاميذ الثانويات بالبيضاء في إضراب يومي 22 و23 مارس، ونزلوا إلى الشوارع برفقة عائلاتهم، كما التحق بهم العمل العمال وساكنة الأحياء الشعبية وأحياء الصفيح، لقد ردّد المتظاهرون شعارات ضد الملك تعبيرا عن مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية وتقييد الملكية[14].

المواجهات مع قوات القمع كانت عنيفة، الحشود تسب وتضرب القوات العمومية بالحجارة، وآخرون يهاجمون السجن، أما العقاب فقد كان آنيا، فالجنود عززوا الشرطة والجنرال "أوفقير" لم يتردد في رمي الجماهير بالرصاص من رشاشه الآلي وهو يستقل طائرة هيليوكوبتر، لقد استغرق إحضار الدبابات يومين وذلك من أجل محاصرة آخر المتظاهرين، لقد كان عدد الضحايا مهولا، ومن المستحيل تحديد رقم مضبوط، بما أن الأرقام تختلف تبعا للمصادر، بل إن الكثير من الضحايا تم إدخالهم تحت جنح الظلام، ففي الوقت الذي تتحدث فيه "الحركة الوطنية" عن بعض المئات من القتلى و3000 موقوف، يعلن رسميا عن 7 قتلى و69 مصاب و168 توقيف.

إتساع وظرفية إندماج التلاميذ والعمال والمعطلين وكل من يعاني من الأزمة الاقتصادية جعل هذه التظاهرات واحدة من الحركات الاجتماعية الأكثر أهمية بعد 1956، لكن هل دورية حول شروط الولوج إلى السلك الثاني بإمكانها أن تفسر ردة الفعل هاته؟ بالرغم من كون التعليم نخبوي ويعد رهان استراتيجي بالنسبة للدولة التي بقيت في حذر دائم من التكوين، ومن المدرسة باعتبارها مكانا للتعليم والنقاش والإختلاف.[15] إن الأزمة الشاملة التي سبقت الإشارة إلى مظاهرها هي وحدها القادرة على تفسير الفعل ورد الفعل.

في خطاب ملكي موجه للشعب في 30 مارس يحمل مسؤولية الأحداث بشكل خاص للأسر والأساتذة الذين سمحوا للتلاميذ بالنزول إلى الشوارع، والذين دفعوهم إلى التظاهر بتحريضهم على أفكارهم، دون أن نغفل الجانب الثاني الذي يفسر خلاله الطابع العنيف الذي اتخذته الأحداث، إنه تدخل الغاضبين واليائسين والعاطلين عن العمل نظرا لأفواج العمال المتخلى عن خدماتهم، بل آلاف العمال فقدوا عملهم بسبب الأزمة الاقتصادية، فهؤلاء المستائين مسؤولين عن تزويد أبنائهم بهذا اليأس، إن تزايد أعداد المتظاهرين أعطى للمظاهرات شكلا عنيفا ومتسارع أكثر من تظاهرات التلاميذ[16].

إن أحداث 1965 اعتبرت كشكل من أشكال العلاقة بين "المخزن" الدولة والمجتمع، وكقطيعة بين جيلين سياسيين، جيل الحماية وجيل الاستقلال، وعموما فإن الشارع والثانوية والجامعة من أهم الأمكنة لتعليم الشباب، وتظاهرات 65 كالتي تلتها في 81-84-1990 ستكون مناسبة مع الإعدام خارج نطاق القانون والتعذيب والعقاب والسجن بالنسبة للعديد.

ثانيا: تدمير الحركة الماركسية اللينينية.

توقيفات ومتابعات السلطة خلال عقد السبعينات شملت كل الحركة الماركسية اللينينية، والتي همت بشكل خاص تلاميذ الثانويات والطلبة والشبيبة التعليمية، وكذلك المثقفين الذين يسمعون صوتا جديدا من خلال "أنفاس" ومن داخل الأندية السينمائية، والجمعيات الثقافية، إنها الحكاية ذاتها، التي تتكرر على طول هذه السنوات إنها "عنف الدولة" الذي لا يريد فقط وضع حد لنشاطات المعارضين، بل أيضا منعهم من أية إمكانية للتعبير وتدميرهم ماديا وفكريا، حد الحمق بالنسبة للبعض والموت بالنسبة للبعض الآخر.[17]

I ـ التعذيب.

بعد الإعتقالات الأغلبية ستعرف "درب مولاي الشريف" والأقبية في مديريات أمن البيضاء حيث الصراخ الحاد واللامنقطع، والكوابيس تمتزج بالحقيقة، يقاد السجناء بعد أن يتم اختطافهم من الطريق أو من أماكن عملهم، ليختفوا أياما وشهورا، ولمدة تزيد عن سنة بالنسبة لبعضهم، دون أن تكون لهم أية علاقة بالخارج، ودون أن تعترف الشرطة باعتقالهم. لقد عاشوا بشكل دائم معصوبي العينين، مقيدي اليدين، والجلاد يناديهم بأرقام دون أن يسمح لهم بالحديث بينهم، تحت طائلة العقاب، طبعا كانت هناك فترات من اليوم مخصصة للتعذيب، هذا التعذيب الذي حاول العديد من الضحايا وصفه في جمل تسجل معاناتهم في سجون الفرنسيين وسجون أوفقير، وتجعلهم قريبين من كل ضحايا هاته الأمكنة، وغيرها وتسجل لنا اليوم شهادة على مأساتهم، بل مأساتنا جميعا.

"كيف يمكن وصف المعاناة الإنسانية؟ التافهة وإن كانت معاناة إنسانية رهيبة، أقول تافهة لأنه ليس هناك فقط يمكن أن يستلب الناس أبسط حقوقهم في التعبير، الصراخ النابع من الأعماق، والمتناقض حتى يصير أنينا، الرغبة العفوية في الحياة، رغم بتر الأوصال الذي يقزم الأمل في الحياة، بهذه الحركة الصامتة، كالتي تقوم بها الأسماك بأفواهها عندما تتحرك بشكل غريزي، في حوض أسماك، أو في قعر سلة صياد. الدماغ يتقلص ليصير في حجم جوزة عندما تحرق الشحنة الكهربائية الأفكار وتفرغ العظام من نخاعها وتجعل الأمعاء كرة خيوط مكبلة، خائرة ودامية".[18]

بعد التوقيع على محاضر لا يستطيعون قراءتها بأعينهم المعصوبة، يوزعون على مجموعات داخل السجن، ليدانوا ويحاكموا بعقوبات قد تصل إلى المؤبد، لأنهم ارتكبوا جريمة أستاذ الآراء الممنوعة. لكن بالنسبة إليهم جميعا مغادرة درب مولاي الشريف صوب السجن كمرحلة أولى يعتبر كأنه إطلاق للسراح.[19]

II ـ المحاكمات.

1 ـ محاكمة البيضاء 1973.

فتح محضر في 31 يوليوز 1973 أمام المحكمة الجهوية بالبيضاء حيث اتهم 86 شخص ب"المس بأمن الدولة، الحمل غير القانوني للسلاح وحيازة المتفجرات…" هذه المرة كان الهدف تقويض مناضلي الماركسية اللينينية والذين ينتمون إلى ثلاث منظمات انشقت عن الإتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرر والإشتراكية هي "إلى الأمام" و"23 مارس" و"لنخدم الشعب"، معارضتهم المفتوحة والمطلقة للأحزاب التي انبثقوا عنها يفسر غيابها عندما تم إيقافهم ومحاكمتهم، فبالنسبة للإتحاد الوطني للقوات الشعبية هم مغامرون، يساريون، لذا فإن المحامين الذين تولوا الدفاع عنهم هم في أغلبهم من دون انتماء سياسي كعبد الرحيم برادة منسق هيئة الدفاع.

من بين المدانين الشاعر عبد اللطيف اللعبي، ومحمد الشباع منشط "انفاس"، وعلي نوري، أنيس بلافريج مهندس، هنا أيضا نفس الشيء كما في المحاكمات التي طالت جيلا من مناضلي الحركة الوطنية، نفس السيناريو يتكرر خلال فترة ممتدة تقريبا دامت سنة بالنسبة لأغلبيتهم، سنة من الحراسة النظرية في مراكز الاعتقال السرية بدرب مولاي الشريف، حيث الممارسة المنتظمة للتعذيب، المحاضر التي يتم التوقيع عليها بعينين مغمضتين، وأخيرا الإضراب عن الطعام من أجل الوصول إلى المحاكمة العلنية.

فبالنسبة لستة متهمين من بينهم "عبد اللطيف العيبي" و"أنس بلافريج" توبعوا بتأسيس منظمة يسارية متطرفة هدفها الإطاحة بالنظام القائم وإقامة نظام جمهوري اشتراكي في 1 شتنبر 1973 صدرت في حق المتهمين ال86 أحكام قاسية جدا، 6 كم عليهم ب15 سنة سجن و13 ب10 سنوات و1 ب8 سنوات، 6 بخمس سنوات و2 ب18 شهر و14 أطلقوا من دون محاكمة و11 عقوبة موقوفة و25 متهم بالمؤبد من بينهم "السرفاتي" و"عبد اللطيف زروال" حوكموا غيابيا، "أنس بلافريج" أطلق سراحه سنة 1977 و"عبد اللطيف اللعبي" محكوم ب10 سنوات خرج سنة 1980، وفي 13 أكتوبر سنة 1979 قام "سيمون أسيدون" بمحاولة للهرب من مستشفى السجن بمساعدة اثنين من رفاقه مستعملين لذلك حيلا، أما "رحال جبيهة" فمات/استشهد بعد أن سقط من جدار علوه 35 مترا أما المحاولة ذاتها فقد باءت بالفشل.[20]

2 ـ "محاكمة الجبهويون" سنة 1977.

انطلاقا من نونبر 1974 بدأت موجة جديدة من الاعتقالات حصدت 120 من مناضلي الحركة الماركسية اللينينية، كان من بينهم "عبد اللطيف زروال" الذي مات/استشهد تحت التعذيب في 14/11/1974، 9 أيام بعد اعتقاله في معتقد "درب مولاي الشريف"، وآخرون سيتم اعتقالهم في السنة الموالية، ولن يظهر الجميع إلا في يناير 1976، ليوزعوا على سجن "غبيلة" و"عين برجة"، لقد دخلوا في إضراب مفتوح عن الطعام يوم 14/11/1976 تحت شعار "الحكم أو البراءة" 105 معتقل تم الإفراج عنهم في 7/12/1976، وآخرون حدد لهم 11/12/1976 كتاريخ لمحاكمة بعد أن أدينوا بشكل رسمي أمام الغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف بتهمة التآمر على النظام وتبديله بآخر، إعلان الحرب الشعبية، تأسيس أو الإنتماء إلى جمعية سرية ماركسية لينينية تهدف إلى تغيير النظام الملكي بجمهورية ديمقراطية شعبية…".[21]

لقد كانت المحاكمة مناسبة أخرى ودليل آخر على فساد القضاء، الذي هو في الأساس المكلف بحماية الحقوق والساهر على تحقيق العدل..، وعدم استقلاليته، ومجافاته لأبسط الضمانات التي يكفلها القانون، فالقضاء مارس جرائم بشعة في حق الشعب وواحد في آليات الدولة التي خلفت سنوات الرصاص.

والأحكام الصادرة في هذه المحاكمة هي الأخرى دليل على ذلك لقد تراوحت ما بين المؤبد و10 سنوات بعد أن تمت الإدانة في الأساس بسبب الآراء قبل كل شيء آخر، لأنهم فكروا بشكل مختلف وأرادوا إقناع أشخاص آخرين بفهمهم للعدالة، ففي دولة الحق والقانون الأفعال وحدها دون الأقوال تقع تحت طائلة القانون.

III ـ مختطفون من دون محاكمة.

من بين المعارضين من اعتقل من دون صك اتهام أو محاكمة، إنها حالة "محمد ندراني" على سبيل المثال لا الحصر، إنه طالب في السنة الأولى فلسفة بالرباط كان عمره 22 سنة عندما تم اعتقاله في مركز للإعتقال السري لمدة 16 شهر ونصف، حيث ذاق التعذيب والعينين المغمضتين، والأصفاد تكبل اليدين، إنه كابوس متواصل ليل نهار وحلم بمحاكمة علنية وعادلة لم يتحقق قط، وفي 5 غشت 1977 كان واحدا من بعثة إلى معتقل "اكدز السري"، إكدز تلك القرية الصغيرة والضائعة في عمالة ورزازات، لقد وصلوا على متن شاحنة ليستقبلهم الحراس بالضرب، وإخبارهم أنه سيبدأ نظام جديد تقوم عليه "القوات المساعدة" و"المتنقلة"، إنهم نقلوا إلى هناك لكي يموتوا كالذين ماتوا، ليسوا هناك من أجل التحقيق أو المحاكمة، بل من أجل طأطأة الرأس، كان هناك أعداد من النساء والرجال والشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و16 سنة، والشيوخ، لقد تعودوا العيش على الفضلات التي تفيض عن حاجة الكلاب، وسرد حكايا قرأوها أو علمتهم إياها الرمال المتناثرة في قلعة مكونة في هضبة دادس المعروفة بزهورها والممتلئة بالسياح، لقد كان معزولا في زنزانته لمدة سنة ونصف وفي 31 ديسمبر 1984، تم إطلاق سراحه من دون أن يقول له أحد بماذا كان متهما.[22]

 

 

إن تطور الاعتقالات وظروف الاعتقالات، ومحاكمة المناضلين السياسيين، يعبر وبما لا يدع مجالا للشك عن بشاعة وفساد الوجه السياسي للدولة، الذي هو في نهاية المطاف انعكاس للواقع الاقتصادي الفاسد، والذي تدخلت الدولة بكل ثقلها من أجل الحفاظ عليه وإعادة إنتاجه خدمة لمصالح الأقلية المستفيدة من بؤس وشقاء عموم الشعب.

 

 

 

 

 
  Zone de Texte: الفصل الثاني:

لجنــــة تقصـــــي الحقائـــــــق.



 

 

 

بصرف النظر على الخصوصيات المحايدة لكل تجربة، فإن الهدف العلني المشترك بينها جميعا هو بناء أنظمة ديمقراطية، ولكل تجربة رؤيتها الخاصة، التي يجب في نهاية المطاف أن تتقاطع مع الديمقراطية بمفهومها الليبرالي التي تروج لحقوق الإنسان والإنتخابات الحرة النزيهة والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، إنها النموذج الأمثل الذي يجب أن يحتدى.

إن هذا الوجه المشرق زيفا يخفي وراءه الحقيقة البشعة الحقيقية المتجسدة في تبعية وتخلف الدول التي هي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالسير قدما في ابتلاع طعم هذا المسخ المسمى ديمقراطية من أجل تكريس تبعيتها، ولتفريج أزمة الإمبريالية العالمية المتفاقمة يوما بعد يوم.

هذه التبعية وهذا التخلف يعد نتيجة مباشرة لتغلغل الرأسمال العالمي في اقتصادياتها، هذا الرأسمال الذي يبحث عن مراكمة الأرباح الناتجة عن العرق الذي يسرقه الرأسماليون نتيجة احتكار عمل العمال، وخصوصا عملهم الغير المؤدى عنه، ومن أجل الحفاظ على هذا الوضع وإعادة إنتاجه يتم استخدام قناع الديمقراطية والحرية والمساواة التي ليس لها نصيب في التطبيق العملي.

إن المؤسسات المالية العالمية المتمثلة أساسا في "منظمة التجارة العالمية" و"صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" تفرض احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية من أجل منح قروضها المجحفة، والمنظمات الدولية تفرض الشروط ذاتها من أجل الحصول على عضويتها، كما أن الدول الإمبريالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية تشن الحروب للأسباب ذاتها، إذن فلا مفر من هذه الديمقراطية.

ديمقراطية على هذه الشاكلة تكرس أزمة الدول التابعة وتزيد من تفاقمها في الوقت الذي تطالب فيه شعوبها بديمقراطية العيش الكريم، فبالرغم من أن كل المؤثرات تشير إلى أن موازين القوة لصالح الخيار الأول، لكن حركة التاريخ تجعل موازين القوة عديمة الثبات.

المبحث الأول:

 تـــــجـــــــــــــــــارب دوليــــــــــــــة.

I ـ "الحقيقة والمصالحة" الجنوب إفريقية.

لقد اختارت جنوب أفريقيا التعريف الرسمي بالحقيقة، حول الفظاعات التي ارتكبت في ظل نظام "الأبارتيد"، وذلك من خلال السماح للضحايا بقول شهاداتهم حول الإنتهاكات التي تعرضوا لها، ودفع الجناة إلى الاعتراف بجرائمهم في مقابل العفو عنهم.

إن التجربة الجنوب أفريقية، مهمة رغم ما يمكن أن يثار حولها من تحفظات. لقد بدأ عمل لجنة الحقيقة والمصالحة في دجنبر 1995، ونشر تقريرها النهائي في أكتوبر 1998، لكنها ظلت قائمة بعد 2000، التاريخ المحدد لانقضائها، من أجل متابعة الشكايات الكثيرة، ومن أجل تنفيذ برامج الإصلاح، إنها في الأصل مكونة من ثلاث لجان:

·       لجنة العفو.

·       لجنة التعويض.

·       لجنة انتهاكات حقوق الإنسان.

لكن بعد سنة 2000، لجنة العفو هي التي ظلت نشيطة، واحتوت اللجنتين الأخرتين.[23]

لقد تلقت لجنة الحقيقة 20000 شكاية، تقدم بها الضحايا 2000 منها عبارة عن شهادات عمومية، كما عالجت 8000 طلب عفو، مقدم من الجناة، إن انتهاكات "الأبارتايد" استهدفت شعبا بأكمله، كان الهدف هو تدمير الأغلبية السوداء لصالح أقلية بيضاء، فما بين 1960 و1982 حوالي 3.5 مليون مواطن تعرضوا للترحيل القسري، لقد تعرضوا للتدمير الكلي، لقد شردت ودمرت الأسر، لكن هذا الترحيل القسري، لم يكن موضوع اعتبار القانون، والذين تعرضوا للترحيل لم يتم اعتبارهم ضحايا، إن الترحيل القسري للمواطنين لم يكن مخالفا للقانون في نظام الأبارتايد، كما أن اللجنة لم تعتد به، أي أن الحقيقة كانت ناقصة.[24]

المصالحة بين المستفيدين من نظام الأبارتايد وضحاياه نظريا شيء متميز، لكن التصالح، يعني إقامة وضعية كانت قائمة من قبل، وهذا يعني أنه في السابق وجدت حالة من السلام والتصالح، لكن جنوب أفريقيا كانت مستعمرة من طرف السكان البيض، أما السود فلم يسبق لهم قط، أن عاشوا معهم باعتبارهم مواطنين من نفس الجماعة السياسية، إن هدف الهيئة إذن، هو إقامة شيء لم يسبق له أن وجد، إذن من أين لنا حق التساؤل عن مدى نجاحها، باعتبارها آلية للمصالحة والتعويض، إن الأكيد هو أن اللجنة كلفت بتسليط الضوء على فترة ماضي جنوب افريقيا، الشيء الذي سمح لها بحكيه انطلاقا من ذكريات الشهود، هكذا إذن، لم تبق إلا العلاقة بين الحقيقة والمصالحة، إنها علاقة على قدر كبير من التعقيد.[25]

إن الحيز المخصص للصفح، في مسلسل المصالحة الجنوب افريقية، استدعى تدخل القانونيين، والمدافعين عن حقوق الإنسان، وكان صادما في حالات كثيرة للضحايا الذين لا يقبلون هذه الفكرة، إنها حالة أرملة "ستيف بيكو" مؤسس وزعيم حركة "وعي السود" "Mouvement de la conscience noir" الذي اغتيل في نونبر 1977، من قبل الشرطة العنصرية الجنوب الأفريقية، وفيما يلي مقتطف من شهادتها.

تقول أرملة "ستيف بيكو": "كيف يمكن الصفح من دون إقامة عدالة حقيقية؟".

"أسمع منذ مدة، إن العدالة ستقام، لقد صرحت سابقا، ومنذ التحقيق الذي أجري حينها، حول وفاة زوجي، وأتمنى أن تتم العودة لهاته الحالة، لكي نتمكن من الاطلاع على الحقيقة، لكنني لا أطن، أن أي شخص كيفما كان بإمكانه أن يقول لي الحقيقة، الشيء الوحيد، الذي بإمكانه التعريف بالحقيقة هو متابعة الجناة أمام محكمة للعدالة، ومساءلتهم ومحاكمتهم، فإذا كان بإمكان الجناة الوقوف أمام اللجنة، فإنهن من المحتمل جدا أن يكذبوا، من أجل الحصول على العفو، وحينها لن تتحقق أية عدالة للأسر، لا أتحدث عن حالة زوجي فقط، بل هناك الكثير من الحالات التي تستحق أن تبحث تفاصيلها.

لا أعرف ما الذي ستحمله اللجنة، فلم يسبق لأحد أن زارني، ليوضح لي بماذا تهتم، والشيء الوحيد الذي أعرفه أنه في النهاية سنسامح هؤلاء المجرمين، لكن كيف يمكن الصفح من دون إقامة عدالة حقيقية؟ إنه من الصعب جدا على أن أسمع من جديد، الكذب الذي سمعته، خلال التحقيق سنة 1978، ولا أريد سماع أي كذب، كفيما كان، ما الذي يضمن لي إن قتلة زوجي سيقولون الحقيقة اليوم؟ سيقولون ما يريدون من أجل الحصول على العفو، بالنسبة لي، إنه من العبث الصادم أن يطلب مني الوقوف أمام اللجنة، لأن كل ما أريده هو أن يتابع القتلة أمام محكمة حقيقية للعدل (…).[26]

أطلب في الحالة التي يقدم فيها الملازمون، والضباط، والآخرين المعروفة، بل المشهورة أسماؤهم، شهاداتهم، أطلب أن يقولوا الحقيقة، والبدء برجال الشرطة الذين اعتقلوا "ستيف بيكو" في السجن، لقد كان في حالة صحية جيدة، لكنه خرج من سجن بريتوريا، في حالة كارثية، مجموعة كسور في الجسد كله، تجاعيد في الوجه، وحدهم يعرفون ما الذي حدث. والأطباء يتحملون أيضا مسؤولية كبيرة في موته، لأنهم لم يفعلوا ما يجب لإنقاذ إنسان يحتضر (…) كيف يمكنهم الإجابة على هذه الأسئلة؟ إنهم لن يقولوا الحقيقة، إلا أمام محكمة حقيقية، أشك كثيرا في أنهم يستطيعون إقناعي بأن لجنة الحقيقة هاته، ستتوصل إلى المصالحة، بإمكان البعض الإعتقاد بأن المصالحة ستفضي إلى العدالة، لكن بالنسبة لي العدالة هي السابقة (…) إنه مجرد نبش في الجراح من أجل لاشيء".[27]

إن أهم دور للجان تقصي الحقائق يتجسد في الكشف عن الحقيقة في كل أبعادها من دون تعتيم ولا تستر، وفي حالة ما إذا وقع العكس فإن مآلها الحتمي هو الفشل والإفلاس التام، والتاريخ وحده يسقط الأقنعة الزائفة، اعتمادا على الإمكانيات المادية والمعنوية الكفيلة بمعرفة الأسباب الحقيقية للقمع الوحشي الذي تجيب به الدولة في المجتمعات المعنية، عن كل الحركات الاحتجاجية والسياسية التي تعبر عن المطالب العادلة والمشروعة للفئات المستلبة والمجردة من كل سلطة.

إن نجاح هذه اللجان في مهامها أي القضاء على ظاهرة القمع الوحشي الكثيف والممنهج، رهين بمجموعة من التدابير المصاحبة والمتمثلة أساسا في حل الأجهزة السرية المتورطة في ممارسة الاستبداد ومحاكمة رموزه ووضع دساتير تكون إفرازا للشعب وتعبيرا عن تطلعاته، من أجل بناء دولة الحق والقانون، وتجسيد الديمقراطية في بعدها السياسي، على الأقل كممارسة، لأن الأبعاد الأخرى للديمقراطية (الإقتصادية، الإجتماعية، الثقافية) لها مداخلها الخاصة، وهذه الأبعاد الأخرى على قدر كبير من الأهمية والأولوية وكل محاولة لحصر الإشكال في بعده السياسي هو جريمة أخرى تنضاف إلى قائمة الجرائم السابقة.

 

II ـ تجربة الأرجنتين.

إن نهاية النظام الاستبدادي السابق في الأرجنتين، جعل إمكانية متابعة ومحاكمة مجرمي الاستبداد مطلبا شعبيا، فمسؤولية الحكومة العسكرية فيما يخص الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان ثابتة.[28]

لقد أثبتت لجنة التقصي التي عينها الرئيس "الفونسين" برئاسة "أرستو ساباتو"[29] مسؤولية قوات الأمن في "الإختفاء القسري" الذي طال 8900 شخص على الأقل، وبأنها كانت تتوفر على شبكة تتكون من 3470 مركز للإعتقال والتعذيب، وبأن حوالي 200 ضابط، قدمت اللجنة أسماءهم بالكامل، قد ثبت أنهم شاركوا فعلا في هذه العمليات إلى جانب مسؤولين آخرين، ثبت تورطهم في حملات القمع المنظمة، وقد وصل مجموع من تمت محاكمتهم إلى 16 ضابطا بمن فيهم أفراد الظغمة العسكرية، ثبت في حق عشرة منهم تهم تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان.

لقد نشر تقرير "لجنة أرنتسو" في شهر شتنبر 1984، بعد أن استمعت شهادات الضحايا وأسرهم والشخصيات الحكومية، وأشخاص أخرى وتفحصت العديد من الوثائق الرسمية، كما زارت مراكز الإعتقال والتعذيب وقدمت في نهاية ذلك ملخصا من 400 صفحة عن تقريرها الأصلي الذي يتكون من 50.000 صفحة تحت عنوان "حتى لا يتكرر هذا".[30]

تقدم تجربة الأرجنتين دليلا عمليا على أن محاكمة بعض رموز النظام الاستبدادي لا تعني حل مشكل الاستبداد وكل الآثار المترتبة عليه، بل الحل يكمن في القضاء النهائي على هذا النظام، بحيث يصير من غير الممكن إفراز رموز وأطر جديدة.

المبحث الثاني:

"الإنصاف والمصالحة" بالمغرب.

المطلب الأول: عموميات.

I ـ ورقة تعريفية ب"هيئة الإنصاف والمصالحة".

الهيئة لجنة وطنية للحقيقة والإنصاف والمصالحة، أنشأت بناء على القرار الملكي بالموافقة على توصية المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان المتضمن لنظامها الأساسي، الصادر ب12 أبريل 2004، ذات اختصاصات غير قضائية في مجال تسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، الممتدة ما بين 1956 و1999.

Ø   المهام:

o     الكشف عن الحقيقة.

o     جبر الضرر وإعادة الإعتبار.

o     التوصيات وضمان الوقاية وعدم التكرار.

o     المصالحة.[31]

Ø   فرق العمل:

o     فريق العمل المكلف بالتحريات.

o     فريق العمل المكلف بجبر الأضرار.

o     فريق العمل المكلف بالأبحاث والدراسات.[32]

Ø   خصوصيات:

"لتخصيص المضامين التي تعبر عنها بعض المفاهيم المستعملة في المجال الحقوقي، والقانون الدولي الإنساني، سواء على المستوى المحلي، والإقليمي والعالمي، تنص المادة 5 من النظام الأساسي للهيئة على: "يقصد بالمصطلحات الآتية، بالنسبة لهذا النظام:

o     الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان: هي الإختفاء القسري والإعتقال التعسفي كما هو مبين أدناه، باعتبارهما من الخروقات للحقوق المدنية والسياسية تتسم بصبغتها المكثفة أو الممنهجة.

o     الإختفاء القسري: اختطاف شخص، أو أشخاص، أو إلقاء القبض عليهم، واحتجازهم بأماكن سرية رغما عنهم، بسلب حريتهم بدون وجه حق على أيدي موظفين عموميين، أو أفرادا، أو جماعات، تتصرف باسم الدولة، أو عدم الإعتراف بذلك، ورفض الكشف عن مصيرهم، مما يحرم أولئك الأشخاص من كل حماية قانونية.

o     الإعتقال التعسفي: كل احتجاز أو اعتقال مخالف للقانون، يتعارض ومبادئ حقوق الإنسان الأساسية، وخاصة حق الأفراد في الحرية والسلامة البدنية، وذلك بسبب ممارستهم لأنشطة سياسية أو ثقافية أو جمعوية.

o     الضحية: شخص تعرض لإعتقال تعسفي أو اختفاء قسري، حسب الوصف أعلاه.

o     جبر الضرر: مجموع التدابير المتخذة لفائدة الضحية عما حصل له، هو نفسه، أو لذوي حقوقه، من أضرار مادية ومعنوية، نتيجة الإختفاء القسري أو الإعتقال التعسفي فضلا عن التدابيرالمتخذة على النطاق العام والجماعي ويتخذ جبر الأضرار أشكالا وتدابير متنوعة منها التعويض، وإعادة التأهيل والإدماج والإسترداد ورد الإعتبار وحفظ الذاكرة، والضمانات بعدم الارتكاز. ويتم جبر الأضرار، في حالة وفاة الضحية أو عدم العثور عليه، لفائدة ورثته أو ذوي حقوقه".[33]

Ø   معطيات:[34]

توصلت هيئة الإنصاف والمصالحة ب22.1272 طلبا منها 10.169 سبق "للجنة المستقلة للتعويض" أن توصلت بها خارج الأجل.

Ø   المتقدمون بالطلبات:

 60 في المائة من الطلبات التي توصلت بها هيئة الإنصاف والمصالحة وضعت من طرف الضحايا أنفسهم، والباقي وضع إما من طرف ذوي الحقوق (37%) أو من طرف محامي (2%) أو من طرف جمعية أو منظمة (1%)، وقد أفرزت هذه الطلبات ما يناهز 16000 ملف لضحايا تعرضوا لانتهاكات حقوق الإنسان ارتبطت بمختلف الأحداث التي شهدها المغرب منذ 1956 إلى غاية 1999.

Ø   مضمون الطلبات:

Ø   توزيع الطلبات:

توصلت هيئة "الإنصاف والمصالحة" بطلبات من مختلف جهات المغرب، أما الطلبات المتوصل بها من خارج المغرب فتمثل نسبة 0.87% من مجموع الطلبات الواردة على الهيئة وقد جاءت تلك الطلبات من إسبانيا وألمانيا والجزائر والعراق والولايات المتحدة وفرنسا وكندا وليبيا وهولندا.

Ø   أنواع الإنتهاكات:

حسب البيانات الواردة في الملفات فإن توزيع الإنتهاكات حسب النوع جاء كما يلي:

o     الإختفاء القسري: 2.48%.

o     الإعتقال التعسفي 79.25%.

o     النفي 1.16%.

o     الوفاة خلال الأحداث داخل المدن 0.30%.

o     الجرح خلال الأحداث داخل المدن 0.26%.

o     خروقات أخرى 16.19%.

Ø   نوعية الضرر كما هو مصرح به من طرف الضحايا:

o     الضرر الجسدي والمعنوي 50%.

o     الضرر المادي: (فقدان الشغل، فقدان الدخل، حجز الممتلكات…) 30%.

o     أضرار أخرى: 20%.

II ـ تذكير:

أكيد أن الدولة المغربية قد صادقت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعلى العهدين الدوليين لسنة 1966 الأول المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، الثاني ومتعلق بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وأنها تعلن في ديباجة جميع الدساتير التي عرفتها من تشبتها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، لكن الأكيد جدا هو أن الشعب المغربي عرف أشكالا فظيعة من الإنتهاكات لصنفي الحقوق معا، ورغم الأهمية البالغة التي تكتسيها الجرائم الإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي تعرض لها عموم المغاربة، فإنها خارج التغطية ولا يتم تسليط الأضواء عليها، وكل ما تسمح به معطيات المرحلة هو الحديث عن "الانتهاكات الجسيمة لحقوق المدنية والسياسية"، التي يحددها الموقف الرسمي حصريا في الإعتقال التعفسي والإختفاء القسري، مع العلم أن المغرب شهد ومنذ حصوله على الاستقلال السياسي أبشع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وبطرق شاذة، فهناك الاختطاف والاعتقال وانتهاك حرمة المنازل ومداهمتها وحرمة المراسلات وقمع حرية التعبير والتجمع والتفكير والاعتقاد، كل هذا يعد مقدمة لما هو أهم وأخطر، إنه العنف المادي والمعنوي، والتعذيب، ومنه المفضي إلى الموت أو إلى العاهات العقلية أو البدنية غالبيتها مزمنة، في مراكز الشرطة والمعتقلات السرية وفي الشوارع على حد سواء، ولا بأس إن أزهقت بعض، مئات، آلاف، الأرواح أو صدرت أحكام جائرة في حق آخرين، ولا يهم أن يوفر السجن شيئا آخر غير إمكانية البقاء دون غيرها، فلا الشروط الصحية مهمة ولا الحقوق المعترف بها قانونيا للإنسان مهمة، ولا اعتبار المعتقل بشرا شيء مرغوب فيه.

إن القاسم المشترك بين جميع هؤلاء هو أنهم عارضوا أو كانت لهم صلة بمن له رأي معارض، لقد دمرت الدولة معارضيها الشيء الذي أفرز مراسيم تأبين من دون انقطاع.

لكننا اليوم بصدد "الطي النهائي لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان" التي وقعت بين 1956 و1999، وذلك من خلال تنصيب "هيئة الإنصاف والمصالحة" والإعلان الصريح وآليات عن الصفح وعدم مساءلة الجناة رغبة في عدم إثارة الفتن !! فرغم أن الحديث عن المتابعة تحصيل حاصل إلا أنه ضروري.

المطلب الثاني: المتابعة الجنائية.

كلما تعلق الأمر بجرائم الخرق السافر لحقوق الإنسان المتمثلة في الإعدام خارج نطاق القانون، التعذيب، الإعتقال التعسفي، الإختطاف، الإغتصاب… وبمسألة متابعة المجرمين المسؤولين عنها قضائيا ومعاقبتهم أم العفو عنهم والدعوة إلى النسيان؟ كلما وجدنا أمامنا خيارين لكل واحد منهما، أنصاره الذين يسوقون حجج لتبريره، وبما أن المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان حسم الأمر وبشكل قطعي لصالح عدم تحريم المتابعة الجنائية للمتورطين في الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بمبرر عدم إثارة الفتن ضدا على إرادة كل القوى التي تطالب بالمتابعة القضائية. وفيما يلي تفنيد المحامي "عبد الرحيم برادة" لحجة اللاعقاب وهو نفس الموقف الذي تتبناه "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان" و"المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف" في حين ترى المنظمة المغربية لحقوق الإنسان أن ظروف "الإنتقال الديمقراطي" والإكراهات السياسية تسير في اتجاه عدم تحريك المتابعة القضائية.

أولا: عدم تحريم المتابعة الجنائية.

I ـ الخيار الرسمي.

"إن "المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان" وفي ضوء ما سبق يؤكد بخصوص "طي صفحة الماضي" مقاربته التي تتعارض بصفة قطعية مع كل الدعوات إلى الضغينة والإنتقام والمساءلة الجنائية".[35]

"يندرج عمل الهيئة في مسلسل التسوية الغير القضائية الجاري (لطي ملف انتهاكات حقوق الإنسان) المرتكبة في الماضي، ولا يمكنها في أي حال من الأحوال بعد إجراء الأبحاث اللازمة إثارة المسؤولية الفردية أيا كان نوعها، كما لا يمكنها اتخاذ أية مبادرة يكون من شأنها إثارة الإنشقاق أو الضغينة أو إشاعة الفتن".[36]

لقد حسمت مسألة الإفلات من العقاب من عدمه لصالح الخيار الأول بمبرر عدم إثارة الفتن والضغائن، إن التوصية تطمئن الجناة وتحرص على التنبيه بلغة قطعية، أن "هيئة الإنصاف والمصالحة" لا يمكنها إثارة المسؤوليات الفردية، وهي بذلك "تقايض الإنصات بسكوت الضحايا والمدافعين عن حقوق الإنسان على حقيقة الإنتهاكات التي مستهم في كرامتهم أو في حياة أفراد من أسرهم، وعلى حقيقة هذه الإنتهاكات متعددة الأبعاد.

هكذا إذن يكون كل من يسعى إلى كشف حقيقة الجناة يكن الضغينة ويدعو إلى الكراهية والشقاق والفتنة، إن عدم المتابعة إشارة قوية إلى الجناة في ملف سنوات الرصاص، كما في أي ملف آخر من ملفات الفساد أو غيرها تغريهم بالإستمرار في عتوهم وشططهم، وتزيدهم يقينا بأنهم محصنون ولن يطالهم العقاب.

II ـ المنظمة المغربية لحقوق الإنسان[37].

إن المنظمة المغربية لحقوق الإنسان لا تضع في خلفياتها وأهدافها موضوع المساءلة الجنائية، كما عبر على ذلك نائب الرئيس بهذا الخصوص، فالإنتقال السلمي والتدريجي من طرف نفس النظام الذي حصلت في ظله الإنتهاكات السابقة والتسوية العادلة للملف والمصالحة بشأنها يتحقق من إقرار الدولة الضمني بالمسؤولية، والإعتذار العلني، والتقدير المعنوي الذي يمكن أن يصدر عن اللجنة الوطنية للحقيقة، والعزل التدريجي وغير المباشر للمسؤولين عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، أو عزلهم شعبيا بواسطة انتخابات حرة ونزيهة، وهذه أشكال أخرى للمساءلة، فالمهم هو إقرار الدولة والمجتمع بأن ما حصل كان فظيعا، لأن هناك إرادة قوية حتى لا يتكرر ذلك، والمشكل الكبير الذي عرفه المغرب منذ الاستقلال هو الاختفاء القسري، الذي يعتبر اليوم من أكبر القضايا المطروحة على مسارات الإنتقال الديمقراطي، الذي يقتضي تجاوز إشكالية الإفلات من المساءلة من خلال الحفاظ على الذاكرة نتيجة التعارضات بين الإعتبارات السياسية والتاريخية والقانونية، كما أن للديمقراطية ضرائـبها.[38]

 

ثانيا: تحريك المتابعة الجنائية.

مطلب الضحايا المباشرين والهيئات الحقوقية المعبرة عن مطالبهم والمتمثلة أساسا في "المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف" و"الجمعية المغربية لحقوق الإنسان" إلا أننا سأكتفي باستحضار موقف "الجمعية" بالإضافة إلى دراسة "عبد الرحيم برادة" التي يبين من خلالها إستنادا إلى القانون، لاقانونية الإفلات من العقاب.

I ـ الجمعية المغربية لحقوق الإنسان[39].

القبول باللاعقاب هو رفض لدوة الحق التي تصبو إليها جميع القوى الحقوقية، ليس عن طريق تطبيق القوانين فحسب، بل بممارسة حقوق الإنسان، والدفاع عنها، والعمل من أجل تقدمها، فالقانون الذي يجب أن يسود هو قانون حقوق الإنسان.

تذهب الآراء القائلة باللاعقاب (أحزاب، مقربين من دوائر السلطة) أنه من الحماقة مطالبة الدولة بالإعتراف بأخطائها بكل امتداداتها في ظل نفس النظام السياسي، كما أن أغلب المكونات الأساسية للجهاز الأمني للدولة بمفهومه الواسع متورطة بشكل كبير في هذه الجرائم، فإن تهديدها يعني حتما دفعها إلى القيام بأفعال من شأنها الرجوع بالبلاد إلى الوراء بشكل خطير.

إن كل هذه التعليلات تؤدي إلى القبول بالمغرب كدولة اللاقانون فيما يخص مسألة اللاعقاب، وفيما يلي لادستورية الإفلات من العقاب:

يعلن الدستور المغربي في ديباجته عن احترامه لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا وف 4. د. ينص على أن "القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، ويجب على الجميع الإمتثال له"، وف 5. د. "جميع المغاربة متساوون أمام القانون".

إن مشروعية الدولة تقوم على أساس العقد الذي يربطها بالشعب، فبغض النظر عن التحفظات التي يتم التعبير عنها من طرف البعض على الدستور الحالي للمغرب سواء فيما يخص طريقة بلورته وتبنيه، أو فيما يخص مضمونه، فهو يشكل الحد الأدنى من الإلتزام الذي لا يمكن المساس به، وبدون احترام مقتضياته تفقد الدولة مصداقيتها، فالدولة لا تملك المشروعية إلا في الحدود التي تحترم فيها الدستور… إن الدولة لا تفي بالتزاماتها عندما تستثني من مجال تطبيق القانون وبشكل منهجي ودائم وشامل الجرائم والمجرمين الذين كانوا قادة تحت لواء السلطة.

إن الدستور المغربي يدعم سمو القانون، وإعماله بشكل موضوعي تحت المسؤولية الشخصية للملك فالفصل 19 ينص على أن: "الملك … له صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات".

الفصل 83 من الدستور فيه: "الأحكام تصدر وتنفذ باسم الملك".

كلما تم إبطال قانون بدون وجه حق، أو تم رفض حكم قضائي بشكل جائر، فإن ذلك يعني المساس بأسس الدولة، وبالتالي فالملك الذي هو حامي الحقوق عندما تتم حمايتها سيكون شخصيا مسؤولا عندما تنتهك تلك الحقوق.

إن الجمعية تستند إلى مجموعة من المقتضيات القانونية التي تثبت لاقانونية اللاعقاب وهو نفس الإتجاه الذي يبرهن عليه عبد الرحيم برادة في دراسته التالية:

II ـ "الدفاع عن اللاعقاب غير مقبول".[40]

1 ـ مسألة التقادم.

بما أن الإنتهاكات الأشد خطورة لحقوق الإنسان (من اختطاف، واحتجاز، وتعذيب….) تعتبر من الناحية القانونية جنايات، فإن الدعوى العمومية المتعلقة بها تتقادم بمضي عشرين سنة (حسب مقتضيات الفصل الرابع من قانون المسطرة الجنائية ق. م. ج) ولا يحمل "انقطاع" أمد التقدم إلا "بإجراء من إجراءات التحقيق أو المتابعة تنجزه السلطة القضائية أو تأمر بإنجازه (الفصل 5 ق. م. ج)، ولا يمكنه توقيفه إلا في حالة ما إذا كانت استحالة القيام بها متأصلة من القانون نفسه". (الفصل 6 ق. م. ج).

والحال أن الأمر حسبما يوحي بذلك أنصار اللاعقاب، لا يتعلق هنا لا بانقطاع التقادم، طالما أنه لم يكن هناك أي تحقيق أو متابعة، ولا بتوقيف التقادم، ما دام أن القانون لم يمنح الضحايا أو (ذوي حقوقهم) من رفع دعوى قضائية ضد مرتكبي هذه الجرائم.

لكن هذا الإستدلال يفتقر في الواقع إلى الجدية.

أ ـ إن العديد من الإنتهاكات التي يعتبرها القانون جنايات قد ارتكبت منذ أقل من عشرين سنة، بحيث إن مسألة التقادم لا تطرح بالنسبة لها.

ب ـ أما بالنسبة للجرائم الأخرى، فينبغي العمل على ابتكار حل قضائي، على أساس الإعتبارات التالية:

نعم إنه لم يكن هناك من تحقيق أو متابعة، لكن ذلك كان بسبب عدم استقلال السلطة القضائية، التي يعهد لها القانون بالتصرف (وما زال كذلك حالها، وهو ما يتجلى في المحاكمة المذهلة الأخيرة للقبطان مصطفى أديب من لدن المحكمة العسكرية)، إذ أنها خاضعة للسلطة التنفيذية التي كانت بالتحديد أحد المسؤولين عن الانتهاكات المرتكبة، معنى هذا أنه لا يمكن الحديث عن التقادم، في مثل هذه الظروف، وإلا سيكون معناه أن المسؤولين عن الانتهاكات يحصنون أنفسهم بأنفسهم، منذ البداية، من خلال وضع السلطة القضائية تحت أقدامهم، حتى لا تتمكن من تحريك المتابعات ضدهم ومن تم إقلاق راحتهم، فهذا الظرف الإستثنائي لابد أن يسمح بإعمال قطع التقادم، وإلا فقد معناه المبدأ القانوني العام الذي يفيد أن لا أحد يمكنه التدرع، تنصلا من مسؤوليته، بسوء عمله وبعبارة أخرى لا يمكن لأحد أن يستخلص وسائل دفاعه من أخطائه الشخصية، وفضلا عن ذلك فإن القضاة الذين رضخوا لأوامر الساسة يعتبرون هم أنفسهم، من الوجهة القانونية، شركاء لهم في الإنتهاكات المقترفة، وهذه مسألة واسعة لا يمكن التطرق لها بالطبع في هذا السياق.

2 ـ مسألة الإثبات.

يتحدث أنصار اللاعقاب عن استحالة إقامة الحجة على انتهاكات حقوق الإنسان، باعتبارها جرائم خاضعة، بما هي كذلك، للمتابعة القضائية، إنها استحالة ناتجة في ادعائهم عن كون مرتكبي هذه الجرائم لن يقبلوا أبدا الإعتراف بها.

عندما نتفحص عن قرب من هم مروجو هذا (الدفع)، نلاحظ أنهم مجرد خبراء في الغطرسة، أشخاص يقضون أوقاتهم، أينما وجدوا في الحديث عن مواضيع تتجاوزهم، لا لشيء إلا لإثارة الإنتباه إليهم، فهؤلاء المتصنعون، بالخصوص لا يفقهون شيئا عن الطريقة التي يجري بها التحقيق القضائي، حينما يتخذ مسارا جديا بالطبع، وهذه مسألة أخرى، إنهم لا يعلمون إذن أنه في إطار تحقيق حقيقي، مع توفر اتهامات دقيقة معززة بتفاصيل الأزمنة والأمكنة والظروف، فإن العديد من الأفراد "ينهارون" ويعترفون بأفعالهم، دون أن يمارس عليهم، بالطبع، أدنى ضغط، وفضلا عن ذلك، فإن التاريخ والتجربة يعلماننا أن بعض مرتكبي الجرائم (وهم قلة والحق يقال) الواقعة باسم داعي المصلحة العليا للدولة، ينتهون إلى الإعتراف بمحض إرادتهم بما ارتكبوه من جرائم، لإراحة ضمائرهم، كما هو الشأن بالنسبة لعميد الشرطة "الخلطي"، الذي اعترف أخيرا، بصفة تلقائية عبر صفحات الجرائد، باشتراكه إداريا في أفعال إجرامية ارتكبتها، حسب قوله رجال شرطة آخرون والتمس المعذرة من ضحاياه، وأخيرا، إنهم ينسون أن الذين يوجهون الإتهامات، -أو على الأقل الأحياء منهم وهم لحسن الحظ كثيرون- مازالوا موجودين، ويمكنهم تقديم جميع أنواع التفاصيل حول الأفعال التي من شأنها أن تشكل أساسا للمتابعة، وهي تفاصيل يمكن أن يؤكدها شهود في بعض الحالات.

من الواضح في هذه الشروط أن الحجة يمكن إقامتها في العديد من الحالات، سيما وأن الإختصاصيين يعرفون جيدا أن الإعتراف لا يمكن أن يلزم به أحد في المادة الجنائية، التي يحكمها مبدأ حرية الإثبات، وأن الإعتراف نادر نسبيا في مجال الجنايات، وأنه يحدث أن يكون مخالفا للحقيقة، مناقضا بذلك ادعاء الجاهلين الذين يعتبرونه "سيد الأدلة".

3 ـ مشكل استقلال القضاء.

يزعم نفس الثرثارين، بكل سذاجة، أن "مثل هذه المحاكمات لا طائل من ورائها ما دام القضاة غير مستقلين".

هنا قد طفح الكيل فتبعية القاضي تقدم هنا كما لو كانت مسجلة في تكوينه الجيني، والحال أن الإستقلالية تبقى، شأنها شأن نقيضها التبعية، مسألة أخلاق سياسية، وبالتالي مسألة خاضعة لاختيار الدولة، عندما تريد الدولة أن تكون العدالة مخلصة لها كل الإخلاص، وبعبارة أخرى عندما لا نكون بصدد دولة الحق، فقإنها تعطي تعليماتها، إن صراحة أو ضمنا، لكي تجري المحاكمات في الإتجاه الذي يناسبها، و"كل شيء على أحسن ما يرام".

لكن في الحالة المعاكسة يمكن للسلطات العليا في الدولة أن تعلن أن العدالة مطالبة في المحاكمات الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان بوجه خاص، بأداء رسالتها في استقلال تام، وأن تقدم للقضاء، لهذا الغرض، جميع المساعدات اللازمة، شريطة أن يتم التعبير عن هذا الاختيار السياسي بشكل واضح ورسمي، وهي الفرضية التي ننطلق منها، إن مثل هذا "التوجيه" لا يمكن طبعا تصوره في دولة الحق، إذ أن العدالة اكتسبت فيها استقلالها الكامل، بحيث لم تعد في حاجة لمن يملي عليها ما يجب القيام به، لكن دولة مثل المغرب، التي لم تكن فيها العدالة السياسية (شأنها شأن العدالة بصفة عامة) مستقلة أبدا، قد يفتح إعلان رئيس الدولة رسميا عن هذا الإلتزام الطريق أمام عدالة منصفة، إن تدخلا من هذا النوع سوف لن يكون، فضلا عن ذلك، سوى مجرد تنفيذ الملك لواجباته الدستورية، وبالفعل فلئن كان الفصل 82 من الدستور ينص على أن: "القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية" فإن الفصل 83 يدقق: "تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك"، والفصل 86 يضيف "يرأس الملك المجلس الأعلى للقضاء" وأنه هو "الساهر" حسب الفصل 19 على "احترام الدستور" كما أنه "له صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات"، فهذا التذكير الرسمي من الملك بأن على العدالة أن تضطلع بواجباتها اضطلاعا كاملا وفي أتم الإستقلالية والنزاهة في مجال مكافحة الإفلات من العقاب (كما في جميع المجالات الأخرى طبعا) سوف لن يكلف الملك الجديد أي شيء، إذ أن الجميع يعلم أنه لا يتحمل أدنى مسؤولية في جرائم الماضي بل إن المطلعين على خبايا الأمور يذهبون إلى حد القول بأنه غير ما مرة عبر عن تأففه منها، ما دام غير قادر على الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك…

4 ـ واجب النيابة العامة إجراء المتابعة.

إن تنازل الضحية عن متابعة جلادها قضائيا لسبب أو لآخر، لا يعطي الحق أبدا للسلطة القضائية المختصة (النيابة العامة) للإستئناف عن متابعة الجاني، لأن الأمر يتعلق هنا بالمادة الجنائية وليس المدنية، فعندما يتعلق الأمر بجريمة ما، ينبغي على النيابة العامة أن تباشر بنفسها متابعة مرتكب الجرم، بالرغم من عدم توصلها بأية شكاية من الضحية، إذ أن الأمن العام، الذي يعتبر أحد الوظائف الأساسية لدولة الحق، لا يمكن تصوره إذا تقاعست العدالة في بسط يدها.

ولهذا السبب توجد ضابطة قضائية ومحاكم جنائية تكلف الدولة، فضلا عن ذلك الكثير، وهذا أمر طبيعي، لأن العدالة تعتبر أحد ركائز كل دولة تحترم نفسها.

ثالثا: مواقف ورؤى.

يعد موضوع "الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان" بالمغرب موضوعا شائكا تتوازى فيه الطروحات وتتقاطع، فمنها ما تذهب إلى القول بأن المشكل وجد طريقة إلى التسوية النهائية، ومنها من له بعض التحفظات والمآخذات على الطريقة التي تم من خلالها التعاطي مع الموضوع.

I ـ الجمعية المغربية لحقوق الإنسان:[41]

ترى أن هيئة الإنصاف والمصالحة تختلف في الأساس ولا ترقى في الجوهر للجنة الوطنية المستقلة للحقيقة التي طالبت بها "المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان" نونبر 2001، وتتجسد هذه الإختلافات في:

–                            اختزال موضوع الإنتهاكات من طرف التوصية في الإختفاء القسري والإعتقال التعسفي.

–                            التعامل الغامض وأحيانا السلبي للتوصية مع مطلب الحقيقة وذلك بتغييب هذا المصطلح من تسمية الهيئة.

–                            على الصعيد القانوني إذا كانت المناظرة قد نادت بتشكيل اللجنة الوطنية المستقلة للحقيقة بنص قانوني خاص بما يعزز استقلاليتها وقوتها في التعامل مع كل الأطراف المعنية بملف الإنتهاكات الجسيمة، فإن التوصية ارتأت تشكيلها على قاعدة المادة 7 من الظهير حول إعادة تنظيم "المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان"، وهو ما يضعف أساسها القانوني، واستقلاليتها وما قد يحولها إلى لجنة وظيفية للمجلس الإستشاري.

–                            مواصلة الهيئة لمسطرة التعويض على نفس الأساس التحكمي "لهيئة التحكيم" والمبني على مقايضة الطمس النهائي لملف الإنتهاكات مقابل التعويضات المالية.

–                            وجود انتهاكات خطيرة للحقوق المدنية والسياسية متمثلة في الإعتقال السياسي، الإختطاف، التعذيب، الظروف اللاإنسانية للإعتقال، المحاكمات غير العادلة.

–                            تشبت الجمعية بمفهوم المساءلة وعدم الإفلات من العقاب.

II ـ المنظمة المغربية لحقوق الإنسان.[42]

فيما يلي تقييمات المنظمة منذ انطلاق مسلسل التسوية في بداية التسعينات حتى الآن.

·       على مستوى التقدم المحرز:

o     التأكيدات الملكية الصريحة والتي تعبر عن إرادة سياسية عليا.

o     نضال الحركات الحقوقية وحركة الضحايا وعائلاتهم.

o     تطور مقاربة الحركة الحقوقية، وبداية بناء ثقافة العمل المشترك وتفعيل دور القوة الإقتراحية.

o     إقرار مبدأ الحوار بين الحركة الحقوقية والسلطات العمومية.

o     التفاق الديمقراطيين والمناصرين من أجل تسوية الملف.

o     إطلاق سرح عدد من المختفين أو المعتقلين السياسيين، وعودة المنفيين والمغتربين.

·       على مستوى المجالجة الاختزالية وانعكاساتها السلبية في التعاطي مع الملف.

انعكست سياسة الدولة والمجلس الإستشاري السابق في التعاطي مع ملف الإنتهاكات الجسيمة سلبيا انطلاقا من:

o     غياب سياسة متكاملة ترافق التطور الذي عرفه مسلسل التسوية رسميا.

o     عدم تقديم توضيحات كافية لحالات عدد كبير من المختفين.

o     عدم إحاطة أعمال هيئة التحكيم بالشفافية الشيء الذي قلص من إشعاع منجزاتها.

o     عدم انسجام الموقف الحكومي والمبادرات القطاعية داخله.

III ـ المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف.[43]

خلص إلى ما يلي:

–                            تناقض وتنافر الإرادة المعبر عنها في مقاربة المجلس الإستشاري لطي ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مع واقع هذه الإنتهاكات في المدة الأخيرة، الاختطاف والإعتقالات التعسفية وممارسة التعذيب المفضي أحيانا إلى وفيات مشبوهة وفي تجريم حرية التعبير والحل القضائي لفرع المنتدى بالصحراء…

–                            مبادرة معزولة لن تكتب لها النجاح ولو نسبيا في غياب إجراءات مصاحبة وتدابير تمهيدية تترجم العزم على القطع مع مظالم الماضي.

 

–                            استنكاره لما ورد في الفقرة الأخيرة من التوصية من ربط تعسفي بين تحديد المسؤوليات الفردية وإعمال المساءلة مع الفتنة والضغينة والإنشقاق.

–                            تنديده بالتغييب المقصود لمفهوم الحقيقة في نص التوصية.

–                            تثمينه لتبني التوصية مفهوم جبر الضرر.

–                            يشدد على أن حقيقة الإنتهاكات الجسيمة ببلادنا تتطلب أن تتناول التحقيقات كلا من قضايا الإختفاء القسري والإعتقال التعسفي والتعذيب والإعدام خارج نطاق القانون، والمحاكمات السياسية الجائرة والنفي لأسباب سياسية ومصادرة الممتلكات.

–                            يؤكد أن القطع مع ماضي الانتهاكات يمر قطعا عبر مساءلة المسؤولين عنها وإرساء دعائم المصالحة.

–                            يشدد على أن ضمان عدم تكرار ما جرى يتطلب القيام بإصلاحات دستورية وسياسية وإدارية ومؤسساتية وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان.

–                            ضرورة توفر الهيئة على صلاحيات واضحة وقوة قانونية لإجبار أجهزة الدولة وللقيام بالأبحاث والتحقيقات بأفق شفاف يسمح بذكر الأسماء وتحديد المسؤوليات الفردية والجماعية والمؤسساتية وتشكيلة تحترم التنوع والتمثيلية المعبرة.

IV – الأحزاب السياسية:

رغم ما يمكن أن يقال بخصوص التعددية الحزبية بالمغرب، وعن الأحزاب ذاتها، وهذا موضوع آخر، إلا أنه من الضروري الإشارة على الأقل إلى أنها جميعا عبرت عن مواقفها بخصوص إحداث "هيئة الإنصاف والمصالحة"، ونظرا لأنه من الصعب استحضار مواقف جميع الأحزاب والقوى السياسية في المغرب، نظرا لعددها المهول، فإنه من الممكن الحديث عن مضمون هذه المواقف كالآتي:

إن أحزاب الحركة الوطنية والأحزاب الإدارية تثمن مبادرة إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، وتشيد بمجهوداتها التي من خلالها سيتم "الطي النهائي لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان". فهذه المبادرة غير مسبوقة في العالم العربي والإسلامي زيادة على أن المغرب فعلا يعرف انتقالا ديمقراطيا حقيقيا، ومن بين الأحزاب التي تذهب في هذا الإتجاه، حزب الإستقلال، الإتحاد الإشتراكي، التجمع الوطني للأحرار، الحركة الشعبية… وهناك أحزاب أخرى وقوى اليسار الجديد التي تبدي تحفظاتها بخصوص مجموعة من النقط سواء فيما يتعلق بالتحديد الذي أعطاه المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان لمفهوم "الإنتهاكات الجسيمة" ومسألة ذكر أسماء الجلادين، وإثارة المسؤوليات الفردية والجماعية للمتورطين، وواقع حقوق الإنسان في الفترة الأخيرة التي تثير المخاوف وتذهب إلى القول بأن هناك جرائم اقتصادية ومالية ارتكبت في حق الشعب المغربي دون أن يتم التطرق إليها رغم أهميتها البالغة، كما تطالب بدستور ديمقراطي يستجيب لتطلعات الشعب والقيام بمجموعة من الإصلاحات على مستوى القوانين والمؤسسات، ومنها النهج الديمقراطي، واليسار الإشتراكي، حزب الطليعة… لقد كان هدف "هيئة التحكيم" السابقة هو الحل النهائي لملف "الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان"، لكن نظرا لموضوعيتها المفرطة ساوت بين الضحايا والجلادين، واليوم تسعى "هيئة الإنصاف والمصالحة" إلى بلوغ نفس الهدف، مع محاولة لتجاوز نقائص سابقتها، فهل ذلك ممكن؟ وهل تسمح معطيات المرحلة بذلك؟

من الضروري الإشارة إلى أن في الوقت الذي يتم فيه الحديث عن "طي صفحة الماضي" تكتب فيه صفحة جديدة بمداد الأحكام الجائرة والتي تفتقر إلى أبسط ضمانات المحاكمة العادلة التي صدرت في حق عمال منجم "ايمني" وفي حق الجماهير الطلابية بمجموعة من المواقع الجامعية، آخر حلقة من حلقاته "الزروطة" التي تعرض لها المعطلون، حاملي الشهادات العليا، في شوارع العاصمة، الظروف اللاإنسانية للإعتقال، التعذيب… فهل الأمر يتعلق برجال سلطة مزاجيين، يحتاجون بين الفينة والأخرى إلى ممارسة هذه اللعبة على سبيل التسلية أم أن للأمر أسباب أخرى؟ بالفعل هناك مجموعة من المشاكل على مختلف المستويات تهم شرائح واسعة من الشعب المغربي، ومع ذلك هي من قبيل الطابوهات وفي الحالة التي تتم فيها مقاربتها فإن ذلك يتم بطريقة سطحية وتجزيئية تحول دون الخروج بخلاصات واضحة، لتتم أجرءتها والتأكد من مدى إجابتها على المشاكل الملحة والعاجلة، ولعل أهمها الجانبين الإجتماعي والإقتصادي.

إن السبب الرئيسي لجميع الأزمات التي يعرفها المغرب هو العامل الإقتصادي، والمخرج الحقيقي هو القضاء على سبب الأزمة، والمظهر الذي يعكس هذه الأزمة المستوى الخطير الذي بلغته مديونية المغرب منذ الثمانينات للمؤسسات المالية العالمية، الشيء الذي فرض عليه الدخول في برامج التقويم الهيكلي مع ما ينتج عن ذلك من المزيد من الخضوع لشروط هاته المؤسسات، وبالتالي تبني سياسات التقشف، وتقليص نفقات الدولة في الميادين الاجتماعية وزيادة العبئ الضريبي على الطبقات الشعبية، لأن الرأسمال المدلل يكره الضرائب، بصرف النظر عما لذلك من انعكاسات سلبية على الأوضاع المعيشية للجماهير الشعبية، فالمهم هو خدمة فوائد الديون المعبر عنها بأرقام فلكية، إذا أضيفت إليها أصول الديون، طبعا هناك الكثير من الغيورين على المال العام الذين من فرط حرصهم عليه يقومون بنهبه باستمرار زيادة على التملص الضريبي وكل مظاهر الفساد  المالي… ففي خارج أن تكون هناك إجابة حقيقية على هاته المشاكل الاقتصادية التي تترتب عليها أوضاع اجتماعية يغلب عليها طابع البؤس القائل، لن يكون هناك تحسن يصل بالمجتمع إلى الحد الأدنى من العيش الكريم.

طبعا جميل جدا أن نكون قادرين على البوح بالحقيقة، هاته الحرية التي لا تتطلب شيئا آخر غير امتناع الدولة عن تجريم الأقوال لأن الأفعال وحدها يجب أن يطالها القانون، دون أن يساورنا الخوف، دون أن يكون ذلك مدعاة لإقصائنا، وكأن التاريخ يعيد نفسه لهذا كان ينبغي على الهيئة باعتبارها حدثا يمثل حيزا هاما في المرحلة الراهنة، أن تسمي الأشياء بمسمياتها، والتصريح بأن عملها يسعى أو يجب أن يكون الأمر كذلك، إلى مصالحة الشعب مع الدولة التي اقترفت كل بشاعات الماضي ومآسيه، بدلا من ترويج ضرورة مصالحة الشعب مع تاريخه، كان من المفروض في جلسات الإستماع أن تفتح في وجه من أدركوا أسباب وظروف وخلفيات انتهاك حقوقهم من أنصار المساءلة، وأن تكون مجالا لكشف حقيقة الشهداء الذين يعرفهم عموم الشعب المغربي، وفق ترتيبات تقنية تناسب حجم الحدث، كان على الهيئة أن تولي اهتماما كبيرا للهيئات الحقوقية التي ناضلت طيلة عقود من أجل نصرة الضحايا وأن تقدم أدلة ملموسة على إشراكهم، إن الإختصاص الزماني للهيئة محدد بدقة، لكن ذلك لا يمنعها باعتبار طبيعتها من تسليط الأضواء وبقوة على الخروقات التي ترتكب في الحاضر والتي تعبر بشكل قوي عن استمرار أسلوب الأمس، إنه من الغريب جدا أن يتم ارتكاب تلك الخروقات التي سبقت الإشارة إليها في زمن الهيئة دون أن تعبر عن امتعاضها من ذلك، وطبعا سيكون الجواب في حالة السؤال أنه خارج عن الاختصاص الزماني.

وككلمة أخيرة فإن الآمال التي يعلقها أفراد الشعب المغربي البسطاء على الهيئة وعلى باقي الشعارات التي تؤطر المرحلة أكبر بكثير من الإمكانيات الواقعية.

 

التصميم:

 

مقدمة                                                                                                1

الفصل الأول: العنف السياسي من زاوية الفكر السياسي                                  3

   المبحث الأول: السلطة السياسية والعنف                                                  6

Ø    المطلب الأول: السياسة والعنف/عنف الدولة                                  6

Ø    المطلب الثاني: المفهوم الهوبزوي للسلطة/الدولة                    11

المبحث الثاني: نماذج ومحطات من العنف السياسي بالمغرب ما بين 56 و99.    13

Ø    أولا: انتفاضة 23 مارس 1965                                      15

I– السياق                                                                    15

II– الأحداث                                                                17

Ø    ثانيا: تدمير الحركة الماركسية اللينينية                                19

I– التعذيب                                                                  19

II– المحاكمات                                                             20

     1 ـ محاكمة البيضاء 1973                                        20

     2 ـ محاكمة الجبهويون 1977                                     22

III – مختطفون من دون محاكمة.                                    23

الفصل الثاني: لجان تقصي الحقائق                                                           25

   المبحث الأول: تجارب دولية                                                                27

   I– الحقيقة والمصالحة الجنوب أفريقية                                 27

  II– تجربة الأرجنتين                                                        31

   المبحث الثاني: الإنصاف والمصالحة بالمغرب                                          32

Ø    المطلب الأول: عموميات                                                         32

    I– ورقة تعريفية                                                                32

   II– تذكير                                                                          35

Ø    المطلب الثاني: إشكالية المتابعة الجنائية                                        36

Ø    أولا: عدم تحريك المتابعة                                                37

  I– الخيار الرسمي                                                            37

  -II المنظمة المغربية لحقوق الإنسان                                    38

Ø    ثانيا: إثارة المسؤوليات الجنائية                                        39

   I– الجمعية المغربية لحقوق الإنسان                                     39

     II– الدفاع عن اللاعقاب غير مقبول "عبد الرحيم برادة"        40

1 ـ التقادم                                                              40

2 ـ الإثبات                                                             42

3 ـ استقلال القضاء                                                  43

4 ـ واجبب النيابة العامة تحريك المتابعة                        44

Ø    ثالثا: مواقف ورؤى بخصوص الهيئة                                 45

I – الجمعية المغربية لحقوق الإنسان                                  45

II ـ لمنظمة المغربية لحقوق الإنسان                                  46

III ـ المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف                 47

IVـ الأحزاب السياسية                                                   48

 

 


[1] – أدونيس العكرة : "الإرهاب السياسي. بحث في أصول الظاهرة وأبعادها الإنسانية". دار الطليعة للطباعة والنشر, بيروت. الطبعة الأولى 1983. الثانية 1993. ص: 7.

[2] – أدونيس العكرة: نفس المرجع. ص: 64.

[3] – العلمي الإدريسي رشيد: "تطور مفهوم المصلحة العليا للدولة في النظرية السياسية". مداخلة ألقيت في الندوة التي نظمتها هيئة الإنصاف والمصالحة بمراكش بتاريخ 11-12/2004. في موضوع "عنف الدولة" المصدر هيئة الإنصاف والمصالحة.

[4] – العلمي الإدريس رشيد: مصدر سابق. ص: 9.

*  إن ظروف الإعتقال والتعذيب والقتل… تثبت أن المعتقل غير متهم بأعمال محددة، إنه في الواقع إنسان غير مرغوب فيه نظرا لانتمائه السياسي أو العرقي…

[5] – أدونيس العكرة: نفس المرجع. ص: 9.

*  الإعتقال، التصفية الجسدية، أحكام الإعدام، التعذيب….

[6] – أدونيس العكرة: نفس المرجع. ص: 69.

[7] – جان جاك شوفالي : "المؤلفات السياسية الكبرى". دار الحقيقة بيروت. الطبعة الأولى، 1980. ترجمة إلياس مرقص. ص: 66.

[8] – جان جاك شوفالي: "تاريخ الفكر السياسي من المدينة الدولة إلى الدولة القومية". المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت. الطبعة الثانية. 1993. ترجمة محمد عرب صاصيلا. ص: 330.

[9] – جان جاك شوفالي : "تاريخ الفكر السياسي". مرجع سابق. ص: 331.

[10] – Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». p : 118.

[11] – Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». p : 118.

[12] – Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». p : 119.

[13] – Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». Karthaba. Magreb. Europe 2002. p : 120.

[14] – Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». p : 119.

[15] – Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». p :120

[16] – Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». p :121

[17] – Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». p :186

[18] – Abdelatif laâbi, « le chemin des ordalier, Denoèl, Paris, 1982. p : 37.

[19] – مارغريت روليند: مرجع سابق. ص: 187.

[20] – Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». p :188

[21]– Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». p :189

[22] – Margueritte Rollinde, « Le Mouvement Marocain des droits de l’homme ». p :198.

[23] – Louis Joint, Lutter contre l’impureté, dix questions pour agir et pour comprendre la découverte. P : 63.

[24] – Louis Joint, Lutter contre l’impureté,. P :63

[25]  – Louis Joint, Lutter contre l’impureté,. P :64.

[26]  – Louis Joint, Lutter contre l’impureté,. P :65

[27]  – Louis Joint, Lutter contre l’impureté,. P :65.

[28] – منشورات الأفق الديمقراطي، الإفلات من العقاب وإشكالية الإنتقال الديمقراطي. الطبعة الأولى. أبريل 2004. ترجمة عفور دهشور. ص: 21.

[29] – لجنة تسمى "لجنة وطنية حول الأشخاص المختفين". بتاريخ 15/12/1983، مجلة كرامة العدد 8. 2001. ص: 28.

[30] – منشورات الأفق الديمقراطي. مرجع سابق. ص: 26/27.

[31] – الصحيفة، العدد 60. /30 أبريل /6 ماي 2004.

[32] – هيئة الإنصاف والمصالحة.

[33] – ظهير رقم 104.42 الصادر في 10 أبريل 2004 الصادر بالجريدة الرسمية عدد 5203 بتاريخ 12 أبريل 2004.

[34] – ورقة إحصائية حول الملفات الواردة على الهيئة مستخرجة من قاعدة البيانات "هيئة الإنصاف والمصالحة".

[35] – توصية المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان المتعلقة بإحداث "هيئة الإنصاف والمصالحة".

[36] – نفس المصدر.

[37] – كلمة ألقاها شوقي بنيوب في المناظرة الوطنية حول الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. طبعة مؤسسة فريد ريش إيبرت 2001. ص: 84 وما بعدها.

[38] – المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فريد ريش إيبرت. 2001. ص: 85-88.

[39] – ورقة الجمعية المغربية بخصوص مساءلة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. نفس المصدر.

[40] – عبد الرحيم برادة : "الإفلات من العقاب وإشكالية الإنتقال الديمقراطي". مطبعة التسيير بالدار البيضاء. 2004. ص: 104 وما بعددها.

[41] – بيان المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان بخصوص إنشاء "هيئة الإنصاف والمصالحة" الرباط. 14 نونبر 2003.

[42] – مذكرة المنظمة المغربية لحقوق الإنسان بخصوص إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، الرباط. 29 نونبر 2003.

[43] – بيان الدورة الإستثنائية للمجلس الوطني للمنتدى بشأن توصية المجلس الإستشاري المتعلقة بإحداث هيئة تسمى"هيئة الإنصاف والمصالحة".

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى