التحكيم في منازعات الشغل بين أحكام مدونة الشغل و القانون 95.17 – اسضار عمر
عنوان البحث
التحكيم في منازعات الشغل بين أحكام مدونة الشغل و القانون 95.17
الاسم الكامل: اسضار عمر
طالب باحث
مقدمة
يعتبر التحكيم أحد أهم الوسائل المكملة لحل النزاعات سواء كانت مدنية أو تجارية أو اجتماعية، ويعتبر اقدم مؤسسة لتدبير النزاعات القائمة بين الأطراف، عرفته معظم الحضارات القديمة، وقد اهتم العرب به قبل وبعد ظهور الاسلام، وكثيرة هي المنازعات التي ثم عقد التحكيم للفصل فيها، من أشهرها واقعة ” صفين”، حيث حين اشتد القتال في موقعة “صفين” بين جيش علي بن أبي طالب وجيش معاوية ابن أبي سفيان تم تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص وكتب عقد تحكيم وأعلنت هدنة[1] .
وقد عرف المغرب أول تنظيم تشريعي للتحكيم بمقتضى قانون المسطرة المدنية لسنة 1913 ثم قانون المسطرة المدنية لسنة 1976، هذا الأخير الذي تم تعديله بمقتضى القانون 05.08.
واستمر الوضع على ذلك الى غاية صدور القانون 95:17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية الذي أحدث طفرة نوعية في ميدان التحكيم، حيث أضحى قانونا مستقلا عن قانون المسطرة المدنية.
وعليه فمن المجلات التي يساهم التحكيم بنصيب معين في تسوية نزاعاتها، نجد مجال نزاعات الشغل. علما بأن هذا المجال يتضمن نوعين من المنازعات، الفردية و الجماعية، عمل المشرع المغربي و المقارن على فصلهما و معالجتهما استقلالا، وفق إطار قانوني متباين في خصوصيات كل منهما[2].
وتعد نزاعات الشغل بمثابة فترات توثر تتخلل علاقات الشغل و تكون لها انعكاسات خطيرة على عدد من المستويات، وقد عرفها المشرع في المادة 549 بقوله ان “نزاعات الشغل الجماعية”، هي كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل، والتي يكون أحد أطرافها منظمة نقابية للأجراء أو جماعة من الأجراء، ويكون هدفها الدفاع عن مصالح جماعية مهنية، لهؤلاء الأجراء.
كما تعد نزاعات الشغل الجماعية كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل والتي يكون أحد أطرافها مشغل واحد، أو عدة مشغلين، أو منظمة مهنية للمشغلين، ويكون هدفها الدفاع عن مصالح المشغل أو المشغلين أو المنظمة المهنية للمشغلين المعنيين.
وهكذا فقد جاء الكتاب السادس من مدونة الشغل معنونا ب”تسوية نزاعات الشغل الجماعية”، أي الطرق المكملة لفض النزاعات من مصالحة وتحكيم، بحيث يتم اللجوء إلى مسطرة التحكيم المنظمة في الباب الثالث من نفس الكتاب من المادة 567 إلى المادة 581 ، وذلك بعد استنفاذ مسطرة التصالح على ثلاث مستويات، ابتداء من محاولة التصالح على مستوى مفتشية الشغل، ثم على مستوى اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة، وأخيرا على مستوى اللجنة الوطنية للبحث و المصالحة.
أما نزاعات الشغل الفردية، فلم يخصها المشرع في مدونة الشغل بمسطرة للتحكيم، مما طرح سؤال إمكانية اخضاعها لأحكام القانون 95.17.
أن موضوع الدراسة ينصب حول خصوصيات مسطرة التحكيم في نزاعات الشغل وعليه، فإن الإشكالية المحورية تتجلى في ” إلى أي مدى يحقق التحكيم في منازعات الشغل في القانون المغربي التوازن بين مصلحة الأجير وحماية حقوقه الاجتماعية، وبين متطلبات المشغل في تحقيق استقرار العلاقة الشغلية وضمان نجاعة الفصل في النزاعات؟
وتتفرع عن هذه الاشكالية اسئلة فرعية كالتالي:
- ما هي الإطار القانوني للتحكيم في منازعات الشغل وفق مدونة الشغل المغربية؟
- كيف يوازن التحكيم بين مبدأ سلطان الإرادة وضرورة حماية حقوق الأجراء باعتبارهم الطرف الأضعف في العلاقة الشغلية من حيث المبدأ؟
- ما هي خصوصيات إجراءات التحكيم في منازعات الشغل مقارنةً بأحكام القانون 95:17.
تقتضي الضوابط المنهجية كما هي متعارف عليها وضع تصميم يبين الهندسة العامة التي يمكن من خلالها ان نقارب الموضوع، ووفق ما تقدم معنا وتبعا لإشكالية الموضوع يستوجب لإحاطة بكافة جوانبها تناول الموضوع وفق التصميم التالي :
المبحث الأول: التحكيم كآلية لفض نزاعات الشغل الجماعية
المبحث الثاني: إمكانية اللجوء للتحكيم لفض نزاعات الشغل الفردية
المبحث الأول: التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية
لعل تأصيل الإطار القانوني للتحكيم في نزاعات الشغل الجماعية یقتضي منا أولا تحديد ماهية التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة ( المطلب الأول)، وذلك قبل محاولة التطرق إلى مسطرة التحكیم وآثارھا (المطلب الثاني(
المطلب الأول: ماهية التحكیم في نزاعات الشغل
لتناول ماهية التحكیم في نزاعات الشغل الجماعية ارتأينا التطرق أولا إلى نطاق وطبيعة التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة (الفقرة الأولى)، بعد ذلك نعرج إلى تسليط الضوء أھمیة التحكیم في هذا النوع من النزاعات (الفقرة الثانیة(
الفقرة الأولى: نطاق التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة وطبيعته
سوف نقوم بتقسیم ھذه الفقرة إلى نقطتین أساسیتین، الأولى نتناول فیھا نطاق التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة، ثم في نقطة ثانية نتطرق إلى طبیعة القانونية
أولا: نطاق التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة
من خلال تعريف المشرع لنزاعات الشغل الجماعية في المادة 549 من مدونة الشغل تم تحديد عناصر النزاع الجماعي في عنصرين، أحدهما شخصي والاخر موضوعي، بحيث إذا كان هذان العنصران متلازمان فإن مناط معرفتهما تتمثل بالنسبة للعنصر الشخصي في الصفة الجماعية وبالنسبة للعنصر الموضوعي في المصلحة الجماعية، مما يجعل من وجوب توافر شرطي الصفة الجماعية والمصلحة الجماعية ضروريان لاكتساب النزاع الصبغة الجماعية، وهو ما يعني بأن النزاع الجماعي يعتبر كذلك إذا أثير بصفة جماعية وليست فردية وكان الهدف منه تحقيق مصلحة جماعية وليست مصلحة شخصية فردية.[3]
ھذا، فإن نطاق تطبيق التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة، یشمل كل نزاعات الشغل غیر الفردیة، أي تلك النزاعات التي عبر عنھا المشرع المغربي في المادة 549 من مدونة الشغل بأنھا الخلافات الناشئة عن الشغل ویكون ھدفھا الدفاع عن مصالح جماعة مھنیة للأجراء[4] أو الدفاع عن مصالح المشغل أو المشغلین[5]، وھذا ما یعطي انطباعا بأن كل نزاع بسبب الشغل یكون قابلا للتحكیم في الإطار القانوني المحدد في مدونة الشغل، شریطة أن یكون جماعیا، سواء تعلق بمصالح جماعة من المشغلین أو جماعة من الأجراء، كما یشترط كذلك في موضوع النزاع الجماعي المعروض على التحكیم أن یتعلق بمصلحة مشتركة بین الأجراء.
محكمة النقض المغربية كانت قد أقرت هذا التحديد للنزاع الجماعي، حتى قبل صدور مدونة الشغل بأكثر من عشر سنوات، فجاء في قرار المجلس الأعلى”…لكن خلافا لما في الوسائل، فإن الأمر يتعلق بنزاع فردي بين عمال تعرضوا للطرد من طرف مشغلهم، وأنه لا يهم مجموعة عمال إن كانوا منظمين في إطار نقابة أو جمعية مهنية أو بفعل الواقع، كما لا توجد مصلحة جماعية يسعون إلى تحقيقها، والمحكمة حين ردت هذا الدفع بقولها: حيث إنه من المتفق عيه أن النزاع الجماعي يستلزم توافر عنصرين أساسيين هما:
أن يكون أحد أطراف النزاع مجموعة من العمال مؤطرة تأطيرا قانونيا، نقابة مثلا، أو واقعيا ويعني مجموعة من العمال أو صنف مهني فقط.
أن يمثل النزاع مصلحة جماعية لهؤلاء العمال تستهدف تعديل ما هو متفق عليه أو منصوص ليه ي لقانون أو العقد.
تكون قد طبقت القانون تطبيقا سليما”[6]
ثانیا: طبیعة التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة
لقد ثار الجدل منذ السنوات الأولى لازدهار التحكیم التجاري الدولي في شتى المجالات عن الطبیعة القانونیة له، وتعددت في ذلك المعاییر والحجج التي قال بھا كل فریق من أجل دعم الطبیعة التي یدافع علیھا، سواء كانت طبیعة تعاقدیة أو قضائیة أو مختلطة أو مستقلة.
نفس الشيء بالنسبة لطبیعة التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة حیث أثارت جدلا فقھیا كبیرا، إلا أن الأمر ھنا یختلف عن المجالات الأخرى وذلك من حیث أن الفقه ھنا انقسم إلى اتجاھین، الاتجاه الذي ینادي بطبیعته القضائیة والاتجاه الذي ینادي بالطبیعة الخاصة.
وانطلاقا مما سبق فإننا نسیر على خطى الاتجاه الذي اعتبر التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة ذو طبیعة خاصة، ونستند في ذلك على المادة 550 من مدونة الشغل والتي تنص على أنه : ” تسوى نزاعات الشغل الجماعیة وفق مسطرة التصالح والتحكیم المنصوص علیھا في ھذا الشأن “. وبذلك فإن المشرع المغربي قد أورد في ھذه المادة مسطرة التصالح والتحكیم، ومن ھنا نرى أن النزاع أولا یمر بمسطرة التصالح وبعدھا إن فشلت ھذه المسطرة نلجأ إلى مسطرة التحكیم وذلك بعد موافقة الأطراف طبقا للمادة 567 من م.ش، أضف إلى ذلك أن الطبیعة القضائیة تحجب عن التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة، وذلك بسبب السلطات الواسعة التي یتمتع بھا الحكم، خاصة بالنسبة للنزاعات ذات الطبیعة الاقتصادیة التي تخوله في نظرنا تجاوز النصوص القانونیة، بل والتعاقدیة النافذة والحالة أن القضاء لا یملك مثل السلطات.
الفقرة الثانية : أھمیة التحكيم في نزاعات الشغل الجماعیة
لإظهار أهمية التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية يثور التساؤل حول ما إذا كان التحكيم يقوم بدورفعال في حل نزاعات الشغل الجماعية، أم أنه لا يعدو أن يكون مرحلة من مراحل تسوية النزعات أعلاه، والتي تؤدي غالبا إلى وسائل تسوية غير مرضية يبث القضاء في نهاية المطاف فيها عبر الغرفة الاجتماعية بمحكمة النقض؟.
وباعتبار التطور الهائل الذي عرفه التحكيم في ميادن أخرى وبالأخص ميدان التجارة الدولية، فهل يكتسي التحكيم في نزاعات الشغل نفس الأهمية؟ خصوصا إذا كان التحكيم قد نشأ في البداية من الواقع المهني، وكان من أهم الوسائل لحل النزاعات بين الحرفين. وإذا كان يعتبر وسيلة ودية للصلح بين أطراف النزاع، فإنه سرعان ما تحول إلى تحكيم بالقانون شأنه في ذلك شأن القضاء، وبات من الراسخ في أنظمة التحكيم المقارنة – مع عدم تطبيق القواعد القانونية – إلا بموافقة صريحة للأطراف المحتكمة.[7]
وبما أن نزاعات الشغل الجماعية تكتسي أحيانا صفة قانونية، وأحيانا أخرى صفة واقعية عملية، فإن من أنسب الوسائل التي يمكن أن تحل بها هي التحكيم الذي يجمع بين صفة الواقع العملي والقانوني في نفس الوقت.
ونظرا إلى الأهمية البالغة التي يكتسيها التحكيم فإنه كان من الأجدر لو فسحنا المجال للتحكيم في نزاعات الشغل الجماعية ليتحرك تلقائيا في استقلالية ، ودون تقييد المشرع لآليات تحركه وعمله، سيما وأن أهمية التحكيم في تسوية نزاعات الشغل الجماعية، في ظروف سريعة وفاعلة يبقى رهين بما سبق، ومشروط بإصلاح التحكيم في هذا المجال من الداخل لا من الخارج[8]. ولاسيما بعد صدور قانون التحكيم و الوساطة 95.17 وما يحمله من مستجدات.
المطلب الثاني: إجراءات التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية و آثاره
من المستقر عليه تشريعا أن اللجوء إلى مسطرة التحكیم لا یكون الا بعد استنفاذ مسطرة التصالح و فشلها في التقريب بین وجھة نظر أطراف النزاع الجماعي.
لذلك نجد أن ھناك مجموعة من الإجراءات التي یتعین إتباعها عند اللجوء الى التحكيم (الفقرة الأولى)، والتي يترتب علیھا عدة اثار ( الفقرة الثانیة ).
الفقرة الأولى: خصوصية إجراءات التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية
تتمیز الإجراءات المتبعة في مشطرة التحكيم في نزاعات الشغل الجماعیة بعدة خصوصيات، سواء من حيث تعیین المحكم (أولا) ثم القانون المطبق على موضوع النزاع (ثانيا).
أولا: تعیین الحكم
خلافا لما هو معمول به في القانون 95.17 حيث خول للأطراف حرية اختيار هيئة تحكيمية اما فردية او جماعية فإن المشرع المغربي على غرار نظيره الفرنسي اختار التشكيل الفردي للجھة المنوط بھا التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة، حیث جاء في الفقرة الأولى من المادة 568 من مدونة الشغل أنه یتم اختیار الحكم من قبل الأطراف باتفاق بینھم.
غیر أن ھذا الموقف تعرض للعدید من الانتقادات من طرف الفقه[9]. الذي اعتبر أن شخصا واحدا من الصعب علیه بما كان حل نزاع شغل جماعي في ظرف زمني حدده المشرع في أربعة أیام[10] من تاریخ مثول أطراف النزاع أمامه.
أما في ما یخص طریقة تعیین الحكم فانه یتم من قبل الأطراف في النزاع الجماعي شریطة أن یكون من ضمن قائمة المحكمین المحددة بناء على اقتراح المنظمات المھنیة للمشغلین و المنظمات النقابیة للإجراء الأكثر تمثیلا من قبل الوزیر المكلف بالتشغیل[11]. اما إذا لم یتفق أطراف النزاع الجماعي على اختیار الحكم فان الوزیر المكلف بالشغل، یتدخل و یعین حكما من نفس قائمة الحكام خلال أجل ثمانیة وأربعین ساعة[12].
وكثیرة ھي الحالات التي یعترض فیھا أحد الأطراف على الحكم المعین، سواء من قبل الأطراف أنفسھم و ذلك عندما یتبین سبب الاعتراض فیما بعد، أو عندما یتم تعینه من قبل الوزیر المكلف بالشغل في الحالة التي لا یتفق الأطراف على تعیینه، مما یطرح التساؤل حول إمكانية تجریح الحكم؟
و باستقراء المقتضیات القانونیة المتعلقة بالتحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة لا نجد أیة إشارة لمسألة تجریح الحكم، مما یستدعي الرجوع إلى القواعد العامة الواردة في قانون 95:17.
ثانيا: القانون المطبق على موضوع النزاع
نص المشرع في المادة 45 من القانون 95.17 انه “تطبق الهيئة التحكيمية على موضوع النزاع القواعد القانونية التي يتفق عليها الأطراف. إذا لم يتفق الأطراف على القواعد القانونية الواجبة التطبيق على موضوع النزاع، طبقت الهيئة التحكيمية القواعد الموضوعية في القانون الذي ترى أنه الأكثر اتصالا بالنزاع، وعليها
في جميع الأحوال أن تتقيد بشروط العقد موضوع النزاع، وأن تراعي الأعراف والعادات وما جرى عليه التعامل بين الأطراف
الا انه ولخصوصية التحكيم في نزاعات الشغل الجماعیة، فإن هذه الاخيرة لیست قاصرة على الخلافات المتعلقة بتفسیر عقد من العقود، أو قانون من القوانین المنظمة لعلاقات الشغل، وإنما الأمر تعدى ذلك إلى الأساس الذي تقوم علیه هذه العلاقات، الأمر الذي دفع بمعظم التشریعات إلى الاعتراف للحكم بسلطات واسعة تختلف باختلاف نوعیة و طبیعة النزاع الجماعي.
فإذا تعلق الأمر بنزاع جماعي من طبیعة قانونیة، فإن الحكم یبث فیه طبقا للأحكام التشریعیة أوالنظيمية أو التعاقدية[13]، بمعنى أن مهمة الحكم هنا لا تختلف من حیث طبیعتها عن مهمة القاضي العادي، الأمر الذي یدفعنا للتساؤل حول أحقیة الحكم في تفسیر النص القانوني أو الاتفاقي المتعلق بالنزاع المعروض علیه إذا شابه غمو ض أو إبهام؟
أمام سكوت مدونة الشغل، یرى الفقه[14] أن المشرع المغربي ما دام قد نص صراحة على أنه یفصل الحكم في النزاعات الجماعیة القانونیة طبقا لقواعد القانون العادي أو الإتفاقي، فإنه بإمكانه (الحكم) بل من الواجب علیه تفسیر القواعد التشریعیة أو التنظیمیة أو التعاقدیة المطلوب منه تطبیقها في الحالة التي یعتریها غموض أو إبهام.
أما بالنسبة لباقي النزاعات الجماعیة، فقد خول المشرع المغربي للحكم البث فیها تبعا لقواعد الإنصاف بشرط ألا توجد بشأنها أحكام تشریعیة أو تنظیمیة أو تعاقدیة.
و ما یلاحظ على المشرع في هذا الصدد أنه لم یحدد ماهیة و معنى باقي النزاعات الجماعیة للشغل؟ لكن باعتبار النزاعات الجماعیة المتعلقة بتفسیر أو تنفیذ النصوص القانونیة، أو الشروط الاتفاقیة، نزاعات جماعیة من طبیعة قانونیة، یبث فیها اعتمادا على قواعد القانون، فلم یبق إذن سوى النزاعات التي لا تستند إلى حكم القانون أو الاتفاق بالإضافة إلى النزاعات الجماعیة الخاصة بتعدیل وضعا قانونیا قائما، یسعى أحد طرفي النزاع لتعدیله لأنه لا یمكن، خاصة بالنسبة للطبقة العاملة، الانتظار لغایة أن یتدخل المشرع لتعدیل النص التشریعي أو التنظیمي المعمول به لیسایر أحوالها الاقتصادية والاجتماعية، لذلك یتم اللجوء إلى التحكیم لإقرار المطالب التي یتبین أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تتطلبها فعلا[15].
الفقرة الثانية : اثار التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية
یترتب عن انتهاء مسطرة التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة إصدار المحكم قرارا یكون هو الفیصل في موضوع النزاع، وسنقوم في هذه الفقرة بدراسة كل ما یتعلق بالقرار التحكیمي سواء من حیث صدوره (أولا) أو من حیث تنفیذه والطعن فیه (ثانیا).
أولا: صدور القرار التحكیمي و أجله
لكي یكون القرار التحكیمي في نزاعات الشغل الجماعية صحيحا من الناحیة القانونية لابد أن یكون مستوفیا لمجموعة من الشروط و الشكلیات كما هو الشأن بالنسبة للأحكام القضائیة والأحكام التحكیمیة بصفة عامة، حیث تنص المادة 574 من مدونة الشغل على ضرورة تبلیغ المقرر التحكیمي للأطراف بواسطة رسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل، مما یفهم أن المقرر التحكیمي یجب أن یصدر كتابة[16].
أما بخصوص البیانات التي یتعین أن یتضمنها المقرر التحكیمي في نزاعات الشغل الجماعیة، فبالرغم من سكوت المواد المتعلقة بمسطرة التحكیم في مدونة الشغل على ذلك، فإنه طبقا للقواعد العامة المتعلقة بالتحكيم، المنصوص عليها في المواد 50 و 51 من القانون 95.17 یجب أن یتضمن عدة بیانات، كأسماء وصفات الأطراف الأصلين في النزاع سواء من جانب المشغلین أو الأجراء، ومواطنهم، وكذا الاسم الشخصي والعائلي للحكم وموطنه، وكل البیانات الشخصیة الأخرى، وتوقیعه في المقرر التحكیمي الصادر عنه.
كما بجب أن یتضمن المقرر التحكیمي وقائع النزاع، والنتیجة التي تم التوصل إلیها في محضر عدم التصالح، ومختلف التحريات والأبحاث التي أجراها الحكم بنفسه، للمقاولة المعنیة، أو للمقاولات المجاورة أو المشابهة، أو وضعیة الأجراء، والإشارة كذلك للخبراء الذین اعتمد على خبرتهم ومضمونها وتاریخها، ونفس الشيء بالنسبة للمستندات والوثائق التي أدلى بها الأطراف.
وهذه البیانات لابد من الإشارة إلیها في صلب المقرر التحكیمي المكتوب، لأنه بدونها سیكون من المتعذر معرفة أطراف النزاع الجماعي، والحكم الذي أصدره، وموضوع النز اع الذي صدر بخصوصه المقرر التحكیمي، وهذه البیانات تكون ضروریة أیضا بالنسبة للرقابة اللاحقة التي تمارسها الغرفة الاجتماعية بمحكمة النقض (مجلس الأعلى سابقا).
وتحقیقا لعامل السرعة الذي یقوم بدور فعال في حسم نزاعات الشغل الجماعیة وحلها قبل استفحالها واستحكامها، فقد نص المشرع المغربي على ضرورة إصدار القرار من طرف الحكم المحال علیه ملف النزاع الجماعي، داخل أجل لا یتعدى أربعة أیام، وهذه خصوصية تميز التحكيم في نزاعات الشغل على خلاف اجل صدور الحكم في القانون 95.17 الذي اما ان يكون اجل اتفاقيا أو قانونيا المتمثل في 6 أشهر.
ثانیا: تنفیذ القرار التحكیمي و الطعن فیه
تقتضي دراسة هذه الفقرة التطرق إلى القوة التنفیذیة للقرار التحكیمي، ثم إلى الطعن في القرار التحكیمي
- تنفیذ القرار التحكیمي
نصت المادة 581 من مدونة الشغل أن القرارات التحكيمية الصادرة في نزاعات الشغل الجماعية تحوز القوة التنفيذية وفق قانون المسطرة المدنية ويحفظ أصل القرار التحكمي لدى كتابة الضبط.
ونعتقد جازمين بأن المشرع لم يكن موفقا في إحالته على مقتضيات ق، م، م فيما يتعلق بتنفيذ القرارات التحكيمية الصادرة في نزاعات الشغل الجماعية، وكان يجب التنصيص على مسطرة خاصة لذلك.
فالفصول قانون المسطرة المدنية لا تراعي خصوصية القرارات التحكيمية الصادرة في نزاعات الشغل الجماعية، انطلاقا من أنه وبموجب القانون رقم 08-05، فإن أصل الحكم التحكيمي يودع لدى كتابة ضبط المحكمة أو لدى لدى كتابة ضبط محكمة الاستئناف متى تعلق التحكيم باستئناف حكم، كما أن الفصل 237-31 نص على أنه لا ينفذ الحكم التحكيمي جبريا إلا بمقتضى أمر بتخويل الصيغة التنفيذية يصدره رئيس المحكمة الصادر الحكم في دائرتها وإذا تعلق التحكيم باستئناف حكم، وجب إيداع الحكم التحكيمي لدى كتابة ضبط محكمة الاستئناف ويصدر الأمر بتخويل الصيغة التنفيذية عن الرئيس الأول لهذه المحكمة[17].
- الطعن في القرار التحكیمي
طبقا لمدونة الشغل، ترجع أسباب الطعن في القرار التحكیمي الصادر في نزاعات الشغل الجماعیة إلى سببین أساسیین هما خرق القانون و الشطط في استعمال السلطة.
والطعن بسبب خرق القانون یعني أن الحكم الذي بث في النزاع الجماعي، قد بث فیه خارج نطاق القوانین الجاري بها العمل، مهما كانت طبیعتها، أو أنه أخطأ في تطبیقها أو تأویلها، أي أن القرار المطعون فیه قد أنكر وجود قاعدة قانونیة موجودة، أو أكد وجود قاعدة قانونیة لا وجود لها، أو یكون القرار طبق قاعدة قانونیة مخالفة لتلك الواجبة التطبیق، أو یكون طبقها على نحو أدى إلى نتائج قانونیة مخالفة لتلك التي قصدها المشرع، أي أن القرار في هذه الحالة یكون قد أعطى النص الواجب التطبیق غیر معناه الذي قصده المشرع، سواء بإساءة الفهم الصحیح للقاعدة القانونیة، أو بمخالفة إرادة المشرع المستفادة من روح النص وحكمته والغرض المقصود منه، وهذا هو الخطأ في تأویل القانون، أو في تفسیره[18].
أما الطعن في القرار التحكیمي بسبب الشطط في استعمال السلطة يتحقق عندما یتجاوز القاضي أو الحكم حدود اختصاصه و تدخله في مجال یخرج عن هذا الاختصاص.
ويرفع الطعن الى الغرفة الاجتماعية بمحكمة النقض، وهذا على خلاف الأحكام المنصوصة عليها في القانون 95.17.
و بخلاف ما نص علیه المشرع المغربي في المسطرة المدنیة بخصوص أجل الطعن بالنقض و الذي حدده في ثلاثین یوما من تبلیغ الحكم المطعون فیه إلى الشخص نفسه أو إلى موطنه الحقيقي[19]، فإنه بالنسبة للقرارات التحكیمیة الصادرة في نزاعات الشغل الجماعیة، ینص على وجوب تقدیمه في أجل لا یتعدى خمسة عشر یوما، من تاریخ تبلیغها، حیث یقدم الطعن بواسطة رسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل توجه إلى رئیس الغرفة التحكیمیة، بمحكمة النقض مع وجوب أن تتضمن هذه الرسالة تحت طائلة عدم القبول، أسباب الطعن، وأن تكون مرفقة بنسخة من القرار المطعون فیه[20].
المبحث الثاني: إمكانية اللجوء للتحكيم كألية بديلة لفض نزاعات الشغل الفردية
تأسيسا على ماسبق، يتضح ان المشرع المغربي لم ينص في أي مقتضى إلى إمكانية اللجوء إلى مؤسسة أخرى قضائية كانت أو إدارية أو كيف ما كانت للبت في نزاعات الشغل الفردية، وبالتالي البحث على مدى امكانية تطبيق احكام التحكيم المطبقة على النزاعات الجماعية على النزاعات الشغل الفردية،
المطلب الأول: موقف التشريع المغربي و المقارن في التحكيم في نزاعات الشغل الفردية
قبل التطرق لموقف التشريع المقارن في التحكيم في نزاعات الشغل الفردية في ( الفقرة الثانية ) سنتناول موقف المشرع المغربي ( الفقرة الأولى )
الفقرة الأولى: موقف المشرع المغربي من التحكيم كأداة لفض نزاعات الشغل الفردية
إذا كان المشرع المغربي قد أقر صراحة اللجوء إلى التحكيم لحل الخلافات الجماعية الناجمة عن الشغل وذلك في المادة 550 من مدونة الشغل فقد فضل السكوت فيما يخص الخلافات الفردية، إلا أنه باستقراء القانون المنظم للتحكيم 95,17، نجد المادة 14 يقر قاعدة عامة مفادها ان التحكيم يجوز في كل الحقوق التي يملك الشخص التصرف فيها ضمن الحدود ووفق الاجراءات و المساطر المنصوص عليها في هذا القانون، وقد أتى المشرع باستثناءات مثل ما نصت عليه المادة 15 من نفس القانون، وجاء في فحويها، عدم جواز التحكيم في النزاعات التي تهم حالة الاشخاص وأهليتهم أو الحقوق الشخصية الخارجة عن دائرة التعامل.
وبالرجوع الى هذه الاستثناءات فإننا لا نجد الحقوق المترتبة على عقد الشغل بمعنى أن المشرع لم يستثني من القاعدة النزاعات المتعلقة بعلاقات الشغل الفردية.
برجوعنا لمواد مدونة الشغل وكذا مواد القانون 95:17 لا نجد ما يمكن الاستناد عليه لإقصاء نزاعات الشغل الفردية في مجال التحكيم، لكن من زاوية اخرى لو اراد المشرع تطبيق مسطرة التحكيم في هذا النوع من النزاعات لنص عليها بشكل صريح على غرار نزاعات الشغل الجماعية.
الفقرة الثانية: موفق التشريع المقارن من التحكيم في نزاعات الشغل الفردية
ان المشرع الفرنسي لم يجز التحكيم في منازعات الشغل الفردية إلا في حالة واحدة، وهي بعد انتهاء عقد الشغل ويرجع الاختصاص للبث فيها الى مجلس المنازعات الفردية التي لها حق الزجر في منازعات الشغل الفردية دون غيرها[21]، ويتضح مما سبق مدى حسن الشرع الفرنسي على خلق التوازن بين طرفي العلاقة الشغلية عندما اجاز الاتفاق على التحكيم في المنازعات الفردية لأن انعدام التوازن بين الأجير والمشغل لم يعد موجودا بعد انتهاء العلاقة الشغلية، إذ يصبح الأجير قادرا على أن يدخل مع المشغل في إتفاق التحكيم، يعبر صراحة عن مصالحه الخاصة.
أما المشرع الأمريكي فقد أجاز التحكيم في نزاعات الشغل الفردية، بحيث يعتبر الديموقراطية إحدى دعائمه الأساسية فهو يحترم إرادة الأطراف المتنازعة ويقوم بإشراكهم في صنع الحل الذي يضع حدا للنزاع ويقطع دبر الخلاف ولعل هذا هو سر نجاح التحكيم في نزاعات الشغل بها، فكلا الطرفين يحرصان على تفادي أي تعطيل أو انخفاض في الإنتاج كما يسعيان الى ضمان استمرارية علاقة الشغل القائمة بينهما وتحسينها ، وهو ما يدفعهما الى تطبيق القرار التحكيمي بطريقة حبية، إضافة الى أن المحكمين في الولايات المتحدة الأمريكية لهم دراية وخبرة مهمة في هذا المجال.[22]
اما المشرع السعودي قد أجاز امكانية اللجوء الى التحكيم في منازعات العمل الفردية بموجب نص صريح ونظم أحكام إجراءات هذا التحكيم.
وعليه فالمشرع السعودي قد منح الأطراف إمكانية اللجوء الى التحكيم لحل نزاعات الشغل الفردية وهذا يدل على سيادة مبدأ سلطان الإرادة الذي يمكن الأطراف من اختيار الطرق السليمة لحل نزاعاتهم.
لكن ما جل المشرع السعودي يتعرض للانتقاد، كونه قد منح هذه الإمكانية بالرغم من قيام العلاقة الشغلية، وبالتالي عدم التوازن بين الاجير مقابل الطرف القوي الذي يتمثل في المشغل[23].
أما بخصوص التشريع الموريتاني، فباستقراء لمدونة التحكيم نجد أن المشرع الموريتاني نص في المادة 3 على أنه: لا يمكن أن يبرم اتفاق التحكيم إلا شخص طبيعي أو معنوي يتمتع بأهلية التصرف في حقوقه.
من خلال هذه القاعدة نستخلص قاعدة عامة مفادها أن جميع الحقوق التي يملكها الشخص، سواء كانت حقوقا مدنية أو تجارية يمكن أن تكون مجالا للتحكيم
في حين نجد أن المشرع الموريتاني نص في المادة 4 من المدونة على الاستثناءات من مجال التحكيم، حيث نص على ما يلي: لا يجوز التحكيم: 1- في المسائل المتعلقة بالنظام العام 2- في النزاعات المتعلقة بالجنسية 3- في النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية التي لا تخضع للتحكيم الوارد في هذه المدونة باستثناء الخلافات المالية الناشئة عنه.
وبالرجوع إلى هذه الاستثناءات فإننا لا نجد الحقوق المترتبة عن علاقات الشغل من هذه الاستثناءات بمعنى آخر أن المشرع الموريتاني لم يستثني من مجال التحكيم النزاعات الشغل الفردية، إلا أن البعض[24] يذهب إلى القول بعدم جواز التحكيم في نزاعات الشغل الفردية لاتصالها بالنظام العام، وبالتالي يجب إخضاعها للقضاء، لأن توليته لذلك ضمانة لعدم المساس بحق المجتمع وأفراده.
من وجهة نظرنا، لا نرى مع التوجه الذي يقصي هذه النزاعات من مجال التحكيم باسم النظام العام، او الطابع الخصوصي لمدونة الشغل، بل من شأن حل هذه النزاعات عن طريق التحكيم أن يخفف على القضاء ، ويساعد على حلها بالطرق السلمية، ذلك أن إرادة الأطراف واضحة في ذلك من خلال اللجوء إلى التحكيم، كما ان مدونة الشغل المغربية تشكل الحد الأدنى للحقوق وبالتالي متى كان التحكيم يتضمن مقتضيات اكثر فائدة للأجراء فلا مانع من اللجوء اليه.
المطلب الثاني: الموقف القضائي والفقهي من اللجوء الى التحكيم في نزاعات الشغل
ان الحسم في مدى أحقية طرفي النزاع ذي الطبيعة الفردية في اللجوء الى التحكيم سيحكمه العمل القضائي، وموقف الفقه، أمام الفراغ التشريعي في القانون المغربي
الفقرة الأولى: الموقف القضائي
بكون التحكيم وسيلة بديلة لحل النزاعات، ويستند إلى مبدأ حرية الإرادة. لكن مع ذلك، يواجه ظروفا خاصة تتعلق بالعلاقة الشغلية، حيث يتمتع الطرفان بحرية اختيار كيفية حل النزاع. فلا يجبر أي طرف على تقديم مطالبة إذا تم انتهاك حقوقه. وقد يختار الطرفان اللجوء إلى التحكيم بفضل سرعته في اتخاذ القرار.
وعليه فإن القضاء عرضت عليه قضايا أخد فيها بالتحكيم الذي تم بين الأطراف معتبرا السند التحكيمي الصادر عنه غير قابل لأي طعن، وهو ما سارت عليه المحكمة الابتدائية بوجدة ” وحيث إن محاولة الصلح لم تؤدي إلى نتيجة نظرا لتسمك كل طرف بموقفه، وحيث دفعت الجهة المدعى عليها برد الطلب لمخالفته مقتضيات الفصل 319 من قانون المسطرة المدنية، واحتياطيا برده لعدم ارتكازه على أساس ولكون الفصل كان مبررا نتيجة حصولها على إذن للتخفيض من العمال، وحيث إنه طبقا لمقتضيات الفصل 319 من ق.م.م – يقابله الفصل 327-34 من قانون 08-05- ، فإن حكم المحكمين لا يقبل الطعن في أية حالة ، وحيث إن الطلب الحالي المقدم من طرف المدعي في وصل تصفية الحساب وبالتالي فإنه لا يقبل الطعن خاصة وأن اللجوء الى مسطرة التحكيم كان برضا الطرفين وبعد مرافقة المدعي بمغادرة الشركة بعد حصوله على مستحقاته المتفق عليها والتي توصل بها فعلا… الذي تبقى معه جميع طلباته غير مرتكزة على أساس ويتعين التصريح بردها”[25]
كما سارت محكمة النقض[26] في أحد قراراتها بحيث قضت بأنه “لا مانع يمنع طرفي عقد الشغل من إنهاء العلاقة فيما بينهما عن طريق التحكيم كحل بديل لحل منازعات الشغل الفردية، ما دام عنصر التبعية قد أصبح منعدما وعليه لا يمكنه الطعن في المقرر التحكيمي”،.
و يتضح من خلال ما سبق أن العمل القضائي قد اخد بنظام التحكيم كوسيلة لحل نزاعات الشغل الفردية.
الفقرة الثانية: الموقف الفقهي
تضاربت الآراء الفقهية بشأن التحكيم لحل نزاعات الشغل الفردية على أساس أنه لا يجوز بين مصالح متعارضة ، مثل النزاع الحاصل القائم بين الأجير والمشغل لأنه من شأن ذلك المس بالضمانات التي منحت للطرف الضعيف، كما نجد أن هذا التوجه أسس بناء على كون المسائل المتعلقة بالشغل ملتصقة التصاقا وثيقا بالنظام العام ما يعتبر استبعادا للنزاع الشغلي من نطاق التحكيم[27].
لكن لا يمكن ان نسلم بهذا الموقف بكون ان الاجير لا يصح ان نعتبره طرفا ضعيفا امام الحماية التي اعطاها له المشرع، حيث ان الاجير الضعيف هو الجاهل بحقوقه.
ونفس التوجه سار عليه بعض الفقه المقارن على أنه لا يجوز اللجوء إلى التحكيم مطلقا للفصل في المنازعات المتعلقة بمسائل تعتبر من النظام العام الذي يتمثل في القواعد المتعلقة بالمصلحة العليا للمجتمع الذي تحقق له الحماية اللازمة لاستقراره وتحقيق العدالة لأفراده.
ومن هذا الفقه نجد H.motulsky أن نزاعات الشغل الفردية لا تتعارض مع التحكيم، فالخصومة الشغلية واختصاص قاضي العرف لا يتعلقان بالنظام العام بدرجة تمنع عرض نزاع الشغل الفردي على التحكيم [28].
وفي المقابل نجد الفقيه G.Lyou.Caen يرى أنه هذا الحق مرتبط بالنظام العام الاجتماعي، لأنه يهدف إلى حماية الأجير الذي لا ينبغي أن يجد نفسه مبعدا من القضاء الرسمي، وفيما عدا ذلك فإن المنع لا يوجد ما يبرره، لأن إدراج شرط التحكيم في اتفاقية جماعية لا يعتبر باطلا إلا إذا كان يسعى إلى فرض حلول التحكيم محل القضاء الرسمي، أما إذا كان شرط التحكيم من الشروط التي تدخل في طائفة مقتضيات الاتفاقيات الملزمة للطرفين الموقعين فقط، فلا شيء يؤثر في وجوده وصحته، لأنه في هذه الحالة تبقى الحقوق الأساسية للأجير-أي اللجوء إلى القضاء الرسمي- مضمونة[29]
خاتمة
ختاما، يتبين من هذا البحث أن التحكيم يحتل موقعا متميزا كآلية مكملة لفض نزاعات الشغل بنوعيها، الفردية والجماعية، حيث نظم المشرع المغربي هذه الآلية عبر مجموعة من النصوص القانونية في مدونة الشغل لتحديد مساطر الفصل في منازعات الشغل الجماعية، بينما لم تتضمن المدونة نصوصا واضحة تخص التحكيم في نزاعات الشغل الفردية. وعلى الرغم من أن المشرع لم يمنع صراحة اللجوء إلى التحكيم لتسوية هذه النزاعات، فإن هذا المجال ما زال مفتوحا أمام الاجتهاد القضائي والفقهي.
وعليه، من استنتاجات البحث، يتضح أن:
- هناك اختلافا في الرؤى الفقهية حول جواز التحكيم في نزاعات الشغل الفردية. إذ يرى البعض أن هذه النزاعات ترتبط بالنظام العام، مما يجعل التحكيم غير ملائم، بينما يتجه البعض الآخر إلى جواز التحكيم فيها للاستفادة من السرية والسرعة التي توفرها هذه الآلية، وهو ما دعمه العمل القضائي بمنح الصيغة التنفيذية لبعض المقررات التحكيمية في هذا المجال.
- إيجابية التحكيم في النزاعات الجماعية: أثبتت التجارب أن التحكيم يسهم في حل النزاعات الجماعية بفعالية، وهو ما دعا المشرع المغربي إلى تنظيمه صراحة في مدونة الشغل.
وفي هذا الصدد نقترح ما يلي:
- دعوة المشرع المغربي لتنظيم التحكيم في النزاعات الفردية: وذلك من خلال إدراج نصوص قانونية صريحة في مدونة الشغل تحدد شروط وإجراءات اللجوء إلى التحكيم في النزاعات الفردية.
- توعية الأطراف بأهمية التحكيم: تعزيز الوعي بأهمية التحكيم، وضمان حق الأجير في الاستقلالية، وحمايته من استغلال الطرف الأقوى من حيت المبدأ المشغل.
- تكوين محكمين مختصين في نزاعات الشغل وتطوير آليات تكفل تنفيذ القرارات التحكيمية بمرونة وسرعة.
بهذا، يمكن أن يسهم التحكيم في تعزيز العدالة في نزاعات الشغل مع تقليل العبء على المحاكم، مما يضمن للأطراف بيئة عمل مستقرة وآمنة.
لائحة المراجع
الكتب
الحاج الكوري، مدونة الشغل الجديدة القانون رقم 65.99 أحكام عقد الشغل، الطبعة الأولى، مطبعة الأمنية الرباط 2004.
دنيا مباركة، قضايا مدونة الشغل بين الشريع و القضاء، الطبعة الأولى، مطبعة المعارف الجديدة الرباط 2016.
عامر علي رحيم ،”التحكيم بين الشريعة و القانون”، منشورات الدار للنشر و التوزيع ضمن سلسلة الكتاب اإلسالمي، 1987.
عبد اللطيف خالفي، الوسيط في مدونة الشغل، الجزء الثاني علاقات الشغل الجماعية، ط الأولى، المطبعة و الوراقة الوطنية مراكش 2006.
محمد اطويف، الطرق البديلة لتسوية نزاعات الشغل، طبعة 2016، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط.
الأطاريح والرسائل الجامعية
أمال أزداد” التحكيم في نزاعات الشغل” رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص جامعة محمد الأول . كلية العلوم القانونية والإقتصادية وجدة. السنة الجامعية2007/2008.
زهير كريمات، “التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية –دراسة مقارنة-“، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، السنة الجامعية 2006ـ2007،جامعة محمد الخامس الرباط ، كلية الحقوق سلا.
سعيد أفروخ ،”التحكيم الاجباري في نزاعات الشغل الجماعية”، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون المدني المعمق ،السنة الجامعية 2017ـ2018،كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ابن زهر ،أكادير.
سهام المليكي، دور التحكيم في تسوية نزاعات الشغل الجماعية، رسالة لنيل دبلوم الماستر في قانون العقود والعقار، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الأول وجدة، السنة الجامعية 2010ـ2011.
هشام الدرقاوي، الوسائل السلمية لحل نزاعات الشغل الجماعية ورهانات الحوار الاجتماعي، اطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة محمد الأول وجدة، السنة الجامعية 2009ـ2010.
المجلات والمقالات العلمية
معروف عبد الحق، إجراءات الدعوى التحكيمية وفق القانون 95.17 ، بحث منشور في مجلة الياحث سلسلة الاعمال المعمقة، الطبعة الأولى 2024/2023
أمال أزداد “التحكيم كوسيلة لفض نزاعات الشغل”، مقال منشور بمجلة التحكيم والقضاء.
حمد عبد الرحمان سيدن، مقال منشور في https://www.elmourageb.com/node/15711 .
حنان الروبي، الوسائل السلمية لحل منازعات الشغل الجماعية، مجلة المناظرة، العدد 24-25 يوليوز غشت 2021.
مصطفى بونجة” التحكيم في نزاعات الشغل الفردية-تعليق على قرار محكمة النقض”، مقال منشور بمجلة التحكيم والقضاء.
يوسف حنان، المصالحة كآلية لفض نزاعات الشغل الجماعية، مجلة العلوم القانونية، العدد الأول، دون ذكر السن
الندوات
محمد سلام، ” الطرق البديلة لحل النزاعات، التجربة الأمريكية كنموذج”. الندوة المنعقدة بكلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية بفاس يومي 4و5 أبريل 2003، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والاقتصادية، سلسلة الندوات واللايام الدراسية العدد2، طبعة2004 .
مليكة بنزاهير” الصلح والتحكيم الإختياري لحل نزاعات الشغل الفردية”، الندوة الثالثة للقضاء الإجتماعي، سلسة الندوات واللقاءات والأيام الدراسية، مارس 2004.
- معروف عبد الحق، إجراءات الدعوى التحكيمية وفق القانون 95.17 ، بحث منشور في مجلة الياحث سلسلة الاعمال المعمقة، الطبعة الأولى 2024/2023 ص 6 ↑
- زهير كريمات، “التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية –دراسة مقارنة-“، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، السنة الجامعية 2006ـ2007،جامعة محمد الخامس الرباط ، كلية الحقوق سلا،ص4 . ↑
- ابن خدة رضى “مدخل لدراسة الطرق البديلة لمعالجة المنازعات” الجزء التاني، ط 2019، مطبعة دار السلام للنشر والتوزيع-الرباط- ص1066 ↑
- فق 1 من م 549 ” نزاعات الشغل الجماعیة ھي كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل، والتي یكون أحد أطرافھا منظمة نقابیة للأجراء أو جماعة من الأجراء، ویكون ھدفھا الدفاع عن مصالح جماعیة، مھنیة، لھؤلاء الأجراء..” ↑
- فق 2 من م 549 ” كما تعد نزاعات الشغل الجماعیة كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل، والتي یكون أحد أطرافھا مشغل واحد أو عدة مشغلین، أو منظمة مھنیة للمشغلين، ویكون ھدفھا الدفاع عن مصالح المشغل أو المشغلین أو المنظمة المھنیة للمشغلين المعنیین.” ↑
- قرار المجلس الأعلى عدد 9750/89، ملف اجتماعي، صادر بتاريخ24 شتنبر 1990، منشور بمجلة المحاكم المغربية، عدد66، سنة1992، ص134. ↑
- أسماء عبید م، س، ص 116 ↑
- المرجع نفسه ص 117 ↑
- – ذهب د. عبد اللطیف الخالفي في نفس السیاق إذ یقول: “… ونرى بهذا الخصوص أن موقف المشرع المغربي لم یحالفه الصواب، لأن التحكیم یقتضي قانونا القیام بجملة من المهام یصعب على شخص واحد الاضطلاع بها بمفرده، أو على الأقل الاضطلاع بها على الوجه المطلوب،
فالحكم وانطلاقا من نص المادة 56 من مدونة الشغل، التي تحیل علیها المادة 570 ،علیه بعد استدعاء أطراف النزاع الجماعي في الأجل المحدد
قانونا، أن یقوم بتقصي أوضاع المقاولات، وأوضاع المعنیین بالنزاع الجماعي، وأن یأمر بإجراء جمیع الأبحاث والتحریات لدى المقاولات والأجراء العاملین بها. وأن یطلب من الأطراف تقدیم كل المستندات والمعلومات كیفما كان نوعها، = = مع ما یقتضیه ذلك من وقت وجهد للإطلاع علیها، والاستنارة بها، هذا فضلا على أن الحكم یتعین أن یكون ذا شخصیة قویة، تفرض ذاتها وسلطتها على طرفي النزاع الجماعي، وأن یكون من ذوي الكفاءات المحترمة في المجالین الاقتصادي والاجتماعي، وأن یكون على إلمام بالمشاكل التي تھم الوسط المھني وبالصعوبات الاقتصادیة أو المالیة أو الاجتماعیة التي قد تعرفھا المقاولة، أو القطاع، أو الصناعة المعنیة بالنزاع الجماعي، وأن یكون كذلك على علم بالقوانین التي تحكم شروط الشغل التابع طالما أنه مدعو للفصل في النزاعات الجماعیة ذات الطبیعة القانونیة، اعتمادا على قواعد القانون ونصوصه، وھذه كلھا أمور یصعب إیجادھا في شخص واحد، وإلا فإن اختیار أي كان، سیؤدي إلى تعرض إجراءات التحكیم للفشل، وعلى خلاف ما سبق، نجد أن المؤھلات أعلاه، والتي كما قلنا یصعب أن یستجمعھا شخص واحد، یمكن أن توفرھا مجموعة من الأشخاص، یكمل بعضھم البعض الآخر، ومن ھنا تأتي أھمیة التشكیل الجماعي لجھة التحكیم في نزاعات الشغل الجماعیة، لذلك نرى أن ھذه الوسیلة من وسائل التسویة لا یمكن أن تضمن لھا فرص النجاح، إلا من خلال ھیئة جماعیة، ولیس من طرف شخص واحد، خاصة وأن مدونة الشغل لا تخول سوى وقت قصیر لإنجاز مھمته لا یتعدى أربعة أیام من تاریخ مثول أطراف النزاع الجماعي أمامه”.
– عبد اللطیف الخالفي: المرجع السابق، ص: 249 -250 . ↑
- تنص المادة 574 من م،ش على ما یلي: ” یصدر الحكم قراره التحكیمي داخل أجل لا یتجاوز أربعة أیام من تاریخ مثول الأطراف
أمامه. ” ↑
- جاء في المادة 568 من م ،ش أنه ” یعھد بإجراء التحكیم إلى حكم یختاره الأطراف باتفاق بینھم، ضمن قائمة حكام تصدر بقرار
للوزیر المكلف بالشغل.
یتم إعداد لائحة الحكام اعتمادا على اقتراحات المنظمات المھنیة للمشغلین والمنظمات النقابیة للأجراء الأكثر تمثیلا “. ↑
- المادة 569 من مدونة الشغل : ” إذا تعذر توصل الأطراف إلى اتفاق على اختیار الحكم، لأي سبب كان، فإن الوزیر المكلف بالشغل، یعین
حكما من نفس القائمة المذكورة في المادة 568 أعلاه، في أجل ثمانیة وأربعین ساعة.” ↑
- جاء في فق الأولى من م 572 من م.ش ما یلي : ” یبت الحكم، اعتمادا على قواعد القانون، في نزاعات الشغل الجماعیة المتعلقة بتفسیر أو
تنفیذ الأحكام التشریعیة، أو التنظیمیة، أو التعاقدیة.” ↑
- عبد اللطيف خالفي م، س، ص 259 ↑
- المرجع نفسه ، ص 260 ↑
- أسماء عبيد م، س، ص 131 ↑
- مصطفى بونجة، نهال اللواح ” التحكيم في المواد التجارية والإدارية والمدنية” ط، الأولى 2015، مطبعة الأمنية الرباط ص 341 ↑
- عبد اللطيف خالفي، م، س، ص 287 ↑
- الفصل 358 من قانون المسطرة المدنیة ” یحدد بصرف النظر عن المقتضیات الخاصة أجل رفع الدعوى الى محكمة النقض في ثلاثین یوما من یوم تبلیغ الحكم المطعون فیه الى الشخص نفسه اوالى موطنه الحقیقي…” ↑
- إذ تنص المادة 577 من مدونة الشغل على أنه: “یجب أن تقدم الطعون في القرارات التحكیمیة في أجل خمسة عشر یوما من تاریخ تبلیغھا.
یقدم الطعن بواسطة رسالة مضمونة مع إشعار بالتوصل، توجه إلى رئیس الغرفة التحكیمیة.
یجب تحت طائلة عدم القبول، أن تتضمن الرسالة أسباب الطعن، وأن تكون مرفقة بنسخة من القرار المطعون فیه” ↑
- حفيظ صافي،” التحكيم في نزاعات الشغل الفردية” ،م ،س ،ص 85. ↑
- محمد سلام، ” الطرق البديلة لحل النزاعات، التجربة الأمريكية كنموذج”. الندوة المنعقدة بكلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية بفاس يومي 4و5 أبريل 2003، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والاقتصادية، سلسلة الندوات واللايام الدراسية العدد2، طبعة2004 ،ص84. ↑
- أمال أزداد” التحكيم في نزاعات الشغل” رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص جامعة محمد الأول . كلية العلوم القانونية والإقتصادية وجدة. السنة الجامعية2007/2008.ص، 60. ↑
- حمد عبد الرحمان سيدن، مقال منشور في https://www.elmourageb.com/node/15711 ثم الاطلاع عليه بتاريخ 30/10/2024 الساعة 15:04 ↑
- حكم صادر عن المحكمة الإبتدائية بوجدة رقم 1923/05 بتاريخ 02/11/2005 ملف إجتماعي عدد 202/05 أوردته أمال أزداد “التحكيم كوسيلة لفض نزاعات الشغل”، مقال منشور بمجلة التحكيم والقضاء، م.س، ص.60. ↑
- قرار صادر عن محكمة النقض عدد 1172 الصادر بتاريخ 12 شتنبر 2013 في الملف الاجتماعي عدد 2012/02/05/1163 ، أورده مصطفى بونجة” التحكيم في نزاعات الشغل الفردية-تعليق على قرار محكمة النقض”، مقال منشور بمجلة التحكيم والقضاء، م.س، ص 40. ↑
- مليكة بنزاهير” الصلح والتحكيم الإختياري لحل نزاعات الشغل الفردية”، الندوة الثالثة للقضاء الإجتماعي، سلسة الندوات واللقاءات والأيام الدراسية، مارس 2004، ص 153. ↑
- أمال أزداد” المرجع نفسه ص 67 ↑
- أمال أزداد” التحكيم كوسيلة لفض نزاعات الشغل الفردية”، مقال منشور بمجلة التحكيم والقضاء، م.س، ص 63. ↑