مقالات قانونية

الضرر البيئي في أحكام الشريعة الإسلامية والقانون الدولي

téléchargement

الضرر البيئي في أحكام الشريعة  الإسلامية والقانون الدولي                                                               الأســـــتــــــــــــــاذة: مديــــــــــــــــــــن أمـــــــــــــــــــــــال

عضوة بمخبر حقوق الإنسان والحريات الأساسية   كــــــلـــــــــيـــــــــة الحــــــــــــقــــــــــــوق والعــــــــــــلــــــوم السيــــــــــاسيــــــــــــة    جــــامعـــــــة أبـــو بكر بلقــــــايد-تلمســـــــان(الجـــزائـــــر)

مقدمة:

يسبب تلوث البيئة أضرارا بالغة الخطورة على الإنسان وبيئته، والضرر البيئي يدخل في المفهوم العام للضرر وهو الأذى الذي يلحق الإنسان في نفسه أو ماله أو أي شيء عزيز عليه، فإذا كان الأذى لاحقا بأحد عناصر البيئة سمي ضررا بيئيا. والتعبير عن الضرر بالأذى هو تعريف للضرر بأدنى مراتبه لأن الأذى أقل من الضرر فالأذى أي شيء يزعج إزعاجا ماديا أو معنويا.[1]أما بالنسبة للتعريف التشريعي للضرر البيئي، فإذا كان الاتفاق على تعريف جامع مانع للتلوث ليس بالأمر السهل، فإن الأمر أصعب بالنسبة للضرر البيئي، خصوصا أنه حتى التشريعات التي عرفت التلوث أغفلت تعريف الضرر البيئي.إلا أنه من بين التشريعات القليلة التي عرفت الضرر البيئي نجد المشرع العماني في قانون حماية البيئة ومكافحة التلوث يعرف الضرر البيئي بأنه” الأذى الذي يلحق بالبيئة ويؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في خصائصها أو في وظيفتها أو يقلل من مقدرتها”[2].

الضرر البيئي بهذا المفهوم لا يشبه أي ضرر آخر، بل له خصائص مميزة تجعله متفردا، مما يرتب بالتالي ضرورة إخضاعه لمعاملة خاصة.[3] فهو يتميز بأنه ضرر غير شخصي أو عام يمس بشيء لا يملكه شخص معين وإنما شيء يستعمل من قبل الجميع دون استثناء.[4] وهو ضرر غير مباشر لا يكون نتيجة طبيعية للنشاط الضار.[5] لذلك يصعب إدراك المتسبب في الضرر البيئي بسبب تعدد المتسببين واختلاط الملوثات اختلاطا قد يصعب معه التمييز بينها نظرا لتفاعلها، كما أن الضرر البيئي ضرر مستمر في الزمن يتحقق في أغلب الأحيان بالتدريج وليس دفعة واحدة، وهو ما يجعله ضررا غير محقق الحدوث في المستقبل، كما أن الضرر البيئي غير محدود،غير مرئي وصعب الإصلاح.

إن الضرر البيئي بخطورته وخصوصيته، يدفعنا للتساؤل عن مدى الاهتمام بهذا الضرر والحد منه في كل من الشريعة الإسلامية والقانون الدولي؟ و هو ما سنحاول الإجابة عليه من خلال المطلبين التاليين:

موقف الشريعة الإسلامية من التلوث والضرر الناتج عنه(مطلب أول)

موقف القانون الدولي من تلوث البيئة والأضرار البيئية(مطلب ثاني)

المطلب الأول: موقف الشريعة الإسلامية من التلوث والضرر الناتج عنه.

لم ترد في القرآن الكريم كله كلمة تلوث بلفظها، ولكنها وردت بمفهومها اللغوي حيث يمكن القول أن كتاب الله عبر عن مضمون مصطلح التلوث ضمن لفظة أوسع هي “الفساد” التي وردت في العديد من الآيات على غرار قول الله عز وجل ” وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَ يُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد”[6].

وقوله تعالى:“ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون”[7] الذي يتضمن عناصر ظاهرة التلوث،و هي بروزها وظهورها كمشكلة ملحوظة أو خارجة عن السيطرة في البيئة، ثم تناولت مجالات التلوث وهي البر والبحر، لتتطرق الآية بعد ذلك إلى أسباب التلوث أو الفساد وهي الإنسان وسلوكه السلبي، ثم وضحت الآية نتائج الفساد وهي المعاناة التي تلحق الإنسان، لتعطي في الأخير الحل أو العلاج لمشكلة التلوث وهي إزالة أسباب الفساد، والتراجع عن السلوكات المسببة له.[8]

تدبر كلمة فساد يقود للقول أنها أوسع وأدق من مصطلح تلوث، فمعاجم اللغة العربية توضح أن الفساد هو نقيض الصلاح، يقال فسد الشيء فسادا فهو فاسد، وأفسد الشيء جعله فاسدا، والفساد التلف والعطب والخلل، والمفسدة خلاف المصلحة، والمفسدة هي الضرر.إذن فالفساد بهذا المفهوم يتسع لكل الأعمال الضارة بالبيئة أو مصادر تهديدها أو كل ما يؤدي إلى إحداث الخلل والاضطراب فيها، بحيث يعني الفساد تلويث البيئة وكذلك استنزاف مواردها والتبذير في استخدامها على نحو يهدد دوامها للأجيال المقبلة.[9] كما أن لفظة تلوث قد تفيد معاني بعيدة كل البعد عن المعنى المرجو منها: مثل الشر أو الجنون والحمق[10]، فسبحان من كل شيء عنده بميزان، فاستخدام لفظة فساد بدل كلمة تلوث يقدم وجها من أوجه الإعجاز اللغوي في كتاب الله، فضلا عن إعجازه العلمي، فاستخدام مصطلح فساد هو أدق وأشمل وأوضح من مصطلح تلوث السائد في العلوم المعاصرة.[11]

أما عن موقف الإسلام من البيئة وحمايتها فهو موقف إيجابي، يقوم على البناء والعمارة والتنمية من جهة، كما يقوم من جهة أخرى على الحماية ومنع الفساد[12].حيث حثت النصوص الشرعية في الإسلام على الاهتمام بمختلف الجوانب المرتبطة بالبيئة وضرورة استغلالها بعقلانية بلا إسراف[13]، كما نهى الإسلام عن التلوث وحرّم الإضرار بكل أنواعه سواء بالبيئة أو بالإنسان أو الحيوان والنبات، فالأحكام الإسلامية تدور حول حفظ الضرورات أو الكليات الخمس وهي النفس،الدين، النسل، العقل والمال، والنهي عن الإضرار بها ولو بتلويث البيئة المحيطة بالإنسان.[14]للاستدلال على موقف الشريعة الإسلامية من التلوث سنتناول الأدلة الشرعية على تحريم الفساد( فرع أول) ثم السياسة الإسلامية لحماية البيئة(فرع ثاني).

الفرع الأول:الأدلة الشرعية على تحريم الفساد

إن الأدلة الشرعية على تحريم الفساد من القرآن(أولا) والسنة(ثانيا) وكذا القواعد الفقهية(ثالثا) المستنبطة منها كثيرة و متنوعة سنورد البعض منها.

أولا/-الأدلة القرآنية على تحريم الفساد

توجد الكثير من الآيات القرآنية الكريمة التي تحرم صراحة الفساد والإضرار بالبيئة ومنها:

قول الله تعالى:” وَإِذَا قِيلَ لَهُم لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون، أَلا إِنَّهُم هُم المُفْسِدُون وَلَكِن لاَ يَشْعُرُون”[15] ويقول الإمام القرطبي قوله “لا تفسدوا” نهي والفساد ضد الصلاح وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها، ويقول الإمام الرازي في هذه الآية الفساد خروج الشيء عن كونه منتفعا به فأما كونه فسادا في الأرض فإنه يفيد أمرا زائدا.[16]

وقوله عز وجل:”…كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تَعْثَوا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين”[17]والمقصود منها لا تتمادوا في إفساد الأرض لأن العثا أشد الفساد.[18]

وقوله سبحانه:“وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد”[19].

وقوله جل في علاه:”…فَاذْكُرُوا آلاَءَ الله وَلاَ تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفْسِدِين”[20].

وقوله تعالى:” وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا”.

وتحريم الفساد وعدم حب الله لا للفساد ولا للمفسدين يؤدي إلى أن يتوعدهم في قوله تعالى:”…فَانْظُر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِين”[21].

وقوله عز وجل: ” وَالذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ”[22].

فكل هذه الآيات تحرم الفساد وتتوعّد المفسدين.

ثانيا/-الأحاديث النبوية في تحريم الفساد

الأحاديث النبوية التي تنهي عن الضرر عموما أو عن بعض صوره كثيرة ومتنوعة نذكر منها:

روي عن أبي سعيد الخذري عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:( لا ضرر ولا ضرار) وروي هذا الحديث بألفاظ مختلفة جاء فيها (ومن ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه) وفي بعضها (ملعون من ضار أخاه المسلم أو ماكره) وفي هذا الحديث تحريم لجميع أنواع الضرر، فهو يعتبر قانونا عامّا تقوم عليه فكرة عدم الإضرار بالآخرين في أي صورة وفي كل الأحوال إلا ما استثني بدليل.[23]

وقوله صلى الله عليه وسلم: (من قطع سدرة صوب الله رأسه إلى النار)[24]

وقوله عليه أزكى الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) ويقول الإمام ابن عبد البر أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه وأخذه من غير وجهه ومن أضر بأخيه المسلم أو بمن له ذمة فقد ظلمه، ويقول الإمام ابن رجب الحنبلي {وقد فسر كثير من العلماء الظلم بأنه وضع الأشياء في غير موضعها} ومن هذا يستنتج أن الإضرار بالبيئة ظلم والظلم حرام فلا يجوز فعل أي شيء يؤدي إلى الإضرار بالبيئة المائية أو الجوية أو البرية.[25]

ومما روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار وثمنه حرام) وفي لفظ آخر (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)[26] وهذه الشراكة تمنع فعل أي شيء يؤدي للإضرار بالماء بإلقاء المخلفات والقاذورات فيه ولا يجوز حرق الكلأ وهو العشب لأنه من جهة يقضي على مصدر غذاء الحيوانات ومن جهة أخرى يلوث الهواء بالدخان والروائح الكريهة التي تضر بصحة الإنسان، كما لا يجوز منع الانتفاع بالنار لمن أراد أن يستضيء بنورها أو يتدفأ بحرها.[27]

وفي حماية الماء والموارد المائية قال صلى الله عليه وسلم: (لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه) والوسواس في لفظ الحديث تعبير عن الطفيليات والميكروبات في لغة ذلك العصر فقد كانت تستعمل عبارات مثل وسواس، وشيطان وخبث وخطايا للتعبير عن المكروبات والطفيليات وغيرها من المواد الضارة.[28] وقد ورد نفس الحديث في روايات أخرى بألفاظ أخرى جاء في بعضها (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) وفي رواية أخرى(لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه)، لكن على اختلاف روايات الحديث فهي كلها تنهى عن استعمال الماء الملوث الذي يؤدي إلى الإضرار بالإنسان.[29]

في حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل) واللعن لا يكون إلا في الشيء الحرام مما يدل على تحريم البراز والبول في الماء لأنه يلوثه ويفسده ويجعله غير صالح للانتفاع به.[30] ويقاس على التبول والبراز كل الملوثات التي تلوث المياه من إلقاء نفايات الإنسان وجثث الحيوانات النافقة وصرف المجاري وصرف مخلفات المصانع في المياه.[31]

عموما إن أحكام حماية البيئة المائية من التلوث تتبلور في أربع:النهي عن التبول في الماء الراكد، النهي عن استعمال الماء الملوث في الاستحمام أو الوضوء، النهي عن تلويث مصادر المياه، الاقتصاد في استعمال المياه.[32]

ومن الأحاديث التي تحث على الحفاظ على البيئة الحضرية والنظافة قول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة،كريم يحب الكرم، فنظفوا أنفسكم ودوركم)[33] فقد حث الإسلام على نظافة المسلم ونظافة محيطه،فيقول الرسول الكريم عليه أطيب الصلاة والتسليم(تنظفوا فإن الإسلام نظيف)[34].

ومن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في النهي عن الضوضاء ورفع الصوت قوله: (أربعوا على أنفسكم في الصلاة فأنتم لا تدعون أصما ولا غائبا بل تدعون سميعا بصيرا قريبا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يشوش قارئكم على مصليكم) وقوله عليه الصلاة والسلام:(إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون).كل هذه الأحاديث وغيرها تدعو إلى خفض الصوت وعدم الجهر بتلاوة القرآن والصلاة، وإذا كان هذا هو الحال في العبادة فمن باب أولى أن يكون في الحديث  والمناداة.[35]

ثالثا/-القواعد الفقهية التي تنهى عن الإضرار

بالإضافة لنصوص القرآن والسنة هناك العديد من القواعد الفقهية التي تتكامل مع هذه الأصول مكرسة حماية البيئة والحفاظ عليها وصيانتها ومن أهم هذه القواعد:

1-قاعدة لا ضرر ولا ضرار: هي قاعدة كلية تتفرع عنها العديد من القواعد الجزئية مثل:

-قاعدة الضرر يزال: تفيد وجوب تلافي الضرر بكل الوسائل فإذا وقع وجبت إزالته وآثاره والتعويض عنه.

-قاعدة الضرر لا يزال بضرر مثله: وهي تشكل قيدا على قاعدة الضرر يزال، فلا فائدة من إزالة ضرر وترتيب ضرر غيره.

-قاعدة الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف:هي الأخرى قيد على القاعدتين السابقتين إذ تسمح بإزالة الضرر بأخف منه إن لم يمكن إزالته بدون ضرر.

-قاعدة الضرر العام يزال بالضرر الخاص وفيها تقديم للحق العام على الحق الخاص.

-قاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة كان دفع المفسدة أولى وأوجب من جلب المصلحة.[36]

2-قاعدة الضرورات تبيح المحظورات: تتفرع عنها جملة من القواعد الفرعية منها:

-الضرورة تقدر بقدرها، أي بالنظر للظروف المحيطة بها وليس منعزلة عنها.

-الإضرار لا يبطل حق الغير.

-الحاجة تنزل منزلة الضرورة خاصة كانت أم عامة.

-ما جاز لعذر بطل بزواله.

-إذا زال المانع عاد الممنوع.

لهذه القواعد وغيرها وزن وأهمية عند التقنين للأحكام المتعلقة برعاية البيئة والحفاظ عليها وإنزالها على الواقع، خاصة فيما يتعلق بتحديد العقوبات المناسبة لإحداث الضرر وهي العقوبات التعزيرية غير المنصوص عليها في الحدود والقصاص والتي لابد من تطبيقها على من يسيؤون إلى البيئة ويتعدون الحدود في التعامل معها ومنطلق هذا أن إفساد البيئة فيه إضاعة لمقاصد الشريعة الإسلامية وإهدار لها.[37]

الفرع الثاني:السياسة البيئية في الشريعة الإسلامية

تقوم السياسة البيئية الإسلامية على أسس(أولا) ومبادئ تكفل حماية البيئة والحفاظ عليها(ثانيا).

أولا/-أسس المحافظة على البيئة في الشريعة الإسلامية

خطّت الشريعة الإسلامية أسسا عامة للحفاظ على البيئة تتبلور من خلال المحافظة على كل عناصرها:

1-الاهتمام بالإنسان للحفاظ على البيئة:إن الاهتمام بالإنسان بدأ  بتعريفه بحقيقته وحقيقة خلقه كي لا يطغى ويتجبر، هذه الحقيقة نجدها في قوله تعالى “وَمَا خَلَقْتُ الإِنْسَ وَالجِنَّ إِلاَّ لِيَعْبُدُون”[38] فالإنسان خلق ليعبد الله والعبودية تعني الطاعة، والطاعة تعني الالتزام بأوامر الله ونواهيه، بما فيها تلك المتعلقة بحماية البيئة المرتبطة بالإنسان في ذاته أو بيئته المشيدة، ففيما يتعلق بالإنسان في ذاته، لقد دعاه الإسلام إلى العلم النافع الذي يكشف للإنسان قوانين بيئته الصحيحة ويفقهه في كيفية التعامل معها، كما حث الإسلام على النظافة بكل أنواعها، بما فيها نظافة الجسم والبيت والمحيط، حيث يقول الله تعالى:“إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِين”[39] وقول رسوله الكريم:(إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود فنظفوا بيوتكم ولا تشبهوا باليهود التي تجمع الأكناف في دورها).[40] أما فيما يتعلق بالبيئة المشيدة فقد حث الإسلام على العمل والتأمل في الكون من أجل الإبداع واستنباط القوانين البيئية التي تساعد على رقي الإنسان وتحضره ومن الآيات التي تدل على ذلك قوله تعالى: “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون” [41] ومن الحفاظ على صحة الإنسان ومكان معيشته وبيئته المشيدة يتم الحفاظ على جزء من المجموع البيئي.[42]

2-الاهتمام بالبيئة البيولوجية للحفاظ على البيئة: المقصود بالبيئة البيولوجية الوسط النباتي والحيواني الذي يحيا فيه الإنسان، ولقد حظي هذا الوسط باهتمام الشريعة الإسلامية.

فيما يخص الوسط النباتي، حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على استزراع الأرض  من خلال قوله: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)[43]

وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:(إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).[44]

أما عن الوسط الحيواني الذي يشمل الأنعام بكافة أنواعها والطيور والنحل والنمل وغيرها من الحيوانات المسخرة لخدمة الإنسان، فقد حظ الإسلام على الرفق بها وعدم التمثيل بها أو ضربها  والمواظبة على تقديم الطعام والشراب لها، وعدم تحميلها ما لا تحتمل  ومن بين الأحاديث الدالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال : لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. فقالوا يا رسول الله أو إن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) وقوله صلى الله عليه وسلم (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم).[45]

يتضح من هذا حرص الإسلام على الاهتمام بالحياة البرية على الأرض من حيوانات ونباتات وطيور وأشجار ودعوة الإنسان إلى الاهتمام بهذه الثروة الطبيعية وعدم إتلافها أو تدميرها حفظا للتوازن البيئي ولما لها من فوائد جمة في حفظ الحياة عموما وحياة الإنسان على وجه الخصوص.[46]فمن يتعمق في الكون يقف على حقيقة لا تقبل الجدل مفادها أن الله عز وجل رتب الفلك والملكوت بشكل يحفظ التوازن بين مفردات الكون والحياة وهو ما يتضح بجلاء في التوازن البيئي بين عناصر الوسطين النباتي والحيواني بالقدر اللازم لحفظ النوع والسلالة للإنسان والأنعام والأشجار وكافة المخلوقات الحية.[47]

3-المحافظة على الموارد لضمان سلامة البيئة: المحافظة على الموارد  باعتبارها نعما من الله تعالى، هي من القيم الأساسية التي تساعد في الحفاظ على توازن البيئة، فالإسلام يحث على التعمير والإصلاح وينهى عن الإفساد والإتلاف، مهما كانت دوافع الإتلاف من قسوة وغضب أو عبث أو إهمال وتقصير، والغرض من هذا المحافظة على عناصر البيئة ومكوناتها وتنميتها للحفاظ على التوازن والتناغم بينها.[48]بل وقد نهى الإسلام عن الإتلاف حتى في حالة الحرب التي يخرج فيها الناس عادة عن الحدود المعهودة، وهو ما يستخلص من وصية رسول الله عليه الصلاة والسلام لجيش أسامة بن زيد التي جاء فيها: (أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تعقروا(تقطعوا)نخيلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولاتذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تخربن عامرا) و في هذه الوصايا تشريعا للحفاظ على البيئة في وقت الحرب.[49]

ثانيا/-المبادئ الإسلامية لحماية البيئة

لقد عنى الإسلام عناية كبيرة بالبيئة ووضع للإنسان الأسس السليمة لحسن استغلالها وصيانتها، وليس ثمة شك أن ما تعانيه الإنسانية في واقعها الراهن إنما هو نتيجة لتذبذب هذه الأسس التي تقنن علاقة الإنسان ببيئته، ومن المبادئ الإسلامية التي تكفل ضبط سلوك الإنسان في تعامله مع بيئته:

1-حماية البيئة جزء من عقيدة المسلم وشعبة من شعب الإيمان: جاء في ذلك تمثيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورة من أدنى وسائل الحماية في قوله : (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).

2-الإحسان للبيئة جالب للثواب مكفر للذنوب: هذا الجانب مما يختص به الدين الإسلامي، حينما يجعل من التعامل مع البيئة والإحسان إليها سببا في رفعة الإنسان عند ربه يوم القيامة، مما يدل على سمو التشريع الإسلامي، وفي رواية للإمامين البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق فأخذه فشكر الله له فغفر له) وقوله صلى الله عليه وسلم (إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمئة مفصل فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو غصنا عن طريق الناس أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمئة فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح عن النار).[50]

3-حماية البيئة من التلوث من المقاصد الشرعية: استقر لدى العلماء أن مقصود الشريعة الإسلامية إنما يتمثل في المحافظة على مقومات الحياة الخمس وهي:الدين، النفس، العقل،العرض، والمال. وإن أغلب المصالح البيئية المشمولة بحماية التشريع الإسلامي هي مصالح ضرورية تحفظ النفس والنسل والمال والعقل،فهذه المصالح تستهدف حماية حق الإنسان في حياة آمنة وحماية مصالحه الاقتصادية وأيضا حماية الحاجات المستقبلية، فالإسلام يحافظ على المصالح الأساسية حينما يطلب من البشر عدم الإفساد في الأرض[51].فمن المعروف أن تلوث البيئة يضر بهذه المصالح الأساسية، والضرر منهي عنه شرعا، كما يؤدي التلوث إلى إفساد هذه المقومات، وعلى هذا الأساس فإن كل ما يساهم في إقامة هذه المقومات يكون واجبا أو مندوبا إليه بحسب درجة مساهمته في الإصلاح وعلى العكس فإن كل ما يكون سببا في الفساد يكون حراما أو مكروها بحسب درجة الإفساد والتلوث فإذا كان بيّنا وصف بالضرر الكبير الذي يدخل في نطاق التحريم الشرعي وتدخل حماية البيئة منه في نطاق الواجب الشرعي.[52]

الشرع الإسلامي وضع أحكاما بيئية عامة يجب مراعاتها بصفة دائمة في كل الظروف والأوقات، هي:

-عدم إيذاء المؤمنين بتلويث البيئة المحيطة بهم.

-عدم إفساد الأرض بعد إصلاحها.

-المحافظة على كل ما سخره الله لنا من حيوان ونبات وماء وهواء وغيرها من نعم حتى تدوم المنفعة.

-ترك البيئات المختلفة في حالة توازن طبيعي مع ذاتها ومع بعضها وعدم تدخل الإنسان مخلا بها.[53]

على غرار الشريعة الإسلامية اهتم القانون الدولي بحماية البيئة وإن كان اهتمامه متأخرا.

المطلب الثاني:موقف القانون الدولي من تلوث البيئة والأضرار البيئية

قبل ثلاثة عقود تقريبا كانت لفظة “بيئة” قلما تتردد على الألسنة، لكن بعد تنامي المخاطر البيئية أصبح هذا الموضوع من أبرز القضايا في المجتمع الدولي والعلاقات الدولية[54]وذلك بعد أن ثبت أن الهم البيئي لم يعد أمرا داخليا، بل أصبح ذو بعد عالمي، فالبيئة لا تعرف الحدود السياسية،لذا أصبح لزاما على المجتمع الدولي أن يتعامل مع هذه القضية خارج حدود الدول والأطر السياسية[55]،خصوصا أن التلوث تجاوز حدود الدول لتعرف البشرية التلوث عبر الحدود الذي يبدأ في دولة معينة ثم ينتقل إلى أخرى، والتلوث عبر الوطني الذي يبدأ في دولة محددة ويمتد لمناطق خارجية لا تخضع لسيادة أي دولة[56].فترابط النظم البيئية فرض على الجميع التعاون في رعايتها وحمايتها، ذلك أن أمن النظم البيئية لكوكب الأرض هو أمن للفرد الذي هو جزء من الكل، أي المجتمع الدولي بأسره.[57] وبالفعل عقدت عديد المؤتمرات والندوات العالمية التي تمخضت عن إعلانات وقرارات،ومواثيق واتفاقيات، تؤكد على ضرورة حماية البيئة، وتضبط سلوك أشخاص المجتمع الدولي في مواجهة البيئة أطلق على مجموعها “القانون الدولي لحماية البيئة”[58]. فما المقصود بهذا القانون؟(فرع أول) وما هي المبادئ التي يرتكز عليها؟(فرع ثاني).

الفرع الأول:مفهوم القانون الدولي لحماية البيئة

إن تطور قواعد القانون الدولي العام أدى إلى ظهور فروع جديدة من بينها القانون الدولي للبيئة الذي يعتبر أحد الفروع الجديدة والمتميزة من فروع القانون الدولي، مما يعني أن له تعريف مميز وخصائص مميزة.

أولا/-تعريف القانون الدولي للبيئة

تطلق على هذا القانون العديد من المسميات منها: القانون الدولي للبيئة والقانون الدولي البيئي والقانون الدولي للتلوث، وكلها محل نظر[59]،لكن يبقى الشائع بينها هو القانون الدولي للبيئة « droit international de l’environnement »  والقانون البيئي الدولي « international enviromental law »   التي تعبر عن مجموعة قواعد قانونية دولية جديدة بوصفها فرعا جديدا للقانون الدولي تعنى بتنظيم نشاطات الدول وغيرها من أعضاء المجتمع الدولي في مجال استخدام الموارد الطبيعية من أجل الحفاظ على البيئة وصيانة مواردها ضد ما يهددها من أخطار التلوث والدمار الشامل”.[60]

في تعريف آخر “هو مجموعة قواعد القانون الدولي التي تنظم نشاط الدول في مجال منع وتقليل الأضرار المختلفة التي تنتج عن مصادر مختلفة للمحيط البيئي أو خارج حدود السيادة وتتمثل هذه المبادئ بحق الدولة الكامل في ممارسة سيادتها على ثرواتها الطبيعية واستخراجها طبقا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ووفقا لسياستها في مجال حماية البيئة، وأن لا تؤدي نشاطاتها داخل حدود سيادتها الإقليمية أو في الأقاليم التي تخضع لولايتها إلى أضرار بالبيئة المحيطة للدول الأخرى، وبخلاف ذلك فإنها تتحمل المسؤولية الدولية.”[61]

عموما يمكن تعريف القانون الدولي للبيئة بأنه أحد فروع القانون الدولي العام يضم مجموعة قواعد قانونية تنظم وتضبط نشاط أشخاص المجتمع الدولي في محاولة لحماية البيئة الإنسانية من كل تغيير مباشر أو غير مباشر ناتج عن النشاط البشري ويشكل مساسا بمصالح بيئية معتبرة.

ثانيا/-خصائص القانون الدولي البيئي

يتميز القانون الدولي للبيئة بمجموعة سمات مميزة يمكن إجمالها فيما يلي:

1-القانون الدولي البيئي حديث النشأة:إذا كان القانون الدولي العام حديث النشأة مقارنة بالقوانين الداخلية حيث يرجع إلى القرن السادس عشر، فإن القانون الدولي للبيئة حديث النشأة مقارنة بالقانون الدولي العام وبعض فروعه سابقة الظهور.[62]فبداية  الاهتمام الدولي بالبيئة ترجع إلى مستهل القرن العشرين وتطورت حسب حاجة المجتمع لتنظيم وتأطير الموضوع قانونيا. كانت البداية من اتفاقية حماية الطيور المفيدة للزراعة سنة 1902 وهي أول اتفاقية متعددة الأطراف تتعلق بحماية صنف من الحياة البرية، لتتوالى بعدها الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف التي تهدف إلى حماية بعض أشكال الحياة الحيوانية والنباتية وصولا إلى مؤتمر استوكهلم ثم ريوديجانيرو اللذان كان لهما الفضل في بلورة قواعد القانون الدولي البيئي.[63]

2- القانون الدولي للبيئة قانون اتفاقي:إن القانون الدولي البيئي- بخلاف القانون الدولي العام وقانون البحار مثلا اللذان تكونا نتيجة للأعراف الدولية- قد بدأ بداية اتفاقية، فالاتفاقيات والمعاهدات الدولية هي التي لعبت الدور الرئيسي في تكوين قواعده وليس العرف وذلك راجع إلى أن القواعد العرفية تأخذ وقتا طويلا حتى تستقر وتكتسب الصفة القانونية، ولما كان القانون الدولي البيئي حديث النشأة، وكانت البيئة الإنسانية تتعرض للعديد من الأخطار التي تهدد حياة الإنسان والكائنات الحية الأخرى،لم يكن العرف البطيء مجديا في تكون هذه القواعد بل كان من الضروري اللجوء إلى المعاهدات الدولية باعتبارها الأسلوب الأسرع لمواجهة الأخطار التي تهدد البيئة.

3-القانون الدولي البيئي قانون مكمل للقوانين الداخلية:يعتبر القانون الدولي للبيئة قانونا مكملا للقوانين الداخلية، لأنه لا يمكن حماية البيئة الإنسانية حماية فعالة بواسطة القوانين الداخلية وحدها ولا بواسطة القانون الدولي وحده، بل لابد من التكامل والتنسيق بين القوانين الداخلية والقانون الدولي للبيئة، حيث يتداخل الوسط أو المجال الذي يطبق فيه كل منهما.

4-للقانون الدولي البيئي سمات خاصة تتناسب مع الأضرار البيئية:لما كانت الأضرار البيئية تختلف عن الأضرار التقليدية المعروفة في النظم القانونية التقليدية سواء الداخلية أو الدولية، حيث أن الضرر البيئي يتسم بأنه غير مرئي، وأنه تدريجي الحدوث ومستمر في الزمن وأنه قد لا يحدث مباشرة ودفعة واحدة بل نتيجة لتراكم زمني وتضافر عدة عوامل، ثم إن الضرر البيئي غير محدد أو منتشر، يمتد ليشمل الكوكب كله، فإن معالجته وفق القواعد التقليدية تثير مشاكل قانونية كثيرة نظرا لقصور القواعد التقليدية عن الاستجابة لخصوصيات الضرر البيئي وهو ما يحتم إيجاد حلول مغايرة بعض الشيء للحلول التقليدية، هذه الحلول هي التي تبناها القانون الدولي للبيئة مما جعله يختص بسمات مميزة عن باقي فروع القانون الدولي.[64]

أما عن مصادر القانون الدولي للبيئة فهي لا تخرج عن المصادر التقليدية للقانون الدولي التي أقرتها م.38/ف1 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وهي: الاتفاقيات الدولية والأعراف الدولية والمبادئ القانونية العامة بالإضافة إلى المصادر الثانوية مثل القرارات القضائية وآراء الفقهاء[65].مع التذكير أن المصدر الأهم من مصادر القانون الدولي البيئي هو المعاهدات الدولية التي تجاوز عددها الألف، ثم يليها العرف الدولي في مجال ضيق والذي يمكن اللجوء إليه في حالة عدم وجود نص اتفاقي، فالمبادئ العامة للقانون.[66] ومن بين أهم المبادئ العامة المستقرة في النظم القانونية الداخلية والدولية التي تصلح لاستخدامها في مجال القانون الدولي للبيئة “مبدأ حسن الجوار” حيث لا يجوز للدولة استخدام إقليمها أو السماح باستخدامه بطريقة ينتج عنها أضرار بيئية للدول المجاورة وقد كرس هذا المبدأ في ديباجة الأمم المتحدة إذ تعهدت الشعوب “أن يعيشوا في سلام و حسن جوار”.[67]

الفرع الثاني:مبادئ القانون الدولي للبيئة

هناك مجموعة مبادئ تضبط سلوك الدول،المنظمات، الشركات والأفراد، بهدف حماية البيئة، أهمها:

أ/-مبدأ الالتزام العام بمنع التلوث

يفرض هذا المبدأ على الدول عند ممارستها لحقوقها السيادية الالتزام بالحفاظ على الطبيعة ومواردها الطبيعية طبقا لسياستها التنموية، وتجسد هذا الالتزام في المبدأ (21) من إعلان استوكهلم، الذي يؤكد على حق سيادة الدول على ثرواتها الطبيعية وبالمقابل على واجب الدول في ضمان أن الأنشطة التي تمارسها الدولة داخل حدود سلطتها أو تحت رقابتها لا تلحق ضررا ببيئة الدول الأخرى وهذا الأمر يترتب عليه:

-أن الدول ليست مسئولة فقط عن أنشطتها بل عن جميع تلك التي تمارس عليها سلطتها ورقابتها.

-يتعين على الدول الأخرى تطبيق القواعد ذاتها في الأماكن الخاضعة لاختصاصها الإقليمي وهذا الالتزام يتضمن واجب عدم إلحاق الضرر بالبيئة في الأقاليم غير الخاضعة لسيادتها.[68]

ب/-مبدأ التعاون و التضامن الدولي:

الالتزام بالتعاون الدولي أمر معروف في القانون الدولي العام، إلا أنه يجد أهمية خاصة في مجال حماية البيئة الإنسانية من التلوث، وذلك نظرا لطبيعة هذه الظاهرة والأضرار الناتجة عنها.يفرض مبدأ التعاون الدولي في مجال حماية البيئة على الدول أن تبذل قصارى جهدها عن طريق التعاون والتنسيق فيما بينها من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية وتحسين البيئة ومنع ومكافحة التلوث العابر للحدود عن طريق الاتفاقيات والتشاور وكذا إرسال الإخطارات عند حدوث التلوث أو إنشاء لجان أو هيئات دولية.[69]

ج/-مبدأ الالتزام بتقييم الآثار البيئية

إن واجب تقييم الآثار البيئية يعني تحليل النتائج البيئية للأنشطة البشرية المقترحة ويهدف إلى المساعدة على منع أو تخفيف التأثيرات العكسية للأنشطة مضافا إلى تأثيرها الإيجابي على التنمية، ولقد امتد هذا المبدأ ليشمل حتى الأنشطة التي لا تترك أثرا خارج الاختصاص الإقليمي. إن تقييم الأثر البيئي الفعال يعتمد على ثلاث عوامل جوهرية : المشاركة العامة، التعاون بين القطاعات البيئية، وأخذ البدائل بعين الاعتبار. بواسطة هذه العوامل يمكن أن يلعب هذا المبدأ دورا في وقاية البيئة في الخطط التنموية.[70]

د/-مبدأ عدم التمييز

يفرض هذا المبدأ على الدول توحيد الإجراءات والسياسات الداخلية والدولية على السواء ،لمنع التلوث والوقاية منه قبل حدوثه هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية يقتضي هذا المبدأ إخضاع من يحدث التلوث لنصوص تشريعية أو لائحية متماثلة أو ليست أقل شدة وخصوصا الجزاء الجنائي أو المدني، ومن ناحية ثالثة يقتضي المبدأ توحيد المعاملة بالنسبة للأشخاص الذين تلقوا التلوث بحيث يجب أن لا يعطى الأشخاص الذين تحملوا التلوث في بلد معين معاملة أقل تفضيلا عن تلك التي تعطى للأشخاص الذين يتحملون تلوثا مماثلا في البلد الصادر عنه التلوث.وعلى ذلك يقرر هذا المبدأ التسوية التامة بين المواطنين والأجانب الذين يرفعون دعاوى ضد من أحدث التلوث، أي إقرار مساواة كاملة تسمح للأجانب ضحايا التلوث العابر للحدود  باللجوء إلى المحاكم الوطنية والأجهزة الإدارية في البلد الصادر عنه التلوث.

ه/-مبدأ المصلحة الفردية في حماية البيئة

هو من المبادئ الحديثة يشير إلى ضرورة إيلاء المصلحة الفردية في حماية البيئة عناية خاصة تتمثل في الاعتراف للأفراد بحق اللجوء للقضاء للدفاع عن البيئة، على غرار الدعوى الشعبية أو فكرة الحسبة في الشريعة الإسلامية، ويستند هذا المبدأ على عدم التمييز بين الأفراد في التمتع بالحماية من الأضرار البيئية.[71]

تجدر الإشارة في الأخير إلى أنه رغم تطور قواعد القانون الدولي الخاصة بحماية البيئة إلا أنها ستكون عديمة الجدوى في غياب وسائل فعالة لضمان تطبيقها والإذعان لها وعدم انتهاكها وتسوية النزاعات الناشئة عن هذه الانتهاكات، والوسيلة المعروفة لذلك هي المسؤولية الدولية واستخدام الصيغ  المختلفة لتسوية النزاعات الدولية. استنادا إلى المبدأين 21 و 22 من إعلان استوكهلم التي حثت على تطوير قواعد المسؤولية الدولية والتعويض عن الأضرار البيئية فقد بدأت لجنة القانون الدولي بالعمل لتحقيق هذا الغرض، وبذلت جهودا لتطوير قواعد المسؤولية  الدولية عن تبعات الضرر البيئي.[72]

المسؤولية الدولية في نطاق القانون الدولي على نوعين:

-مسؤولية تقصيرية: هي المبدأ الأساسي،قامت على أساس عرفي، ترتكز على “نظرية الخطأ”. وهي نوعين:

+ مسؤولية عن الإخلال بالتزام ببذل عناية،و في مجال البيئة عدم مراعاة واجب بذل العناية اللازمة التي  تبديها أي دولة عادة لمنع وقوع أفعال ضارة بالبيئة.

+ مسؤولية عن الإخلال بالتزام تحقيق نتيجة، أي الإخلال بالتزامات قانونية ملقاة على عاتق الدولة دون اشتراط وقوع ضرر فعلي.

-مسؤولية عن المخاطر(تحمل التبعة): هي ناجمة عن استعمال تقنيات حديثة في العديد من المشروعات يترتب عليها حدوث أضرار جسيمة،وهي حاليا تدخل في نطاق المسؤولية عن أفعال لا يحظرها القانون الدولي. تقوم هذه المسؤولية على مجرد وقوع ضرر دون اشتراط مخالفة القانون الدولي.[73] فإذا كانت المسؤولية عن الضرر البيئي قد نبعت من أحكام المسؤولية الدولية عن انتهاكات القانون الدولي، فإنها توسعت لتشمل الضرر الناجم عن الأنشطة التي لا يحظرها القانون الدولي، أي تحولت إلى مسؤولية قانونية مشددة أو مطلقة.[74]

أما الأثر القانوني المترتب على قيام المسؤولية الدولية، فإنه ينحصر فقط في الشق المدني المتمثل في الالتزام بإصلاح الضرر المتحقق بصوره المختلفة، من إعادة الحال إلى ما كان عليه أو الالتزام بالتعويض المالي حال تعذر الأول أو تقديم ترضية، دون أن يكون لهذا الالتزام طبيعة جنائية تقضي بتوقيع العقاب على الدولة المسئولة.ذلك أن ما سار إليه القانون الدولي الاتفاقي من تقرير الصفة الجزائية للمسئولية الدولية في حالة الفعل غير المشروع المنطوي على إخلال جسيم بالالتزامات الدولية، إنما يتعلق بالمصالح الأساسية للجماعة الدولية كما هو الشأن في القانون الدولي الإنساني من أجل حماية الإنسان والحفاظ على السلم والأمن الدوليين.[75]

خاتمة:

إذن إن خطورة الأضرار البيئية الناتجة عن التلوث البيئي وخصوصيتها بررت اهتمام الشريعة الإسلامية قبل ما يزيد عن أربعة عشر قرنا بتحريم الفساد بمختلف أشكاله وتوعد المفسدين بالجزاء الدنيوي والأخروي، وهي التي تبرر حاليا الاهتمام الدولي المتزايد بالقضايا البيئية ومحاولة إيجاد الآليات الدولية الناجعة والفعالة لمواجهة التلوث والحد من أضراره.

 

[1] محمد بن زعمية عباسى، حماية البيئة-دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الجزائري-، مذكرة تخرج لنيل شهادة الماجستير، فرع الشريعة و القانون، كلية العلوم الإسلامية، جامعة الجزائر، س.2001/2002،ص.173.

[2] م.1 من قانون حماية البيئة و مكافحة التلوث لسلطنة عمان رقم 114/2001 مؤرخ في 28شعبان1422 موافق لـ14 نوفمبر 2001، ج.ر،لسلطنة عمان، ع.707 مؤرخة في 17/11/2001.

[3] علي سعيدان، حماية البيئة من التلوث بالمواد الإشعاعية و الكيمياوية في القانون الجزائري، دار الخلدونية، الجزائر، ط.1،س.2008، ص.339.

[4] حوشين رضوان، الوسائل القانونية لحماية البيئة و دور القاضي في تطبيقها، مذكرة تخرج لنيل إجازة المدرسة العليا للقضاء، الفترة التكوينية 2003-2006، ص.60.

[5] عبد الرشيد مامون، دور القانون المدني في حماية البيئة، جامعة القاهرة ، ص.6.

[6] الآية رقم 205 من سورة البقرة.

[7] الآية رقم 41 من سورة الروم

[8] عبد الله المنزلاوي ياسين، البيئة من منظور إسلامي، كنوز المعرفة للنشر، الأردن، ط.1، س.2008، ص.138.

[9] زكي زكي حسين زيدان، الأضرار البيئية وأثرها على الإنسان وكيف عالجها الإسلام، دار الكتاب القانوني، مصر،ب،ط،س.2009، ص.18.

[10] إبراهيم سليمان عيسى، تلوث البيئة أهم قضايا العصر-المشكلة و الحل-،دار الكتاب الحديث،مصر، ب.ط، س.2002، ص.22.

[11] زكي زكي حسين زيدان، مرجع سابق، ص.19.

[12] أحمد عبد الوهاب عبد الجواد، المنهج الإسلامي لعلاج تلوث البيئة، الدار العربية للنشر والتوزيع، مصر، ط.1، س.2001، ص.33.

[13] فراس أحمد الخرجي، الإدارة البيئية، كنوز المعرفة، الأردن، ط.1، س.2007، ص.142 و ما بعدها.

[14] عبد الله المنزلاوي ياسين، مرجع سابق، ص.142 و ما بعدها.

[15] الآيتين 11 و 12 من سورة البقرة.

[16]زكي زكي حسين زيدان، مرجع سابق، ص.20.

[17] الآية 60 من سورة البقرة.

[18]عبد الله المنزلاوي ياسين، مرجع سبق، ص.144.

[19] الآية رقم 205 من سورة البقرة.

[20] الآية 74 من سورة الأعراف.

[21] الآية 103 من سورة الأعراف.

[22] الآية 25 من سورة الرعد.

[23] زكي زكي حسين زيدان، مرجع سابق، ص.25 و ما بعدها.

[24] نقلا عن فراس أحمد خرجي، مرجع سابق، ص.143.

[25] زكي زكي حسين زيدان، مرجع سابق، ص.28.

[26]مقتبس عن فراس أحمد خرجي، مرجع سابق، ص.142.

[27] زكي زكي حسين زيدان، مرجع سابق، ص.29.

[28] أحمد عبد الوهاب عبد الجواد، المنهج الإسلامي لعلاج تلوث البيئة، الدار العربية للنشر والتوزيع، مصر، ط.1، س.2001.

، ص.39.

[29]  منقول عن زكي زكي حسين زيدان، مرجع سابق، ص.32 و ما بعدها.

[30] عبده عبد الجليل عبد الوارث، حماية البيئة البحرية من التلوث في التشريعات الدولية و الداخلية، المكتب الجامعي الحديث، مصر، ب.ط، س.2006، ص.226.

[31] أحمد عبد الوهاب عبد الجواد، مرجع سابق، ص.40.

[32] علي علي السكري، البيئة من منظور إسلامي، منشأة المعارف، مصر، س.1995، ص.58.

[33] أحمد عبد الوهاب عبد الجواد، مرجع سابق، ص.108.

[34]علي علي السكري، مرجع سابق، ص.57.

[35]عبد الله المنزلاوي ياسين، مرجع سابق، ص.35 و ما بعدها.

[36] زكي زكي حسين زيدان، مرجع سابق، ص.37 و ما بعدها.

[37] عبد الرزاق مقري،مشكلات التنمية و البيئة و العلاقات الدولية، دار الخلدونية، الجزائر،ط.1ن س.2008، ص.326.

[38] الآية 56 من سورة الذاريات.

[39] الآية 222 من سورة البقرة.

[40] عبد الرزاق مقري، مرجع سابق، ص.303 و ما بعدها.

[41] الآية 164 من سورة البقرة.

[42] محمود صالح العادلي، موسوعة حماية البيئة، دار الفكر الجامعي، مصر ، ب.ط، ب.س، ص.24 و ما بعدها.

[43] علي علي السكري، مرجع سابق، ص.51.

[44] فراس أحمد الخرجي، مرجع سابق، ص.143.

[45] علي علي السكري، مرجع سابق، ص.50.

[46]علي علي السكري، مرجع سابق، ص.14.

[47]محمود صالح العادلي،مرجع سابق، ص.33.

[48] عبد الرزاق مقري، مرجع سابق، ص.311 و ما بعدها.

[49] مقتبس عن علي علي السكري، مرجع سابق، ص.15 و ما بعدها.

[50] عبد الرزاق المقري، مرجع سابق، ص.313.

[51] محمود صالح العادلي، مرجع سابق،ص.30.

[52] عبد الرزاق المقري، مرجع سابق، ص.314.

[53] علي علي السكري، مرجع سابق، ص.59.

[54] عبد الرزاق مقري، مرجع سابق، ص.251.

[55] زكرياء طاحون، إدارة البيئة نحو إنتاج أنظف، ص.72.

[56] رياض صالح أبو العطا، حماية البيئة من منظور القانون الدولي العام، دار الجامعة الجديدة،مصر، س.2009، ص.22.

[57] زكرياء طاحون، مرجع سابق، نفس الصفحة.

[58] رياض صالح أبو العطا، مرجع سابق، ص.8.

[59] عبد الرزاق مقري ، مرجع سابق، ص.258 و ما بعدها.

[60] رياض صالح أبو العطا، مرجع سابق، ص.24.

[61] صلاح عبد الرحمن عبد الحديثي، النظام القانوني الدولي لحماية البيئة، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، ط.1، س.2010، ص.63.

[62] رياض صالح أبو العطا، مرجع سابق، ص.26.

[63] صلاح عبد الرحمن عبد الحديثي، مرجع سابق، ص.37 و ما بعدها.

[64] رياض صالح أبو العطا، مرجع سابق، ص.27 و ما بعدها.

[65] صلاح عبد الرحمن عبد الحديثي، مرجع سابق، ص.74.

[66] Alexandre Kiss Alexandre Kiss, émergence de principes généraux du droit international et d’une politique internationale de l’environnement, le droit international face à l’éthique et à la politique de l’environnement, stratégies énergétiques biosphère et société(SEBES), département d’histoire du droit et des doctrines juridiques et politiques, faculté de droit, université de Genève,p.p.52-60.

[67] صليحة علي صداقة، النظام القانوني لحماية البيئة البحرية من التلوث في البحر المتوسط، منشورات جامعة قار يونس، بنغازي، ليبيا، ط.1، س.1996، ص.47.

[68] صلاح عبد الرحمن عبد الحديثي، مرجع سابق، ص.147 و ما بعدها.

[69] رياض صالح أبو العطا، مرجع سابق، ص.30.

[70]صلاح عبد الرحمن عبد الحديثي، مرجع سابق، ص.167 و ما بعدها.

[71]رياض صالح العادلي، مرجع سابق، ص.31 و ما بعدها.

[72] صلاح عبد الرحمن عبد الحديثي، مرجع سابق، ص.117.

[73] صليحة علي صداقة، مرجع سابق، ص.159 و ما بعدها.

[74] صلاح عبد الرحمن عبد الحديثي، مرجع سابق، ص.219.

[75] صليحة علي صداقة، مرجع سابق، ص.161.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى