الطاقات المتجددة والعلوم الاجتماعية الإطار نظري لوظائف المستقبل – د.جميلة مرابط
د.جميلة مرابط
متخصصة في شؤون الطاقة _البيئة_التنمية
الطاقات المتجددة والعلوم الاجتماعية
الإطار نظري لوظائف المستقبل
الطاقة هي العمود الفقري للتطور الحضاري والتقدم والتوسع العمراني. لها دوراً حيوياً ومهماً في عجلة التطور الاقتصادي والاجتماعي؛ قاطرة لتحقيق النمو، وهي أيضا حاجة اجتماعية أساسية للحياة اليومية، لها ارتباط بشكل كبير بعاداتنا الاجتماعية وتوقعاتنا الثقافية. هذا أوجد تعاملا فوق العادة بتجاوز النطاق التقني البحث، إلى نطاقات تدمج الأبعاد الاجتماعية والسلوكيات كالديناميات الكامنة وراء الطلب.
في هذا الاطار، تفيد تقارير الوضع العالمي لشبكة سياسات الطاقة المتجددة في القرن الواحد والعشرين أن الطاقة خاصة المتجددة لم تعد عبارة عن مصدر للطاقة فقط، بل تشكّل طرقًا لمعالجة المشاكل الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والبيئية. فهي لا تُعتبر (أي الطاقة المتجددة) اليوم مصدرًا للطاقة فقط، بل هي طريقة لتلبية احتياجات ملحة أخرى أيضًا، من بينها: تحسين أمن الطاقة، وتقليل الآثار الصحية والبيئية المرتبطة بالطاقة الأحفورية والنووية، والتقليل من انبعاثات الغازات الدفيئة، وتحسين الفرص التعليمية، وخلق فرص العمل، والحد من الفقر، وتعزيز المساواة بين الجنسين.
وأمام هذه الأبعاد، أصبح من الضروري إدراج مواضيع الطاقة والقضايا المرتبطة بها من سياسات وإستراتيجيات وطرق إدارة المعلومات وتحليلها لمعالجات مستقبلية للطاقة وبدائلها، عن طريق البرامج التثقيفية والمناهج العلمية، وتوسيع دائرة التوعية بتعميم هذه الثقافة وأهمية إلمام بها وأيضا إيجاد متخصصين في المجال.
هذا سيمكننا من تعميق الفهم حول الطرق التي يتطور بها عالم الطاقة الحديثة، وأيضا سيساعد على تفسير ما يتخذه الأفراد من قرارات في العديد من المدخلات التنمية، وفهم لكيفية تطور السلوك الجماعي، مثلا تحسين طرق الاستهلاك والحماية والمحافظة وزيادة ترسخها في المجتمع. خاصة وأن العالم يسعى إلى إيجاد وخلق أساليب واستراتيجيات جريئة مفضية للانتقال بالعالم، نحو مسار قوامه الاستدامة والقدرة على الصمود، وفي نفس الوقت الحصول على خدمات الطاقة في مستوياتها الأساسية. خاصة إذا علمنا أن أكثر العوائق الخفية والقوية التي تواجه الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة في جل دول العالم هي عوائق ثقافية ومؤسساتية وليست هندسية أو علمية.
فحسب تقرير لوزارة الطاقة الأمريكية، لاحظ أن العرض والطلب على الطاقة يتأثران إلى حدٍّ كبير بالاختيار الفردي والتفضيل والسلوك، مثلما يتأثران بالأداء التقني… بمعنى أنه علينا الدمج في دراساتنا لقضايا الطاقة الجانب التقني_الهندسي مع الأبعاد الاجتماعية من خلال إدراج أو خلق تخصصات في العلوم الاجتماعية يتم تحليل قضايا الطاقة والبيئة من منظورهم.
وللأسف الشديد ما يزال العديد من الباحثين وصانعي السياسات يواصلون التركيز على جانب واحد فقط من معضلة الطاقة. ففي الولايات المتحدة، يتم إنفاق 35 دولارًا على إمدادات الطاقة والبنية التحتية مقابل كل دولار يُنفَق على أبحاث الطاقة الخاصة بجوانب السلوك والطلب. وهذا يعني أن علم الاجتماع والعلوم الإنسانية والفنون مُهَمَّشَة في أبحاث الطاقة،بمراجعة البحوث الطاقة وجدتُ اتجاهات مثيرة للقلق:
- التقليل من قيمة تأثير الأبعاد الاجتماعية على استخدام الطاقة؛
- ووجود تحيُّز نحو العلوم والهندسة والاقتصاد أكثر من غيرها من العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية؛
- والافتقار إلى التعاون بين التخصصات المتعددة.
ففي كثير من الأحيان تستحوذ الحلول التقنية على الباحثين الأكاديميين، بدلًا من طرق تغيير أنماط الحياة والعادات الاجتماعية. فلا تزال البحوث متعددة التخصصات في وضْع حَرِج، بسبب الحواجز المؤسسية في الأوساط الأكاديمية والحكومية.. ومازالت العديد من العلوم الاجتماعية تفتقر أو شبه منعدمة لتخصصات في مجال السياسات الطاقة أو فرع لتخصصات في القانون الذي يركز على سياسات تغير المناخ ، وقانون البيئة، وسياسة الطاقة، وضريبة النفط والغاز ، وقانون وسياسات الموارد الطبيعية. وسياسة الطاقة المتجددة، واستخدام الأراضي واحتياجات الطاقة العالمية… وغيرها من المواد التي ستمكن الطالب الباحث من التعلم كيفية تقييم ومعالجة سياسات إنتاج وتوزيع الطاقة الجديدة. ويمنحه ويكسبه فهمًا عميقًا للجوانب القانونية والتجارية المعقدة المتعلق بصناعة النفط والغاز ومصادر الطاقة الجديدة، وخاصة مصادر الطاقة المتجددة.، لفتح مجموعة من الفرص الوظيفية المثيرة، بما أن التوجهات العالمية تسير وتدعم ما يعرف حاليا بالوظائف الخضراء.
يحتاج مجال الطاقة الآن إلى التعلُّم، والجمع بين العلوم الاجتماعية والفيزياء. وينبغي على الجامعات تطوير برامجها البحثية و تركِّز على حل مشكلات الطاقة، كما يجب على الجهات المانحة تحديد الأولويات، وضخّ المزيد من الأموال إلى الأبحاث في علوم الاجتماعية، كما يجب على دوريات الطاقة توسيع نظرتها. وهناك بالفعل أمثلة واعدة لقدرة أبحاث الطاقة الشاملة ومتعددة التخصصات على دعم كفاءة الطاقة، وبالتالي مواجهة التحديات البيئية العالمية، مثل تغيُّر المناخ
وأقدم أحد الأمثلة الحية على وجود علاقة تبادلية بين الاستهلاك والاقتصاد في استهلاك الطاقة بنشر الوعي والمعرفة بخصوص ثقافة الطاقات المتجددة، مما يساهم في المزيد من الحماية للبيئة وللمناخ مثلا:
- بالولايات المتحدة يمكن للمقارنات الاجتماعية أيضاً أن تؤثر في استهلاك الطاقة. فقد لجأت الشركة القائمة على إدارة البرنامج، وهي شركة Opower ، إلى إرسال رسائل إلكترونية لمئات الآلاف من الأسر، وتضمنت تلك الرسائل عقد مقارنة بين استخدام الأسرة للكهرباء وكمية ما استهلكه الآخرون بالحي نفسه خلال الفترة الزمنية نفسها. وأدت هذه المعلومات البسيطة إلى حدوث انخفاض نسبته 2 في المائة في استهلاك الكهرباء، وهو ما يعادل الانخفاض الذي حدث نتيجة لزيادة أسعار الطاقة لفترة قصيرة بنسبة تتراوح بين 11 و 20 في المائة وزيادة طويلة الأجل بنسبة 5 في المائة.
- وأيضا هناك دراسة عن الأثر استغرقت ثمانية أشهر لتقنين استهلاك الكهرباء بالبرازيل، أظهرت الأدلة أن السياسات تؤدي إلى حدوث انخفاض مستمر في استهلاك الطاقة، حيث ظل الاستهلاك منخفضاً بنسبة 14 في المائة بعد 10 سنوات من انتهاء التقنين. وتشير البيانات الأسرية الخاصة بامتلاك الأجهزة المنزلية والعادات الاستهلاكية إلى أن حدوث تغير في العادات كان هو السبب الرئيسي وراء انخفاض الاستهلاك.
يعتمد خلق المستقبل الذي نريده على العمل الجماعي في جميع قطاعات مجتمعنا واقتصادنا؛ من خلال وضع رؤية كلية وأرضية مشتركة للتعاون بين جميع الجهات المعنية وبمشاركة أطراف متعددة لتقاسم عادل للأعباء لتسهيل الانتقال، والذي يبدأ من القاعدة لتحديد الإحتياجات والأولويات المحلية والوطنية والإقليمية لخلق نموذج ترابطي يجمع بين ركائز الاستدامة.
في هذا الإطار، أكدت مجموعة من البحوث إلى أنّ تخضير المنشآت والقطاعات الإقتصادية خاصة قطاع النقل والمباني وقطاعات إدارة النفايات والتدوير التي تستخدم عشرات الملايين من العمال في العالم(%1 من سكان المناطق الحضرية في البلدان النامية وفقا لإحصائيات البنك الدولي) والتي يتوقع لها أن تتنامى، سيعمل على استحداث الوظائف الخضراء، وفي سياق هذه العملية سوف تسهم في التخفيف من معدلات البطالة وتحقيق استدامة بيئية في الوقت ذاته. وتندرج هذه الوظائف تحت فئتين عامتين هما إنتاج السلع البيئية، مثل طواحين الهواء والمباني ذات الكفاءة في استهلاك الطاقة، والخدمات مثل إعادة التدوير والأعمال المتعلقة بخفض الانبعاثات واستهلاك الطاقة والموارد، ومن ذلك أعمال السلامة البيئية وسلامة مكان العمل ومنشآته والإدارة اللوجستية؛ وتعتبر الصناعات المنتجة للطاقة المتجددة المجال الأوسع في إتاحة عدد كبير من الوظائف….
لكن تبقى مسألة إحداث تخصصات في العلوم الاجتماعية من الأولويات التي تقع على عاتق صناع القرار لتسهيل وإدماج هذه الوظائف من خلال تحويل النمط السائد المعتمد على الجانب التقني دون الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. نحو فتح تخصصات في العلوم الاجتماعية خاصة في علوم القانون لتعميق الفهم لقانون البيئة وسياسات والاستراتيجيات الطاقة المحلية والوطنية والدولية. ، لمعالج التحديات والنواقص القانونية والاقتصادية والعلمية والسياسية التي يواجهها المجتمع، مما يتيح فهمًا متكاملًا للقضايا ذات الصلة التي من شأنها تعزيز قدرة الطالب الباحث على العمل بشكل كبير.
إن العمل على توعية الآخرين طريقة رائعة أخرى لفعل شيء إيجابي للمجتمع والكوكب. وإذا استطعنا إيصال صوتنا وأفكارنا وتوضيح كيف أن الطاقة النظيفة أفضل للكوكب من الوقود. هذا سيساهم على تدليل العقبات التي تحول دون إنتشار هذه البدائل النظيفة,(نموذج مرفق عن لإمكانية تدريس تخصص الطاقة ضمن حقول العلوم القانونية)
الهوامش:
https://arabicedition.nature.com/journal/2014/08/511529a/
جميلة مرابط: مقاربات الاقتصاد الاحضر: إدارة مستدامة للنظم الايكولوجية بوظائف خضراء نحو مدن ذكية، مجلة المنارة مركز المنارة للدراسات والأبحاث بالرباط العدد 30 سنة 2020.
الأمم المتحدة، منظمة العمل الدولية، المكتب الإقليمي للدول العربية، “تقييم الوظائف الخضراء في لبنان، التقرير التوليفي”، (بيت الأمم المتحدة، بيروت، يوليوز 2011).
Poschen,Peter :Green Jobs and the Sustainable Economy (Sheffield, United Kingdom: Greenleaf). 2015, Decent Work .