في الواجهةمقالات قانونية

القرائن في المادة الجنائية – الدكتورة : صفاء لزاري

 

القرائن في المادة الجنائية
Presumptions in Criminal Law
الدكتورة : صفاء لزاري
أستاذة باحثة بجامعة عبد المالك السعدي كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بتطوان

ملخص:
إن وسائل الإثبات في المادة الجنائية لها أهمية بالغة وتكتسي من الخطورة بما كان على حقوق وحرية الشخص المتابع في جميع مراحل الدعوى الجنائية، ومن تم وجب تضافر الجهود بين مختلف الجهات القضائية المسؤولة عن سير إجراءات الدعوى العمومية حتى يتسنى للمتابع أمام القضاء الاستفادة من جميع الحقوق المكفولة له دستوريا ومسطريا. والقاضي الجنائي ملزم بأخذ الحيطة والحذر وأن يلعب دوره في ميدان الإثبات وهو متمتع بحرية واسعة وسلطة مطلقة في تقدير القيمة الإثباتية للقرائن مستبعدا بذلك كل الأخطاء القضائية التي قد تنتج عن الأحكام القضائية الجنائية.

Summary:
The means of proof in criminal matters are of great importance and are dangerous in terms of the rights and freedom of the person prosecuted at all stages of the criminal proceedings. Therefore, concerted efforts must be made between the various judicial authorities responsible for the conduct of public proceedings so that the defendant can benefit from all the rights guaranteed to him constitutionally and procedurally. The criminal judge is obliged to be cautious and play his role in the field of evidence and enjoys wide freedom and absolute authority in assessing the evidential value of evidence, thus excluding all judicial errors that may result in criminal judgments.

المقدمة:
يقوم الإثبات في المادة الجنائية على الاستفادة من كل ما يؤدي إلى ظهور الحقيقة أي إثبات وقوع الفعل الجرمي وارتكابه من قبل المتهم، ولذلك فالقاضي مطالب باليقين التام الذي يكونه من مناقشة الوقائع والظروف حتى لا يبقى مجالا للشك في حكم القاضي، لأن الشك يجب تفسيره في صالح المتهم، تماشيا مع مبدأ ضمان الحريات الذي يقضي أن كل إنسان بريئا حتى يدان بحكم قضائي غير قابل للطعن.
ولإشارة فإن طريقة الإثبات المعتمدة سابقا كانت تلزم القاضي الحكم في الدعوى بناء على الأدلة المعروضة عليه سواء اقتنع بها أم لا؛ وهذه الطريقة كانت تجعل القاضي آلة لتطبيق القانون ولا تدع له مجالا لتكوين قناعته أو اعتقاده الصميم.
ولخطورة هاته الظاهرة ظهر تيار فقهي يقضي بترسيخ مبدأ حرية اقتناع القاضي والاعتماد على ضميره ووجدانه، وكذا حرية الإثبات للوصول إلى هذه القناعة، وهذه الطريقة هي التي أخذ بها المشرع الجنائي في وقتنا الحاضر.
وحيث إن الإثبات الجنائي في مختلف مراحل المتابعة في المادة الجنائية، إنما يهدف في الأخير إلى الوصول إلى عنوان الحقيقة والتي من خلالها يدان المتهم أو يبرأ من الأفعال المنسوبة إليه، وإذا كان المقصود بالإثبات هو إقامة الدليل أمام القضاء الجنائي بالطرق المحددة قانونا على الواقعة الجرمية.
وحيث نظم المشرع المغربي وسائل الإثبات في المواد من 286 إلى 296 من قانون المسطرة الجنائية، فإنه يعد من أهم الأعمدة التي يقوم عليها صرح العدالة برمتها إذ بواسطته تتحصل القناعة لدى المحكمة، وهذا ما جعل المشرع في أغلب البلدان يوجد مرجعية قانونية متميزة تحكم موضوع الإثبات في المادة الجنائية .
وإذا كان المشرع الجنائي قد خول للقاضي سلطة واسعة في تقدير وسائل الإثبات والبت فيها انطلاقا من قناعته الوجدانية، فإن إشكالا يثور بشأن نسبية هذه الوسائل ومدى قدرتها على جعل الحقيقة القانونية مطابقة للحقيقة الواقعية.
ولئن كان الميدان الزجري هو ميدان دائب الحركة والتطور، كما أنه لصيق بالأمن العام ومصلحة المجتمع، فإن خصوصيته تتجلى في حرية القاضي في تقدير وسائل الإثبات بناء على سلطته التقديرية مكونا بذلك قناعته الشخصية التي ستمكنه من استصدار حكم قضائي في موضوع النازلة المعروضة أمامه للبت فيها قانونا.
وحيث أن ضبط السلوك الإنساني بموجب قواعد قانونية تفرض الجزاء المقرر على ارتكاب الجرائم يصبح عديم الجدوى، ما لم يقترن ذلك بتنظيم دقيق لإجراءات الوصول إلى هذا الجزاء، وجوهر تلك الإجراءات وقلبها النابض هو النظام الإثباتي، الذي يناط به إقامة التوازن بين مقتضيات الحرية الفردية، ومقتضيات استيفاء حق الدولة في العقاب.
وإذا كانت معظم التشريعات قد حرصت على تأكيد مبدأ حرية الإثبات، باعتباره القلب النابض والعمود الفقري للنظام الاثباتي، إلا أن هذا لا يمنع أو يتعارض كليا مع قيام بعض التشريعات من تنظيم بعض وسائل الإثبات الجنائي، كالاعتراف، الشهادة، الخبرة والقرائن، أو غيرها من أدلة الإثبات الجنائي .
إذ إن الاقتصار الوارد على تنظيم بعض هذه الوسائل لا يتنافى البتة مع المبدأ العام لتلك التشريعات من أخذها بمبدأ حرية الإثبات الجنائي، كي يتهيأ لعملية الإثبات المناخ الرحب في إثبات كل ما هو جديد أو مستعصي على وسائل إثبات معينة.
ويعتبر مبدأ الاقتناع الشخصي من أهم مبادئ نظرية الإثبات، لأنه يتفق مع مقتضيات التفكير المنطقي، حيث إن القاضي الجنائي يحكم حسب اقتناعه بالأدلة التي طرحت عليه في الدعوى، ويتمتع في ذلك بسلطة واسعة في تحري الحقيقة حسبما يمليه عليه ضميره، وله الحق في استبعاد أي دليل لا يرتاح إليه في مسار الدعوى الجنائية، وأن يحكم بناء على أي دليل يطمئن إليه سواء كان مباشرا أو غير مباشر كالقرائن مثلا.
وتعد القرائن إحدى وسائل الإثبات، بل أقدمها، وقد ازدادت أهميتها بعد أن أثبت العلم خطورة كل من الشهادة والاعتراف، وأنه لابد من ضرورة تأكيدهما بطريقة موضوعية، بل تفوقت عليهما في الأهمية خاصة في هذا العصر الذي تقدمت فيه العلوم، واكتشفت قرائن تكاد تكون في حيز القطع، ومما يزيد من أهمية القرائن، أنه مع تطور العلوم تطورت الجريمة، وتطورت وسائل ارتكابها، وأصبحت الجريمة منظمة الأمر الذي يزيد من أهمية الاعتماد عليها في الإثبات.
وتتمحور إشكالية هذا الموضوع فيما يلي:
ما مدى أهمية القرائن كوسيلة للإثبات في المادة الجنائية؟
وتتفرع عن الإشكالية المحورية عدة إشكاليات فرعية وهي كالآتي:
 ما مفهوم القرائن في المادة الجنائية؟
 ما مدى أثر القرائن في تكوين اقتناع القاضي الجنائي؟
 هل سلطة القاضي الجنائي في مجال الإثبات بالقرائن مطلقة أم أنها مقيدة؟
وللإجابة على هذه الإشكالية ارتأينا معالجة هذه الموضوع وفق المبحثين التاليين:
المبحث الأول: التأطير المفاهيمي للقرائن في المواد الجنائية.
المبحث الثاني: أثر القرائن في تكوين اقتناع القاضي الجنائي.
المبحث الأول: التأطير المفاهيمي للقرائن في المواد الجنائية
تعد أدلة الإثبات من المحاور الرئيسة لإثبات الحقوق وتحقيق العدل والأمن في المجتمع، والإثبات بالقرائن والعمل بها وجواز بناء الأحكام عليها أمر لا ينكره أحد نظرا لأهمية القرائن في القضاء وشدة الحاجة إليها عند فقدان الدليل أو التشكك فيه، فقد يعتمد علي القرائن ويحكم بموجبها لتحقيق العدل، وإلا تعطلت الأحكام وضاعت الحقوق.
ويدل على ذلك قول ابن القيم: (فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلالات الأحوال بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهدا لها بالاعتبار مرتبا عليها الأحكام) .
وسنتناول في هذا المبحث القرائن في المادة الجنائية كوسيلة من وسائل الإثبات، وما يستجد من قرائن مادية أو قضائية قد ترقى إلي مستوى القرائن القطعية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء.
وحتى يتسنى لنا بيان مفهوم القرائن، يتعين علينا أن نتناول بالبحث والتحليل مسألتين جوهريتين تتجلى الأولى أساسا في تعريف القرائن، والثانية تتمثل في أنواع القرائن وذلك وفق المطلبين التاليين:
المطلب الأول: تعريف القرائن
القرينة القانونية هي تلك القرينة التي يكون مصدرها المشرع، وهو الذي يقد ر الصلة بين الواقعة المعلومة والواقعة المجهولة صلة يقينية ، ولم يعرف المشرع المغربي القرينة القانونية في التشريع الجنائي، في حين أنه عرفها في قانون الالتزامات والعقود بموجب نص الفصل 449 القائل بأنها: “دلائل يستخلص منها القاضي وجود وقائع مجهولة”.
وعليه ينبغي ونحن بصدد تقديم تعريف للقرينة أن نعرفها أولا لغة، ثم اصطلاحًا:
الفرع الأول: التعريف اللغوي
إن المتتبع لإطلاقات مادة قرن يجدها تدل على المصاحبة والمقارنة، يقال: قارن الشيء مقارنة وقرانا: اقترن به وصاحبه ، واقترن الشيء بغيره: وقارنته قرانا: صاحبته، ومنه: قران الكواكب، وقرنت الشيء بالشيء وصلته ، والقرين: المقارن والمصاحب ، وقرينة الرجل امرأته لمقارنته إياها.
والقرينة: نفس الإنسان، كأنهما تقارنا .
ويتضح من خلال المعاني السابقة لمادة “قرن” أن المعنى اللغوي للقرينة يدور حول المصاحبة والملازمة والضم والجمع بين الشيئين وكلها معان متقاربة.
الفرع الثاني: التعريف القانوني
لقد تعددت تعاريف فقهاء القانون الجنائي للقرينة فهناك من عرفها بأنها:” الصلة الضرورية التي قد ينشئها القانون بين وقائع معينة، أو هي نتيجة يتحتم على القاضي أن يستخلصها من واقعة معينة، أو هي استنتاج واقعة مجهولة من واقعة معلومة “.
وقد عرفها فاروق الكيلاني بأنها:” استنتاج واقعة مجهولة من واقعة معلومة ثابتة تؤدي إليها بالضرورة وبحكم اللزوم العقلي” .
وعرفها الدكتور عطية علي عطية مهنا بأنها:” استنباط بقواعد المنطق والخبرة واقعة مجهولة من وقائع ثابتة معلومة على سبيل الجزم واليقين “، ومهما تعددت تعاريف فقهاء القانون الجنائي للقرينة، إلا أنها تنصب كلها في نفس الاتجاه.
غير أن التعريف الراجح للقرينة يتمحور حول ما يلي: “القرينة هي استنباط الواقعة المراد اثباتها بقواعد المنطق والخبرة من واقعة أو وقائع معلومة وثابتة تؤدي اليها بالضرورة وبحكم اللزوم العقلي “.
غير أنه وبالرجوع إلى نصوص قانون الإجراءات الجزائية الجزائري نجد أن المشرع لم يورد تعريفا دقيقا للقرينة بصفة عامة سواء بالنسبة للقانون الجنائي أو القانون المدني، وحسنا ما فعل المشرع، لأن التعريف هو من اختصاص الفقه وحده، شأنه في ذلك شأن التشريعين المصري والأردني، هذا بخلاف المشرع الفرنسي والذي أعطى تعريفا للقرائن في المادة 1349 من القانون المدني الفرنسي بقولها: “القرائن هي نتائج يستخلصها القانون أو القاضي من واقعة معلومة لمعرفة واقعة مجهولة “.
وعليه فان المشرع الجنائي المغربي لم يحذو حذو المشرع الفرنسي هذه المرة، ولكن هذا لم يمنعه من تنظيم أحكام القرائن في الفصل 449 من قانون الالتزامات والعقود المغربي الذي عرف القرائن بأنها: ” دلائل يستخلص منها القاضي وجود وقائع مجهولة“.
المطلب الثاني: الإثبات بالقرائن
في الحقيقة أن المشرع الجنائي لم يعرف مفهوم القرائن، لذا يمكن الاعتماد عل التعريف المضمن في الفصل 449 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص عل أنها“ دلائل يستخلص منها القاضي وجود وقائع مجهولة“.
وتُعرَف القرائن القانونية والقضائية على أنها وسائل اثباتية غير مباشرة؛ إذ لا تقع على الواقعة المراد إثباتها، بل تستند إلى واقعة أخرى مرتبطة اتصالًا قويًّا بها، ففي القضاء الجنائي، تساعد القرائن القضائية في إثبات الجريمة ودلالة مرتكبها، بما يتوافق مع متطلبات التحقيق والمحاكمة العادلة.
والقرائن إما قانونية وهي تمتاز بنوع من اليقين القانوني الذي يطمئن القاضي (الفرع الأول)، وإما قضائية التي تعتمد عل الوقائع لاستخراج الحقيقة منها (الفرع الثاني).
الفرع الأول: القرائن القانونية
إن القرائن القانونية هي تلك التي نص عليها القانون صراحة بموجب نصوص قانونية، وألزم القاضي الجنائي بالأخذ بها، وتنقسم إلى نوعين:
– قرائن قاطعة: وهي لا تقبل إثبات عكسها بأي طريقة من طرق الإثبات كالحكم البات الذي يعد قرينة قاطعة ولا يمكن إثبات عكسه، ومن ذلك ما نص عليه الفصل 138 من القانون الجنائي الذي يعتبر أن الصغير الذي لم يبلغ سن اثني عشرة سنة غير مسؤول جنائيا، فمضمون هذا الفصل قرينة قاطعة لا يجوز إثبات عكسها بحيث لا يمكن للنيابة العامة أو الضحية أن يقيما الدليل عل أن الطفل ذكي وكان يدرك لما يفعل وقت ارتكاب الجريمة، إضافة إلى الاستفزاز حسب الفصل 416 من القانون الجنائي، ففي هذه الحالات لا يمكن للقاضي أن يقبل مناقشة الأدلة، لأن القرينة هنا محددة، ويجب على القاضي أن يطبق القانون بشأنها .
– قرائن بسيطة: هي تلك التي تنهض دليلا حتى يثبت ما يعاكسها، مثل ما نص عليه الفصل 543 من القانون الجنائي الذي يعتبر أن تسليم شيك بدون رصيد يعتبر قرينة على وجود القصد الجنائي، لكن يمكن نفي هذه القرينة كأن يثبت أن المبلغ كان متوفرا لكن البنك سحبه في إطار الضريبة السنوية،هذا بالإضافة إلى تخلف الشاهد عن الحضور بعد استدعائه، إذ يمكنه إثبات عكس ذلك إذا حضر إلى حرم القضاء ومعه عذر قانوني مقبول.
وعليه فإن القرينة القانونية تعفي من تقوم لصالحه من أي حجة فهي كالإقرار واليمين، كما أنها لا يمكن أن تُعارض أو تقبل أي دليل آخر لإعدامها، وهذا ما يقضي به الفصل 453 من ق.ل.ع الذي جاء فيه بأن: “القرينة القانونية تُعفي من تقررت لمصلحته من كل إثبات ولا يُقبل أي إثبات يخالف القرينة القانونية”.
الفرع الثاني: القرائن القضائية
وتسمى أيضا القرائن الموضوعية لأنها تستنبط من الوقائع المعروضة على القاضي، ويجب أن تراعى فيها الدقة والتحري حتى تكون النتيجة منطقية، وهذه القرائن يعمل القاضي على استخلاصها من الوقائع المعروضة أي استنتاجه لواقعة مجهولة من واقعة معلومة مستخدما في ذلك سلطته التقديرية التي منه إياها القانون، والقاضي هو المصدر الأول والأخير لهذه الوسيلة لأنه يصل إليها من خلال اقتناعه الشخصي، وقد تكون القرائن القضائية هي وثائق القناعة كالأدوات التي ارتكبت بها الجريمة والأسلحة وبقع الدم، ورغم أن المشرع لم يشملها التنصيص، إلا أنها تدخل في حصة فهم وإدراك القاضي لظروف وملابسات الجريمة، والتالي فلا حصر لها وإنما تتعدد حسب وقائع وظروف الجريمة .
ومن المبسوط أن القرائن القضائية يجب أن تكون متماسكة حتى يكون الاستنتاج صحيحا لأن الأخطاء القضائية الشهيرة تأتي من تطبيق هذه القرائن في الميدان الجنائي، خاصة وأن القضاء الجنائي يعتبر أن القناعة الشخصية هي أساس الحكم الجنائي، وبالتالي على القاضي الجنائي أن يكون عالما بكثير من العلوم الأخرى كعلم الإجرام وعلم النفس وعلم الاجتماع… حتى يتسنى له القيام بعملية الإسناد، أي إسناد الفعل الإجرامي إلى صاحبه دون الوقوع في الخطأ.
بما أن هذه القرائن متروك لسلطة القاضي والى ذكائه وفطنته فإنه لا يجوز الإثبات بالبينة فهي متساوية معها في المرتبة، كما يجب أن تكون قوية وصريحة، وأخيرا فإن القرينة القضائية غير ملزمة وغير قاطعة للإثبات العكس بأي دليل آخر من دلائل الإثبات ، وهذا ما يقضي به الفصل 454 من ق. ل. ع في فقرته الثانية التي جاء فيها ” وليس للقاضي أن يقبل إلا القرائن القوية الخالية من اللبس أو القرائن المتعددة التي حصل التوافق بينها، وإثبات العكس سائغ ويمكن حصوله بكافة الطرق”.
من خلال هذه المقتضيات يتبين أن للقاضي سلطة واسعة في تقدير القرائن القضائية، إذ يمكنه أن يبني قناعته على وقائع أو أقوال أبداها الخصم أمام الخبير، أو من شهود سمعهم الخبير بإذن من المحكمة، وله أن يستنبط القرائن أيضا من قرار قضائي صدر في دعوى أخرى، بل له أن يتخذ القرينة التي اعتمد عليها من أي تحقيق قضائي أو إداري.
والقاضي في عمله له كل الحرية في طريقة تحصيله للقرائن وفهمه لها، ولا يقيده في هذا إلا أن يكون استنباطه سائغا.

المبحث الثاني: القرائن في المادة الجنائية وأثرها على اقتناع القاضي الجنائي
أقرت معظم التشريعات الجنائية، نظام الاقتناع الشخصي للقاضي الجنائي، فكان من نتائج هذا الإقرار اعتبار القرائن الجنائية من طرق الإثبات الأصلية في القضايا الجنائية، وفقا لما تنص عليه تلك التشريعات في ثنايا نصوصها، حيث يتمتع القاضي الجنائي بحرية واسعة من أجل الوصول إلى الحقيقة بكافة طرق الإثبات المتاحة والتي يراها مناسبة للكشف عن الجرائم ومتابعة مرتكبيها، ونحو بناء اقتناعه على أساس من الأدلة المعتبرة قانونا سواء كانت مباشرة كشهادة الشهود والاعتراف، أم أدلة غير مباشرة كالقرائن، حيث يستنتجها –من وقائع الدعوى وملابساتها.
وهذا ما يجعل القرائن تتساوى في القيمة الاثباتية مع باقي الأدلة الأخرى، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل الدور الفعال الذي أصبحت تؤديه في ظل التطور العلمي الحاصل في مجال ارتكاب الجرائم من ناحية، وظهور الأدلة العلمية من ناحية أخرى. بالإضافة إلى الدور البارز الذي تكتسيه كدليل إثبات غير مباشر من الناحية العملية، وكذا سلطة القاضي الواسعة في الأخذ بها.
ومن خلال استقراء النصوص القانونية الإجرائية في جل التشريعات الوضعية وتفحص القرارات القضائية والتمعن في الاجتهادات الفقهية، يتبين أن القرينة كدليل إثبات لا تختلف عن غيرها من الأدلة الجنائية بحيث تسري عليها قاعدة حرية القاضي الجنائي في تكوين عقيدته أو قناعته والتي تخضع لها جل الأدلة ذات الطابع الجزائي.
ولا يوجد في القانون ما يمنع من بناء الحكم على القرائن وحدها، بل يكتفى بأن يكون من شأنها أن تؤدي إلى تلك الحقيقة بعملية منطقية يجريها القاضي، ولا يصح الاعتراض على الرأي المستخلص منها ما دام سائغا معقولا، وللقاضي الجنائي سلطة الأخذ بالقرائن الجنائية إلا أنها غير مطلقة، بل مقيدة بقيود معينة يتعين عليه مراعاتها، وهذا ما سنعالجه من خلال المطلبين المواليين:
المطلب الأول: مبدأ حرية القاضي الجنائي في الإقتناع بالقرائن
تهدف العملية الإثباتية في جملتها إلى التوصل إلى اقتناع القاضي الجنائي بالحقيقة التي يسعى من جانبه بالإضافة إلى أطراف الدعوى الجنائية أيضا إلى استظهارها وكشف ما يكتنفها من غموض وذلك حتى يتسنى له في النهاية إصدار حكمه في الواقعة الجنائية محل الدعوى .
هذا وتلعب القرائن دورًا هامًا في تقييم الأدلة في الإثبات الجنائي، حيث تعد وسيلة إثبات غير مباشرة تعتمد على استنتاج القاضي لواقعة غير ثابتة من واقعة ثابتة، وذلك باستخدام المكنات العقلية المتاحة لديه للوصول إلى الأمر المجهول. ويتطلب ذلك إتباع قواعد محددة في تقييم صحة القرائن والأدلة المرتبطة بها، ومن ثم تحديد قيمتها في شكل إثبات جنائي.
كما يتعين على القاضي الجنائي دراسة تفاصيل القرائن وتحديد قدرتها الإثباتية، وفقا لمبدأ حرية الاقتناع؛ حيث يتم تحقيق العدالة من خلال تقييم جميع الأدلة المتاحة واستنتاج القاضي المنطقي، وذلك بتوخي الدقة والحذر في تقييم جميع الحقائق والأدلة المتاحة لديه. لذا، فإن دور القرائن في تقييم الأدلة في الإثبات الجنائي يعتبر حاسمًا في تعزيز الأدلة وضمان العدالة في قضايا الجرائم.
وتستلزم دراسة ذلك المبدأ الذي هو هدف العملية الاثباتية، تحديد تعريفه، طريقة تكوينه (الفرع الأول) وأخيرا مبرراته (الفرع الثاني).

الفرع الأول: تعريف مبدأ الإقتناع الشخصي وطريقة تكوينه
تتجه غالبية الفقه الجنائي إلى عدم التفرقة بين السلطة التقديرية للقاضي الجنائي وحرية القاضي الجنائي في تكوين اقتناعه ، وهو ذات النتيجة بالنسبة للتشريع المغربي، ونتيجة لذلك فقد قام الكثير من فقهاء القانون الجنائي بمحاولة وضع تعريف محدد لمبدأ الاقتناع الشخصي للقاضي الجنائي، غير أن التعريف الراجح هو التعريف التالي:”
الاقتناع عبارة عن حالة ذهنية ونفسية أو وجدانية تتولد في أعماق القاضي من خلال جمع أدلة الدعوى وظروفها المطروحة عليه، فيحدث اليقين الذي يبنى عليه حكمه الحر المسبب”، ويتكون الاقتناع الشخصي للقاضي الجنائي من عنصرين: أحدهما شخصي، والأخر موضوعي:
أولا- العنصر الشخصي للاقتناع:
يكمن العنصر الشخصي للاقتناع في الارتياح الداخلي الذي يصاحب ضمير القاضي الجنائي عند الحكم في الدعوى، ولذلك قيل بأن القاضي الجنائي يعتمد في قضائه على صوت ضميره ويلبي نداء إحساسه، وشعوره، وتقديره لأدلة الدعوى وفقا لمبدأ حرية اقتناع القاضي ، وقد جعل المشرع من القاضي الجنائي قاضي تنقيبي يبحث عن وسائل الإثبات عملا بالقاعدة العامة في المادة الجنائية التي تقوم على مبدأ حرية الإثبات أو كما عبر عنها المشرع المغربي “الإقتناع الصميم”، وذلك في المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية التي جاء فيها: “يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون بخلاف ذلك ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند الثامن من المادة 365.
ثانيا: العنصر الموضوعي للاقتناع
معنى هذا العنصر الموضوعي أن الدليل الذي أقنع القاضي هو أفضل دليل ممكن للبرهنة على ثبوت الواقعة، فيقتنع به أي إنسان يتوفر لديه العقل والمنطق، أي أن يحمل الدليل بذاته معالم قوته في الاقتناع أو على حد تعبير بعض رجال الفقه بأنه:” لب دليل الإدانة وجوهره، وهو صلاحيته بمفرده للحسم بوجود صلة بين الجريمة المقترفة، وبين شخص معين ينسب إليه اقترافها.
وفي هذا السياق فإن المشرع المسطري وهو ينظم وسائل الإثبات في المادة الجنائية ترك للقاضي الجنائي كقاعدة عامة حرية تقدير الأدلة المقدمة في الدعوى دون أن يقيد بأدلة معينة، كما ترك له حرية ترجيح دليل على أخر وبالتالي فعملية الإثبات خاضعة للقناعة الوجدانية للقاضي الجنائي بصريح الفصل 486 من قانون المسطرة الجنائية، فمن أجل الوصول إلى الحقيقة يستطيع أن يختار أي دليل يراه صالحا لإدانة المتهم أو براءته حسب ما يمليه عليه ضميره واقتناعه الشخصي، دون إغفال مبدأ قرينة البراءة والشك يفسر لصالح المتهم .
الفرع الثاني: مبررات مبدأ حرية القاضي الجنائي في الإقتناع بالقرائن
بالإضافة إلى القصور التشريعي في استيعاب جميع المسائل التي تعرض أمام القضاء، وإيجاد الحلول الموضوعية لها تشريعيا، فإن المشرع يكون مضطرا إلى أن يتنازل عن جزء من سلطاته إلى القاضي الجنائي، فيمنحه حرية واسعة في تقدير أدلة الواقعة المعروضة عليه، ونتيجة لذلك يجد مبدأ حرية القاضي الجنائي في الاقتناع بالقرائن مبررات تطبيقه فيما يلي:

أولا: صعوبة الاثبات في المادة الجنائية
يتسم الإثبات في المواد الجنائية، بأنه لا يتعلق بإثبات وقائع مادية، وإنما يضاف إليها وقائع معنوية (نفسية) لها طابع استثنائي، كما أنه ليس متعلقا بإثبات تصرفات قانونية، يحتاط أطرافها بالأدلة المهيأة فهي ليست عقدا يصار إلى تدوينه، كما هو الحال في الإثبات المدني، فإثبات الجريمة لا يقتصر على مادياتها، وإنما يرد الإثبات على ركنها المعنوي، فالإثبات الجنائي ينصرف بالإضافة إلى حقيقة الوقائع المادية إلى إثبات القصد الجنائي، والتحقق من قيامه أم عدمه ، ومرد صعوبة الإثبات في المواد الجنائية يرجع إما إلى الدور الذي يقوم به المجرمون في طمس معالم الجريمة وآثارها من ناحية، وللطبيعة الخاصة للأفعال الجرمية من ناحية أخرى .
ومن هذا المنطلق تظهر صعوبة الإثبات الجنائي وتزداد تفاقما نظرا لطبيعة الجرائم، لذا كان من اللازم استعانة القاضي بالقرائن في إثبات الجريمة وإسنادها لفاعلها، وهو أمر لا يتأتى إلا في إطار مبدأ الاقتناع الشخصي للقاضي الجنائي.
ثانيا: الدور الايجابي للقاضي الجنائي
إن أساس الدور الايجابي للقاضي الجنائي هو تعلق الدعوى الجنائية بالنظام العام، فإذا كان عبء الإثبات في المواد المدنية يقع على عاتق أطراف الدعوى على نحو يكون فيه دور القاضي المدني سلبيا في مجال البحث عن الأدلة، بحيث يقتصر دوره على فحص ما يعرضه عليه أطراف الدعوى من أدلة دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتحري، وهذا ما يعبر عنه بمبدأ سلبية القاضي المدني أو حياده.
فإن الأمر في المواد الجنائية مختلف ، إذ إن العبء الذي يناط بالنيابة العامة في ميدان إثبات الجرائم قد يخفف نوعا ما نظرا للدور الهام الذي يتولاه القاضي الجنائي بموجب ما يخوله القانون من صلاحيات .
ثالثا: اعتماد الإثبات الجنائي على القرائن القضائية
لعل أبرز مبرر لمبدأ حرية القاضي الجنائي في الوصول إلى اقتناعه الشخصي يكمن في الاعتماد الواسع على القرائن القضائية في مجال الإثبات الجنائي، وذلك راجع بدوره إلى طبيعة الجرائم، إذ قد ينعدم في أغلب الجرائم أي دليل من أدلة الإثبات الأخرى، ولا يبقى أمام القاضي الجنائي إلا استنتاج القرائن القضائية والاعتماد عليها كلية في الوصول إلى الحقيقة.
وعندما يلجأ القاضي الجنائي للاعتماد على القرائن القضائية في مجال الإثبات الجنائي، ينبغي أن يكون له مطلق الحرية في استنتاج القرائن القضائية من الدلائل المختلفة، سواء ذات الطبيعة المادية أو الطبيعة المعنوية.
ويعد هذا المجال الرحب لاستنتاج القرائن القضائية، واستحالة تحديده وضبطه هو من أهم الأسباب التي أدت إلى اللجوء إلى مبدأ الاقتناع الشخصي للقاضي الجنائي أو كما سماه المشرع الجنائي “الاقتناع الصميم”، باعتباره الأسلوب الذي تنعدم فيه كل القيود أو الحواجز التي تعيق القاضي في الوصول إلى كشف الحقيقة .

المطلب الثاني: القيود الواردة على حرية القاضي في الإقتناع بالقرائن
إذا كان المشرع الجنائي قد فتح الباب على مصرعيه أمام القاضي الجنائي، بغرض إتاحة الفرصة أمامه لكي يصل على قدر المستطاع في حكمه إلى الحقيقة الواقعية وتحقيق مقتضيات العدالة، إلا أن المفهوم الصحيح لهذه الحرية يحتم أن يكون لها إطارها المحدد قانونا، والذي يكفل لها تحقيق الهدف منها دون أن تجنح في ذلك نحو التحكم أو تميل في اتجاه الانحراف والاستبداد والغموض في التقدير.
ولقد ساهم القضاء بباع طويل في ضبط حرية قاضي الموضوع في الاقتناع ووضعها في إطارها الصحيح الذي يكفل تحقيق الهدف من تقريرها، وهو الوصول إلى كشف حقيقة الجريمة وضبط مرتكبيها.
وسنتناول فيما يلي أهم القيود الواردة في حرية القاضي الجنائي في الاقتناع بالقرائن، وذلك من خلال الفرعين التالية:
الفرع الأول: وجوب تأسيس اقتناع القاضي على قرائن مشروعة
انطلاقا من تلك القاعدة العريقة” شرعية الجرائم والعقوبات”، تلك القاعدة التي تقرر أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، وأيضا انطلاقا من مبدأ سيادة القانون، فقد جاءت قاعدة أخرى تحكم تنظيم الإجراءات التي تتخذ قبل المتهم على نحو يتضمن احترام وحماية الحقوق والحريات الفردية، بما يتفق مع القواعد القانونية والأنظمة الثابتة في وجدان المجتمع المتحضر، تلك القاعدة هي قاعدة ” مشروعية الدليل الجنائي”، أو ما يسمى بقاعدة “الشرعية الإجرائية”.
وتعني قاعدة مشروعية الدليل الجنائي، ضرورة اتفاق الإجراء مع القواعد القانونية والأنظمة الثابتة في وجدان المجتمع المتحضر ، أي أن هذه القاعدة لا تقتصر على المطابقة مع القاعدة القانونية التي ينص عليها المشرع .
وتعد قاعدة مشروعية الدليل الجنائي من أهم الضمانات التي تقيد سلطة القاضي الجنائي في الاعتماد على القرائن كدليل إثبات للحكم بالإدانة في القانون الجنائي المعاصر.
إذ إن مبدأ المشروعية أضحى اليوم من المسلمات في قانون الإجراءات الجنائية، فهو يمثل قمة التطور الذي وصلت إليه نظرية الإثبات في المواد الجنائية، فحتى عهد قريب لم تكن القوانين الجنائية تحفل بالكيفية التي من خلالها يتم الحصول على الدليل الذي يثبت إدانة المتهم، إذ كان مقبولا الاستناد إلى جميع الأدلة، بما فيها تعذيب المتهم، بغرض حمله على الاعتراف بالجريمة أو الإبلاغ عن شركائه فيها .
ويحتل قيد مشروعية الدليل الجنائي أهمية قصوى في عصرنا الراهن، نتيجة التقدم الهائل الذي لحق بالوسائل المستخدمة في البحث والتحقيق وجمع الأدلة، حتى يلبي مقتضيات البحث عن الحقيقة، حيث أصبحت هذه الوسائل في حال استخدامها استخداما سيئا تشكل خرقا للحياة الخاصة، ومكنونات النفس البشرية، ولذلك يتعين أن تراعى في عملية البحث عن الأدلة وجمعها توافر كافة الضمانات وأهمها عدالة المحاكمة، ومراعاة حقوق الدفاع، وكل ما من شأنه الحفاظ على الكرامة الإنسانية، وبهذا يكون هذا المبدأ –وبحق- بمثابة حجر الزاوية في منظومة الحماية المقررة للمتهم في مواجهة مبدأ حرية الإثبات.
الفرع الثاني: وجوب تأسيس اقتناع القاضي الجنائي على قرائن طرحت للمناقشة أمامه في الجلسة
يقصد بالأدلة المطروحة في الجلسة كافة الأدلة التي لها مصدر في أوراق القضية المطروحة أمام القاضي سواء كانت محاضر الاستدلال أو التحقيق أو المحاكمة.
ويترتب على هذا القيد القانوني أن القاضي الجنائي الذي أطلق حريته في الإثبات أن يستمد يقينه مما يحلو له أو بما يفضله من طرق الإثبات، ولكن يجب أن يكون يقينه مستمد من وسائل الإثبات المنصوص عليها في القانون، ومنها القرائن.
ولا يجوز للقاضي الأخذ بدليل قدمه أحد أطراف الدعوى، إلا إذا تم عرضه شفويا في جلسة المحاكمة، بحيث يعلم به سائر أطراف الدعوى، وتتاح لهم فرصة مناقشته وإبداء أرائهم في قيمته. وعند الاستناد إلى الأوراق يجب على المحكمة أن تتطلع على الورقة وتمكن الخصوم من الاطلاع عليها ومناقشة ما ورد فيها. فلا تجوز مؤاخذة أحد الخصوم على غرة بأوراق لم يتمكن من مناقشتها، ويعد هذا إخلالا بحقوق الدفاع؛ أن تقضي المحكمة بناء على ورقة لا يعلم بها من أخذت دليلا عليه أو علم بها أو طلب التأجيل لإعداد الرد عليها فلم تجبه المحكمة .
وإذا كان المشرع قد نص على مجموعة من القيود على حرية القاضي في الاقتناع، واستقر القضاء أيضا على مجموعة من الضوابط التي ترسم الإطار الصحيح لهذه الحرية والسير بها نحو الغاية المرجوة منها، فإن ذلك يكون في حاجة إلى وسيلة أخرى يمكن من خلالها فرض الرقابة على مضمون الاقتناع الموضوعي لقاضي الموضوع ودون أن تمتد هذه الرقابة إلى أسباب اعتقاده الشخصي، وترتبط بإلزام المشرع قضاة الموضوع بتعليل الأحكام.
خاتمة:
يمكن القول عموما أن وسائل الإثبات في المادة الجنائية لها من الخطورة بما كان على حقوق وحرية الشخص المتابع في جميع مراحل الدعوى الجنائية، وعلى هذا الأساس يجب تضافر الجهود ين مختلف الجهات القضائية المسؤولة عن سير إجراءات الدعوى الجنائية حتى يتسنى للمتهم الاستفادة من جميع الحقوق المكفولة له دستوريا ومسطريا.
وهذا وتجب الإشارة إلى أن القاضي الجنائي في إطار ذكائه الفطري والمكتسب، يجب أن يظهر على علو كعبه في تقدير وسائل الإثبات بناء على سلطته التقديرية الواسعة، وألا يتسرع في إصدار الأحكام تفاديا لظلم بريء أو لتبرئة ظالم، لذلك فالقاضي الجنائي ملزم بأخذ الحيطة والحذر وأن يلعب دوره في ميدان الإثبات وهو متمتع بحرية واسعة وسلطة مطلقة في تقدير القيمة الإثباتية للقرائن مستبعدا بذلك كل الأخطاء القضائية التي قد تنتج عن الأحكام القضائية الجنائية، ومكرسا مبدأ من المبادئ المجمع عليها فقها وقانونا وقضاءا، ألا وهو مبدأ الأصل في الإنسان البراءة.
ومن المعروف أن هذا المبدأ تنبهت له الشريعة الإسلامية منذ قرون خلت، حيث قال الرسول عليه الصلاة والسلام “ ادرؤا الحدود بالشبهات فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن للإمام أن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة“.
ختاما نصل إلى أن القرينة هي استنباط الواقعة المراد إثباتها بقواعد المنطق والخبرة من واقعة أو وقائع معلومة وثابتة تؤدي إليها بالضرورة، وبحكم اللزوم العقلي، والقرينة على نوعين، قرائن قانونية من اختصاص المشرع وحده، وقرائن قضائية من استنباط القاضي.

لائحة المراجع:
 أبو الحسن أحمد بن فارس: “معجم مقاييس اللغة، الجزء الخامس”، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
 أبو الحسن علي بن اسماعيل بن سيده المرسي، المحكم والمحيط الأعظم، ج 60 ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان الطبعة الأولى، 2000.
 أبو الفضل جمال الدين محمد ابن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، ج 32 ، دار صادر . بيروت، لبنان.
 أحمد عوض بلال: “قاعدة استبعاد الأدلة المتحصلة بطرق غير مشروعة في الإجراءات الجنائية – المقارنة”، دار النهضة العربية، 1993.
 أحمد فتحي سرور: “القانون الجنائي الدستوري”، دار الشروق مصر، ط2 سنة 2002.
 أشرف جمال قنديل: “حرية القاضي في تكوين اقتناعه”، دار النهضة العربية، القاهرة، ط01، 2012.
 الحبيب بيهي: “شرح قانون المسطرة الجنائية الجديدة، البحث التمهيدي، التحقيق الإعدادي، الإثبات الجنائي”، الطبعة الثانية، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع الرباط سنة 2006.
 حسن بن محمد البندوزي: “أدلة الاثبات الجنائي وقواعده العامة في الشريعة الإسلامية”، طوب بريس، المغرب، الطبعة الأولى 2004.
 خالد مرزوك: “قيود سلطة القاضي الجنائي في تقدير الدليل العلمي”، مجلة المنبر القانوني، العدد الأول، أكتوبر 2011.
 شعبان محمود محمد الهواري: “أدلة الإثبات الجنائي”، دار الفكر والقانون للنشر والتوزيع الرباط، الطبعة الأولى، 2013.
عبد الحكيم ذنون الغزالي: “القرائن الجنائية ودورها في الإثبات الجنائي”، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية – مصر، 2009.
 عبد السلام بنحدو: “الوجيز في شرح قانون المسطرة الجنائية” المطبعة والوراقة الوطنية، الطبعة الرابعة 2001.
 عبد الله أحمد هلالي: “النظرية العامة للإثبات الجنائي دراسة مقارنة”، المجلد الأول، دار النهضة العربية، القاهرة مصر، 2011.
 عبد الواحد العلمي: “شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية”، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الثانية 2010.
 عطية علي مهنا: “الاثبات بالقرائن في المواد الجنائية”، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة القاهرة – مصر، 1988.
 عماد محمد أحمد ربيع: “القرائن وحجيتها في الإثبات الجزائي”، الجامعة الأردنية، عمان، 1995.
 عمر نبيل إسماعيل: “سلطة القاضي التقديرية في المواد المدنية والتجارية”، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية 2002.
 فاروق الكيلاني: “محاضرات في قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني والمقارن، الجزء الأول”، مطبعة الاستقلال الكبرى، الطبعة الأولى 1981.
 محمد العروصي: “المختصر في التحقيق الإعدادي ووسائل الإثبات”، مكتبة الوراقة بالرباط.
 محمد بن أبي بكر القيم الجوزيه: “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية “، القاهرة.
 محمد سيد حسن محمد: “ضوابط سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة- دراسة مقارنة بالشريعة الإسلامية”، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة القاهرة مصر، 2007.
 محمد فاضل زيدان: “سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة دراسة مقارنة”، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن ط 03، سنة 2010.
 مسعود زبدة: “الاقتناع الشخصي للقاضي الجزائري”، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، طبعة 1989.
مصطفى مجدي هرجة: “الإثبات في المواد الجنائية” دار الثقافة للنشر والتوزيع، الرباط، دون ذكر الطبعة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى