احمد الكويتي : القوة الإلزامية لقرار التحكيم ومدى فعاليته في فض نزاعات الشغل الجماعية
القوة الإلزامية لقرار التحكيم ومدى فعاليته في فض نزاعات الشغل الجماعية
يراد بالقوة الملزمة ما يتمتع به قرار التحكيم من قوة ذاتية بخصوص ما تضمنه في كافة عناصره سيما منطوقه، إذ لا يمكن الرجوع فيه أو العدول عنه وهي قوة تثبت له بمجرد صدوره مستجمعا لكافة البيانات الشكلية التي ينص القانون على احترامها[1] من جهة، وتلك التي قد يتفق عليها الأطراف في عقد التحكيم من جهة أخرى.[2] وعن طريق هاته القوة الإلزامية التي يتمتع بها القرار التحكيمي فإنه يلعب دورا فعال وحاسم في تسوية الخلافات الجماعية في مجال الشغل، سواء المتعلقة بالمصالح المهنية للمشغلين أو للأجراء، وذلك من أجل الحفاظ على السلم الاجتماعي لظروف العمل من جهة وفض نزاعات الشغل الجماعية من جهة أخرى.
ولدراسة هذا الموضوع الذي بين أيدينا، فإننا سنعمل على تقسيمه إلى محورين، بحيث سنتطرق في المحور الأول للقوة الإلزامية لقرار التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية في حين سنتطرق في المحور الثاني لفعالية التحكيم في فض نزاعات الشغل الجماعية.
المحور الأول: القوة الإلزامية لقرار التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية.
بالنسبة للقوة الإلزامية لقرار التحكيم، فنجد على أنه معظم التشريعات المقارنة تؤكد على الطابع الإلزامي للقرار التحكيمي الصادر في مجال نزاعات الشغل الجماعية، وذلك على عكس المشرع المغربي، فنجد على مستوى مدونة الشغل ليس هناك أي نص يقضي صراحة بإلزامية قرار التحكيم.
أولا: موقف التشريعات المقارنة من القوة الإلزامية لقرار التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية.
فبغض النظر عن الطبيعة التي تضفيها التشريعات المقارنة على آلية التحكيم من حيث إلزاميتها واختيارها، فإن القرارات التي تتمخض عنها هي ذات طابع إلزامي لأن التمييز بين الاختيارية والإلزامية ينحصر في اللجوء إلى هذه الوسيلة من عدمها، دون أن يمتد إلى القرار الصادر عنها، حيث أنه بمجرد تحريك مسطرة التحكيم إلا ويصير أطراف النزاع ملزمين بتنفيذ قرار التحكيم، إذ أن هذه الإلزامية تعطي القوة والفعالية للتأثير في الأوضاع القانونية القائمة،[3] وهكذا نجد المشرع التونسي[4] ينص بصراحة على أن قرار التحكيم ملزم للأطراف بل ولا يمكن الطعن فيه، ويعاقب كل مخالف بغرامة تتراوح ما بين 20-60 دينار ولا تفوق مبلغ خمسة آلاف دينار.
كما نجد أن المشرع الفرنسي ينص في ظل القانون 26 يوليوز 1957 على أن ” …. قرارات التحكيم إلزامية”،[5] فطرفا النزاع الجماعي وإذا كانا يتمتعان بالتجربة الكاملة في اللجوء إلى التحكيم من عدمه إلا أنهما بمجرد تحريك إجراءاته فإنهما يصيران مجبرين على الامتثال إلى النتيجة التي تترتب على إجراءاته وتنفيذ هذه النتيجة تنفيذا كليا، فقرار التحكيم وفقا للنظام الفرنسي يتمتع بذات القوة والإلزام التي تتمتع بها الاتفاقية الجماعية.
وقد ذهب المشرع المصري إلى إظهار الطابع الإلزامي للقرارات الصادرة في تحكيم المنازعات الجماعية إلى اعتبارها بمثابة أحكام قضائية صادرة عن محكمة الاستئناف وذلك بعد وضع الصيغة التنفيذية عليها من طرف محكمة الاستئناف المختصة.[6]
كما نجد أيضا المشرعان الأردني[7] واليمني[8] ينصان صراحة على إلزامية قرار التحكيم بالنسبة لأطراف النزاع، على أن الأول حدد الفئات التي تلزمها قرارات التحكيم بينما الثاني حدد الحالات التي تكون فيها القرارات الصادرة عن الهيئة التحكيمية إلزامية.
وبهذا نجد على أنه بغض النظر عن تنصيص التشريعات على القوة الإلزامية للقرارات التحكيمية من عدمها، فإن القوة الإلزامية محفوظة لقرارات التحكيم الصادرة وفقا للمقتضيات القانونية المنصوص عليها مادام أن أصل إعمال هذه المقتضيات هو إرادة الأطراف المتنازعة، وما دام أن من التزم لا يرجع فإن هذه الأطراف تكون ملزمة بما أفضت إليه المساطر المعمولة وفق رغبتهم، كما أن هذه القوة الإلزامية يستمدها القرار التحكيمي من قوة الأمر المقضي به الذي لا يجوز معه لأي من الأطراف أن يرفعوا دعوى قضائية في نفس الموضوع وبين نفس الأطراف بعد صدور القرار التحكيمي، ويمكن لأي من الأطراف أن يحتج بهذا القرار أمام القضاء إذا ما عمد خصمه إلى رفع دعوى قضائية تتعلق بنفس الموضوع ونفس الخلاف الذي بث فيه الحكم.[9]
ثانيا: موقف التشريع المغربي من القوة الإلزامية لقرار التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية.
أما بخصوص المشرع المغربي فبعد أن كان الفصل 18 من ظهير 19 يناير 1946 الملغى ينص على أن قرار التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية إلزامي،[10] مع تأكيده في ذات الوقت على الجزاء الذي يكفل الطابع الإلزامي لهذا القرار،[11] والمتمثل في الحكم بغرامة تهديدية إذا تعلق الأمر بالقطاع الزراعي، بالإضافة إلى عقوبات أخرى أهمها الحكم بعدم مشاركة المشغل الذي يرفض تنفيذ قرار التحكيم في مقاولة الأشغال أو تمويل لفائدة الدولة أو الجماعات العمومية، أما بالنسبة للأجراء فإن عدم تنفيذ قرار التحكيم يعتبر حالة من حالات فسخ عقد الشغل الفردي الذي يؤدي إلى فقدان الحق في مهلة الإخطار وفي التعويض عن الإعفاء من الخدمة.[12]
أما بالنسبة لمدونة الشغل فلم تتضمن أي نص يقضي صراحة بإلزامية قرار التحكيم كما هو الشأن بالنسبة للتشريعات المقارنة، ويرى بعض الفقه [13] ” أن الحرية التي يتمتع بها طرفا النزاع الجماعي في اللجوء إلى التحكيم من عدمه لا تشمل القرار الذي يصدر فيه إذ أنه بمجرد تحريك إجراءات التحكيم بعد موافقة أطراف النزاع الجماعي فإنهما يصيران مجبرين على الامتثال إلى النتيجة التي يتمخض عنها التحكيم أي لقرار التحكيم”، فعدم تنفيذ قرارات التحكيم الفاصلة في النزاعات الجماعية للشغل يترتب عنها نزاع فردي للشغل الذي يخول للطرف المتضرر الحق في عرض النزاع على جهة القضاء العادي لكي تقضي على الطرف الممتنع عن التنفيذ بالتعويض، سواء قدر هذا الأخير في مبلغ واحد بالنظر إلى درجة الضرر، أو تقدير التعويض بالنظر إلى عدد الأيام التي امتنع فيها الطرف الآخر عن التنفيذ.[14]
المحور الثاني: مدى فعالية التحكيم في فض نزاعات الشغل الجماعية وتحقيق السلم الاجتماعي.
من الواضح أنه لا اختلاف في جدوى الوسائل السلمية مهما تنوعت أصنافها فقد حققت النتائج المنتظرة منها في العديد من الدول المتقدمة مثل أمريكا،[15] وتعرف اهتماما متزايدا على صعيد مختلف الأنظمة القانونية والقضائية، وذلك لما توفره هذه الأخيرة من مرونة وسرعة في البث والحفاظ على السرية وما تضمنه من مشاركة الأطراف في إيجاد الحلول لمنازعاتهم.
أولا: فعالية التحكيم في فض نزاعات الشغل الجماعية.
تتجلى مدى فعالية التحكيم بصفة عامة في حل النزاع أو النقاط التي بقيت منه ولم تحل عن طريق المصالحة، كما يسعى إلى تحسين علاقات المتنازعين والارتقاء بها إلى مستوى عال من الانسجام والتعاون عكس القضاء الذي يكتفي بإقرار الذنب وفرض العقوبة. وفي هذا الصدد يقول روبيرت كولسن (عضو الأكاديمية الوطنية للتحكيم بأمريكا): ” إن النزاعات لا تنشأ من عدم بل تتمخض عن التناقضات المحيطة بعلاقات الشغل خصوصا أن لكل طرف مصلحة أكيدة في نجاح سير المؤسسة، فمن جهة نجد العمال ينشغلون بتأمين مناصب عملهم والحفاظ على حقوقهم ومكتسباتهم، ويناضلون باستمرار من أجل الحصول على زيادة في الأجور وتحسين ظروف عملهم، ومن جهة ثانية، نرى أن شغل أرباب العمل الشاغل هو الرفع من الإنتاج بتكلفة أقل مما تمكنهم من التصدي لمنافسيهم وضمان حصتهم في السوق وتضخيم أرباحهم، ومعنى هذا أن الطرفين مصلحتهما تستوجب أن يحرصا معا على تفادي أي تعطيل أو انخفاض في الإنتاج، وأن يسعيا إلى ضمان استمرار علاقة الشغل القائمة بينهما وتحسينها، ولعل هذا ما يفسر تفضيل المتنازعين في أحيان كثيرة نظام التحكيم على القضاء لحل مشاكلهم”.[16]
لذلك فإن مزايا هذا النظام هي كثيرة، فهو نظام يفصل في النزاع الجماعي، إذ ليست العدالة أن يصل صاحب الحق إلى حقه فحسب، وإنما العدالة في أن يستوفي حقه وبغير عنت، وفي زمن قليل،[17] ويتضح ذلك بشكل جلي من خلال المدد التي حددها المشرع لنظر النزاع الجماعي والفصل فيه بشكل نهائي، ولا يخفى لما لسرعة البث من أهمية في خلق الجو السليم داخل المقاولة والعلاقة الشغلية بصفة عامة، كما أن الفصل في النزاع بطريق التحكيم يجب أن يتم في إطار من الكتمان والسرية،[18] وإن كانت هذه الأخيرة في كثير من الأحيان ما تنقلب إلى علنية، وخاصة عند تنفيذ قرار التحكيم. فالنتيجة الطبيعية لكل دعوى، سواء أكانت قضائية أم تحكيمية، أن يكسب أحد طرفي الدعوى ولو جزئيا القضية في حين يخسرها الآخر ولو جزئيا.
لذلك فإن أحد الطرفين قد يرفض تنفيذ القرار وديا، مما قد يدفع الآخر للجوء إلى القضاء الوطني لتنفيذه جبرا، وعندئذ سيعرض القرار التحكيمي، وأسماء الأطراف، وممثليهم وكل ما يتعلق بالقضية، على القضاء لاتخاذ الحكم المناسب بشأن القرار التحكيمي من حيث تنفيذه أو عدم تنفيذه ولو جزئيا. ويترتب على ذلك، أن السرية التي حافظ عليها الأطراف وهيئة التحكيم إلى حين صدور القرار، انقلبت إلى علنية من حيث النتيجة عند عرض الأمر على القضاء.[19]
كما يمتاز التحكيم ببساطة إجراءاته وعدم تعقيدها في سير العملية التحكيمية والسرعة، حيث نجد أن هيئة التحكيم تتمتع بحرية أوسع وأكثر من القضاء الرسمي في كل ما يتعلق بإجراءات التقاضي، مثل التبليغات، وإدارة الجلسات وتنظيمها، وتقديم البيانات، والاتصال بأطراف النزاع وغير ذلك، وهي في كل هذه الأمور وغيرها تبتعد، ما أمكن، عن الإجراءات الشكلية التي تكون في كثير من الأحيان أمام القضاء طويلة ومملة، ولا فائدة منها سوى التقيد بحرفية النصوص القانونية الخاصة بالإجراءات، وذلك على حساب موضوع النزاع وجوهره. والنتيجة الطبيعية لذلك، على أن يصدر قرار التحكيم خلال وقت أقصر بشكل ملموس فيها لو عرض النزاع ذاته على القضاء، وعلى أن يلتزم المحكم بإصدار قراره خلال ميعاد معين، والذي غالبا ما يحدده الأطراف في اتفاق التحكيم.[20]
كما تعد طريقة اختيار هيئة التحكيم، ودور أطراف النزاع في ذلك من مميزات التحكيم. فالأطراف أو ممثلوهم تكون لهم الفرصة الأولى والكبرى في اختيار المحكمين سواء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، ومثل هذا الأمر يعطي الأطراف نوعا من الأمان والراحة النفسية، حيث يساهم الشخص في اختيار قاضيه الذي سينظر النزاع، وهذا بخلاف اللجوء إلى القضاء الوطني، حيث نجد أن المحكمة مكونة من قضاة رسميين في الدولة، لا دور للأطراف في تعيينهم أو تعيين أي منهم، وفي كثير من الأحيان يكون الأطراف أو بعضهم غرباء عن ذلك النظام القضائي الوطني.[21]
ويكتسب التحكيم أهميته من أهمية النزاع الجماعي ذاته، ودليل ذلك اهتمام الدول المختلفة بمنازعات الشغل عموما، والقضاء على أسباب نشوبها، ومن تلك الاهتمامات التي تعنى بها منظمة الشغل الدولية التي ناضلت لتحقيق العدالة الاجتماعية للعاملين في كل مكان، وإذا كان من الملاحظ أن الجهود تتضافر للقضاء على أسباب منازعات الشغل الجماعية، فما ذلك إلا تطبيقا للمقولة الشهيرة “الوقاية خير من العلاج”، ولكن هذا لا يعني ترك النزاع قائما بعد نشوبه، بل لابد من إيجاد وسائل كفيلة بتسويته تسوية سلمية عادلة.[22]
ويعد التحكيم الوسيلة التي تساعد من خلال قراراتها في إبرام اتفاقيات جماعية يعجز الأطراف عن التوصل إليها بمفردهم، وبذلك يساعد على خلق وتطوير علاقات شغل جماعية بناءة بين عنصري الإنتاج، كذلك يعمل نظام التحكيم على خلق نظام عادل لشروط الشغل، وذلك بغية خلق الجو المناسب للتعاون بين أطراف النزاعات الجماعية في إطار احترام الحقوق والمصالح المتبادلة لما فيه مصلحة الطرفين، ومن خلالهما مصلحة الاقتصاد الوطني.[23]
كما يرى البعض أن من السمات الأساسية للتحكيم هي انخفاض تكاليفه بالمقارنة مع عرض القضية على القضاء العادي، هذا الأجير الذي يحتاج إلى أموال طائلة وذلك لطول إجراءاته ودفع أتعاب المحاميين والرسوم الواجبة لرفع الدعوى، إلا أن جانب من الفقه[24] اعتبر هذا الأمر غير واقعي ويعد من قبيل الدفوع المغرية أو الوهمية.
وعليه يظهر على أن التحكيم آلية للفصل في الخصومة بسرعة وفي وقت قصير فتنتهي المنازعة دون أن تتعكر صفو العلاقات، بحيث يتم ذلك في إطار من الكتمان والسرية والمرونة، والخبرة الفنية، وعدم التقيد عادة بقواعد المرافعات وبقانون الشكل، الذي يكون أحيانا سببا في ضياع الحقوق، فهو بذلك يتناسب مع الظروف الخاصة لأطراف الخصومة، إذ يتم الاتفاق على عقد جلسات التحكيم في أوقات وأمكنة تتناسب والتزاماتهم، فضلا عن أنه يعد أكثر فعالية لأنه يخول الأطراف اختيار الحكم الأكثر كفاءة.[25]
وإذا كان التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية يعد آلية فعالة من شأنها إيجاد حلول فعالة وسلمية للنزاعات الجماعية التي تنشأ بين أطراف العلاقة الشغلية، ولعب هذا الدور متوقف على ضرورة تفعيل هذه الوسيلة، واللجوء إليها عند عدم توصل الطرفين إلى حل ودي، والاحتكام إلى المحكم وتنفيذ قراره، وهذا يتطلب وجود محكم قادر على إعطاء وإيجاد حلول تأخذ المصالح المتعارضة بعين الاعتبار، ولعب هذا الدور يحتاج بدوره إلى خبرة ودراية كافية بالمجالات المتداخلة في النزاعات الجماعية، والتي يتحتم أخذها بعين الاعتبار، وإلا كان القرار الذي يتوصل إليه المحكم غير ذي أهمية، وهذا يتطلب خلق مراكز لتكوين المحكمين وكذا إخضاعهم للتكوين المستمر لمواكبة جميع التحولات والتغيرات التي يعرفها ميدان الشغل.[26]
ثانيا: حدود دور التحكيم في تحقيق السلم الاجتماعي.
تتعدد الأمور التي تهدد السلم الإجتماعي في مجال الشغل على وجه الخصوص، من ذلك اللجوء إلى الإضراب للتوقف الجماعي الجزئي أو الكلي عن العمل بالشكل الذي يضر بالإنتاج، أو اللجوء إلى إغلاق مؤسسات التشغيل من طرف المشغلين كرد فعل مضاد، لذلك نجد أن المشرع المغربي شأنه شأن باقي التشريعات المقارنة قام بتنظيم التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية ضمن مدونة الشغل وغيره من القوانين الأخرى، وغايته في نهاية المطاف هو تحقيق غاية واحدة ألا وهي ضمان السلم الاجتماعي من أجل توفير الظروف الملائمة للشغل والإنتاج.[27]
ولعل مقومات السلم الاجتماعي التي لا يتحقق بها هو وجود السلطة والنظام، ثم تحقيق العدل والمساواة، وضمان الحقوق والمصالح المشروعة لفئات المجتمع، وكل المجتمعات البشرية لا تستغني عن وجود سلطة حاكمة ونظام سائد يتحمل إدارة شؤون المجتمع لتعيش القوى المختلفة تحت سقف هيبته، وإلا سيكون البديل هو الصراعات والفوضى بين فئات المجتمع المختلفة.[28] ذلك أن علاقة الشغل الجماعية كغيرها من العلاقات القانونية تنتج عنها العديد من النزاعات بسبب الخلاف بين أطراف تلك العلاقة، هذه النزاعات تؤدي إلى اللجوء لإحدى الوسيلتين لفضها، إما الإغلاق أو الإضراب كوسيلتين عنيفتين، أو استخدام وسائل سلمية أهمها المصالحة والتحكيم، لكن كون الإضراب وسيلة نزاعية يلجأ إليها الأجراء كنوع من العدالة الخاصة للدفاع عن حقوقهم، يؤثر على استقرار السلم الاجتماعي بشكل متفاوت، حيث إن مخاطر الإضراب الذي يقوم خلاله العمال بارتداء الشارات فقط ليست بنفس خطورة تلك الناجمة عن احتلال الأجراء لأماكن العمل، وهو ما يتطلب القيام بجهود كبيرة للحفاظ على السلم الاجتماعي في مجال الشغل.[29]
كما يلاحظ أن نزاعات الشغل الجماعية تتصل اتصالا وثيقا بالنظام العام، خاصة من زاوية خطورتها الواضحة على السلم الاجتماعي، ولوجود أطراف ضعيفة فيه،[30] بل إن البعض يذهب إلى القول بأن تأثير نزاعات الشغل الجماعية على السلم الاجتماعي يتجاوز الميدان الاجتماعي، وإنما تتجلى كذلك في الميدان الاقتصادي، وذلك نظرا لما تخلفه النزاعات من أضرار مالية بالنسبة للمقاولات، الشيء الذي قد يجعل ديون هذه المقاولات تتكاثر وتتزايد نتيجة توقفها عن الدفع، أضف إلى ذلك إلى آثار الإضراب عن تمديد استقرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية خاصة إذا حصل في مدن ذات أهمية استراتيجية، وقد يمتد هذا الإضراب إلى مقاولات موجودة في مدن أخرى، فمن هذه الناحية وبهذه الصورة تهدد نزاعات الشغل الجماعية الاستقرار الاقتصادي والأمن الاجتماعي والأمن السياسي، ناهيك عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية للأجراء.[31]
وباعتبار أن التحكيم قد عرف تطورا نوعيا هاما نشأ في البداية من الواقع المهني، وكان أقرب إلى الوسائل الودية الأخرى في تسوية المنازعات مثل الوساطة والتوفيق والصلح، فإنه سرعان ما تحول إلى تحكيم بالقانون شأنه في ذلك شأن القضاء، وبات من الراسخ في أنظمة التحكيم المقارنة أنه لا يمكن اللجوء إلى التحكيم بالصلح أو بالتراضي إلا بالموافقة الصريحة للأطراف المحتكمة.[32]
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن أصل الخلاف الشغلي في أغلب الأحوال لا يتعلق بتطبيق نص جاري به العمل وإنما بضرورة تعديله، مثال ذلك مطالب العمال المتعلقة بالزيادة في الأجور أو بتحسين المزايا الاجتماعية، في مثل هذه الحالة لا يتعلق النزاع بتطبيق القانون أو الاتفاقية الجماعية أو تأويلها، وخصوصا على مستوى المعيشة ووضعية المؤسسة، إلا أن هذه الخلافات من الصعب إيجاد الحلول لها من طرف الغير، فهي قابلة للتفاوض أكثر مما هي قابلة لعرضها على القضاء.[33]
ولا شك أن الحوار يعد من أهم عوامل تحقيق السلم الاجتماعي والتعايش السلمي، حيث يشيع روح الطمأنينة بين مختلف الأطياف، ويعزز روح التفاهم و التسامح، ويقلص مسافات التباعد بين التيارات الفكرية من خلال تقريب وجهات النظر، وفي أقل الأحوال يؤدي إلى تفهم مختلف الاتجاهات،[34] كل هذا يسهم في تحقيق جانب من السلم والتسالم في علاقات الشغل خاصة الجماعية منها.
كما أننا بالرجوع إلى مواد المدونة البالغ عددها 586 مادة، نلاحظ أنها اتسمت بنهج أسلوب المرونة كعنوان بارز، لتقريب وجهات النظر بين الطرفين المتفاوضين، المركزيات النقابية من جهة وأرباب المقاولات من ناحية أخرى، ما أنتج لنا تشريعا متوافق عليه، وبطبيعة الحال، يلاحظ أن من المبادئ الأساسية الواردة في أبواب المدونة، نجد تكريس ثقافة الحوار الاجتماعي وسيلة حضارية لفض النزاعات وتقليص الهوة بين متطلبات الاستثمار واستباب السلم الاجتماعي، وقد جاءت مدونة الشغل حافلة بمقتضيات جد متقدمة وعصرية من خلال إقرار العديد من الآليات المجسدة للحوار الاجتماعي[35] نذكر على رأسها المصالحة والتحكيم.
وفي ظل تعقد النزاعات المتعلقة بالشغل وضرورة حلها بسرعة فائقة كان من اللازم على التشريع والقضاء في العديد من الدول السماح بإمكانية تسوية هذه النزاعات عن طريق التحكيم، ذلك أن عدالة التحكيم تقدم اليوم ثلاث إيجابيات أساسية،وهي السرعة والكلفة القليلة والفعالية بالمقارنة مع العدالة المؤسساتية،[36] وهو ما يجعل التحكيم كإحدى الوسائل البديلة لفض المنازعات التي تأبى المنازعات المذكورة إخضاعها للقضاء، ليبقى هو الأولى بمعالجتها وفق حلول عملية تراعي واقع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية للفرقاء الاجتماعيين، وذلك تحقيقا للعدالة والسلم الاجتماعيين.
[1] قرار صادر عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) عدد 1766 بتاريخ 7/7/1992، في الملف المدني، عدد 1277/88 الذي قضى بأن “الفصل 318 من قانون المسطرة المدنية – الفصل 23-327 من قانون المسطرة المدنية رقم 05-08 حدد البيانات التي يجب أن يتضمنها حكم المحكمين وهي غير بيانات الفصل 50 من نفس القانون المتعلق بالأحكام الصادرة عن القضاء الرسمي والبث يجب أن يعنون بإسم جلالة الملك” .
- قرار صادر عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) عدد 16 بتاريخ 5/1/200، في الملف التجاري عدد 3538/94 الذي قضى ” برفض طلب النقض بعلة أن المقرر التحكيمي تضمن جميع بيانات حكم المحكمين”.
- أوردهما عبد الرحمان مصباحي: التحكيم من خلال العمل القضائي للمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا)، ندوة العمل القضائي والتحكيم التجاري، سلسلة دفاتر المجلس الأعلى، مطبعة الأمنية الرباط، العدد 7، طبعة 2005.
[2] عبد الكريم الطالب، حجية أحكام المحكمين في قانون المسطرة المدنية، ندوة الطرق البديلة لتسوية المنازعات التي نظمتها كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس ، بشراكة مع وزارة العدل وهيئة المحامين بفاس ، يومي 4 و5 أبريل 2003 ، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية سلسلة الندوات والأيام الدراسية ، عدد 2 ، الطبعة الأولى 2004 ، ص 92.
[3] عبد اللطيف خالفي، الوسيط في علاقات الشغل الجماعية، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش ، الطبعة الأولى 1999 ، ص 273.
- حنان التجاني، تسوية منازعات الشغل الجماعية في مدونة الشغل والقانون المقارن، رسالة لنيل ديلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية ، جامعة الحسن الثاني ، الدار البيضاء ، السنة الجامعية 2006-2007 ، ص 107 .
[4] الفصل 386 من مجلة الشغل التونسية.
[5] المادة 28 من قانون 26 يوليوز 1957 المعدل للقانون 11 فبراير لسنة 1950.
[6] الفقرة الأخيرة من المادة 187 من قانون العمل المصري.
[7] تنص المادة 130 من قانون العمل الأردني تحت رقم 8 لسنة 1996 على ما يلي: “تكون التسوية التي تم التوصل إليها نتيجة إجراءات التوفيق بمقتضى أحكام هذا القانون أو قرار المحكمة الإجرائية ملزمة للفئات التالية:
أـ لأطراف النزاع الإجرائي،
ب ـ لخلف صاحب العمل بمن في ذلك ورثته الذين انتقلت إليهم المؤسسة التي يتعلق بها النزاع الإجرائي؛
ج ـ لجميع الأشخاص الذين كانوا يعملون في المؤسسة التي يتعلق بها النزاع في تاريخ حدوثه أو في قسم منها حسب مقتضى الحال ولجميع الأشخاص الذين يستخدمون فيها بعد تلك المؤسسة، أو في أي قسم منها إذا ورد في تقرير التسوية أو قرار المحكمة الإجرائية بما يقضي بذلك ولم يكن في هذا القانون أو الأنظمة الصادرة بمقتضاه ما يحول دون ذلك” .
[8] تنص المادة 135 من قانون العمل اليمني على ما يلي: “مع مراعاة قانون التحكيم تكون قرارات اللجان التحكيمية نهائية وغير قابلة للطعن في الدعاوى التالية:
- الدعاوى التي لا تتجاوز قيمتها 60.000 ريال؛
- الدعاوى المتعلقة بوقف قرارات الفصل عن العمل؛
- الدعاوى المتعلقة بتغريم العاملين “.
[9] محمد فاضل الليلي، تذييل أحكام التحكيم بالصيغة التنفيذية، المجلة المغربية للوساطة والتحكيم، العدد 5، السنة 2011، ص 54.
[10] ينص الفصل 18 من ظهير 19 يناير 1946 على أن “الاتفاق الذي يقع إثباته في تقرير المصالحة وأحكام المحكمين تكون إلزامية ويجري العمل لكل ذلك ابتداء من تاريخ إيداع الطلب لقصد المصالحة ولا يمكن أن يقرر في شرط من الشروط أن يجري العمل بها أبعد من التاريخ المذكور”.
[11] ينص الفصل 21 من ظهير 19 يناير 1946 على ضرورة إحالة محضر المشاهدة على المحكمة العليا للتحكيم التي يستوجب عليها الحكم بغرامة تهديدية خلال عشرة أيام ابتداء من تاريخ توصلها بمحضر المشاهدة.
[12] عبد الله معوني، نزاعات الشغل الجماعية وطرق تسويتها، بحث نهاية التمرين بالمعهد الوطني للدراسات القضائية، السنة 1999-2001، ص 68.
[13] عبد اللطيف خالفي، الوسيط في شرح مدونة الشغل – علاقات الشغل الجماعية – الجزء الثاني ، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش ، الطبعة الأولى 2006 ، ص 272.
[14] عبد اللطيف خالفي، الوسائل السلمية لحل منازعات العمل الجماعية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، كلية الحقوق عين الشمس ، مصر ، السنة الجامعية 1987-1988 ، ص 503 .
[15] للتوسع انظر محمد سلام: الطرق البديلة لحل النزاعات التجربة الأمريكية كنموذج، مداخلة ضمن ندوة: الطرق البديلة لتسوية المنازعات المنظمة من طرف شعبة القانون الخاص بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – جامعة محمد عبد الله، بفاس يومي 4 و5 أبريل 2003/ ص 65 وما بعدها.
[16] سعيد الشيلح، مزايا التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية – التجربة الأمريكية نموذجا- ، المجلة المغربية للقانون الاجتماعي، عدد 2، 2001، ص 72 وما بعدها.
[17] الحسين بويقين، مدى إمكانية تطبيق نظام الوساطة بالمغرب، مجلة المرافعة، عدد 14-15، 2004، ص 13.
[18] مهند أحمد الصانوري، دور المحكم في خصومة التحكيم الدولي الخاص، مطبعة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، طبعة 2005، ص 43.
[19] عمر العطين، التحكيم في القضايا العمالية، مجلة المنارة، المجلد 15، العدد 2، 2009، ص 188.
[20] زكرياء البورياحي، التحكيم في إطار قانون المسطرة المدنية ، مجلة رسالة الدفاع العدد الرابع ، 2003 ، ص 80.
[21] عمر العطين، مرجع سابق، ص 188.
[22] عبد القادر الطوره، قواعد التحكيم في منازعات العمل الجماعية ، المطبعة الفنية الحديثة ، بدون ذكر مكان الطبع ، طبعة 1988 ، ص 23.
[23] عبد اللطيف خالفي، الوسيط في مدونة الشغل- علاقات الشغل الجماعية- ، مرجع سابق، ص 240.
[24] عز الدين بنستي، دراسات في القانون التجاري المغربي، الجزء الأول، النظرية العامة للتجارة والتجار، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، 2001، ص 84.
[25] أمين اليعقوبي، التصالح والتحكيم في نزاعات الشغل الجماعية – دراسة قانونية وواقعية، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، المحمدية، السنة الجامعية 2016-2017، ص 49.
[26] سعيد وشيوش، التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص ، وحدة التكوين و البحث في القانون الإجتماعي والتنمية الإقتصادية والإجتماعية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض، مراكش، السنة 2009-2008.، ص 16.
[27] عبد الباسط عبد المحسن، النظام القانوني للمفاوضة الجماعية، دار النهضة العربية، القاهرة، مصر، طبعة 2000، ص 3.
[28] خالد بن محمد البديوي، الحوار وبناء السلم الاجتماعي، مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، سلسلة رسائل في الحوار، الطبعة الأولى، الرياض، 2011، ص 12.
[29] المصطفى مودني، التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، وحدة علاقات الشغل ونظم الحماية الاجتماعية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة الحسن الأول، سطات، السنة الجامعية 2018-2019، ص 64 و 65.
[30] عبد القادر الطوره، مرجع سابق، ص 155.
[31] الحاج الكوري، مدونة الشغل الجديدة ، القانون رقم 99-65 ، أحكام عقد الشغل، الجزء الأول ، مطبعة الأمنية ، الرباط ، 2004 ، ص 304.
- [32] زهير كريمات، التحكيم في نزاعات الشغل الجماعية- دراسة مقارنة – رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة أنظمة التحكيم، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس – السويسي – ، سلا، السنة الجامعية 2006-2007، ص 58 .
[33] علي الصقلي، نزاعات الشغل الجماعية وطرق تسويتها السلمية في القانون المغربي والمقارن ، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص ، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ، جامعة محمد بن عبد الله ، فاس ، السنة الجامعية 1988-1989 ، ص 170 .
[34] خالد بن محمد البديوي، مرجع سابق، ص 13.
[35] مولاي علي الوديع الغفيري، دراسة في القانون: مدونة الشغل بعد عشر سنوات من الصدور، مقالة منشورة بالموقع الالكتروني لجريدة الصباح بتاريخ 23 ماي 2014 ، تاريخ الاطلاع 12 فبراير 2020 على الساعة 11 و 5 دقائق. .
[36] عبد الرجمن الشرقاوي، التنظيم القضائي بين العدالة المؤسساتية والعدالة المكملة أو البديلة، مطبعة ياديب، الرباط، الطبعة الثانية 2015، ص 258 .