يمثل إصلاح منظومة العدالة دعامة أساسية لتوطيد الشفافية و المصداقية في المؤسسات، وبناء الديمقراطية الحقة، لدلك فقد خصه جلالة الملك حفظه الله بمساحة مهمة في العديد من خطبه،أهمها الخطاب الذي وجهه بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك و الشعب ، والدي اعتبر القضاء فيه الحصن المنيع للدولة الحقة ، وعماد الأمن القضائي و الحكامة الجيدة و المحفز للتنمية[1].
وفي ظل الانتقادات الموجهة للقضاء انه أصبح يشكل أكثر مؤسسات الدولة جمودا و صلابة، مما يجعله غير قادر على مسايرة الواقع و متطلبات العصر و مستجداته وقد امتدت هده الانتقادات لتشمل أيضا النظم القانونية العريقة و ما حققته من سلبيات أبرزها ظاهرة تثاقل و تراكم الملفات إضافة إلى تعقيدات المساطر و الإجراءات وغيرها من الإشكالات التي تمس مصالح المتقاضين وتنعكس سلبا على طبيعة علاقات الأفراد و معاملاتهم[2].
ومادام أن قانون كل امة هو مقياس حضارتها و تقدمها[3]،لهده الأسباب و غيرها، يلاحظ في العقود الأخيرة أن هناك تزايد عدد المطالبين بضرورة إصلاح النظام القضائي الحالي قصد إيجاد حلول مناسبة تواجه التطور الاقتصادي و الاجتماعي و كدا اكراهات العولمة،و لعل هدا ما دفع مجموعة من الدول إلى اللجوء للوسائل البديلة كمدخل أساسي للنهوض بالمنظومة القضائية بصفة عامة والسياسة الجنائية بشكل خاص .ويمكن تعريف الوسائل البديلة لفض المنازعات الجنائية على ضوء التعريف الذي أعطاه ’كاربوني’ للوساطة على أنها وسيلة غير رسمية لحل المنازعات بواسطة طرف ثالث بعيدا عن أشكال التقاضي العادية[4].و يمكن تعريفها عموما بأنها مجموع الآليات التي يلجأ إليها الخصوم كبديل عن القضاء العادي بهدف إيجاد حل لخلافاتهم بشكل ودي.
ولا ينكر احد إن القرون القديمة عرفت ممارسات لفض النزاعات وكانت سببا في توطيد الانسجام الاجتماعي[5] مثل ما هو الحال بفرنسا في القرون الوسطى و التي عرفت رجال التهدئة ،كما أن الحضارات السالفة بدورها عرفت ما يسمى بدوائر القرار بأمريكا الشمالية و كدا ملتقيات المجموعة الأسرية بنيوزيلندا و قبل دلك العدالة التقليدية و المجادلة بإفريقيا. كما إن الوسائل البديلة كانت حاضرة أيضا في ثقافة مجتمعنا المغربي و التي كانت تتجسد من خلال مؤسسة الزاويا و شيخ القبيلة )أمغار( و غيرها من المؤسسات[6].
إن أهمیة موضوع الوسائل البديلة في النزاعات الجنائیة تتجلى أساسا في إنهاء الخصومة من خلال اعتماد و سائل الصلح و نظام الوساطة الجنائیة بشكل عام ، إذ یعد ملاذا آمنا تبنته الكثیر من الأنظمة القانونیة ، یقضي على الجریمة بطریقة ودیة دون عناءات إجرائیة. ولعل هدا ما يطرحنا أمام الإشكالية التالية:
إلى أي حد استطاع المشرع المغربي تكريس عدالة تصالحية في المنظومة القانونية ببلادنا و تجنب الفكر العقابي؟
وللإجابة على هده الإشكالية لابد من إحاطتها بمجموعة من الأسئلة الفرعية كالأتي:
- ما هي مسببات و دوافع لجوء المشرع المغربي للبحث عن عدالة بديلة ؟
- وما هي مظاهر و تجليات الوسائل البديلة في النزاعات الجنائية؟
سنحاول الإجابة عن هده الإشكالات باعتماد مجموعة من المناهج المتمثلة في المنهج الوصفي التحليلي و المقارن و كدا المنهج التاريخي ، وفق تصميم ثنائي كالتالي:
الفقرة الاولى: دواعي اللجوء للوسائل البديلة لفض المنازعات الجنائية
الفقرة الثانية: الصلح الجنائي
الفقرة الأولى:دواعي اللجوء إلى الوسائل البديلة لفض المنازعات الجنائية
مما لا شك فيه أن العدالة العقابية الأكثـر اسـتعمالا فـي الوقـت الحاضر، إلا أن الواقع العملي وفي ضوء الإحصـائيات أثبتـت تزايـد معـدلات الجريمة في المجتمع، والتي حتمـت علـى البـاحثين والعلمـاء إجـراء المزيـد مـن الأبحاث والدراسات حول مـدى فاعليـتها فـي الحـد مـنها، هذه الدراسات أظهرت أن تنفيذ العقوبـة وتوقيع الجزاء ينطـوي علـى العديـد مـن السلبيات، مما جعل العديد مـنهم يشـكك فـي الوظيفـة الإصـلاحية والوقائيـة لهـذا النمط من العدالة[7] وبالتالي البحث عن عدالة بديلة .ولعل ابرز الدوافع وراء إدخال وسائل البديلة في المتابعات الجنائية هي التقليص من السلبيات الناجمة عن العقوبة السالبة للحرية القصيرة المدة لما لها من انعكاسات فردية و مجتمعية .ولعل ابرزالنتائج السلبية للمحكوم عليه بهده العقوبة نجد تلك المترتبة عن الوصم الاجتماعي[8]،الذي يسوق المحكوم عليه إلى تشكيل سلوكه وفق منظور الآخرين إليه، وهدا طبعا يؤدي إلى تفاقم و تعميق الهوة الاجتماعية بين الفرد و محيطه، فغلق أمامه كل الأبواب وترصد في وجهه كل الفرص المشروعة ، قد تزعمه على سلوك طريق الانحراف أو الاستمرار فيه ودلك نتيجة للطبيعة الموصومة لرد الفعل الاجتماعي أو بالأحرى للعقوبة الاجتماعية[9].ناهيك عن الأزمات النفسية و البدنية المترتبة عنه.
كما أن هذه العقوبة تتیح فرصة اختلاط المحكوم علیه بغیره من المجرمین فتعرفه إلى المجرمین الخطرین و معتادي الإجرام ، و اختلاطه الیومي بهم یصبح مجالا خصبا لتبادل الخبرات الإجرامية و اكتساب ثقافة الجریمة، و اقتسام الإحساس المشترك بكراهیة المجتمع و تغذیة مشاعر الانتقام منه، و هكذا بدل أن تصبح المؤسسة العقابیة مكان للتهذیب والإصلاح و التقویم، فإنها تتحول إلى مكان لتخریج مجرمین جدد بمؤهلات إجرامیة أعلى و خبرات أكثر تدفعهم إلى ارتكاب جرائم أشد خطورة بمجرد مغادرتهم للمؤسسة العقابیة[10].
كما أن مثالب العقوبة السالبة للحریة قصیرة المدة لا تنصرف إلى الحیاة الاجتماعیة و النفسیة للمحكوم علیه فقط، و إنما تمس الجانب الاقتصادي و المالي أيضا . دلك أن إنشاء السجون بأنواعها و إدارتها و حراسها یكلف الدولة أموالا طائلة، كما أفادت الإحصائیات في الولایات المتحدة الأمریكیة أنه ینفق في العام الواحد على السجین الواحد ما یناهز 20 ألف دولار بینما ینفق على الطالب الجامعي 10ألاف دولار في العام الواحد ، و كذلك أثبتت الإحصائیات في فرنسا أنه یصرف على كل سجین یومیا 120 أوروا، و هو مبلغ یضاعف 3 مرات تكلفة الطالب الجامعي[11].
ومن تمة فان اعتماد آليات بديلة لتحقيق العدالة ، أكد فاعليته في تحصين الأشخاص من الآثار المترتبة عن ولوج السجن في الكثير من الأنظمة العقابية ،فما هي ادا تجليات الوسائل البديلة في القانون الجنائي المغربي ؟
الفقرة الثانية: الصلح الجنائي
لقد عمد المشرع المغربي اسوة بالعديد من التشريعات المقارنة وفي مقدمتها النموذج الفرنسي على الأخذ بآلية الصلح الجنائي كبديل عن الدعوى العمومية ، وذلك من خلال ما تضمنته مقتضيات المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية الذي أبانت عن مفهوم جديد للعدالة يكتسي طابع التصالح[12]،وهو استثناء من القاعدة [13]. عموما يمكن القول إن المادة 41 ق.م.ج. المغربي خرجت من رحم المادة 41 من ق.م.ج الفرنسي من حيث الطابع الاختياري لمسطرة الصلح، أو سلطة النيابة العامة بشأنها، أو مصادقة المحكمة في النهاية على مقرر الصلح، و يستثنى من دلك فقط ما نص عليه المشرع الفرنسي من منح طرف أجنبي مباشرة مسطرة الصلح وهو مالم تأخذ به المادة 41 من ق.م.
وبالرجوع إلى مقتضيات المادة 41 من ق.م.ج نجدها تنص على أنه يمكن للمتضرر أو المشتكى به و قبل إقامة الدعوى العمومية، و كلما تعلق الأمر بجريمة يعاقب عليها بسنتين حبسا أو أقل أو بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى 5000 درهم، أن يطلب من وكيل جلالة الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما في محضر. وبدلك يتم الصلح باقتراح من الأطراف أو باقتراح من وكيل الملك..
ادا تقدم الأطراف بطلب إجراء الصلح،وفي حالة تراضي الطرفين وموافقة وكيل الملك،يحرر هدا الأخير محضرا بحضورهما و حضور دفاعهما، مالم يتنازلا أو يتنازل احدهما عن دلك، ويتضمن هدا المحضر ما اتفق عليه الطرفان، كما يتضمن إشعار و كيل الملك للطرفين أو لدفاعهما بتاريخ جلسة غرفة المشورة و يوقعه الطرفان و كيل الملك ، تم يحيله هدا الأخير على رئيس المحكمة الابتدائية ليقوم هو أو من ينوب عنه بالتصديق عليه بحضور ممثل النيابة العامة و الطرفين أو دفاعهما بغرفة المشورة، بمقتضى أمر قضائي لا يقبل أي طعن، و يتضمن هدا الأمر القضائي ما اتفق عليه الطرفان، كما يتضمن عند الاقتضاء أداء غرامة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة قانونا، وتحديد اجل لتنفيذ الصلح[14].وادا لم يحضر المتضرر أمام وكيل الملك، وتبين من والوثائق وجود تنازل مكتوب صادر عنه، أو في حالة عدم وجود مشتك يمكن لوكيل الملك أن يقترح على المشتكي أو المشتبه فيه صلحا يتمثل أداء نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة أو إصلاح الضرر الناتج عن أفعاله،وفي حلة موافقته يحرر وكيل الملك محضرا يتضمن ما تم الاتفاق عليه و إشعار المعني بالأمر أو دفاعه بتاريخ جلسة غرفة المشورة و يوقع وكيل الملك و المعني بالأمر على المحضر. يحيل وكيل الملك المحضر على رئيس الحكمة الابتدائية أو من ينوب عنه للتصديق عليه بحضور ممثل النيابة العامة و المعني بالأمر أو دفاعه بمقتضى أمر قضائي لا يقبل أي طعن.توقف مسطرة الطعن و الأمر الذي يتحده رئيس المحكمة أو من ينوب عنه في الحالتين المشار إليهما في هده المادة ،ويمكن لوكيل الملك إقامة الدعوى العمومية في حالة عدم المصادقة على محضر الصلح أو في حالة عدم تنفيذ الالتزامات التي صادق عليها رئيس المحكمة أو من ينوب عنه داخل الأجل المحدد أو ادا ظهرت عناصر جديدة تمس الدعوى العمومية مالم تتقادم[15].
الخاتمة:
وخلاصة القول، فان الأزمة التي يعرفها جهاز القضاء و المترتبة عن طول الإجراءات الجنائية و كثرة القضايا المعروضة عليه، إضافة إلى السلبيات التي تعرفها العقوبات السالبة للحرية القصيرة المدة و أبرزها عجزها عن إعادة إدماج الجاني وارتفاع كلفتها، كان من الواجب إعادة النظر في السياسات الجنائية للدول و تبني حلولا بديلة عن الدعوى العمومية تمكن من تخفيف العبء عن القضاء، وإعادة إدماج الجاني داخل النسيج الاجتماعي، والاهتمام بالضحية عبر جبر الضرر الذي لحقته من جراء الجريمة ، ومن بين هذه الحلول يوجد نظام الوساطة الجنائية الذي أثبت نجاعته في العديد من التشريعات التي تبنته خصوصا الأنجلوساكسونية و اللاتينية، في حين ظل نظام الوساطة الجنائية بالنسبة للتجربة العربية لازال في بداياته و يقتضي تأهيل و تكوين وسطاء متخصصين في حل النزاعات الجنائية لا ينتمون إلى الجهاز القضائي، كما أن هناك العديد من التشريعات العربية التي لم تأخذ بالوساطة الجنائية ضمن منظومة البدائل التي قننتها، و أبرزها التشريع المغربي الذي اكتفى بتقنين مؤسسة الصلح الجنائي ضمن القانون المنظم للمسطرة الجنائية مما يقتضي ضرورة تبنيه للوساطة الجنائية للاستفادة من المزايا التي تختص بها.
وفي ظل دراسة موضوعنا هدا لابد من الخروج بمجموعة من الاقتراحات أهمها:
- التعجيل بتنزيل الإصلاح الشامل والعميق للعدالة على ارض الواقع.
- توسيع الوظيفة التصالحية في القانون المغربي و تقليص إجراءات الصلح الجنائي و جعله من النظام العام.
- تدريس برامج العدالة البديلة و كيفية ممارستها قصد إعداد متخصصين في هدا الميدان توكل لهم مهمة التدخل و الوساطة مثلما هو معمول به في الدول التي خاضت هده التجربة.
- ايلاء مؤسسة الدفاع الدور الذي تستحقه في تفعيل الصلح الجنائي.
- تحسيس مختلف الفرقاء الاجتماعيين بأهمية العدالة التصالحية، و تقريبها للمواطن و اطلاعه على حيثياتها و جزئياتها .
[1] . ديباجة توصيات الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، ص:37 . منشور بموقع http://www.justice.gov.ma/lg-1/documents/doccat-0.aspx تم الاطلاع عليه بتاريخ 9\2\2\2019 على الساعة 14:20
[2] .الحاجي حميد، الوسائل البديلة لتسوية المنازعات مدخلا أساسي لإصلاح القضاء، مجلة الفقه و القانون، العدد21، 2014، 71
[3] .محمد سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي،نهضة مصر، الطبع الأولى، 2006، ص: 23
[4] F.LUDWICZAK, les procédures alternatives aux poursuites : une autre justice pénale, L’harmattan, 2015, p : 53
[5] .M.CARIO, la justice restaurative /principes et promesse, 2éme édition, l’HARMATTAN .p :19
[6] .نورالدين الكامل، الوساطة الأسرية دراسة فقهية ، رسالة لنيل شهادة الماستر ، جامعة سيدي محمد بن عبد الله،كلية العلوم القانونية و الاقتصادية
فاس، 2016\2017 ، ص:6
[7] .بوهنتالة ياسين، القيمة العقابية للعقوبة السالبة للحرية دراسة في التشريع الجزائري، رسالة لنيل شهادة الماستر، جامعة الحاج لخصر، كلية الحقوق و العلوم السياسية، السنة الجامعية 2012\2011، ص:1
[8] .مريم برصات،بدائل العقوبات السالبة للحرية ،رسالة لنيل شهادة الماستر،جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية العلوم القانونية بفاس،السنة الجامعية 2015\2016
[9] .جعفر العلوي، دروس في علم الإجرام، مكتبة المعارف الجامعية، فاس،ص: 42\41
[10] . الحسين زين، إشكالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص، جامعة عبد المالك السعدي، كلية الحقوق طنجة، السنة الجامعية 2005\2006 ،ص:21
.[11] . علاق نسيم وعلواش وليد، أزمة العقوبة السالبة للحرية قصيرة ، رسالة لنيل شهادة الماستر في الحقوق ،تخصص القانون الخاص والعلوم الجنائية، جامعة عبد الرحمان ميرة- بجاية- ،كلية الحقوق والعلوم السياسية ،السنة الجامعية: 2013 – 2014 ،ص:31
[12] .عزيز الوكيلي، الصلح الجنائي بين التشريع المقارن ورهان الفعالية في ظل مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية المغربي. مقال منشور بموقع : https://www.droitetentreprise.com
[13] .احمد الخمليشي، شرح قانون المسطرة الجنائية،الجزء الأول ،الطبعةالاولى،كتبة المعارف، الرباط ، 1980، ص:96
[14] .محمد المتيوي المشكوري،العدالة التقويمية في السياسة الجنائية المعاصرة دراسة مقارنة، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص،جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية العلوم القانونية فاس،2018\2017، ص:290
[15] .رشيد صدوق، إستراتيجية تنمية العدالة بالمغرب، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2013, ص:260