تلخيص كتاب ميشيل فوكو تحت عنوان: المراقبة والمعاقبة ولادة السجن – انجاز ياسين شرف
مقدمة
المراقبة والمعاقبة هو كتاب للفيلسوف والباحث الإجتماعي الفرنسي ميشيل فوكو نشر في فرنسا عام 1975 باسم Surveiller et punir: Naissance de la prison ، ثم ترجم إلى الإنجليزية في عام 1977 باسم Discipline and Punish وهو فحص للآليات الاجتماعية والنظرية التي كانت وراء الاختلاف الرهيب بين نظم العقاب في العصر الحديث. ويبدأ الكتاب برسم تصويري لمخططات سجون صممت ومشاريع لسجون أخرى فردية وجماعية . ويتساءل فوكو عن الطريقة التي تغير من خلالها المجتمع الفرنسي فيما يخص معاقبة المدانين في مدة قصيرة إلى هذا الحد.
يقارن فوكو في بحثه ما بين المجتمع الحديث وبين المشتمل (بانوبتيكون)، وهو تصميم أعده جيرمي بينتامز لمبنى سجن (وهذا التصميم لم ينفذ بشكله الأصلي في الواقع، لكنه كان ذي تأثير واضح)، في المشتمل يستطيع حارس واحد أن يراقب عدداً كبيراً من السجناء دون أن يتمكنوا من مشاهدته. السراديب المعتمة لسجون ما قبل الحداثة استبدلت بسجون في أبنية حديثة، لكن فوكو يحرص على أن يوضح أن “الرؤية أو العين تخدع”. ويشير إلى أن المجتمع الحديث يستخدم هذه الرؤية لتطبيق نظام التحكم والسيطرة الخاص بالسلطة والمعرفة، وهما مصطلحان يرى فوكو أنهما متصلان ببعضهما بشكل جذري، حتى أنه يستخدمهما غالباً مقترنتين أو مدمجتين على نحو “معرفة ـ سلطة “بالإنجليزية: power-knowledge المزيد من الرؤية يقود إلى سلطة تتربع على مستوى متزايد من الفردية، يظهر من خلال قدرة المؤسسة على تعقب ومراقبة الأفراد طوال حياتهم. يشير فوكو إلى رهاب مستمر وشعور دائم بالرقابة يسري في المجتمع الحديث، بدءاً من السجون شديدة التحصين، المنازل المحمية، الموظفون، الشرطة، المعلمون، وصولاً إلى كل نشاطاتنا اليومية وظروف معيشتنا وسكنانا، كلها مرتبطة بالمراقبة (المتنبهة أو الغافلة) التي يقوم بها بعض الناس تجاه البعض الآخر، للتحقق من التزامهم بأنماط السلوك المقبولة.
فنجد الفيلسوف فوكو يأكد على أهمية الفلسفة في فهم مختلف الظواهر الإجرامية وتفكيكها وفهمها خصوصا إذا ما تعلق الأمر بالمعرفة والسلطة ووجه التفكيك بينهما والذي يبقى صعب المنال حسب فوكو. ليصف بذلك الفيلسوف الجسد من منتج إلى جسد تقع عليه جميع أشكال التعذيب والحرمان من الحرية إذ يقارن الكاتب بين الجسد الإنضباطي والجسد المنفلت الذي تمارس عليه أبشع طرق التعذيب ( جسد داميان )، ليحل بذلك الجسد الإنضباطي محل الجسد المعذب بدءا مع الثورة الفرنسية ودخول مجال منظم ومعقلن والتحول من الفردانية إلى المجتمع الإنظباطي وميز فوكو بين القانون والسجن على اعتبار أن الأول له دلالة مكتوبة نصية عكس الثاني أي السجن له دلالة مكانية رقابية محكمة على السجناء إنه السجن الذي اقترحه بنتام وباقي المؤسسات (الثكنة، المدرسة، السجن) التي ارتكزت على الإنضباط خصوصا في اقترانها بتحول العقوبة من الإنتقام إلى الإصلاح، في حين يذهب بنتام إلى تمديد الدور الإنضباطي إلأى باقي المؤسسات الأخرى والفرد نفسه، ليتسائل ميشيل لماذا فشلت المؤسسة السجنية في دورها التربوي الإنضباطي؟ ليستطرد أن دور السجن كان ولازال مكان لتعلم الإجرام وإدارة الجريمة خصوصا مع القرن 19 الذياتسعت فيه رقعة مخالفة القانون، ليبقى تساءل فوكو عن دورالسجن حتى وإن استبعدت وسائل التعديب الشنيعة ؟ ليستنكر بذلك الفيلسوف فكرة تنميط جسد الإنسان وحبسه بداعي ضبطه ويؤكد أن وعي المجتمع كان رهين بقبوله إياه من خلال الكتب والمنشورات …. وكل وسائل التوعية ليبقى السجن رغم بوادر الإصلاح لم يحقق حتى بعض من أهدافه في الإصلاح وغياب التكامل بين النظام القانوني والإعتقالي ليربط بذلك بين المجتمع المنضبط والحداثة كشرط في التطور التكنولوجي و التقني ويأكد أن السيطرة الصحيحة إنما هي سيطرة تمتد إلى باقي المجالات الأخرى غير السجن، كالصحة والمال والتعليم… والتي أصبحت محكمة مع عصر التكنولوجيا كما أن مؤسسة السجن بالرغم من التطورات التي شهدتها بدءا من القسوة وهدر الحقوق مرورا بمرحلة الإنتقام وصولا بمرحلة الإصلاح والتأهيل، إلا أن تطور هذه المؤسسة لا يعرف اتجاه واحد فالتطور يكون بشكل مفاجىء.
ولمحاولة تجميع أقسام هذا الكتاب ارتأينا أن نقسمه إلى مبحثين، سأتطرق للتحول من القسوة في التعديب إلى أنسنة العقوبة من وجهة نظر مشيل فوكو الفلسفية (المبحث الأول) على أن ننتقل بعد ذلك لمدى دور السجن حسب فوكو في تحقيق الإنضباط الإجتماعي (المبحث الثاني).
المبحث الأول: وجهة نظر فوكو للتحول من القسوة في التعذيب إلى أنسنة العقوبة
سنتطرق في هذا المبحث لعرض مركز للقسوة التي كان يتسم بها التعذيب (المطلب الأول) ثم الإنتقال إلى بيان أبرز أوجه أنسنة العقوبة فيما بعد (المطلب الثاني)
المطلب الأول: القسوة في التعذيب
تطرق ميشيل في كتابه المراقبة والمعاقبة لمحاولة إبراز قسوة التعذيب من خلال نقطتين، الأولى تتمثل في عرض أشكال التعذيب الممارسة على جسد المحكوم عليهم، والثانية في علنية التعذيب. فيما يخص جسد المحكوم عليهم قم فوكو مثال للعقوبة التي طبقت على جسد داميان الذي قتل أبيه والمتمثلة في أبشع طرق التعذيب باستخدام الشمع المقطر والرصاص المذاب… حتى يتم تقطيعه في الأخير إلى أشلاء متناثرة بواسطة الخيول وحرقه أخيرا بعد تقطيعها، وبعد أقل من قرن وضع ليون فوشيه نضام للأحداث المودعين في السجن ينظم أوقات كل من العمل والدراسة والصلاة في الكنيسة والأكل وأوقات الإستيقاظ والنوم.. الشيء الذي يوضح اختلاف العقاب بين الأحداث والرشداء ليبدأ بذلك عهد جديد يحمل قوانين وتنظيمات جديدة والتي من بينها يشير فوكو إلى زوال أنواع التعذيب هذا التحول الذي تقوى بعد القرن 19 في اتجاه التخفيف من النيل من جسد المحكوم عليهم وزوال الجسد كهدف رئيسي للقمع الجزائي وإلغاء العرض العلني للمحكومين أمام العامة وأصبحت العقوبة الجزء المخفي عن الأنظار والتخلي عن العقوبات التي كانت تطال الجسد، وعوض الجلاد أصبح هناك تقنيين وأطباء نفسانيون ذي علاقة مباشرة بالمحكوم عليه لتفادي الإحساس بالألم وعدم رؤيته من قبل الجمهور أثناء تنفيد الإعدام وهو ما يتطلب في الوقت الحاضر حيث زال الموت البطيء والتعذيب وجميع العقوبات البدنية الشنيعة. ليشهد مع مطلع القرن 19 حقبة الرزانة العقابية بالرغم من أن بريطانيا كانت من المعارضين لهذا التحول فالتطور الواقع كان غير منتظم، كلها تحولات تدعو لرفض عقوبة الإعدام ثم إن السجن كذلك سبب في المس الجسدي للمحكوم عليهم وجزء من التعديب ليصبح القصاص يتناول الروح قبل الجسد ونزع الصفة الجرمية عن كثير من الأفعال التي ارتبطت بالكنيسة مع زوال هذه الأخيرة والأخد بعين الإعتبار شخصية المحكوم عليه ومواكبته لنزع تلك الخطورة الإجرامية ليصبح الحكم بعد القرون الوسطي ينبني على معرفة المخالفة والفاعل والقانون. لتدخل بذلك الضروف المخففة سنة 1832، كما أضحى الدور الهام للأطباء النفسيين والخبراء… في تقرير مصير المكحوم عليه عبر الإجابة عن أسئلة محددة. إن هذف فوكو يتمحور حول عدم تركيز العقوبة على القمع ولتكون إيجابية ثم أن تتسم الطرق العقابية بتقنيات خاصة ذات بعد وكذا أنسنة العقوبة لإنسانية الإنسان والتلطيف منها بالنظر لتاريخ العقوبة البشع والوحشي.
فوكو يتبنى أفكار روش وكير كهيمر على رفض العقوبة كغاية والتخلي عن القصاص الجسدي الذي تزامن مع ضعف الإنتاج بالقصاص القانوني في المخالفات، ويدعو بذلك فوكو إلى الأخد بتلطيف العقوبة في الحدود النافعة، وجعل الجسد من محل لتنفيد العقوبات إلى جسد منتج ونافع ثم ينتقا فوكو ليبين دور المعرفة في تكميل السلطة وتكاملهما فالفيلسوف مشيل فوكو يدعو لهجر فكرة القصاص سواء تعلق الأمر بالجسد أو الروح ويشير فوكو في نهاية القسم إلى ما أفرزه السجن والجسد من تأثير وتأثر نتج عنه التمرد ورفض الوضع القائم من تطبيب ومكان السجن نفسه.. وما إلى غير ذلك من الماديات المعاشة.
نجد فوكو في وصفه لعلنية التعذيب يقدم لنا أبشع العقوبات التي كانت تنفذ على جسد المحكوم عليهم، باستحضار عمود التشهير والطواف ثم تنفيذ العقوبة التي قد لا تقف عند حد الشنق بل تتجاوز ذلك إلى التقطيع والسحق والحرق ثم رمي الرماد، وقد تكون العقوبة تتسم بالموت البطيء والتلدد بألم المحكوم وجعل التعذيب علانية حتى أن المتهم لا يكون له علم بالتهمة الموجهة إليه ويحاكم دون حظوره (المرسم الفرنسي 1498)، فكانت جميع ضمانات المحكوم وحقوق الدفاع منعدمة على عكس القضاة والحاكمين الذين كانت لهم سلطات تقريرية مطلقة، غير أن مشرعي عصور النهضة وبالرغم من السرية تم الأخد بالدليل الكامل والدليل الناقص والقرائن.. التي تؤكد التهمة أو تخففها كما في حالة دليل كامل بارتكاب الجرم في مواجهة دليل نصف كامل للتبرءة حيث على الأقل يعفى المحكوم من الموت دون العقوبات الجسدية المبرحة بغض النظر عن الغموض الواضح الذي كان يتم به تقييم الدليل القضائي كالإعتراف مثلا مع الأخد بعين الإعتبار الغموض الذي يلفه، فهناك مجرمون عندهم ما يكفي من الصلابة لتحمل الألم على عدم الإعتراف وهناك أخرون أبرياء اعترفوا بجرائم تحت الضغط لم يقدموا عليها ليعتبر فوكو بذلك أن كل من التنكيل والإستجواب أثناء التعذيب كعقوبات إضافية يكون محلها جسد المحكوم بشكل علني تشهيري، حيث وفي القرن 18 عشر أخدت العقوبات المنفذة علنيا عدة مظاهر من بينها اعتراف المحكوم عليه بالجريمة المنسوبة إليه علنا وأمام الكنائس والشوارع والطرقات… ثم إعادة التعذيب وتنفيد الحكم في مكان ارتكاب الجرم علنا وبنفس وسائل ارتكاب الجريمة وأخيرا بطء التعذيب، هذا الأخير الذي كان في جزء منه يرجع لسلطة الأمير ليقرر بشأنه فالعقوبة حسب وصف فوكو كانت تبين قوة الأسياد والحاكمين في مواجهة الرعية الذي يأخد شكل إرهاب حسب وصف الفيلسوف فكان العقاب المرعب قد يطول لأيام قبل القتل للتلدد وإضهار قوة الأمير والسلطة، إنه عصر الرعب الذي امتد لقرون لى غاية الثورة الفرنسية 1789 ليكون بذلك عصر الأنوار شاهدا على رفض العقوبات المتصفة بالفظاعة والرعب ومحاولة أنسنة العقوبة، فالقرون السابقة على القرن 19 شهدت مشاركة للجمهور في العقاب حتى أنه يمكنه تبرأة المحكوم وأخذه من بين يدي الجلاد إن اتضح لهم لا يستحق العقاب، يشير فوكو كذلك في نفس السياق أن العداب لم يكن على جسد المحكوم فقط بل كان هناك عقاب من نوع اخر وهو الخوف السياسي عن طريق الخطابات السياسية (خطابات المشنقة) ومراسيم تنفيد الإعدام، فبعد أن كان المجرم غالبا ما يظهر بمظهر البطل ضد قسوة الجلاد وقوة الحاكمين والقضاء أزيلت هذه الصفة مع الأدب البولوسي.
المطلب الثاني: أنسنة العقوبة من وجهة نضر فلسفية ( مشيل فوكو )
ينتقل بنا مشيل فوكو ضمن هذا الفصل الذي يتضمن تعميم العقاب كعنوان إلى عصر الأنوار الذي عرف برفض مكونات المجتمع للعقوبة القاسية والدعوة إلى أنسنة العقوبة وإصلاح المحكوم عوض الإنتقام منه، فمنتصف القرن 19 شهد تحول ملحوظ سواء تعلق الأمر بتلطيف وأنسنة العقوبة أو وضع حد للإنتقام الأمير من المحكوم، من بين دعاة تلطيف العقوبة نحجد بيكاريا وبرغاس وغيرهم، غير أنه سيتم رفض هذا التلطيف في نهاية القرن 18 كما عرف القرن نفسه التحول إلى نوع من الإجرام الدي يتطلب دهاء ونشوء العصابات المسلحة وبروز الإقتصاد السيء للسلصة ( الضغط على القضاة، المصالح الخاصة، توزيع غير منظم للسلطة، تعسف السلطة السلطة الملكية…..). أما الدعوة للإصلاح يأكد فوكو أنها جاءت نتيجة جهود فلاسفة الأنوار أمثال فولتير وصحفيين وقضاء ورجال القانون، ثم انتقل فوكو للحديث عن اللاشرعيات المقبولة والشعبية ما قبل الثورة الفرنسية حيث كانت تشهد قبول مبعض الأحيان تشجيع إلى نهاية القرن 18 وبروز لا شرعيات جديدة ( السرقات، قتل المواشي، الحرق…) لتتحول بذلك اللاشرعية لحقوق (الجلادين) للاشرعية في الممتلكات خصوصا مع التطور الصناعي وبروز المجتمع الرأسمالي مما أوجب معاقبتها وتقنينها، فالإصلاح الجزائي كما يقول فوكو كان نتيجة لهذه التحولات أي نتيجة الصراع ضد إفراط السلطة من قبل العاهل والصراع ضد السلطة التحتية للاشرعيات المكتسبة والمسموح بها لتصبح الجريمة بمثابة خرق العقد الإجتماعي وجعل الفاعا في مواجهة المجتمع نتيجة لذلك ليعتبر عدو لا مواطن.
فتلطيف العقوبة إذن يقصد به مشيل فوكو بتر ذلك الألم، ألم القضاة وألم الجمهور القاسي وكل ألم غير مستحق يقع على جسد الحكوم عليهم ويدعو إلى معالجة الإنسان كشخص خارج عن الضوابط بطريقة إنسانية أي أن يطال العقاب عواقب الجريمة لكي يكون مفيدا كما دعى فوكو في إطار اعتماد سلطة العقاب على أداة اقتصادية فعالة أن تتضمن خمس أوست قواعد (قاعدة الكمية الأقل، قاعدة التخص التام، قاعدة الفكروية الكافية، قاعدة المفاعيل الجانبة، قاعدة الحقيقة المتركة، قاعدة التخصص الأمثل…) هذه القواعد التي تحاول إعطاء العقوبة فاعليتها في التقويم والإصلاح وجعل العقوبة وسيلة وليست غاية بذاتها وجعلها ذات تأثير إيجابي ينصب على نفس المحكوم لا جسده كما يقول بذلك (mably) وإصلاح القانون نفسه ليساهم في هذا الهذف والاعتداد بشخص المحكوم عليه وجعله محل التفكير العلمي المعقلن.
وللوصول إلى نوع من تلطيف العقوبة يسرد لنا مشيل فوكو مجموعة من الشروط، يمكن إجمالها في البعد عن التعسف بأن تكون العقوبة واضحة شفافة بالنسبة للجريمة وهذا لا يتأتى إلأى عن طريق استخراج الجرم من العقوبة ثم تقليص الرغبة التي تجعل الجريمة جذابة وتنمية المنفعة التي تجعل العقوبة مريعة ثم رفض العقوبة الغير محددة كونها متناقضة والأهداف المرجوة، حيث تجعل من الفاعل هدف لها ويتحول جسد المحكوم من ملكية الملك والأمير إلى ملكية المجتمع، في هذا الصدد يدعو فوكو اعتماد الترميز الطقوسي وأن تكون العقوبة مدرسة وكتاب وليس احتفال أو عيد، كما يدعو فوكو إلى إطلاع الجمهور على الأعمال الشاقة والعقوبات المطبقة في حالة إتيان الفعل كهدف وقائي حيث له الأثر الكبير على النفس البشرية.
فمن صور تلطيف العقوبة تحولها من المشنقة ومختلف أشكال التعذيب الواقعة على الجسد إلى العقوبة الحبسية التي تنصب على سلب الحرية دون إيداء الجسد، هذا التحول الذي صاحبه سقوط الإمبراطورية بفرنسا وقيام الملكية، غير أن هذا التحول الملطف للعقوبة من العقاب الجسدي إلى السجن تم رفضه كذلك، باعتبار السجن كان يستغل لمصالح الملك والسلطة ثم ضد المفكرين المنورين وبالتالي استغلال السجن خارج القضاء والعدالة.
من جهة أخرى في علاقة بالعمل داخل السجن كعامل من عوامل التأهيل إلى ما بعد السجن، يبين الفيلسوف الفرنسي فوكو رفضه للعقوبات سواء القصيرة المدة لأنها لا تكفي لإصلاح المجرم أو السجن المؤبد الذي يجعل كل تعليم بدون جدوى، فبدءا من سنة 1797 أصبح السجين يتم تشجيعه على إصلاح نفسه وتغيير تفكيره المنحرف إلى تفكير يتماشى ومصالح العيش داخل المجتمع، كما بدأ تصنيف السجناء داخل السجن حسب الجريمة المرتكبة والجطورة الإجرامية والمخالفات المرتكبة داخل السجن ثم أولائك الذين لم تعرف شخصيتهم بعد حيث يقسمون لفئات، ليكون العقاب هدفه إصلاح المحكوم لا محو الجريمة بهذف استأصال الخطورة الكائنة و جعله فرد مطيع لتعاليم وثوابت المجتمع.
يشير فوكو أن نهاية القرن 18 شهدب ثلاثة أنواع لتنظيم سلطة لعقاب، يتجلى النوع الأول في استمرار سلطة الملكية (الطقوس الإنتقامية من جسد المحكوم علنا) أما النوعين الاخرين يرجعان إلى نظرية وقائية نفعية وتأديبية لحق العقاب الذي هو مجتمعي. وبذلك يبقى تسائل فوكو حول الكيفية التي تحول بها النودج الإكراهي الجسدي الإنفرادي والسري للعقاب محل النمودج التصوري العلني المسرحي والجماعي؟ ولماذا حلت الممارسة الجسدية للعقوبة غير التعذيب مع السجن محل العقوبة المجتمعية والإحتفال الصاخب بها؟.
المبحث الثاني: مدى دور السجن في تحقيق الإنضباط الإجتماعي من وجهة نظر فوكو
سنتطرق في هذا المبحث لإبراز التكتيكات التي استعملت لبناء أفراد منضبطين طيعين، ثم سننتقل بعد ذلك لمحاولة تأطير المؤسسة السجنية من خلال دورها في الإصلاح من عدمه، ومدى أهمية وجودها
المطلب الأول: الجسد المنضبط الطيع
يربط مشيل في بادىء الأمر الإنضباط بالوصول إلى أجساد جنود طيعة، فيذهب بنا إلى القرن 17 عشر حيث كان الإنضباط من سمات الجندي ذو مواصفات جسمانية خاصة تدل على القوة، كطول الدراع وعرض الأكتاف….، لنشهد في القرة 18 عشر صناعة الأجسام الطيعة من أجسام كانت عجينة غير ذات شكل كما وصفها فوكو التي تختلف عن العبودية من حيث العنف أو التكلفة وما شبهها، ليصير بذلك الجسد كموضوع وهدف للسلطة، إنه الجسد الذكي النافع، إنه الإنضباط الذي يصنع هكذا أجساد خاضعة وطيعة، حيث أدت هذه الدقة في قواعد الإنضباط امتدادها للثكنة، المدرسة، المستشفى، والمشكل، يشير فوكو أن الإنضباط الدقيق كان الغرض منه فرض سيادته الواسعة دون إمكانية الإنفلات، هذا الإنضباط الذي يتخد تقسيمات عديدة في المكان المعزول مع إحكام المراقبة، هذه الأخيرة التي تشمل مجالات عدة (ضريبية، عسكرية، على المستشفيات….). يعطي فوكو مثال الصف المدرسي كصورة للإنضباط الذي يتخد شكل مجموعات لكل مجموعة قائدها مع تصنيف متغير حسب الكفاءة العلمية، وحتى النضافة والرزانة والإتقاء كعوامل للتصنيف… مع إحكام المراقبة على كل عنصر، دون الإغفال أن الشق الديني لعب دور مهم في الإنضباط وضبط النشاط ثم الإعداد الزمني للعمل بالنيبة للجيش المحدد بدقة سواء في الحركات (كيفية حمل السلاح وطقوسه مثلا) أو المسافات والذي تطور ما بين القرنين عشر17 و منتصف القرن 18 بغية الوصول إلى التناسق بين الجسد والحركة مع اعتبا إضاعة الوقت خطيئة أخلاقية وسررقة اقتصادية وبالتالي الإستعمال الكامل والشامل للوقت ولا مجال للعطالة ليصير الجسد محل تدريب، فالإنضباط إذن كان من تقنيلا التصنيف الفردي والرقابة بالرغم من إشكالية الكثرة. اعتمدت كذلك تقنية التكوين المتخصص للتلاميذ في مدة محددة ومنظمة في الزمان والمكان، هنا يرى فوكو حدوث قفزة نوعية (الإبستيمية) فلم يعد الجسد الة ولكنه كائن حي يتميز بالفردانية (عن طريق تعليمه وتنظيمه ). والفردية ستقاوم السلطة الإنضباطية ليتحدد بذلك مستقبل الحداثة الجديدة.
إن الجسد المنضبط الطيع صنع عن طريق تقنيات عضوية تهذف تقنين النشاط وأخرى تكوينية تهدف تراكم الوقت، ثم اندماجية بفعل تأليف القوى أي الجماعة، كل هذه التقنيات نخلص أنها كانت تصبوا الحصول على جسد منضبط نافع وطيع سواءعسكري أومدني ولو كان هذا الإنضباط بالقوة والإكراه.
ولأجل بلوغ غاية التقويم الجيد، تم الحرص على انضباط مستقيم باعتماد وسائل عديدة منها:
أول هذه الوسائل، إحكام الرقابة على الأشخاص، واستغلال الإكراه والهندسة (الأبنية ) والجيش (التدريب وأسليبه) والمدرسة (التقارير التربوية، الملاحظون) لتعزيز الرقابة المحكمة وضبط الأفراد، وكذا فرض مجموعة من العقوبات الضابطة في المشغل، المدرسة، الجيش (فيما يتعلق بخرق الوقت من تأخر وغياب وانقطاع عن المهمات) أو النشاط أو السلوك أو الكلام أو الجسد (الأوضاع الغير الائقة)… حيث تتدرج العقوبة بدءا من العقوبات الجسدية الخفيفة وصولا إلى حرمان أو توبيخ طفيف، ونفس الأمر بالنسبة للعسكريين فالرتبة مثلا قد تكون مكافأة (الرتبة الجيدة) وقد تكون عقوبة (الرتبة الأخيرة)، فالمؤسسات الإنضباطية إدن تقارن، تفاضل، تراتب، تنسق وتستبعد، تسوي.
يدهب بنا مشيل فوكو إلى القرن 18 عشر حيث تم ظهور عبر الإنضباطات سلطة المعيار LA norme، التي هي سلطة القانون والنص والتراث. ويلعب الفحص دور أساسي بحيث يدمج تقنيات التراتبية التي تراقب والعقوبة التي تضبط ويعتبر التصنيف كذلك أحد الركائز الأساسية للتعليم (تصنيف التلاميذ من طرف المفتش) لتولى المهمة المناسبة، فالفحص=التشييىء، كون الأفراد عند فحصهم يعرضون كأشياء تحت رصد سلطة لا تظهر. ليترك بذلك الفحص الشخصية الفردية ضمن حقل وثائقي مأرشف وممسوك بشكل دقيق، بغية تثبيتهم حيث تم استثماره حتى في الجيش والتعليم لغاية التعرف على الشخصية الإنضباطية المرتبة .
ثم العمل على التحول من فردنة الإنسان إلى أوليات علمية انضباطية، إنها لحظة علوم الإنسان، هنا يربط فوكو علاقة التكنولوجيا بضبط الإنسان، ويستبعد فوكو بذلك أي وصف خبيث للسلطة ويعتبرها منتجة للحقائق الواقعية وتدخل في تحديد علاقة الفرد بالسلطة .
أما الإشراف أو مايسمى بالبانوبتية، يظهر دورها بشكل واضح حين وقوع مثلا مرض معدي في مدينة ما فيمنع الدخول إليها أو الخروج منها تحت طائلة عقوبة الإعدام، بحيث لا يسمح بالتجول في أرجاء المدينة إلا الحراس والجنود والمشرفون … لفرض الطاعة على الناس ومنع كل الأشكال الإجرامية في ضل الحجر، وتتخد هذه المراقبة شكل تقارير معدة من طرف المراقبين والإاريين و المحافظين والمشرفين، هذه التقارير التي ترسل للجهات المعنية لإتخاد ما يلزم بشأنها من علاج أو نقل للأموات أو غيره، هذا الوباء إنما يظهر قوة السلطة في الضبط والتقسيم، فهو أسلوب لممارسة السلطة. إن أسلوب الفردنة هو ما ميز القرن التاسع عشر، فيكون المحجور عليه مرئي من طرف المشرف، هذا الأخير فهو غير مرئي للمحجور عليه فالأهم أن يعلم أنه مراقب، هنا يرجع بنا فوكو إلى السجن الدي صممه بنتام والذي لا يسمح للسجين بأن يرى مراقبيه في حين يجعل مكان السجين في مرأى للمشرفينن، ليتم الوصول إلى نوع من العبودية حسب تعبير فوكو لإكراه المحكوم على السلوك الحسن، والمجنون على الهدوء، والعامل على العمل… وهكذا، إن فوكو يعرض لنا البانوبتية في إطار ممارسة مهامها الرقابية على مختلف الأفراد المساجين العاديين والمجنونين والعمال…، ونفس التكتيك الرقابي في المدارس والمستشفيات، لتتدخل بذلك الظيفة البانوبتيكية في جميع الميادين، إنها تمثل أسلوب ممارسة السلطة في مجال من المجالات (التعليم، الصحة، الإنتاج،…).إذن حسب تعبير فوكو، فالبانوبتية معممة دون أن تنفلت من الرقابة الإجتماعية فيما يخص مهامها الرقابية.
إن البانوبتية الرقابية كان هدفها الأول ضبط الأفراد الغير المنضبطين و تقويم كل شخص غير سوي، ليتعدى مجال تنظيمها إلى الإقتصاد وتعمم على المجالات المهمة، مما أدى إلى تكاثر المؤسسات والإجراءات الإنضباطية وامتدادها في الرقابة والضبط، في هذا الإطار فإن التكتيك السلطوي المطبق كان يستجيب لمعايير ثلاثة، منها، جعل ممارسة الشلطة أقل كلفة اقتصاديا مع الزيادة في الكثافة السكانية والإنتاج في شتى المجالات المعرفية والصحية والعسكرية….، لتتغير بذلك سلطة الإخضاع من سلطة تقليدية طقسية عنيفة ومكلفة إلى تكنولوجيا الإخضاع الدقيقة، إنه عصر الأنوار الدي تميز باكتشاف الحريات واختراع الإنضباطات.
ويأكد فوكو أن شرعية العقوبات تقتضي إعادة النظر في وضع السجن مع ما يقترن به من أسكال إصلاحية كمثال التطبيق الإنتقائي للعقوبة .. أي تعميم العقوبة.
فالقرن 19 عشر أتى بالإنضباط والتصنيف حيث تم فرض الفرد الإنضباطي عوض جسد المحكوم في مواجهة الملكية قديما ولا الفرد الحقوقي في العقد المثالي وما كان يشهه الفرد من تنوع في أشكال التعذيب التي سبق ذكرها.
المطلب الثاني: أي دور للسجن من منظور فلسفي
ولادة السجن هو ما ميز منعطف القرنين 18 و 19 عشر، فهو المجال المحكم للرقابة والتقويم والضبط، وبالتلي سهولة تثبيت السجناء وتصنيفهم ضمن هذه المؤسسة التي حلت محل العقوبات الجسدية الشنيعة البشعة، إلا أنه يصبح خطير حسب تعبير فوكو في حالة عدم الجدوى منه بالرغم من أنه شيء يبقى محتم، يشير فوكو أن السجن يمكن أن يكون له أثر إصلاحي كبير غلى نفس المحكوم مثل لدلك فوكو في حالة السجين الذي يقتضي أجر عمله اليومي، الشيء الذي يدفعه إلى الندامة والعزلة التي تدفعه للتفكير ورغبته في الإصلاح. وحيث إن المؤسسة السجنية وجب عليها أن تكون أكثر صرامة وكمال أي تقويم الرد في جميح مناحي حياته من سلوك وكفاءة والرغبة في العمل … وما إلى غير ذلك، فالسجن يعطي للمحكوم الحيوية نحو العمل المأجور بعد كسله عن العمل في السابق حتى وإن كان الهدف ملىء أوقات السجناء.
وشير فوكو إلى أنه حتى الإصلاحات السجنية الجديدة خلال القرنين 19 و 20 كالإفراج الشرطي، مراكز الإصلاح.. تمت المطالبة بها قديما بغية الوصول إلى إصلاح المحكوم عليهم ومن جهة أخرى أن تراعي مدة العقوبة نفس الغاية التي هي الإصلاح حسب شخصية كل محكوم على حدة لا الإنتقام ومع الإصلاحات السجنية ومطالبات باستقلال هذه المؤسسة، ليتولد بعد ذلك ولد هجين لكنه مشوه سماه فوكو بقاضي تطبيق العقوبة، كما يؤكد فوكو أن تقنية العزلة داخل السجن، وجب أن تأخد بعين الإعتبار شخص المحكوم لأن هناك أنماط لا ينفع معهم العزل ( الحمقى، القاصرون..) بحيث لا يساهم عزل هؤلاء إلا مفاقمة وضعهم.
ويعتبر فوكو أن السجن هو المنطقة الأكثر قتامة في مشهد العدالة، ينظم سلطة العقاب في سرية واعتماد العقاب كعلاج، ليكون السجن حسب تعبير فوكو خارج عن نطاق العدالة المرجوة.
انمحى العرض والمشهد في ظاهرة العقاب فأخذ الاحتفال العقابي يدخل في الظلّ وذلك في أواخر القرن الثامن عشر وفي مطلع القرن التاسع عشر. إذ يقول فوكو: “هكذا انمحى في مطلع القرن التاسع عشر المشهد الكبير للعقاب الجسدي وأخفي الجسد المعذّب، واستبعد من القصاص عرض مشهد الألم، وتمّ الدخول في فترة الرزانة العقابية” ، فلم يكن إلغاء التّعذيب، بل تحوّلت آليّة عرض الآلام الجسدية، في شكل مشاهد علنية، إلى إخفاء للتعذيب فى السجون، ومن ثم تحويل عقوبة الاعتراف العلني ومشهد التعذيب إلى نوع من التقصّي. وكان الفصل بين الحكم والتنفيذ فأصبح التّنفيذ عمليّة مستقلّة لا تتعلّق بالجانب المهيب للعدالة، وارتبط الجزاء بالحرمان من الحقوق.
فكان اللّطف العقابي باعتباره تقنية من تقنيات السلطة التي توظّفه في “الاقتصاد السياسي” للجسد، و”هذا التوظيف (الاستثمار) السياسي للجسد مرتبط، وفقا لعلاقات معقدة متبادلة باستخدامه اقتصاديا، وإلى حد بعيد كقوة إنتاج ثم بدأ العقاب ينحصر تدريجيا ضمن عقاب السجن فأصبح الاحتجاز الشكل الأساسي للعقاب، فالسجن هو المكان المناسب للعقوبات بعد زوال التعذيب.يقول فوكو” ربما كنّا نخجل اليوم من سجوننا أمّا القرن التاسع عشر فقد كان فخوراً بقلاعه التي كان يبنيها عند حدود المدن وأحياناً في قلبها كان يتغنى فخوراً بهذا اللطف الجديد الذي حل محلّ منصات المشانق وكان يتباهى بعدم معاقبة الأجسام، وبمعرفته كيف يصلح النفوس إن هذه الجدران وهذه الأقفال، وهذه الزنزانات كانت تشكل مشروعاً للتقديم الاجتماعي فالذين كانوا يسرقون، كانوا يسجنون، والذين كانوا يغتصبون، كانوا يسجنون، والذين كانوا يقتلون، كانوا يسجنون أيضاً من أين هذا الإجراء العجيب والمشروع الغريب، مشروع الحبس من أجل التقويم، الذي جاءت به القوانين الجزائية في العصر الحديث؟ هل هو إرث قديم من سجون القرون الوسطى الانفرادية؟ أم هو بالأحرى تكنولوجيا جديدة: إنجاز، من القرن السادس عشر، حتى القرن 19 السجن “مكان مغلق يتّجه إلى تجريد الشخص من حرّيته الخاصّة بفعل قرار العدالة”. فهو “مؤسّسة كاملة وصارمة” ونظام عقابي حديث النشأة وقد “تشكّل خارج الجهاز القضائي” ويعدّ لحظة مهمة في تاريخ العدالة الجزائية مجسدا وصولها إلى “الإنسانية”. واستند تصوره على أساس أنه عقوبة مثلى، فمثلت ولادة السجن ” تلطيف عقوبة “.
كما تعلّق وجوده بثلاثة أسس:
تمثل الأساس الأوّل في أنه عقوبة ” استندت إلى جهاز قضائيّ “مستقل” تمكّن بسهولة من الاستحواذ على بقية العقوبات ليكوّن”السّجن-العقوبة” العقوبة الأوفى خصوصا في المجتمع الحديث، إذ تعدّ قيمة الحرّية من القيم المؤسسة لجوهر حداثته، وهي قيمة مشاعة بين الجميع مما يؤدي إلى المساواة في خسران هذه الفائدة. وهي عقوبة تقاس بحسب متغيّر الوقت فالسجن بالنسبة للمجتمعات ا المعاصرة. يجسّد “بداهة” اقتصاديّة “تقيّم بالنقود العقوبات بالأيّام والأشهر والسنوات، وتقيّم معادلات كميّة بين الجرم والمدّة”.
أمّا المعطى الثاني فيتمثل في كون السّجن جهازا للضبط والإكراه، ومن ثم إلزام الأفراد باتباع نظام دقيق يغيّر سلوكهم ويقوّي قيمة الندم والشعور بالواجب في ذواتهم. فهو نظام يختصر كل الأوليّات الموجودة في الجسم الاجتماعي بما هو” ثكنة صارمة قليلا(…) ولكنّه في نهاية الأمر لا يختلف عنها بشيء من الناحية النوعيّة” مما يحوّله إلى مؤسسة انضباطيّة شاملة. كما يمارس سلطة شبه كاملة على الموقوفين، مما يزوّده بقدرة فعّالة تؤثر على سلوك الأفراد المنحرفين عبر ممارسة الانضباط الاستبدادي. فلئن كان القانون نوعا من الدلالات النصيّة المكتوبة فإن السجن فضاء بصري مشهدي تتناسب فيه هندسة البناء مع ” هندسة القمع” وتشريح الأجساد وتصنيفها. يخضع السّجين داخل السّجن إلى نظام صارم من النشاطات اليومية، في النهار والليل والعزلة والاجتماع مع الآخرين، فضلا عن اللّباس والتربية التي يتلقاها السجناء ونظام الدروس والمواعظ تبعا لتوالي الأيام والسنين.
أما الأساس الثالث فيتعلّق بقيمة الشعور بالندم لأن المحكوم معزول عن العالم الخارجي، ويقوّي فيه عزله عن بقية الموقوفين سمة التفكير. فهذا الإجراء يهدف إلى وضعه أمام جريمته، مما يزيد من ندمه. وكلّما ازداد ندمه حدّة اشتدّ شعوره بالألم، فالعزلة تؤمّن نوعا من التنظيم الذاتي للعقوبة. وبذلك لا تكون إعادة تأهيل المجرم مطلوبة من منطلق تطبيق القانون بل بعلاقة الفرد بضميره بالذات. من شأن هذه الأبعاد المتلازمة أن تحدّد وظيفة المراقبة المستمرة للسجناء. فإذا كان السّجن يجسد مكان تنفيذ العقوبة، فإنّه في نفس الوقت مكان معاقبة المعاقبين. “فيجب تصور السّجون كمكان لتشكّل معرفة عيادية حول المحكومين.
يعتبر فوكو أن السّجن في ترتيباته الأكثر صراحة ووضوحا قد أعد دائما نوعا من تدبير ألم جسدي ويدل الانتقاء الموجه غالبا إلى النظام التأديبي …أن المحكوم يتألم جسديّا”.
ونلاحظ شروعا فى نوع من العقاب اللاجسدي، أو معاقبة ما هو غير جسدي، فإذا كانت القواعد القانونية تمثل جانب” الماكرو سياسي” فإنّ الانضباط يجسّد البعد “الميكرو سياسي” وهو جانب مخفي ولا مرئي. فقد نظر فوكو إلى السلطة نظرة جزئيّة “مجهريّة” وتتجلى في المؤسّسات والبرامج، لأنّ “الانضباط” نمط من أنماط السلطة، ونموذج من نماذج ممارستها يشمل مجملا كاملا من الأدوات والتقنيات والوسائل… إنه “فيزياء” أو “تشريح” للسلطة، إنّه تكنولوجيا”. والانضباط فعل تقوم به مؤسّسات متخصصة (الإصلاحيات والسجون…) وإمّا مؤسسات تستخدمه من أجل غايات محدّدة (المدارس والمستشفيات).
ومن شأن مؤسّسة السجن أن تزكّي الإكراهات الانضباطية التي لا تستند إلى القانون بقدر ما تستند إلى التطبيع عبر الخضوع إلى المعيار والقواعد. وتمارس هذه السلطة وظيفتها من إجراءات الضبط وتقسيم الأفراد في المكان: المجرم في المعزل، والجندي في الثكنة، والحجر للمشردين… فلكل فرد مكانه الاجتماعي إلى جانب المواقع الوظيفية المتعلقة بالترقيات الوظيفية. ثم الرّقابة على النشاط وفق جدول زمني يقسم أوقات العمل وأوقات الراحة باتّباع ” نوع من التراتب ونوع من الانضباط، ونوع من التقعيد التي تطبّق داخل الجسد”. و يتركّز دورها على ضبط الأجساد لأنّ” الموضوع المركزي للانضباط هو الجسد، جسد المريض وجسد التلميذ وجسد المجرم. الجسد هو التكيّف والتدريب والتّطويع والاستجابة والتكاثر”. وتعطي هذه السلطة بعدا جديدا للجسد هو “الجسد- الآلة”. وتحمل الانضباطيات عدّة فنون للتحكم في الجسد وتشريحه سلطويا. و”لم تنشأ هذه السلطة فجأة”، بل نتيجة تراكمات ومن شأن هذه السلطة أن تضعنا في مدار الرعب.
يقوم فوكو في مؤلّفه “المراقبة والمعاقبة” الفصل الثالث من القسم الأخير، بتصوير المشهد المتعلق بالإشراف أي الطريقة الاستراتيجية التي تشكّلت من خلالها هندسة السجن، وهي هندسة تسمح بالإشراف والضبط والمراقبة. وهي عقلانية كاملة تقوم عليها آلية الضبط. هذا الفضاء المغلق، المقطوع، المراقب من كلّ جوانب حيث يخشر الأفراد ضمن مكان ثابت، حيث تراقب أقل حركة، وحيث تسجّل كلّ الأحداث وحيث يربط العمل الكتابي المركز بالأطراف، وحيث تمارس السلطة بدون مشاركة، وفقا لهيكلية تراتبية مستمرة، وحيث كلّ فرد معاين، و مفحوص و موزّع بين الأحياء، و المرضى و الأموات كل ذلك يشكّل نموذجا كثيفا من الجهاز الإنضباطي” البانوبتيكوم هو رسم بياني لآليات السلطة وهو فن معماري وهندسة للمكان ” صورة تكنولوجية سياسية يمكن ويجب أن تفصل على كل فعل مخصوص”. الغاية من هذه الجمالية للمكان هي إصلاح السجناء و العناية بالمرضى و حراسة المجانين..و بهذه الطريقة يتيح هذا الفن “إستكمال ممارسة السلطة” في أشكالها المختلفة ، فهو يتيح التدخل في كل لحظة ، وهو يشتغل بدون أية ” آلة فيزيائية” ، بل يشتغل أساسا وفقا لبيان هندسي معماري فني.. إن هذا الهيكل ” البنتامي” ينشأ آلية يتمازج فيها الفني بالسلطوي. حيث تشتغل السلطة بآليات جمالية. وهي منتجات السلطة ال معاصرة التي تتعمد الإخقاء والانزواء وتجنّب الظهور المباشر. تكون السلطة بهذا الشكل موجودة ولكن بشكل لطيف.
وفي الختام تجب الإشارة إلى مسطلحي “السلطة والمعرفة” ثنائيّة أشتهر بها نص فوكو، الذي كشف عن تلازم خفيّ بين هذين ا لمجالين، حيث يبذو أنهما منفصلان، لكن فوكو فضخ من خلال أركيولوجيته هذا الأرتباط بين الزوج سلطة/معرفة.
ويضيف فوكو أنه في واقع الأمر مفهوم السلطة هو من التشتّت والغموض ما يمنع من خصره ولكنّنا ما زلنا لا نَعْرِفُ ماهيّةَ السّلطة، هذا الشّيءُ المُغْرِقُ في الإلغاء، هذا الشّيء الّذي نَرَاهُ ولا نَرَاهُ، الظّاهِرُ الخفيُّ الّذي يعترضُنا حيثُما وَلّيْنا وجوهنا، الشّيءُ الّذي نُسمّيهِ السّلطة “. لكن التكتيكات التي تم ذكرها هي من الإعتماىت التي تتشكل من خلالها السلطة، فمصطلح السلطة في نظر فوكو، لا يمكن الإمساك بها إلا من خلال آيارها وترسباتها وكيفيّة إشتغالها. ويبدو حقل الجماليات، من أكثر الحقول خصوبة حيث إشتغلت السلطة.
إن ّالسلطة “هذا الشّيء الّذي نَرَاهُ ولا نَرَاهُ، الظّاهِرُ الخفيُّ الّذي يعترضُنا حيثُما وَلّيْنا وجوهنا ، الشّيءُ الّذي نُسمّيهِ السّلطة ” . إذا كان العالم في منظور نيتشة يؤوّل جماليّا، فإن العالم لدى ميشال فوكو يؤول سلطويا. كل ما يحدث يردّه فوكو إلى السلطة التي إستحوذت على كل تفاصيل الوجود الإنساني، و يعني دلك الحقول السياسية والاجتماعية والطبية والنفسية والجنسية وغيرها، التي تم تثبيتها بشكل سلطوي واضح