حدود مبدأ سلطان الإرادة في العلاقة الكرائية – سلسلة الابحاث الجامعية و الاكاديمية رقم 55
حدود مبدأ سلطان الإرادة في العلاقة الكرائية – سلسلة الابحاث الجامعية و الاكاديمية رقم 55
مقدمة:
عرفت نظرية العقد تحولات عميقة خلال العقود الماضية، بفعل العديد من العوامل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية؛ الأمر الذي نتج عنه إعادة النظر في العديد من المفاهيم و المبادئ المؤسسة لنظرية العقد، لعل أهمها الإرادة التي تعتبر أساس التصرفات القانونية بوجه عام و العقد بوجه خاص.
و كما هو معلوم أن عقد الكراء[1] يعد من أقدم العقود و أكثرها تداولا في المجتمع بالنطر لحاجة الناس للسكنى و الاستقرار في آن واحد ، الأمر الذي دفع مختلف التشريعات على اختلاف مشاربها إلى تنظيم العلاقة التي تربط بين المكري و المكتري على ضوء النظام الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي السائد في كل دولة على حدى ، بل يزداد الاهتمام التشريعي بعقد الكراء ، بالنظر للحساسية المفرطة التي تطبع العلاقة الرابطة بين المكري و المكتري و خصوصا في الميدان السكني حيث يعتقد كل طرف منهما على أنه أولى بالحماية من الطرف الآخر، و هو ما جعل من هذا الأخير أي – عقد الكراء– محط اهتمام كل من الفقه والتشريع و القضاء على حد سواء .
غير أن التحولات الاقتصادية و الاجتماعية التي عرفها العالم، فرضت على مختلف الدول، في إطار وظيفتها الأساسية التي تقتضيها دولة الحق و القانون، المتمثلة في تحقيق التوازن بين الحرية و المساواة، و من أجل تثبيت السلم الاجتماعي، أن تتبنى العديد من النصوص القانونية، التي كان من نتائجها أن أصبحت للملكية وظائف متعددة في مقدمتها الوظيفة الاجتماعية، التي تظهر لنا بشكل بارز في عقود الاكرية السكنية و المهنية.
و بالتالي و بعد أن كان الكراء كغيره من العقود المدنية الأخرى يتوقف كليا في تحديده على إرادات الأطراف المتعاقدة في إطار مبدأ سلطان الإرادة [2] ، فإن الوضع قد تغير الآن بفعل التحولات الاقتصادية و الاجتماعية التي عرفتها المجتمعات المعاصرة نتيجة الأزمة السكنية التي أفرزتها الحروب الكونية، و ما خلفته من أزمات حادة أثرت بشكل سلبي على قانون العرض و الطلب الذي يحكم ميدان الإيجار الأمر الذي دفع بالهيئآت الحكومية إلى اعادة النظر في السياسة الكرائية بوجه عام و البحث عن الحلول الكفيلة و مرضية للمعادلة الشائكة التي تربط المكري بالمكتري على وجه الخصوص.[3]
بل إن التطورات التي لحقت الميادين الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية ، و ما صاحبها من تطورات في العلاقات القانونية أدت بالنصوص التشريعية إلى العجز عن ملاحقة هذه التغيرات، و بالتالي خلق فرق شاسع بين النص و الممارسة ، و كل ذلك أثر على التوازن الذي كان مفترضا بين أطراف العقد ، حيث انعكس بالأساس على العلاقات التعاقدية التي تربط المهنيين بالمستهلكين [4] بشكل خاص ، مما رتب عن ذلك هيمنة الطرف الأول نظرا لاحتكاره الخبرة والمعرفة في مجال التعاقد.
و بتتبع مسار التطور التشريعي لقوانين الأكرية التي تم العمل بها في فض المنازعات المتعلقة بكراء الأماكن المعدة للسكنى و الاستعمال المهني أو غيره ، نجد أن أول نص تشريعي تم الاحتكام له في فض المنازعات هو قانون الالتزامات و العقود، الذي كان المشرع في سنه متأثرا بالقانون المدني الفرنسي الذي يقوم على الحرية التعاقدية و ” قدسية مبدأ سلطان الإرادة “، إذ أن العقد في إطار هذا القانون ينقضي إما عن طريق دعوى الفسخ في حالة قيام شروطها ، أو بانتهاء مدته إذا كان محدد المدة و بعد الإنذار إذا كان غير محدد المدة .
و نظرا لخطورة عقد الكراء، و لمساسه الشديد بحياة أغلب المواطنين الذين يكونون الشرائح الغالبة في المجتمع، فقد تدخل المشرع المغربي عدة مرات لصالح المكتري سعيا منه للحد من حرية الإرادة، مادام أن هذا الأخير هو الطرف الاضعف في هذه المعادلة، و هو ما دعا إلى تعطيل أحكام الفصل 230 من ظهير الالتزامات و العقود المغربي الذي ينص على أن :
” الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئها و لا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون “، وكان ذلك بمقتضى ظهير 5 ماي 1928 الذي جعل نهاية عقد الكراء في حالة رفض المكتري إفراغ المحل تخضع لسلطة القاضي الذي له أن يصادق على إشعار المكتري بالإفراغ الموجه له من طرف المكري ، إذا كانت الاسباب الواردة في الاشعار معقول و مبررة لإفراغ المكتري [5]، و بالتالي كان للقضاء دور مهم في استقرار العلاقة الكرائية ، و ذلك من خلال إقرار مبدأ جديد في إنهاء العقد ، جاء ذلك خاضعا للرقابة القضائية.
و بالنظر لتصاعد الأصوات المنادية بضرورة تكريس حماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية ، فقد تدخل المشرع مرة أخرى من خلال القانون رقم 6.79[6] ، محاولا إقرار حماية أكبر للمكتري خاصة أثناء إنهاء العقد، و ذلك بإقرار قاعدة “الامتداد القانوني[7] ” لعقد الكراء السكني، موجبا ضرورة توجيه إشعار بالإفراغ قبل اللجوء إلى القضاء كشرط لإنهاء العقد ، و محددا الأسباب التي يمكن بناءا عليها تسبيب الإشعار بالإفراغ و تصحيحه ، إلا أن كثرة الإشكالات التي طرحها هذا القانون، و التي أبانت عنها الممارسة العملية و الأبحاث و الدراسات التي كان هذا القانون موضوعا لها ، خاصة ما يتعلق بالمساطر المتبعة في إنهاء العلاقة الكرائية ، جعلت المشرع يعيد التفكير في القواعد المنظمة للكراء .
و إذا كان ظهير الالتزامات و العقود المغربي يشكل القانون الأساسي لعقد الكراء في النظام القانوني المعاصر[8], فإن اشتداد أزمة السكن كما أشرنا سلفا نتيجة الحرب العالمية الأولى بالدرجة الأولى من جهة ، و ضرورة حماية المكتري و ضمان استقراره في المحل المكترى من جهة أخرى ، دفع المشرع إلى إصدار العديد من النصوص القانونية الخاصة ، من ذلك القانون 67.12 [9] المتعلق بتنظيم العلاقات التعاقدية بين المكري و المكتري للمحلات المعدة للسكنى أو للاستعمال المهني،
و هذا القانون جاء كاستجابة للحد من الإشكالات التي كان يطرحها القانون المشار إليه أعلاه ، ثم القانون 07.03 المتعلق بمراجعة أثمان كراء المحلات المعدة للسكنى أو الاستعمال المهني أو التجاري أو الصناعي أو الحرفي ، في جانبه الأخير ، بعدما تم نسخ مقتضياته المتعلقة بمراجعة أثمان كراء المحلات المعدة للسكنى أو الاستعمال المهني بمقتضى القانون رقم 67.12 ، إلى جانب القانون رقم 49.16 المتعلق بكراء العقارات أو المحلات المخصصة للاستعمال التجاري أو الصناعي أو الحرفي ، والذي نسخ ظهير 24ماي 1955 ، المتعلق باستيفاء الوجيبة الكرائية ،فيما يتعلق بالمقتضيات الخاصة بالأماكن المعدة للاستعمال التجاري أو الصناعي أو الحرفي ، بعدما تم نسخ المقتضيات الخاصة بالأماكن المعدة للسكنى و الاستعمال المهني ، بمقتضى القانون رقم 67.12 .
وهذا يحظى موضوعنا ، بأهمية علمية نظرية ، و أهمية عملية تطبيقية ، تتمثل الأهمية الأولى في محاولة البحث عن مكامن القوة و الضعف لمبدأ سلطان الإرادة المنظم في ظهير الالتزامات و العقود المغربي في ظل التشريعات الخاصة المنظمة لأنواع العلاقات الكرائية ، و التي تسعى في مجملها إلى تقوية مركز المكتري ، من خلال تمكينه من الاستقرار و الثبات في مواجهة المكري الذي يوجد في مركز قوي ،
و مدى مسايرتها للتحولات الاقتصادية و الاجتماعية التي تزداد حدتها يوما بعد يوم ، لا سيما ما أفرزته من معاملات جديدة و التي غالبا ما تتسم باختلال التوازن العقدي التي تطبع هذه العلاقة ، و ذلك بواسطة مجموعة من القواعد و الأحكام الآمرة المتعلقة بالنظام العام ، أما الأهمية الثانية تتجلى في البحث عن دور ” مؤسسة القضاء ” في حماية أطراف العقد و خاصة الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية ، كما يظهر دوره على مستوى مراقبة أجرة الكراء ،و طريقة مراجعتها من أجل الحد من تعسف المكري ، الذي يكون في غالب الأحيان الطرف القوي .
أولا : دوافع اختيار الموضوع .
اخترنا موضوع ” حدود مبدأ الإرادة سلطان في العلاقة الكرائية ” كمحور لهذه الدراسة، اعتبارا لما شهده العقد من حركة تشريعية سخية الإنتاج همت جوانب مختلفة من العلاقات القانونية ، ومن بين القوانين التي صدرت مؤخرا كالقانون رقم 67.12 المتعلق بتنظيم العلاقات التعاقدية بين المكري و المكتري للمحلات المعدة للسكنى أو الاستعمال المهني،
و نحن نستقبل هذا المولود الجديد ، إلا و يبادر في أذهاننا سؤال حول مدى استحضار المشرع المغربي و هو يعيد تنظيم العلاقات التعاقدية بين المكري و المكتري للمحلات المعدة للسكنى و الاستعمال المهني لما تراكم من عمل قضائي و آراء فقهية في الموضوع ، و مدى توفقه في إيجاد حلول لمشاكل أبانت عنها التجربة و التطبيق القضائي للنصوص القديمة .
بل أكثر من ذلك ، ازداد الاهتمام بهذا الموضوع في ظل ما أصبح يفرضه الواقع من اضطرابات بفعل التغيرات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية المصاحبة لها ، و نظرا للحساسية التي تطبع العلاقات الكرائية التي تجمع المكري بالمكتري ، و ذلك في ” غياب التوازن الاقتصادي” التي تتسم به هذه العلاقة ، و هو ما أصبح معه ضرورة من أجل التعمق في حيثيات هذا الموضوع ، من خلال التنقيب و البحث في مختلف الإشكالات التي يثيرها هذا الموضوع ، سواء في شق الخاص بمراجعة الكرائية ، و تحديد الحالات الموجبة للإفراغ و المسطرة الواجب اتباعها لتنفيذ الإفراع الأمر الذي جعل المشرع يقيد سلطة المحكمة و الأطراف المتعاقدة على حد سواء بخصوص تفسير مضمون التعاقدات الكرائية .
ثانيا : صعوبات البحث .
لقد كان للاعتبارات السالفة الذكر ، تأثير في اختياري لهذا الموضوع ، حيث كان للأهمية التي يكتسيها الموضوع ، دور في تشجيعي على هذا الاختيار و القيام بهذا البحث المتواضع .
لكن نظرا لدقة هذا الموضوع ، اعترضتنا و نحن بصدد إعداده صعوبات يمكن إرجاعها إلى الطبيعة القانونية التي يتميز بيها عقد الكراء عن غيره من التصرفات القانونية ، نظرا لتعدد النصوص القانونية المنظمة لهذا الأخير ، وهو ما يصعب معه جمع و توفيق بينها و ذلك في ظل التغيرات المصاحبة لهذا العقد ، الأمر الذي يطرح معه إشكالات على مستوى الممارسة العملية ، و بالتالي كان لابد من الوقوف عند هذه الاشكاليات التي تعترض النصوص القانونية ، الشيء الذي ينتج عنه مواقف فقهية و قضائية تختلف من اتجاه لأخر .
ثالثا : إشكالية البحث .
نظرا لأهمية عقد الكراء التي تنبع من طبيعته ، باعتباره ميثاقا قانونيا و اجتماعيا و ايضا اقتصاديا في تنظيم العلاقة التعاقدية بين طرفيه و هما المالك المكري و المكتري ، حيث نجد هذا الأخير لا يملك الإمكانيات الذاتية من أجل شراء عقار معين ، و هو ما جعل المشرع يتدخل من أجل تعديل بعض النصوص القانونية و تعديل البعض الأخر .
ومما لا شك فيه أن المشرع حين يلغي قانونا و يحيل محله آخر ، يكون مدفوعا بعلة وراغبا في الوصول إلى هدف، فأما العلة فهي ما يعتري النص القديم من القصور ، أو ما قد يكون فيه من مقتضيات تجلب عدم جدواها أو عدم قدرتها على مواكبة تطورات استجدت في المجال الذي تنظمه، و أما الهدف فليس إلا السعي لملء الفراغ و إزالة الغموض و بث الروح جديدة في النصوص القديمة .
و السبل إلى ذلك كثيرة ، منها الاستفادة من تجارب تشريعات مقارنة ، و الاستئناس بالحلول التي توصل إليها القضاء أثناء تطبيقيه للنصوص القانونية على القضايا التي عرضت عليه ، دون أن ننسى أهمية الاستعانة بآراء الفقهاء و الباحثين الذين تناولوا بالبحث و التحليل النصوص القديمة .
وهذا هو السبب الذي دفعنا إلى اختيار هذا الموضوع ، لملامسة الإشكالية التالية :
هل ظل المشرع المغربي في إطار النصوص الخاصة المنظمة لعقود الكراء ، متأثرا بالظهير الالتزامات و العقود المغربي الذي يستمد قدسيته من مبدأ سلطان الإرادة ، أم أنه في ظل التحولات الاقتصادية و الاجتماعية ، فرضت ضرورة تدخل المشرع و معه القضاء من أجل تجاوز هذا القصور ، من خلال إقرار نوع من التوازن و الاستقرار و الثبات بين أطراف العلاقة الكرائية ؟
رابعا : المنهج المعتمد .
سنعتمد لدراسة موضوع ” حدود مبدأ سلطان الإرادة في العلاقة الكرائية ” ، على المنهج التحليلي بغية تحليل النصوص القانونية و الآراء الفقهية المتصلة بالموضوع ، و كذا على المنهج المقارن لمقارنة النصوص السابقة المؤطرة لقانون الكراء مع النصوص الحالية ، كما أننا سنعتمد على المنهج الاستنباطي من خلال الانتقال عند تحليل الموضوع من العام إلى الخاص .
إلى كل هذا سنعتمد كذلك على المنهج النقدي من أجل نقد آراء الفقهاء و الباحثين و أحكام و قرارات المحاكم.
خامسا :خطة البحث .
سنحاول من خلال البحث الوقوف عند فصلين أساسيين هما:
الفصل الأول: مبدأ سلطان الإرادة و دوره في تكوين عقد الكراء و تنفيذه
الفصل الثاني: العلاقة الكرائية بين الحرية و التقييد على ضوء الممارسة القضائية
لتحميل البحث كاملا