حـــســنـاء جــعــفــر : مؤسـسة قاضي التنفيـذ في القانون المــــــغـــــربــي والمـــقــــــــــارن ( دراسة في ضوء مسودة قانون المسطرة المدنية )
مؤسـسة قاضي التنفيـذ في القانون
المــــــغـــــربــي والمـــقــــــــــارن
( دراسة في ضوء مسودة قانون المسطرة المدنية )
بقلم حـــســنـاء جــعــفــر
- باحثة في القانون الخاص،
- حاصلة على دبلوم الماستر المتخصص في شعبة المهن القانونية والقضائية
- حاصلة على الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة
إن دراسة مؤسسة قاضي التنفيذ ينطلق من الإجابة على الإشكال حول من هو قاضي التنفيذ ؟ والإلمام بالتأصيل التاريخي لهذه المؤسسة والحقبة التي عرفت خلق مؤسسة قاضي التنفيذ باعتباره المؤسسة المنوط بها تتبع إجراءات التنفيذ في عدة تشريعات (الفقرة الأولى)، وكذا معرفة الاختصاصات و السلطات التي يتمتع بها قاضي التنفيذ سواء من حيث الإشراف على العملية التنفيذية أو من حيث اختصاصه في الصعوبات التي قد تعترض التنفيذ (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى:التعريف والتأصيل التاريخي لمؤسسة قاضي التنفيذ
الأصل في المجتمعات المتحضرة والمتمدنة أنه لا يجوز للشخص أن يقتضي حقه بنفسه، لما في ذلك من خلق للفوضى وضرب للقيم، فمهمة اقتضاء الحقوق توكل إلى الدولة، عن طريق جهاز القضاء، باعتباره الحامي لحقوق الأفراد، والملزم بإجبار المدين على تنفيذ منطوق الحكم، ورد الحقوق لأصحابها.
ويعد تنفيذ الأحكام من دون شك، مناط العدالة ومصدر هيبة القضاء، ومدعاة ثقة المتقاضين فيه، لذا كان من اللازم وضع إستراتيجية لتدبير هذا الموضوع، اعتبارا لما يشكله الامتناع عن تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية من خروج سافر عن القانون، ومساس بهيبة السلطة القضائية وبحقوق الأشخاص[1].
والشريعة الإسلامية عرفت التنفيذ بأنه الإلزام والحبس، وأخذ المال بيد القوة ودفعه لمستحقه، وتخليص سائر الحقوق، وقيل بأنه إخراج الحكم إلى العمل حسب منطوقه، من خلال هذا التعريف يمكن تحديد المقصود بقاضي التنفيذ في الشريعة الإسلامية، بكونه هو الملزم والآمر بالحبس وآخذ المال بيد القوة ودفعه لمن يستحقه، وموقع الطلاق على من يجب لا من لا يجوز له إيقاعه[2].
والأصل في الشريعة الإسلامية، هو أن صاحب الحق لا ينتصف لنفسه، ومع ذلك كانت هناك بعض الاستثناءات لهذه القاعدة، لكنها لم تصل إلى حد الإخلال بهذا المبدأ، كما أن الأصل فيها إسناد مهمة التنفيذ إلى القاضي، فهو الذي يصدر الحكم وهو الذي ينفذه، سواء كان صادرا منه أو من غيره، وقد كان هذا مؤكدا في عصر كبار الأئمة، فأبو حنيفة وإن كان قد منع الحجز على المدين وبيع أمواله جبرا، فإنه أجاز للقاضي أن ينتزع المال من المدين ويسلمه للدائن إذا كان المال من جنس الدين، وقد ذهب الشافعي إلى ما يقرب ذلك، فهو لا يجيز الحجز على المدين الموسر، على أساس أن القاضي يلزمه بأداء ديونه، فإن امتنع باعه عليه أو أكرهه على بيعه بالضرب والحبس إلى أن يبيع أو يقضي[3].
ساير هذا التوجه أيضا، فقهاء المالكية، إذ قالوا بأن الأصل في الإختصاص بالتنفيذ يعود للقاضي المصدر للحكم، وله استثناء أن ينيب غيره في تنفيذ ما صدر عنه من أحكام، ويتمتع قاضي التنفيذ عند المالكية بسلطة القيام بمجموعة من الاختصاصات، من بينها الفصل في نزاعات التنفيذ الوقتية والموضوعية، وإصدار الأمر بإيقاف تنفيذ الحكم، سواء صدر عنه أو عن غيره، متى خالف نص الكتاب والسنة أو الإجماع، وإصدار الأوامر الولائية، مثل منع المدين من السفر، وتوقيف المال المدعى فيه، وانظار المدين المعسر إلى ميسرة[4].
أما في التشريع المصري فقد تم إحداث نظام قاضي التنفيذ في ظل قانون المرافعات لسنة 1968[5]، ويبقى الهدف من سن هذا النظام كامن في رغبة المشرع المصري في إخضاع التنفيذ لإشراف القضاء، في كل مراحله وتتبع إجراءاته، حيث يتم انتداب قاضي التنفيذ عن طريق الجمعية العمومية للمحكمة، وقد ينتدب قاض أو أكثر للتنفيذ، حيث يختص وحده دون غيره في النظر والفصل في جميع منازعات التنفيذ الموضوعية والوقتية، كما يختص وحده بإصدار القرارات والأوامر المتعلقة في بالتنفيذ، طبقا للفصل 275 من قانون المرافعات المصري[6].
ويقوم قاضي التنفيذ بالفصل في كل نزاع ينشأ بين أصحاب الشأن، ويتعلق ببطلان التنفيذ أو صحته، وقاضي التنفيذ ينتدب في مقر كل محكمة جزئية[7]، من بين قضاة المحكمة الابتدائية، وتتبع أمامه الإجراءات المقررة أمام المحكمة الجزئية، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك، وقاضي التنفيذ لا يوجد إلا على مستوى المحكمة الجزئية، ويتقيد بالإجراءات المتبعة أمامها ما لم ينص القانون على خلاف ذلك، ذلك إن تخصيص قاضي للتنفيذ، يحقق أغراضا متعددة منها سرعة وسهولة الإجراءات، وإعطاء القاضي خبرة خاصة، وتوحيد الجهة المختصة بالفصل في منازعات التنفيذ الموضوعية والوقتية، أيا كانت قيمتها وإصدار القرارات والأوامر المتعلقة بالتنفيذ[8].
أما في التشريع الفرنسي فقد عرف لأول مرة النظام المتعلق بقاضي التنفيذ “Juge de l’exécution” وذلك بمقتضى القانون رقم 626/72 الصادر في يوليوز 1972[9]، وقد سمي هذا القانون بالقانون المتعلق بإنشاء قاضي التنفيذ، رغم أنه تناول موضوعات أخرى تتعلق بالتنفيذ الجبري للأحكام ولغيرها من السندات التنفيذية، كما تناول ولأول مرة التنظيم التشريعي للغرامة التهديدية، ولعل إنشاء نظام قاضي التنفيذ كان أهم مستحدثات هذا القانون، لذلك عنون بهذا الاسم: Loi no 72-626 du 5 juillet 1972 instituant un juge de l’exécution et relative à la réforme de la producedure civile، وقد وردت النصوص المتعلقة بإنشاء نظام قاضي التنفيذ في الفصل الثالث من هذا القانون[10].
ومؤسسة قاضي التنفيذ ليست حديثة النشأة كما يرى العديد من فقهاء القانون الوضعي والباحثين فيه، الذين يرجعون الفضل في ظهورها إلى القانون والفقه الفرنسي، بل الأصل أن فقهاء الإسلام بما فيهم فقهاء المالكية، كانوا سباقين إلى تأسيس هذه المؤسسة، ومنحها الاختصاصات الكفيلة بتحقيق الغاية المنشودة منها، وهي تحقيق نجاعة المرفق القضائي، وضمان جودة خدماته، غير أن ما تجب الإشارة إليه هو أن مؤسسة قاضي التنفيذ لم تكن مستقلة عن قضاء الموضوع، كما هو عليه الحال اليوم في العديد من القوانين الوضعية، بل كانت جزءا لا يتجزأ من قضاء الموضوع، حيث كان القاضي في الآن نفسه قاض موضوع وقاض للتنفيذ، ومبرر هذا التداخل هو قلة القضايا المعروضة على القاضي[11].
وعلى الرغم من كون القانون المغربي ابن بار للتشريع الفرنسي، بحيث أن جل القوانين المغربية مقتبسة من نظيرها الفرنسي، إلا أن المشرع المغربي أغفل إحداث نظام قاضي التنفيذ على غرار النظام الفرنسي، إذ جاءت هذه المؤسسة في فصل يتيم غير واضحة المعالم ولا التأصيل، إذ نص عليها الفصل 429 من قانون المسطرة المدنية[12]، وتم التنصيص عليها أيضا في المادة 2 من القانون 95-53[13] المحدث للمحاكم التجارية[14]، وتعتبر هذه الفصول، هي الوحيدة التي تحدثت عن قاضي التنفيذ في القانون المغربي، وهو ما جعل الغموض يكتنف هذه المؤسسة، نظرا لعدم سن المشرع لنصوص تبين كيفية تنظيم هذه المؤسسة ومهامها، إذ في الواقع العملي ومع شح النصوص القانونية، فإن رئيس المحكمة يبقى هو المشرف على عمليات التنفيذ، والمختص بالبت في الصعوبات المتعلقة بها، سواء بإعتباره قاضي للمستعجلات في إطار الفصل 149 أو الفصل 436 من قانون المسطرة المدنية.
كل ذلك وفي غياب تحديد واضح لإختصاصات مؤسسة قاضي التنفيذ، جعل من هذه الأخيرة تجربة تفتقد إلى الرِؤية والتصور الواضحين، وبالتالي عدم نجاحها في مهمتها، ثم إن الاقتضاب الذي تعامل به المشرع مع هذه المؤسسة من خلال إغفاله تحديد اختصاصات القاضي المكلف بتتبع إجراءات التنفيذ من جهة، وعدم التأصيل لها وشرعنتها من خلال نصوص قانونية واضحة المعالم، كل ذلك أدى إلى إحداث نوع من التقاطع في اختصاصات رئيس المحكمة، وكذا تداخل اختصاصاته مع رئيس مصلحة كتابة الضبط باعتباره جهاز إداري[15]، وإذا كان إسناد هذه الوظيفة لرئيس المحكمة له ما يبرره من الناحية النظرية، بإعتباره أقدم القضاة وأكثرهم خبرة وتمرسا، يبقى منتقدا من الناحية العملية لتعدد مهامه، مما جعل مهمة الإشراف الفعلي على التنفيذ بيد كتابة الضبط، في شخص رئيس مصلحتها، هذا الأخير الذي يعد مرتبطا عضويا، بالجهاز القضائي ومرفق القضاء، ويمكن القول أن مهامه في هذا النطاق تكرس هيمنة موظف إداري على التنفيذ، في حين كان من الأجدر إسناد هذا الإختصاص لعضو متمرس في القضاء الجالس[16].
ويرى البعض أن تفعيل نظام قاضي التنفيذ في القانون المغربي له ما يبرره من الناحية النظرية، إذ أن بعض الإجراءات القانونية، سواء من حيث طبيعة قواعد التنفيذ، وعلاقتها بالدور الذي يقوم به في عملية التنفيذ، وأهدافها اقتصادية واجتماعية، تتعلق بالأخذ بعين الإعتبار مصالح الدائن وتمكينه من الحصول على حقه دون مغالاة في بعض الشكليات، كما يبرره استقلال الحق في التنفيذ عن الحق الموضوعي، فصدور الحكم فاصلا في النزاع مقررا إلزام المدين بالوفاء بمبلغ معين من المال، يعد بمثابة انتهاء الحق في الدعوى، ثم يبدأ ظهور حق جديد، هو حق الدائن في التنفيذ، وهما يختلفان من حيث الأطراف السبب والمحل[17]، أما من الناحية العملية، فإن كثرة القضايا المعروضة على القضاء، وكثرة الملفات المحكومة في رفوف المحاكم دون تنفيذ، بعد أن توقفت مسيرتها في مرحلة التنفيذ بسبب الصعوبات والعراقيل، ونظرا لطبيعة القواعد المنظمة للتنفيذ، واستقلال هذا الحق عن الحق الموضوعي، كل ذلك شكل دافعا قويا لتفعيل مؤسسة قاضي التنفيذ، ما من شأنه تحقيق السرعة والفعالية في تنفيذ الأحكام، بعد منح الإختصاص لجهة مستقلة ومتفرغة للنظر في كل ما له علاقة بالتنفيذ، وهذا من شأنه أيضا تخفيف العبء على رئيس المحكمة الابتدائية (أو رئيس محكمة الإستئناف حسب الأحوال)، باعتباره المختص بالبت في الصعوبات الوقتية المتعلقة بالتنفيذ في ظل القانون الحالي، حتى يتسنى لهذا الأخير ممارسة مهامه بكيفية سليمة[18].
وعليه، فإنه إذا ما تسنى للمشرع المغربي أن ينشئ هذه المؤسسة التي أصبحت ظروف إجراءات التنفيذ تلح عليها، فإن الأمر يقتضي أن يمنح قاضي التنفيذ سلطات واسعة لإدارة التنفيذ تحت مراقبته الفعلية، وسلطات قضائية كبيرة للسير بإجراءات التنفيذ حسب ما تهدف إليه الصيغة التنفيذية للأحكام، ويكون قاض التنفيذ بذلك قد جمع الصلاحيات التي تدخل في نطاق قاضي الأمور المستعجلة وهو ينظر في منازعات التنفيذ، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا عزز الجهاز القضائي بقضاة أكفاء لهم التجربة التي تسمح لهم بالبت في القضايا الدقيقة[19].
الفقرة الثانية: اختصاصات قاضي التنفيذ
إن الغاية المستهدفة من استصدار حكم قضائي هو التوصل إلى نفاذ منطوقه تبعا للصيغة التنفيذية المذيلة به، وعدم تحقيق هذه النتيجة يفقد الأحكام القضائية قدسيتها، وينحدر بها إلى مصاف القرارات المنعدمة المفعول، ما من شأنه أن ينعكس سلبا على ضبط العلاقات القانونية بين الأفراد، ويساهم في تعطيل استفادة المتقاضين من الحقوق المقررة لفائدتهم بواسطة السند التنفيذي.
ومن تم فإن تفعيل الأثر القانوني والواقعي المقرر بموجب حكم قضائي يقتضي توظيف كل الوسائل القانونية الممكنة لتنفيذه[20]، ومن جملتها تفعيل مؤسسة قاضي التنفيذ، إذ في غياب أي نص ينظم اختصاصات هذه المؤسسة باستثناء الفصلين اليتيمين في قانون المسطرة المدنية، وقانون إحداث المحاكم التجارية، و شكل توالي الرسائل الدورية لوزارة العدل حول مؤسسة قاضي التنفيذ، بدايات وإرهاصات أولى لتفعيل مؤسسة قاضي التنفيذ في التشريع المغربي، كما هو الشأن لعدد من التشريعات المقارنة، إلا أن هذه المؤسسة لا زالت في حاجة إلى رؤية واضحة وفاحصة، حتى تتبوأ بمكانتها المرجوة وتساهم لا محالة في تذليل الصعوبات التي تعترض العديد من إجراءات التنفيذ، وبذلك يتم تخفيف العبء على رؤساء المحاكم، وتحقيق التخصص الذي أصبح حتمية لا بد منها[21]، ثم إن توفير إشراف فعال ومتواصل للقاضي على إجراءات التنفيذ في كل خطوة من خطواته، وعلى القائمين به في كل تصرف يتخذ منهم، وجمع شتات المسائل المتعلقة به في ملف واحد، وفي يد قاض واحد قريب من محل التنفيذ يسهل على الخصوم اللجوء إليه[22].
وفي التشريع المصري، فقد حددت المادة 275 من قانون المرافعات[23]، الإختصاص النوعي لقاضي التنفيذ، إذ يختص بإعتباره فرعا من فروع القضاء العادي، دون غيره بالفصل في جميع منازعات التنفيذ الموضوعية والوقتية، ويعد هذا الإختصاص من النظام العام، تقضي به المحكمة من تلقاء نفسها، دون حاجة إلى دفع من الخصوم، أما من حيث اختصاصه القيمي فيختص بكافة منازعات التنفيذ الموضوعية والوقتية، أيا كانت قيمتها، ولخطورة تولي قاضي التنفيذ الفصل في المنازعات الموضوعية أيا كانت قيمة الدعوى، فقد عقد المشرع اختصاص استئناف هذه الأحكام، إذا زادت قيمتها عن عشرة ألاف جنيه لمحكمة الإستئناف، مما يسمح للخصوم الطعن في هذه الأحكام أمام محكمة النقض[24].
وعليه فإن المادة 275 من قانون المرافعات، وضعت قاعدة عامة مفادها ولاية قاضي التنفيذ بجميع منازعات التنفيذ، ليس فقط في مواجهة الجهات القضائية المختلفة، وإنما في مواجهة محاكم القضاء المدني، فالاختصاص المقرر لقاضي التنفيذ بهذه المنازعات، يكون على سبيل الاستئثار والإنفراد، فلا يكون لغيره من القضاة مشاركته هذا الإختصاص، إلا على سبيل الاستثناء وبنص خاص، ولهذا فإنه لا يجوز رفع منازعات التنفيذ الوقتية إلى قاضي الأمور المستعجلة، وإذا رفعت إليه فإنه يجب عليه الحكم بعدم الإختصاص، وإحالة المنازعة على قاضي التنفيذ[25].
والملاحظ من خلال هذه المواد، أن المشرع المصري خول لقاضي التنفيذ اختصاصات واسعة وشاملة في العملية التنفيذية برمتها، إذ جعله المشرف عليها، والمختص بالصعوبات التي تطالها، سواء الموضوعية أو الوقتية، مما يتيح له العمل بصفة مزدوجة، فهو قاضي موضوع أثناء نظره في الصعوبات الموضوعية، وقاضي مستعجلات أثناء نظره في الصعوبات الوقتية، إلى جانب كون اختصاصه النوعي من النظام العام تثيره المحكمة تلقائيا، وهو ما يفسر جسامة وأهمية هذه المؤسسة، إذ أن إحداث جهة وحيدة للبت في نزاعات التنفيذ، يغني الأطراف عن الخوض في حلقة البحث عن من هو المختص بالبت في هذه النزاعات، ويضمن لهم قرارات أكثر فعالية، لكون قاضي التنفيذ متفرغ للبت في الصعوبات فقط، مما يجعله يصب كل اهتمامه وتركيزه لرفع هذه الصعوبة، وحل النزاع بشكل يرضي جميع الأطراف[26].
وإذا كان قاضي التنفيذ في التشريع المصري هو المختص بكافة النزاعات المتعلقة بالتنفيذ، سواء كانت موضوعية أو وقتية، فإن اختصاصه في ذلك مقيد، فهو لا يختص بالنظر في المنازعات الوقتية المتعلقة بالقرارات الإدارية، ولو جرى تنفيذها على مال، إذ منح المشرع هذا الإختصاص لجهة القضاء الإداري، كما لا يختص بالنظر في المنازعات الوقتية المتعلقة بتنفيذ الأحكام الصادرة من هيئات التحكيم، التي تفصل في المنازعات المتعلقة بالمؤسسات العامة وشركات القطاع العام[27].
وإذا كان التشريع المصري قد أدرك أهمية قاضي التنفيذ كمؤسسة تعيد للأحكام القضائية هيبتها، على غرار التشريع الفرنسي، فإن المشرع المغربي هو الآخر فطن ولو بعد مدة من الزمن، إلى هذه الأهمية، ونظم إختصاصات قاضي التنفيذ في مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية، لسنة 2015، وخصص له الفرع الأول من الباب الثالث المعنون بـ”القواعد العامة بشأن التنفيذ الجبري للأحكام”، هذه المسودة التي أنصفت هذه المؤسسة وأعطتها الأهمية التي تستحقها، باعتبار أن تنفيذ الأحكام هو معيار قياس جودة قضاء أي بلد، وبلدنا الحبيب يعاني من معضلة التنفيذ أشد معاناة، هذا كله جعل من تفعيل مؤسسة قاضي التنفيذ حتمية لا بد منها، فقد نظمت هذه المسودة القواعد المتعلقة بقاضي التنفيذ من المادة 451-2 إلى المادة 451-19، سواء من حيث كيفية تعيين، والاختصاص والمسطرة، وحتى الطعن في أوامره.
وحددت المادة 451-2 من المسودة كيفية تعيين قاضي التنفيذ، إذ يعين هذا الأخير من بين قضاة المحكمة الابتدائية، وتدعيما لمكانة قاضي التنفيذ في المجال الإجرائي، وضعت المسودة طاقما إداريا إلى جانبه لمساعدته وتسهيل أداء مهمته، من بينهم موظفون ومكلفون بالتنفيذ، مع وجود قاض أو أكثر ينوبون عنه عند الضرورة[28]، وهو نفس التوجه الذي سار عليه أيضا التشريع الفرنسي[29].
من حيث الإختصاص النوعي لقاضي التنفيذ نصت المادة 451-3 من المسودة على كون قاضي التنفيذ يختص دون غيره، بإصدار الأوامر المتعلقة بالتنفيذ، كما يتولى مهمة الإشراف ومراقبة كل إجراءات التنفيذ، ويختص كذلك بالبت في صعوبات التنفيذ الوقتية، وفي منح الأجل الإسترحامي للمدين لأداء ما ألزم به، والملاحظ من خلال نص هذه المادة أن المشرع أعطى صلاحية الإشراف والمراقبة والتتبع لإجراءات التنفيذ لقاض التنفيذ دون غيره، كما أوكل له مهمة البت في كل الصعوبات الوقتية المتعلقة بالتنفيذ، دون الصعوبات الموضوعية، إذ أنه كلما تبين لقاضي التنفيذ غموض في منطوق السند الذي يجري تنفيذه كلف من له مصلحة باستصدار مقرر تفسيري من الجهة المختصة، وهو ما يصادف الصواب والمنطق، إذ أن الجهة المصدرة للحكم هي من تتولى تفسير منطوقه، إذ من غير المعقول أن يفسره قاضي التنفيذ على هواه ولكونه غير مطلع على قصد الهيئة المصدرة للحكم، إلا أن الأجزاء الواضحة من الحكم يجوز تنفيذها دون إشكال[30].
ولم ينسى مشرع المسودة التنصيص على الإختصاص المكاني لقاضي التنفيذ، إذ يحدد هذا الأخير بدائرة نفوذ المحكمة المصدرة للحكم، أو التي يوجد بها المنفذ ضده، أو التي توجد بها أمواله، مع إمكانية أن ينيب قاضي التنفيذ قاضي التنفيذ الآخر الذي يتم التنفيذ في دائرته للقيام بعملية التنفيذ.[31]
من حيث المسطرة المتبعة أمام قاضي التنفيذ فالمسودة لم تشترط بشكل صريح المسطرة الكتابية في تقديم الطلبات إلى قاضي التنفيذ، ولو أن العبارات المستعملة تفيد ضرورة الكتابة، ما دام من الضروري الإشارة إلى أسماء وألقاب ومواطن الأطراف، وهذا لا يمكن أن يتم إلا عبر طلب مكتوب[32]، أما من حيث الطعن في أوامر قاضي التنفيذ، فقد نصت المادة 451-6 على أنها تقبل الطعن بالاستئناف داخل أجل عشرة أيام من تاريخ صدورها، ويرفع الإستئناف أمام الرئيس الأول لمحكمة ثاني درجة، الذي يبت فيها على وجه السرعة بعد استدعاء الأطراف، ما لم تقتضي الضرورة البت في غيبتهم[33].
نخلص مما سبق أن مسودة المسطرة المدنية، حصرت اختصاص قاضي التنفيذ في صعوبات التنفيذ الوقتية دون الصعوبات الموضوعية، عكس التشريع المصري الذي منحه الاختصاص في جميع الصعوبات على حد سواء، لكن في اعتقادنا أن التوجه الذي تبنته مسودة المسطرة المدنية هو الصواب، على اعتبار أن الجهة المصدرة للحكم، هي الأولى من غيرها بتفسير أحكامها التي قد يعتري منطوقها غموض.
[1] نورة غزلان الشنيوي، التوجهات الأساسية للإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة، التنظيم القضائي، مطبعة الأمنية بالرباط، الطبعة الأولى سنة 2016، ص103
[2] عبد العزيز بن صالح إبراهيم، اختصاصات قاضي التنفيذ في النظام السعودي وتطبيقاتها، رسالة لنيل درجة الماستر في العلوم الجنائية، تخصص التشريع الجنائي الإسلامي، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، كلية الدراسات العليا قسم العدالة الجنائية بالرياض، 2008، ص 26/27
[3] عرفي عبد الفتاح، نظام قاضي التنفيذ في القانون المصري والمقارن، دراسة لنظام التنفيذ واختصاصات قاضي التنفيذ في القانون المصري والفرنسي والعراقي والسوري واللبناني، دار النهضة العربية بالقاهرة، بدون ذكر للطبعة أو للسنة، ص 17
[4] محمد لشقار، مؤسسة قاضي التنفيذ في القانون الوضعي والفقه المالكي، مجلة المتوسط للدراسات القانونية والقضائية، العدد الثاني 2016، ص 384
[5] قانون المرافعات المدنية والتجارية المصري الصادر بقرار رقم 13 لسنة 1968 المعدل بالقانون رقم 76 لسنة 2007
[6] أحمد قيلش، تفعيل مؤسسة قاض التنفيذ في التشريع المغربي، مقال منشور بمجلة الحقوق المغربية، العدد 12 سنة 2011، ص 60
[7] المحاكم الجزئية هي محاكم تنشأ بدائرة اختصاص كل محكمة ابتدائية، ويكون إنشائها وتحديد اختصاصها بقرار من وزير العدل، وتوجد هذه المحاكم في كل عاصمة وفي كل مركز وفي كل قسم من أقسام المحافظات، وهي تشكل من قاض واحد، والهدف منها هو تحقيق مبدأ تقريب المحاكم من مواطن الخصوم وتسهيل إجراءات التقاضي لهم.” فؤاد عبد المنعم أحمد، المحاكم الجزئية التشكيل والاختصاصات، موقع الألوكة الثقافية //www.alukah.net/culture/0/57792/ :http اطلع عليه بتاريخ 02/07/2018 على الساعة 16.00
[8] سيف النصر سليمان، مرجع سابق، ص 58
[9] Loi no 72-626 du 5 juillet 1972 instituant un juge de l’exécution et relative à la réforme de la producedure civile
[10] عرفي عبد الفتاح، نظام قاضي التنفيذ في القانون المصري والمقارن، دراسة لنظام التنفيذ واختصاصات قاضي التنفيذ في القانون المصري والفرنسي والعراقي والسوري واللبناني، دار النهضة العربية بالقاهرة، بدون طبعة أو سنة، ص 586.
[11] محمد لشقار، مؤسسة قاضي التنفيذ في القانون الوضعي والفقه المالكي، مقال منشور بمجلة المتوسط للدراسات القانونية والقضائية، العدد الثاني 2016 ص 386
[12] جاء في الفقرة الثالثة من الفصل 429 من قانون المسطرة المدنية ما يلي:”يكلف قاض بمتابعة إجراءات التنفيذ، يعين من طرف رئيس المحكمة الابتدائية باقتراح من الجمعية العامة.”، والملاحظ على هذا الفصل أنه جاء بصيغة غامضة، دون تحديد لاختصاص قاضي التنفيذ، أو لصلاحياته، مما يبرر فشل تفعيل هذه المؤسسة في ظل القانون المغربي.
[13] القانون رقم 53.95 المتعلق بإحداث المحاكم التجارية، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.97.65 الصادر بتاريخ 4 شوال 1417 الموافق لـ 12 فبراير 1997.
[14] تنص المادة 2 من قانون إحداث المحاكم التجارية في فقرتها الثالثة على أنه:”يعين رئيس المحكمة التجارية باقتراح من الجمعية العمومية قاضيا مكلفا بمتابعة إجراءات التنفيذ.”
[15] محمد زنون، مؤسسة قاضي التنفيذ في التشريع المغربي، مجلة المحاكم المغربية، عدد مزدوج رقم 126 و127، 2010، ص 56
[16] المهدي شبو، حقيقة صلاحيات القاضي المتتبع لإجراءات التنفيذ في ضوء قانون المحاكم التجارية، مجلة الإشعاع العدد 19 يونيو 1991، ص 48
[17] محمد محبوبي، مؤسسة قاضي التنفيذ كآلية لإستعادة هيبة الأحكام القضائية، المجلة المغربية للمحامي الباحث، العدد الأول 2012، ص 109
[18] يمنح اختصاص البت في صعوبات التنفيذ الوقتية، لرئيس المحكمة الابتدائية، في إطار القضاء الإستعجالي، وبمقتضى نص الفصل 149 من قانون المسطرة المدنية، الذي نص على ذلك في فقرته الأولى.
[19] ياسير الزيتوني، صعوبات التنفيذ في المادة الاجتماعية وسبل تجاوزها، مقال منشور بمجلة الإرشاد القانوني، عدد مزدوج الثاني والثالث، سنة 2018،ص 123
[20] محمد الهيني، إشكالية تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية، منظمة الحريات للتواصل بين موظفي قطاع العدل بالمغرب، http://alhoriyatmaroc.yoo7.com/t1344-topic#bottom، اطلع عليه بتاريخ 2/04/2018
[21] محمد زنون، مؤسسة قاضي التنفيذ في التشريع المغربي، مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية، عدد مزدوج 126و127، سنة 2010 ص، 56
[22] ياسير الزيتوني، مرجع سابق، ص 122
[23] نصت هذه المادة على أنه: “يختص قاضي التنفيذ دون غيره في جميع منازعات التنفيذ الوقتية والموضوعية أيا كانت قيمتها. ويفصل قاضي التنفيذ في منازعات التنفيذ الوقتية بوصفه قاضيا للمستعجلات”.
[24] عبد الرحيم إسماعيل زيتون، صلاح الدين جمال الدين ، مرجع سابق، ص 31
[25] إبراهيم أمين النفياوي، منازعات التنفيذ الجبري، دراسة في قانون المرافعات المصري، دار النهضة، الطبعة الأولى، بدون ذكر السنة، ص 266
[26] جاء في المادة 275 من قانون المرافعات المصرية: ” يختص قاضي التنفيذ دون غيره، بالفصل في جميع منازعات التنفيذ الموضوعية والوقتية أيا كانت قيمتها،كما يختص بإصدار لقرارات والأوامر المتعلقة بالتنفيذ.”
[27] حسني مصطفى، قاضي التنفيذ علما وعملا، دار المعارف الإسكندرية، بدون ذكر الطبعة أو السنة، ص 5
[28] عبد الكريم الطالب، الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، مطبوعات المعرفة بمراكش، الطبعة الثامنة 2017، ص 388
[29] Serge Guichard et Tony moussa; droit et pratique des voies d’exécution ;en dalloz action 1999 ; page 144
[30] نصت المادة 433-1 من مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية في فقرتها الأخيرة على أنه: “إذا تبين لقاضي التنفيذ غموض في منطوق السند الذي يجري تنفيذه، كلف من له مصلحة باستصدار مقرر تفسيري من الجهة المختصة، ولا يمنع ذلك من تنفيذ الأجزاء الواضحة من منطوق السند التنفيذي.”
[31] جاء في المادة 451-4 من المسودة ما يلي: “يكون الاختصاص المكاني لقاضي التنفيذ، بالمحكمة المصدرة للحكم، أو التي يوجد بها المنفذ ضده، أو التي توجد بها أمواله.”
[32] عبد الكريم الطالب، الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش طبعة ابريل 2013، وطبعة 2017 ص388
[33] نصت المادة 451-6 من مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية، على ما يلي: ” تستأنف أوامر قاضي التنفيذ الصادرة في صعوبات التنفيذ الوقتية، أمام الرئيس الأول لمحكمة ثاني درجة، داخل أجل عشرة أيام من تاريخ صدورها، ويكون للاستئناف داخل الأجل أثر موقف للتنفيذ. يبت الرئيس الأول أو من ينوب عنه في الاستئناف على وجه السرعة بعد استدعاء الأطراف المعينة، ما لم تكن هناك ضرورة قصوى تستوجب البت في غيبتهم. لا يطعن في القرارات الصادرة عن الرئيس الأول إلا بالنقض ووفق الإجراءات العادية.”