في الواجهةمقالات قانونية

حياد واستقلالية المحكم بين فلسفة النص وواقع الممارسة – الباحث : أيوب كنب

 

حياد واستقلالية المحكم بين فلسفة النص وواقع الممارسة
Arbitrator’s impartiality and independence between text philosophy and practice reality
الباحث : أيوب كنب
باحث في سلك الدكتوراه مختبر البحث قانون الأعمال – سطات.

ملخص:
تهدف هذه الدراسة إلى تبيان أهم مسألة ترتكز عليها مسطرة التحكيم، حيث يعتبر كل من الحياد والاستقلال أحد ركائز الدعوى التحكيمية لما لهما من آثار تنعكس بشكل إيجابي على نجاح هذه العملية التحكيمية في حالة توافرهما في المحكم، أو بالأحرى الالتزام بهم من طرف المحكم والعكس صحيح.
ولعل من أهم ماستحاول هذه الدراسة التطرق له هو إبراز ماهية هذين المبدأين من منظور تشريعي وفقهي وقضائي كذلك، هذا ناهيك عن محاكاة واقع الممارسة العملية للوقوف على مختلف الإشكالات المطروحة في هذا الصدد.

Abstract:

This study aims to illustrate the most important issue underlying the arbitration process. Both impartiality and independence are one of the pillars of the arbitral proceedings because they have a positive impact on the success of this arbitral process if they are available in the arbitrator, or rather are bound by them by the arbitrator and vice versa.

Perhaps one of the most important things that this study will attempt to address is to highlight what these principles are from a legislative, jurisprudential and judicial perspective as well, let alone to emulate the reality of practice in order to identify the various problems that arise in this regard.

مقدمة
يعتبر حياد المحكم واستقلاليته من أهم المبادئ الراسخة في مجال التحكيم، وهما مبدئان يقاسمهما القاضي والمحكم، مع بعض الفروق الاختلافات البسيطة، حيث يرتكزان على قواعد أخلاقية قوامهما بعث الاطمئنان في نفوس المحتكمين الى من يفصل فيما بينهم من نزاع بحكم قابل للنفاذ والتطبيق، وتكمن أهمية الحياد والاستقلالية في التحكيم بأنهما أساس وعماد الحكم التحكيمي وحجر زاويته وركنه الأساسي فعند غيابهما تغيب العدالة وتتسرب الى الحكم التحكيمي نقاط تجعله هو والعدم سيان.
وتعد مسألة اختيار المحكم أو الهيئة التحكيمية أولى خطوات العملية التحكيمية، حيث يمكن أن يقع هذا التعيين إما باتفاق بين الأطراف أو بموجب أمر صادر عن قاضي الارتكاز ، ويبقى الشخص الذي اختير لإدارة هذا النزاع مجبر بأن يفصح عن كل علاقة أو معاملة أو مصلحة خاصة تربطه مع أحد الأطراف، أو أن يرفض أصلا المهمة التحكيمية المسندة إليه، كما يفترض كذلك عدم افصاحه عن مثل هكذا معطيات وهو ما يمكن أن يفتح باب الشك حول حياده واستقلاليته وبالتالي واجب النزاهة والمصداقية، بتعمده السكوت عنها أو إخفائها .
وعطفا على ما سبق فإن أهمية هذين العنصرين تتجلى في تأكيد القانون النموذجي للتحكيم – اليونسترال – على ضرورة توفر الحياد والاستقلال في المحكم، ، حيث نصت المادة 12 منه على وجوب عزل المحكم إذا تبين من ظروف القضية أن هناك شك في حياده واستقلاله .
ولرصد أبعاد هذه الدراسة، سنقوم بإلقاء نظرة شاملة عن الحياد والاستقلال في المادة التحكيمية، الذي سنعمل من خلالها على الإشارة إلى مختلف التعاريف الفقهية والقضائية لكل من الحياد والاستقلال، وكذا الالتزام بالإفصاح الذي يعد أحد أهم ملامح الاستقلال والحياد (المحور الأول)، في حين سنحاول من خلال (المحور الثاني) معالجة الاشكالات العملية التي يطرحها هذين العنصرين وذلك من خلال محاكاة التوجهات القضائية المرتبطة بذلك.
المحور الأول: نظرات في الحياد والاستقلال في الدعوى التحكيمية
بصريح عبارة الفقرة الثالثة من المادة 30 من قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية فإنه يتعين على المحكم الذي قبل مهمته أن يفصح كتابة عند قبوله عن أي ظروف من شأنها إثارة شكوك حول حياده واستقلاله، فمن خلال هذه المادة يتضح لنا أن أهم ملامح حياد واستقلال المحكم تتجلى في واجب الإفصاح الملقى على عاتق المحكم (ثانيا)، لكن وقبل تحليل هذه النقطة نرى أنه من الأجدر إعطاء نبذة تعريفية بمبدأي الحياد والاستقلال في الدعوى التحكيمية (أولا).
أولا: لمحة عن حياد واستقلال المحكم في ضوء ضوء توجهات الفقه والقضاء
يقصد بالحياد عدم انحياز المحكم ضد طرف أو الى جانب طرف. وقد اعتبر بعض الفقه عدم الحيدة حالة نفسية تتعلق أساسا بالعاطفة (مصلحة شخصية أو صلة مودة أو عداوة بأحد الخصوم)، يرجح معها عدم استطاعة المحكم الحكم بغير تحيز .
في حين ذهب البعض الى اعتباره “مسألة شخصية داخلية يسكن دواخل المحكم، وهو حالة نفسية وذهنية ومجموعة من المشاعر والعواطف تجاه هذا الطرف دون الآخر، ويؤثر على سير الدعوى التحكيمية وعلى نتيجة الحكم، وهو يعني عدم التحيز لأي من الخصوم، أو الميل الى نظرة هذا دون ذاك، أو التعاطف مع ويسقى هذا الشرط من المبادئ القانونية العامة، ومن المثل العليا، وأساسه المنطق، يلتزم به المحكم بدون إلزام ويتحلى به دون إجبار.
ويذهب البعض من الفقه إلى أبعد الحدود حينما يتعلق الأمر بمسطرة التحكيم الدولي، حيث يتم الرجوع عادة الى خلفية المحكم الدولي الثقافية، أي الى عقيدته السياسية “رأسمالية” أو “اشتراكية” أو كونه ينتمي الى دولة متقدمة أو دول نامية. حيث أنه لا توجد في الغالب معاني واضحة للصفات الأيديولوجية التي تلصق بالأشخاص، وأنه في كثير من الأحيان تثار شكوك غير عقلانية تجاه المحكمين، يحتمل أن يكونوا غير موضوعيين، بسبب خلفيتهم الثقافية على الرغم من حيادهم التام وعدم وجود أية أفكار مسبقة لديهم .
وفي هذا الصدد قضت محكمة استئناف القاهرة بأن عدم الحيدة يعني ميل ذهني أو نفسي للمحكم لصالح أحد طرفي النزاع أو الغير أو الدولة، بحيث يرجح معه عدم استطاعة المحكم الحكم بغير ميل لأحد ممن ذكروا أو ضده، بيد أنه يجب أن تكون العداوة أو المودة شخصية ومن القوة بحيث يستنتج منها قيام خطر يبرر الشك في عدم حيدة المحكم عند إصدار الحكم .
في حين ذهبت محكمة بيروت الابتدائية في أحد الأحكام الى اعتبار انه “يفترض في المحكم الا يكون وضعه او عقله مرتهنا بأي اعتبار سابق وان تكون حيدته بنطق الحق مطلقة وغير مقيدة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بأي سبب مؤثر عاطفي أو أدبي أو مصلحي أو اجتماعي أو عقائدي حاضر أو مستقبلي أكيد أو احتمالي” .
ويفرض هذا المبدأ على المحكم ضرورة الامتناع عن الاتصال بأحد طرفي التحكيم بعد بدء الإجراءات لمناقشته في النزاع محل التحكيم، ولو كان هذا الطرف هو الذي قام باختيار هذا المحكم، على أن مجرد تلاقي المحكم مع أحد طرفي التحكيم بطريقة الصدفة دون مناقشة النزاع محل التحكيم لا يثير الشك في حيدة المحكم” .
في حين اعتبرت محكمة الاستئناف بباريس أن حياد ونزاهة المحكم تفرض عدم وجود تحيزات يحتمل أن تؤثر على حكم المحكم، وهو ما قد ينجم عن عوامل متعددة مثل جنسية المحكم أو بيئته الاجتماعية أو الثقافية أو القانونية، ويكون من شأن هذه العناصر خلق في أذهان الأطراف شككا معقولا في حياده .
ومن نافلة أخرى فقد حاول الفقه والقضاء الاجتهاد في تعريف المقصود بالاستقلال في الدعوى التحكيمية، حيث عرفه البعض بكونه الاستقلال الكامل للمحكم فيما ينتهي اليه من رأي غير متأثر فيه بعلاقة تربطه بأحد الطرفين سواء كانت علاقة مالية أو اجتماعية أو مهنية سابقة أو حالية. ويتوافر عدم الاستقلال كلما وجدت ظروف موضوعية معينة توحي بعمل المحكم لحساب أحد الخصوم، وتجعل المحكم كما لو كان تابعا للخصم أو خاضعا لرأيه أو سلطته مما يؤثر على استقلال المحكم. فلا يكون المحكم مستقلا إذا كان شريكا لأحد الأطراف أو كانت له مصالح مادية أو ارتباطات ماليه معه، أو كان المحكم في مركز وظيفي بحيث يخضع لرئاسة أحد الأطراف أو ينتظر منه ترقية أو يخشى منه جزاء .
في حين ذهب البعض لاعتبار استقلال المحكم “مسألة موضوعية محسوسة وملموسة فهو بهذا المعنى عنصر خارجي” .
وبذلك فهذا المبدأ يرصد مركزا واقعيا ، أي الوضع الذي يكون عليه المحكم وقت اختياره ليتولى مهمة التحكيم والفصل في النزاع التحكيمي، وهو ما يفرض اذن انتفاء رابطة التبعية بين المحكم ومن اختاره، فلا يعمل لحسابه ولا يأتمر بتوجيهاته، حتى يكون مركز ووضع المحكم في منأى عن أي شبهة قد تثير شكوكا حول استقلال هذا المحكم.
وبالتالي فتقرير ما إذا كان المحكم مستقلا عن أطراف النزاع هو أمر يمكن إثباته في أغلب الحالات، فعدم التبعية التي تعتبر أمرا ضروريا لاستقلال الهيئات التحكيمية تقتضي عدم وجود أية علاقة أو صلة بموضوع النزاع أو أحد المحتكمين أو ممثليهم، زد على ذلك عدم خضوعه لأية مؤثرات خارجيـة .
وأعتبر البعض ان مبدأ “الاستقلال” لا يعني فقط عدم وجود أية روابط خاصة بين المحكم وأحد الفرقاء، بل يعني أيضا وضمنا وجود درجة معين من “الشجاعة ” لدى المحكم، أو بعبارة أخرى خلو المحكم من “الطمع”، أي عدم وجود أية رغبة لديه في أن يرضي أحد الفريقين على حساب الفريق الآخر على أمل أن يعاد تعيينه كمحكم في المستقبل أو في الحصول على أية منافع أخرى من الفريق الذي نال رضاه.
وأكد على انه يجب أن يتمتع (المحكم) بموضوعية طبيعية أو مكتسبة أي عدم الانحياز والمقدرة على رؤية وجهَي كل قضية وعلى إبقاء ذهنه مفتوحا حتى نهاية الإجراءات التحكيمية واتخاد القرار.
الى جانب الفقه، اجتهد القضاء بدوره في تبيان ماهية الاستقلال، فقد جاء في أحد القرارات الصادرة عن محكمة استئناف مدريد بأن” الاستقلالية مفهوم موضوعي جدير بالاهتمام على أساس العلاقات التي تربط المحكم بالأطراف” .
محكمة الاستئناف بتونس بدورها قضت بأن: “الاستقلالية مفادها ألا يكون للمحكم أية علاقة أو رابطة سواء كانت مادية أو أدبية بأحد أطراف الخصومة التحكيمية، وأن كل رابطة من هذا القبيل توجد بين المحكم وأحد طرفي النزاع التحكيمي تشكل خطرا على الطرف الآخر وتفقد المحكم استقلاليته” .
نفس القضاء اعتبر أنه:” من المبادئ الأساسية للتحكيم الثقة فيه وضمان استقلاليته بالقدر اللازم لتحقيق نجاعته؛ مضيفا أنه:” ليس للقاضي سلطة توجيه أذون للمحكمين بشأن إدارتهم للنزاع التحكيمي ولا مراقبة قراراته خارج السبل المحددة حصرا في مجلة التحكيم” .
أما محكمة النقض المصرية كذلك أقرت بأن “المقصود باستقلال المحكم وحيدته، هو عدم ارتباطه بأية رابطة تبعية أو مادية أو ذهنية مع أحد أطراف النزاع تتنافى مع استقلاله، بما يشكل خطرا حقيقيا يتمثل في الميل تجاه أحد الطرفين “the real danger of bias”، أو يثير شكوكا مبررة “justifiable doubts” في هذا الشأن، ولا يكفي في المحكم أن يكون مستقلا ومحايدا وإنما يتعين أن يسود الاعتقاد لدى طرفي التحكيم أن الحكم الذي سيصدره سوف يتسم بالعدل” .
في حين ذهبت محكمة استئناف القاهرة الى تعريفه بأنه: ” عدم ارتباطه – أي المحكم- بأي رابطة تبعية خصوصا بأطراف النزاع أو الدولة أو الغير وعدم وجود روابط مادية وذهنية تتنافى مع استقلاله بحيث تشكل خطرا مؤكدا للميل إلى جانب أحد أطراف التحكيم، وتطبيقا لذلك، فإن المحكم يكون غير مستقل إذا كانت له مصالح مادية أو شراكة أو ارتباطات مالية مع أي من طرفي الخصومة المعروضة عليه، أو إذا كان المحكم ينتظر من أحد الأطراف ترفيعا أو ترقية، أو يكون خاضعا لتأثيره وتوجيهه أو خاضعا لتأثير وعد أو وعيد منه، كأن يباشر تقديم استشارات ومساعدة فنية لأحد أطراف الخصومة التحكيمية مقابل أجر أثناء سير إجراءات التحكيم، أو أن يعمل مستشارا بمقابل لشركة تابعة للشرطة القابضة التي يتبعها أحد أطراف التحكيم، أو إذا تم تعيينه كمستخدم لدى أحد أطراف النزاع في اليوم التالي لإصداره حكم التحكيم” .
وهناك رأي جدير بالاهتمام لمحكمة الاستئناف بتونس فسرت من خلاله المقصود بالحياد والاستقلال والحدود الفاصلة بينهما، وقد جاء في حيثيات هذا الحكم ما يلي:
“إن شرط الحياد المطلوب في المحكم يختلف عن شرط الاستقلالية وهما ليسا من المترادفات. إن الحياد المطلوب توافره هو الحياد بمعناه الأخلاقي.
إن شرط الحياد – فيمن يعهد له بفصل النزاعات – يعتبر من مقومات القضاء، عدلياً كان أو تحكيما خاصا. وله جانب إجرائي (فني) وآخر أخلاقي … إن الحياد المقصود بمجلة التحكيم (قانون التحكيم) هو الحياد بمعناه الأخلاقي إذ أورده المشرع كدعم لعنصر الاستقلالية ولإرساء الثقة في العدالة عامةً باعتبار أن التحكيم يستمد قوته من القانون، ومعناه التجرد وعدم الانحياز لأي طرف في النزاع. فقوام التحكيم هو الثقة الممنوحة من الأطراف في المحكم لفصل النزاع، وإن شرطي الحياد والاستقلالية ليسا مترادفين. فالاستقلالية هي وضعة موضوعية تقوم على عدم وجود رابطة بين أعضاء هيئة التحكيم وأحد أطراف النزاع بما يجعل المحكم بعيداً عن أي تأثير منه (مثل علاقات قرابة، مديونية، شراكة، صداقة …) وقيام مثل تلك العلاقات يستنتج منه قرينة غياب الاستقلالية. أما الحياد فهو عدم التحيز القائم إما على اعتبارات مصلحية أو غير نفعية” .
كما ذهبت محكمة النقض المصرية إلى اعتبار الالتزام بالحيدة والاستقلال مبدأ أساسي من مبادئ قانون التحكيم المصري، فينطبق واجب الحيدة والاستقلال على حد سواء على المحكمين المعينين من قبل الأطراف، أو من قبل مركز التحكيم، أو بحكم من المحكمة، وينطبق كذلك على رؤساء هيئات التحكيم. كما أن ضمان النظام القضائي المصري لحياد المحكمين واستقلالهم حرصه على مراقبة حسن تطبيق هذه المبادئ – تحت رقابة محكمة النقض – هو من بين الأسباب التي تعزز ثقة أطراف التحكيم الدولي في اختيار مصر مقرا للتحكيم .

 

 

 

 

 

ثانيا: الالتزام بالإفصاح في ضوء النظرية والتطبيق
لضمان فعالية الحياد والاستقلال اهتم المشرعون وقواعد اليونيسترال وأغلب أنظمة الغرف والهيئات والمؤسسات التحكيمية بمبدأ “الالتزام بالافصاح” وهو أن يقبل المحكم مهمة التحكيم ويعلن عن كل الظروف والملابسات التي من شأنها أن تكون محط شكوك حول حياده واستقلاله، أو أنه لا تتوفر منه المواصفات التي اتفق عليها الأطراف، أو ليست لديه المؤهلات للبت في القضية، كجهله للغة التحكيم، أو عدم تمكنه من تقنيات النزاع، أو عدم معرفته للقانون الواجب التطبيق، والالتزام بالإفصاح خصوصا فيما يتعلق بالظروف التي تمس حياده .
ويطرح التساؤل حول الوقت الذي يتعين على المحكم الإفصاح فيه عن الظروف التي من شأنها إثارة الشكوك حول حياده واستقلاله؟
في ظل القانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية فقد حاول المشرع من خلال الفقرة الثالثة من المادة 30 تحديد وقت الإفصاح بالقول عند قبول المحكم للمهمة المسندة إليه.
وفي ذلك نص أيضا المشرع الفرنسي عفي المادة 1456 من قانون المسطرة المدنية الفرنسي على أنه يجب على المحكم قبل قبوله مهمته أن يكشف عن كل ظرف من الظروف التي من شأنها التأثير في استقلاليته أو في حياده، ونفس الالتزام ملقى على عاتقه بخصوص أي ظرف يمكن أن ينشأ بعد قبوله المهمة .
وقد سارت على نفس المنوال بعض أنظمة مراكز التحكيم، كالمادة 11.2 من نظام غرفة التجارة الدولية الذي أوجب على المحكم القيام بالتصريح قبل تعيينه .
وعليه يكون تصريح المحكمين بوجود ما يثير الشكوك ليس فقط في علاقتهم مع الأطراف، وإنما كذلك في علاقاتهم مع مستشاريهم ومحاميهم وفي علاقة المحكمين فيما بينهم.
وقد اعتبرت محكمة النقض المصرية أن “الحكمة من التزام المحكم بالإفصاح كتابة هي تحقق الدليل على علم أطراف التحكيم بالوقائع المفصح عنها، مما ينفى عنهم قرينة عدم العلم بها، أما كتمان المحكم لتلك الوقائع التي تنال من حيدته واستقلاله، يرفع عنهم عبء إثبات عدم العلم بتلك الوقائع” .
كما أن بعض القضاء المغربي أكد على أن عدم الإفصاح ليس فقط خرقا لقانونية تشكيل هيئة التحكيم، ولكن أيضا مساسا بحقوق الدفاع، وهو ما كرسه القرار الصادر بتاريخ 14 يوليوز 2015 عن محكمة الاستئناف التجارية، والذي جاء فيه:
“أي تواصل بين أحد المحكمين وبين أطراف التحكيم أو دفاعه لأغراض شخصية … يبقى غير مقبول ومن شأنه إثارة شكوك حول حياده واستقلاله وأن عدم قيام المحكم المعني بإعلام الخصم بالواقعة المريبة يشكل إخلال بالالتزام بالإعلام المقرر قانونا ترتب عنه حرمان هذا الأخير من ممارسة مسطرة التجريح مما يعد ليس فقط خرقا لقانونية تشكيل الهيئة التحكيمية ولكن أيضا مساس بحقوق الدفاع” .
كما أن نفس القضاء تطرق لهذا المبدأ مؤكدا على ما يلي:
” وحيث انه بالاطلاع على الوثائق المدلى بها وخصوصا الشكاية المقدمة من طرف السيد م ق بصفته مصفي لشركة ب الى السيد وكيل الملك بالمحكمة الزجرية بالدار البيضاء يتبين انه تم اقحام اسم السيد م ع ب والسيد ا ب في الشكاية.
وحيث انه وخلافا لما تمسك به الطرف المدعى عليه بخصوص عنصر العلم بمحتوى الشكاية قبل تعيينه كمحكم فانه بالاطلاع على الجمع العام المؤرخ في 7/4/2015 يتبين انه تم اعلام المدعيين بوضع شكاية ضد مجهول من طرف السيد م ق بصفته مصفي للشركة في حين ان الشكاية المذكورة تضمنت اسماء المدعين وبالتالي فان عنصر العلم بمحتوى الشكاية يبقى غير ثابت.
وحيث انه وعلاوة على ذلك فانه بالاطلاع على المراسلات المتبادلة بين طرفي النزاع يتبين ان خلافات قائمة بين المدعين والسيد م ق.
وحيث ان الملف يخلو مما يفيد افصاح المحكم عند قبوله للمهمة للمعطيات المشار اليها اعلاه وفق ما يقتضيه الفصل 6-327 من قانون المسطرة المدنية.
وحيث ان الخلافات المذكورة من شانها المساس بحياد المحكم وتعد سببا خطيرا يبرر عزله.
وحيث يكون تبعا لذلك طلب المدعين مبرر ويتعين الاستجابة له والامر بعزل السيد م ق عن مهامه كمحكم بمقتضى الاتفاق المصادق على توقيعاته بتاريخ 5 و6 غشت 2015 .
أما عن جزاء الإخلال بالالتزام بالإفصاح، فإنه يمكن أن يؤدي الى تجريح المحكم طبقا لمقتضيات المادة 24 من قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية إذا ظهرت للأطراف وقائع وأسباب أو علامات تثير شكوكا حول حياده واستقلاله وتم السكوت عنها من جانب المحكم، كما يمكن أن يكون سببا للمطالبة ببطلان الحكم التحكيمي إذا استمر السكوت عن الظروف والوقائع الموجبة للإفصاح الى ما بعد صدور الحكم التحكيمي، حيث تم اكتشافها.
وهناك توجه قضائي جدير بالاهتمام، حدد نطاق هذا الإفصاح الواقع على عاتق المحكم، حيث جاء في القرار الصادر عن محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء بتاريخ 23 شتنبر 2021 ما يلي:
“وحيث إنه بخصوص ما تدفع به الطالبة بأن المحكم المعين لم يشر في الحكم التحكيمي إلى العلاقة التي تربطه بطرفي النزاع، مما يعد خرقا لمبدأ الحياد و الموضوعية الواجب توافرهما في الهيئة التحكيمية، فإنه لئن المشرع ألزم المحكم الإفصاح عن كل علاقة سابقة بأطراف النزاع أو تطرأ أثناء مباشرة مهامه و إحاطتهم بذلك، فإن ذلك رهين بتحقق ما يهدد حياده و استقلاله، حتى يتسنى للأطراف سلوك المسطرة التي أفردتها المشرع لذلك، وما دامت الطالبة لم تدل بما يثبت أن المحكم كانت له علاقة مع أحد الأطراف و لم يفصح عنها، يبقى دفعها غير مرتكز على أساس و يتعين استبعاده” .
في حين اعتبرت محكمة الاستئناف الأولى المدنية ببيروت على ان:” الإدلاء بعدم حياد المحكم، على فرض ثبوته، فإنه لا يؤلف سببا لإبطال القرار التحكيمي، بل سببا لرده، وذلك استنادا لأحكام المادتين 869 و870 فضلا عن أنه، وفي مطلق الأحوال، كان على طالب الإبطال الإدلاء بهذا السبب عند تعيين المحكم، وليس في معرض الطعن الراهن” .
وهو نفس التوجه الذي كرسته محكمة النقض المصرية بالقول أنه:” على من يدعي عدم حياد المحكم أو عدم استقلاله أن يتمسك بذلك ويثبته طالما أنه قد علم بالعيب قبل صدور الحكم التحكيمي، وليس له بعد صدوره أن يرفع دعوى بطلانه” .
المحور الثاني: حياد واستقلال المحكم على ضوء الممارسة العملية
من أجل بلورة تصور عام حول مبدئي حياد واستقلال المحكم، فإن الضرورة تفرض رصد بعض الحالات العملية التي عرضت على القضاء، فقد افرزت الممارسة العملية عدة مشاكل واختلافات حول مسألة الحياد والاستقلال في الدعاوى التحكيمية فتعيين المحكم من أحد الأطراف لا يخلو من الانحياز لهذا الطرف إذ في كثير من الأحيان يتحول هذا المحكم الى محامي هذا الطرف يتبنى أطروحته ووجهة نظره ويدافع عن مصالحه أمام المحكم الثالث، فلا ضير، اذن، من وجود علاقة بين الطرف وهذا المحكم؛ حيث ان السائد في الحياة العملية أن لا ضير إذا دافع هذا المحكم الثالث عن مصالح الطرف الذي عينه أمام المحكم الثالث (المرجح)، خصوصا في المراحل الأولى لعملية التحكيم وفي المناقشات التمهيدية للتعرف على تفاصيل النزاع.
إلا أن النزاهة الفكرية التي يجب أن تتوفر في المحكم تقتضي ألا يكون هذا الدفاع عن مصلحة الطرف الذي عينه صارخا أو فاضحا لا يستسيغه المنطق، أو ليس له نصيب من الحقيقة لتبقى لهذا المحكم مصداقيته، وبالتبعية مصداقية مناقشات ومداولات هيئة التحكيم .
إلا أن جمهور الفقه وخصوصا في الدول العربية يرفض هذا السلوك لكونه يخل بتوقعات الأطراف عن حياد المحكم ويحدث اهتزاز في ثقة الأطراف تجاه هيئة التحكيم وبين مصالح الأطراف .
كما ان بعض الفقه المغربي يرى انه يجب التعامل بمرونة كثيرة مع هذه الحالة، لأن المحكم المعين من أحد الطرفين يشعر أمام هيئة التحكيم أنه يمثل الطرف الذي عينه وأنه عين لاعتبارات خاصة يعلمها هذا الطرف، مما يبدو معه أنه من الصعب جدا أن يكون هذا المحكم محايدا غير منحاز.
وقضت المحكمة الفيدرالية السويسرية في أحد الاحكام الصادرة على أن:” الرأي الذي بين يدي محكم محتمل حول مسألة قانونية أو تعبير عن هذا الرأي في منشور لا يشكل بحد ذاته عدم حيادية ظاهرة، بمعنى ان هذا الأخير لا يحكم مسبقا على نزاع حاصل، وأن الرأي المهم وحده غير القابل للرجوع أو للعودة عنه يشكل حالة. ويبرر بالتالي درء المحكم المحتمل حتى لو كان الغير الفاصل في النزاع قد حصل في وقت لم يكن فيه المحكم عالما أو بإمكانه أن يعلم أنه سوف تتم تسميته محكما في الإجراء التحكيمي” .
في حين قضت محكمة استئناف باريس على أن:” المراسلات والاتصالات التي لا تأثير لها فلا يعتد بها كمشاركة أحد المحكمين ومحامي أحد الأطراف في مؤتمر نظمته الجمعية المغربية لقانون المعلوماتية والاشغال” .
محكمة النقض الفرنسية أيضا اعتبرت في أحد القرارات ان تشغيل المحكم لدى أحد أطراف التحكيم مباشرة بعد صدور الحكم التحكيمي يعد مساسا بالحياد والاستقلال، مما يشكل قرينة كافية للمطالبة ببطلان حكم المحكمين .
نفس المحكمة اكدت ان عدم ابلاغ المحكم الطرف الآخر بالرابط المهني الوثيق بين ابنة أحد المحكمين ومستشار الطرف في الدعوى مخالفا لمبدأ حياد واستقلال المحكم، مما يجعل الحكم التحكيمي باطلا .
قرار آخر لمحكمة النقض الفرنسية صادر بتاريخ 10 أكتوبر 2012، قضت بنقض قرار لمحكمة الاستئناف بباريس القاضي ببطلان الحكم التحكيمي على أساس أن المحكم لم يفصح على كونه يشتغل كمستشار لمدة عشر سنوات لمكتب المحاماة الذي ينوب عن أحد أطراف التحكيم، واستمر المحكم بعد ذلك في إعطاء استشارات لهذا المكتب في عدة مناسبات، وعللت محكمة النقض قرارها بأن محكمة الاستئناف لم تبين تأثير هذه العناصر التي لم يتم الإفصاح عنها، على ذهن الأطراف وفي إثارة الشكوك حول حيدة المحكم واستقلاله .
أما بعض القضاء اللبناني فقد اعتبر ان:” رد طلب الاستماع الى أحد الشهود من قبل الهيئة التحكيمية لا يؤلف خروجا عن المهمة المعينة لها، إذ أنه يعود للهيئة التحكيمية تقدير جدية أقوال الفرقاء، ومدى جدية الأدلة المعروضة عليها، وان تختار من بينها ما يعزز قناعتها دون أن تكون ملزمة بالأخذ بأية وسيلة اثبات يتمسك بها أحد الفرقاء، ويقتضي بالتالي رد ما أدلى به طالب الإبطال لجهة خروج الهيئة عن المهمة الموكولة اليها.
وحيث ان السبب الثالث مردود بدوره، ذلك ان يعود للهيئة التحكيمية ات تختار الدليل الذي يعزز قناعتها، وفقا لما يجري بيانه آنفا، وبالتالي، إذا كانت المستندات والاثباتات المبرزة في الملف كافية لتعزيز قناعتها، فإنه يعود اليها رد طلب الاستماع الى أقوال طالب الإبطال، وأن ذلك لا يؤلف خرقا لحق الدفاع، لأنه لا يمكن إلزام الهيئة بالاستماع الى أحد الفرقاء تحت طائلة إبطال القرار التحكيمي الصادر عنها، ويقتضي رد ما يدلي به طالب الابطال بخلاف ذلك” .
واتجه بعض القضاء التونسي الى القول بأن انتماء المحكم لذات المنطقة او القبيلة الذي ينتمي إليها أحد أطراف التحكيم لا يعد سببا لنفي الاستقلالية أو الحياد عن المحكم، باعتبار ان هذا القول يؤول إلى تكريس النزعة القبلية. وهي مفاهيم بالية تجاوزها الزمن، وبات دفع الطاعنة بأن وحدة الجهة التي ينتمي إليها كل من رئيس هيئة التحكيم ووكيلي الجهة المطعون ضدها من شأنه الدلالة على عدم الحياد والاستقلال دفعا مردودا عليها وحريا بالرد” .
القضاء المغربي بدوره أقر على أن:” المحكم المرجح الذي يرجع رأي أو نظرية أحد المحكم، ويعلل ذلك بما ورد في مذكرات المحكم الذي تم ترجيح رأيه، فإن ذلك لا يخرجه عن قاعدة الحياد ما دام المطلوب منه هو ترجيح أحد الآراء المعروضة عليه” .
وعموما يمكن القول ان مبدئي الحياد والاستقلال مبدئان مختلفان، يختلطان في بعض الأذهان، فالحياد ليس هو الاستقلال والعكس أيضا صحيح، فهما أمران متباينان ولكنهما أيضا متقاربان تجمع بينهما أواصر قوية ووشائج صداقة، إذ يصعب فك الارتباط بينهما، خاصة فيما يتعلق بالآثار القانونية التي تترتب عن عدم تحققهما، فانتفاؤهما في المحكم يجعل مصداقية عملية التحكيم موضع شك، ويضع الحكم التحكيمي في مهب الريح، ويفقد المحكم النزاهة التي هي حق من حقوق الانسان، هذا الحق المقرر لمصلحة الأطراف لا لفائدة المحكم .
خاتمة:
لقد أولت التشريعات وأنظمة التحكيم عناية خاصة بموضوع الحياد والاستقلال في الدعوى التحكيمية، فلا يكاد تشريع أو نظام يخلو من نص أو نصوص تؤكد على ضرورة توافر صفتي الحياد والاستقلال في المحكم، منذ بداية نظره في الدعوى التحكيمية إلى حين إصداره للحكم التحكيمي البات في الموضوع.
ولعل ما يمكن التسليم به هو كون شرطي الحياد والاستقلال أقرهم المشرع من أجل خدمة مصالح طرفي الدعوى التحكيمية ولصالح تحقيق العدالة كذلك، هذا ناهيك عن دورهم البارز في تحقيق مصداقية مسطرة التحكيم ليس باعتبارها بديلا للقضاء فقط، بل مرافقا ورديفا له –أيضا.
لائحة المصادر والمراجع:
باللغة العربية:
• الكتب:
 الحسين السالمي، التحكيم وقضاء الدولة -دراسة عملية تأصيلية مقارنة-، مركز الدراسات القانونية والقضائية، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع (مجد)، ط 1 – 2008.
 فتحي والي، قانون التحكيم في النظرية والتطبيق، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط 1، 2007.
 لويس قشيشو، استقلالية المحكم في التحكيم الدولي وحياده، مجلة التحكيم، ملحق ع8 أكتوبر 2010.
 هدى محمد مجدي عبد الرحمن، دور المحكم في خصومة التحكيم وحدود سلطاته، القاهرة دار النهضة العربية، 1997.
 محمود مصطفى، المرجع في أصول التحكيم، دار النهضة العربية القاهرة، ط 2009.
 عبد اللطيف بو العلف، الطعن بالبطلان في الحكم التحكيمي، دار الافاق المغربية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2011.
• المقالات العلمية:
 عبد الله درميش، المحكم، تعيينه وحياده واستقلاله، مجلة التحكيم 2010، ملحق ع8.
 لويس قشيشو، استقلالية المحكم في التحكيم الدولي وحياده، مجلة التحكيم، ملحق ع8 أكتوبر 2010.
 إسماعيل الزيادي، المفهوم المختلف لحيدة المحكم عن الحيدة الواجبة في القاضي، مجلة التحكيم، ع4 أكتوبر 2009.
 عبد الله درميش، المحكم، تعيينه وحياده واستقلاله، مجلة التحكيم ملحق العدد الثامن – أكتوبر 2010.
• المجلات العلمية:
 مجلة التحكيم ع 4، 2009.
 مجلة التحكيم، ع 8، السنة الثانية 2010.
 مجلة التحكيم العالمية، ع 17 يناير 2013.
 المجلة اللبنانية للتحكيم العربي والدولي ع 31.
 المجلة اللبنانية للتحكيم العربي والدولي ع 39.

باللغة الفرنسية:
 CH. JARROSSON, “A propos de l’obligation de révélation : une leçon de méthode de la Cour de cassation” note sous C. Cass. civ. 1re, 10 octobre 2012, Rev. Arb. 2013, p. 130.
 Benoit LE BARS “le colloque et indépendance de l’arbitre vers une définition jurisprudentielle” Op.cit.
 N M. HENRY “les obligations d’indépendance et d’information de l’arbitre à la lumière de la jurisprudence récente “, Rev. arb 1999.
N Thomas Clay ” l’arbitre ” Dalloz éd. 2000.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى