في الواجهةمقالات قانونية

خصوصيات الإثبات في التعرض على مطلب التحفيظ وضوابط الترجيح بين حجج المتعرض وطالب التحفيظ الباحث : عز الدين الحسني

خصوصيات الإثبات في التعرض على مطلب التحفيظ وضوابط الترجيح
بين حجج المتعرض وطالب التحفيظ
The specifics of evidence in opposition to the request for conservation and the criteria for weighing between the arguments of the opponent and the conservation applicant.
الباحث : عز الدين الحسني
باحث بسلك الدكتوراه
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية عين السبع جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء

ملخص:
التعرض هو الوسيلة القانونية التي تؤسس للمنازعة القضائية بين طالب التحفيظ والمتعرض فيما يتعلق بالملكية العقارية أو حدودها أو مداها أو أي حق عيني متعلق بها، بحيث يعتبر من أهم الآليات القانونية الرامية إلى حماية الملكية العقارية وتحقيق الأمن العقاري فهو آلية خولها المشرع أو القانون للمتعرض الذي يدعي أن له حقا عينيا او يدعي ملكية العقار المطلوب تحفيظه أو إدخاله في نظام التحفيظ العقاري للتعبير عن رغبته الجدية في منازعة طالب التحفيظ فيما يسعى إليه في تحفيظه للعقار موضوع المنازعة القضائية وتسجيله لفائدته وعلى اسمه الخاص.
الكلمات المفتاحية: التعرض – المنازعة العقارية – الإثبات في التعرضات- الترجيح بين الحجج.

Abstract:
Opposition is the legal means that establishes a judicial dispute between the conservation applicant and the opponent regarding real property ownership, its boundaries, extent, or any related real rights. It is one of the most important legal mechanisms aimed at protecting real property ownership and achieving real estate security.
It is a mechanism granted by the legislator or the law to the opponent who claims a real right or asserts ownership of the property sought to be conserved or entered into the real estate conservation system to express his serious desire to dispute the conservation applicant’s actions regarding the subject of the judicial dispute and to register it for his own benefit and under his own name.
Keywords: Opposition-real estate dispute – proof in Oppositions – weighting between arguments.

مقـدمـــــة:
يعتبر العقار إحدى الركائز الأساسية في تحقيق التنمية الاقتصادية في جل المجتمعات والمحور الأساسي لكل نمو وتقدم على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، لما يوفره من أرضية صلبة أساسها الثقة بين المتعاملين والوضوح، وهو ما دفع بأغلب التشريعات الوضعية إلى الاهتمام بالعقار باعتباره موردا للثروة والعامل الأول في تكوين ثروة الإنسان فكان من الطبيعي وضع أنظمة عقارية عديدة لمختلف أنواع العقارات وإحاطتها بمجموعة من الضمانات قصد إعطاء الملكية العقارية أكثر ما يمكن من الاستقرار والثقة في التعامل، وبالتالي تحقيق الأمن والاستقرار العقاري.
وبدوره المشرع المغربي حذا حذو باقي التشريعات وخص العقار بحماية قانونية، هدفها حماية الملكية العقارية من كل اعتداء بنية التقليل من النزاعات والعمل على استقرار الأوضاع بين المتنازعين عن طريق وضع مجموعة من الضوابط والقواعد التي تقنن حق التملك، وتجعل الإنسان يطمئن على حقه، من خلال إحلال نظام التحفيظ العقاري الذي يعطي للملكية العقارية وضعا أكثر ثباتا وأمنا، ويضمن للمالك حقوقه في ملكيته بصفة قارة ومستمرة دون أن يتعرض هذا الحق للضياع أو الترامي من لدن الغير بسبب عدم الاستعمال أو التقادم .
ولقد عرفت فترة الحماية ميلاد قانون التحفيظ العقاري كنظام عقاري جديد ودخيل على النظام السائد بالمغرب ذي المرجعية الإسلامية والأعراف المحلية، وقد كان ذلك في إطار مجموعة من القوانين التي تم سنها بمجرد فرض الحماية على المغرب من بينها ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري .
كما تم توحيد نظام التحفيظ العقاري في كل إنحاء المغرب بعد الاستقلال، وأصبحت مسطرة التحفيظ التي كانت مطبقة في منطقة الحماية الفرنسية سارية في جميع مناطق المغرب.
ويعد التعرض من أهم دعائم نظام التحفيظ العقاري، نظمه المشرع في ظهير 12 غشت 1913 كما تم تتميمه وتعديله بالقانون رقم 14.07، وهو حق منحه المشرع لكل شخص يملك حق عيني على عقار موضوع مطلب التحفيظ، وارتأى أن عملية التحفيظ من شأنها الإضرار بحقه، ويبقى جوهر التعرض على مسطرة التحفيظ العقاري هو المطالبة بحق عيني عن طريق سلوك مسطرة التعرض التي تمكن المطالب بالحق من الاستفادة من خصوصية إجراءاتها سواء على مستوى المسطرة الإدارية بحكم الإمكانيات المتاحة للمحافظ لإنهاء نزاع التحفيظ إداريا، أو على مستوى المسطرة القضائية بحكم القواعد الخاصة التي تميز مسطرة التحفيظ والاستفادة من المزايا التي يوفرها وضع العقار المحفظ على مستوى الحماية والائتمان والاستثمار.
والتعرض كما هو معلوم لا يشل عملية التحفيظ أو يوقفها وإنما هو ينقل مسطرة التحفيظ من المرحلة الإدارية إلى المرحلة القضائية يكون الفصل فيها من اختصاص القضاء بعد أن تم تحديد موضوعها أمام المحافظ على الأملاك العقارية المختص ويقتصر دور القضاء هنا على النظر في النزاع القائم بين المتعرض وطالب التحفيظ بالبت في مدى صحة التعرض من عدمه دون مناقشة الجانب الشكلي للتعرض فاختصاص المحكمة في هذه الحالة مرهون بالادعاءات و الحجج التي يثيرها المتعرض ضد ملكية طالب التحفيظ ومن هنا يمكن طرح الإشكالية التالية:
إلى أي حد توفق القضاء من خلال ضوابط الترجيح بين الحجج في البت في النزاعات الناشئة بين المتعرض وطالب التحفيظ مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الإثبات في هذا النوع من المنازعات؟.
ويتفرع عن هذه الإشكالية الرئيسية مجموعة من التساؤلات الفرعية من قبيل:
ما هي الخصوصية الإثبات في مسطرة التعرض على مطلب التحفيظ أمام القضاء؟
وما هي الضوابط التي يمكن اعتمادها طرف القضاء للفصل بين المتعرض وطالب؟
سنحاول معالجة هذه الإشكالية الرئيسية ومختلف الأسئلة الفرعية وفق ضوابط منهجية وموضوعية حسب التصميم التالي:
المطلب الأول: خصوصية الإثبات في مسطرة التعرض على مطلب التحفيظ
المطلب الثاني: ضوابط الترجيح بين حجج المتعرضين على مطلب التحفيظ

المطلب الأول: خصوصية الإثبات في مسطرة التعرض على مطلب التحفيظ
لقد استقر القضاء من خلال البت في التعرضات على مجموعة من الخصوصيات التي تميز النزاعات الناشئة عن مسطرة التحفيظ العقاري عن غيرها من المساطر، وذلك تماشيا مع ظهير التحفيظ العقاري الذي يسعى إلى حل النزاعات العقارية بأسرع ما يمكن، ولعل أهم هذه الخصوصيات، عدم إمكانية البت بين المتعرضين وطالب التحفيظ في أثناء سريان مسطرة التحفيظ، ومن خصوصيات هذه المسطرة أيضا ما يتعلق بقواعد الإثبات، ذلك أن معرفة من هو المكلف بالإثبات مسألة ذات تأثير على المراكز القانونية للأطراف خصوصا إذا علمنا أن إعفاء أحد الأطراف من الإثبات يضعه في مكانة جيدة في الدعوى لأنه في حالة عجز خصمه عن الإثبات سيكسب الدعوى، إذ يقع عبء الإثبات كأصل على المتعرض (فقرة أولى)، غير أنه كلما كانت الحيازة بيد المتعرض فإن طالب التحفيظ هو الملزم بالإثبات كاستثناء من الأصل (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: الإثبات في مسطرة التعرضات
تختلف مسطرة التحفيظ العقاري عن المسطرة المنظمة بمقتضى قانون المسطرة المدنية في مجال توزيع عبء الإثبات بين أطراف الخصومة، ذلك أن المتعرض في إطار مسطرة التحفيظ العقاري، دائما يكون في وضعية المدعي، وطالب التحفيظ يكون في وضعية المدعى عليه، وحيث أن تحديد صفة أطراف الخصومة يتحدد معها الطرف المعني بالإثبات، وفي هذه الوضعية، يلقى عبء الإثبات على عاتق المتعرض، أما طالب التحفيظ فهو في وضعية امتياز في حالة عدم قيام المتعرض بالإدلاء بالحجج والأدلة المثبتة لادعائه، رفضت دعواه وليس على المحكمة أن تبحث في ملكية المدعى عليه ، غير أن هناك إشكال يتعلق بأنه ليس في القانون ما يعرف بالسند الحاسم في الإثبات في العقار غير المحفظ.
فما مصير الحيازة في هذه الحالة خاصة إذا علمنا أن مدونة الحقوق العينة نصت في مادتها 242 على أن الحائز لا يكلف ببيان وجه مدخله إلا إذا أدلى المدعي بحجة على دعواه . وهو ما يجعل قاعدة الإثبات على المتعرض مجحفة لحق المتعرض الحائز، فواقعة الحيازة تعد أقوى من واقعة تقديم مطلب التحفيظ، اللهم إلا إذا قدم مطلب التحفيظ بحجة قوية فيكون المتعرض بذلك ملزما بتقديم حجة أقوى حتى وإن كان حائزا .

 

 

الفقرة الثانية: الاستثناء في إثبات التعرضات
إذا كان أهم مبدأ استخلصه الاجتهاد القضائي من الفصل 37 من ظهير التحفيظ العقاري ، المؤطر لاختصاصات محكمة التحفيظ (الابتدائية)، وهو اعتبار المتعرض بمثابة مدعي وبالتالي يقع عليه الإثبات، وهي قاعدة رئيسية تتفرع عنها قواعد ثانوية، فإن الاجتهاد القضائي حاول قلب عبء الإثبات جاعلا إياه واقعا على طالب التحفيظ وذلك قصد خلق نوع من التوازن على مستوى توزيع عبء الإثبات على أطراف الخصومة في دعوي التعرض، وهو ما بدى بشكل جلي في إحدى قرارات مجلس الأعلى عدد 59 صادرت بتاريخ 1998/01/06 في ملف المدني رقم 93/2494 الذي اعتبر أن: “في حالة التعرض على تحفيظ ملك مشاع يدعي طالب التحفيظ بأنه كفروا إذا أن المتعرض يعفى من الإثبات، فيكفي أن يدفع بالصيغة المشتركة للملك حتي يطر إلى تكليف طالب التحفيظ بإثبات الصفة المفرزة لما يطلب تحفيظه” .
ونجد أيضا نفس الأمر ينطبق على حالة حيازة المتعرض للعقار محل دعوى التعرض، حيث نجد محكمة النقض تقول: “إذا ثبتت الحيازة لأحد الأطرف بحكم أو غيره، فإنها ترتب أثرها القانوني في دعوى التحفيظ من حيث عبء الإثبات حتى ولو كانت حيازته غير هادئة أو مكسبة للملك، وعليه إذا ثبت للمحكمة أن المتعرض على مطلب التحفظ هو واضع اليد على العقار المطلوب تحفيظه وجب عليها الانتقال إلى مناقشة حجة طالب التحفيظ وترتيب أثر ذلك على الدعوى سلبا أو إيجابا”.
وفي قرار أخر للمحكمة النقض نجدها تقول أيضا: “إذا ثبتت الحيازة للمتعرض، فإن ذلك يستلزم من المحكمة مناقشة حجة طالب التحفيظ ومقارنتها مع هذه الحيازة، وترتيب الأثر القانوني على الدعوى بشأن ذلك، إما نفيا أو إيجابا، وهو مالم تقم به المحكمة في نازلة الحال مما يكون معه قرارها غير مرتكز على أساس قانوني” .
أما بخصوص التعرض المتبادل وارتباطه بالحيازة فقد اعتبرت محكمة النقض أنه: “لئن كان صاحب المطلب اللاحق في التاريخ يعتبر متعرضا على مطلب التحفيظ السابق في التاريخ ويعتبر بالتالي مدعيا يقع عليه عبء الإثبات وفقا لمضمون الفصلين 37 و45 من ظهير التحفيظ العقاري، فإن تطبيق هذه القاعدة رهين بعدم ثبوت حيازة صاحب المطلب اللاحق وأن ثبوت حيازة العقار محل النزاع في يد أصحاب المطلب اللاحق في التاريخ عن طريق البناء والهدم مند خمسين سنة، ينقلب معه عبء الإثبات على طالب التحفيظ صاحب المطلب السابق في التاريخ” .
وهو ما أكدته محكمة النقض في قرار أخر لها الذي جاء فيه: “أن ثبوت الحيازة لصاحب المطلب اللاحق في التاريخ، وبصرف النظر عن مصادر هذه الحيازة ينتقل عبء الإثبات لطالب التحفيظ غير الحائز فلا تناقش حجج المتعرض الحائز إلا بعد إدلاء طالب التحفيظ بحجية قوية تبرر اللجوء للترجيح بين حجج الطرفين” .
وفي نهاية هذه الفقرة، وفي سياق تعداد استثناءات الواردة على قاعدة إلزام المتعرض بالإثبات نشير إلى قرار قديم صادر عن مجلس الأعلى الذي قضى بنقل عبء الإثبات من المتعرضة (مديرية المياه والغابات) (والتي دفعت أمام محكمة التحفيظ بأن الملك الغابوي يعد ملكا للدولة دون أن تدل بأي رسم مثبت لتعرضها) إلى طالب التحفيظ، حيت حض محكمة الموضوع على دراسة حججه وتقديرها، والتأكد من مدى تطابقها على العقار موضوع مطلب تحفيظه، مما اعتبر تطورا نوعيا في مسألة عبء الإثبات.

المطلب الثاني: ضوابط الترجيح بين حجج المتعرضين على مطلب التحفيظ
يقصد بالترجيح أي تقديم أحد الدليلين لما فيه من مزية تجعل العمل به أولي من الأخر، فترجيح إحدى الحجتين عن الأخرى، يعتمد أساسا على وجود تعارض بينهما، فحينما ينتفي التعارض ينتفي تبعا لذلك الترجيح. فالدليل الراجح هو الدليل المتعارض قبل الترجيح، وله شروط مهمة لا بد منها من أجل تحققه وهي صحة الحجج من طرف الأطراف، و أن يكون تعارض بين الحجج مع عدم الجمع بينها، وكذلك شرط أخر وهو أن تكون صفة التملك في الحجج .
وتختلف قواعد الترجيح التي تضمنتها المدونة وحتى تلك الموجودة في أمهات الكتب الفقهية حسب طبيعتها، وتتوزع إلى قواعد شكلية للترجيح ترتبط بشكل البينة أو شهودها تسمى بالمرجحات الشكلية (الفقرة الأولى) وهناك طريقة أخرى تقوم على ضرورة تفحص الحجج والموازنة بين مضامين كل منهما واعتماد قواعد موضوعية للترجيح تسمى بالمرجحات الموضوعية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الترجيح بالقواعد الشكلية بين الحجج المتعارضة
إذا تعذر الجمع بين الحجتين المتعارضتين، وجب الانتقال إلى الترجيح بينهما، حتى يمكن تغليب إحداهما عن الأخرى، نظرا لاشتمالها على شروط شكلية لعبت دورا كبيرا في تقويتها قانونا.
وقد حظيت الجوانب الشكلية باهتمام الفقهاء عند سنهم لقواعد الترجيح بين الأدلة، آخذين بعين الاعتبار الدور الذي تلعبه الشكلية في تقييم العقود من طرف القاضي، من أجل البحث على القرائن التي من شأنها أن توصله للحقيقة التي يسعى إليها وهي العدالة عموما، وأصحاب الحقوق خصوصا، وقواعد الترجيح ترتبط إما بالبينة الشهود (أولا) أو بأخرى لها علاقة بالوثيقة (ثانيا).
أولا: الترجيح بحسب المحددات الشكلية المرتبطة بشهادة الشهود
لعبت شهادة الشهود في مجال الإثبات في المجتمعات البدائية قبل أن تتطور عبر العصور، فهي الدليل الوحيد المعروف في المجتمعات البدائية لعدم معرفة الكتابة، فقد كانت الشهادة في الماضي في مقدمة أدلة الإثبات وأقواها نظرا للجهل الذي كان متفشيا ولعدم انتشار الكتابة والقراءة. ويقصد بها إخبار الإنسان في مجلس القضاء بواقعة صدرت من غير يترتب عليه ثبوت حق لغيره على ان يكون الشاهد قد أدرك شخصيا بحواسه الواقعة التي شهد به.
وبما أن أساس الشهادة يرتكز على الإنسان وذاكرته وأخلاقه. فإن الشهادة قد تعرف مجموعة من المخاطر والصعوبات، لا تطرح بالنسبة لباقي وسائل الإثبات خصوصا المهيأة منها سلفا لهذه الغاية كما هو الشأن بالنسبة للكتابة، حيث إن ما تضمنه المحرر يبقى محفوظا منتجا لأثره في مواجهة الكافة من جهة، ولا يمكن للخطأ أو النسيان أو حتى الجحود أن يتسرب للمحرر . كما قد يتسرب إلى أفئدة الشهود.
وبالنظر لهذه المخاطر، نجد أن الفقه قد فطن لهذه المسألة وأقر بضرورة وضع قواعد الترجيح بين شهادة الشهود في الدعوى الواحدة، بحيث قرروا الفقهاء:
الترجيح بزيادة العدالة ليس بالعدد؛
تقديم تعدد الشهادة على الشهادة الواحدة: حيث تقتضي هذه القاعدة بترجيح شهادة الرجلين على شهادة الرجل وامرأتين، وكذلك ترجيح شهادة رجل وامرأتين على رجل بيمينه، بالإضافة إلى ترجيح الأصالة على خلافها أو ضدها.

ثانيا: الترجيح بحسب المحددات الشكلية المرتبطة بالوثيقة
تحتل الكتابة المرتبة الأولى من طرق الإثبات في الأنظمة العدلية، وهي الأصل في إثبات التصرفات والوقائع القانونية، ويرجع الفضل في ذلك إلى مزايا الكتابة المتعددة مثل إمكانية بقائها واستمرارها دون ارتباط بكتابتها أو موقعها مما أهلها لتتبوأ المكانة الرئيسية من بين أدلة الإثبات خاصة بعد شيوعها وسهولة إعدادها، لتأخذ بذلك حجيتها طالما لم ينكرها الخصم أو يدع تزويرها .
إن ضوابط الترجيح بين الحجج المتعارضة ليست فقط تلك المرتبطة بشهادة الشهود وإنما هناك أسباب أخرى يحتكم إليها للترجيح ترتبط بالبيانات الشكلية للرسم أو الوثيقة المثبتة للملكية العقارية حيث يتعلق الأمر ب:
ترجيح بينة الإثبات على بينة النفي: حيث نصت المادة 3 من مدونة الحقوق العينية على أن بينة الإثبات تقدم على بينة النفي.
ترجيح البينة المؤرخة على البينة غير المؤرخة: إذا أدلى كل من الخصمين بحجة، وكانت الحجتان متعارضان إلا أن أحدهما مؤرخة، فتقدم هذه الأخيرة على البينة التي لم تؤرخ .
ترجيح البينة السابقة على البينة اللاحقة تاريخيا: والمقصود بسبقية أو قدم تاريخ واقعة اليد على العقار ، فإذا تعارضت بينتان مؤرختان ، وكان تاريخ إحداهما أقدم وأسبق من تاريخ أخرى ، فإنه يرجح أسبق البينتين تاريخيا.
وتعتبر هذه القاعدة من أبرز وأكثر المرجحات تطبيقا في الميدان القضائي.

الفقرة الثانية: الترجيح بالقواعد الموضوعية بين الحجج المتعارضة
إن ضوابط الترجيح الموضوعية متعددة يصعب حصرها. وسنتناول أهمها من خلال سبب الترجيح المستند على التملك، والمستند على التفصيل، والإثبات مع النفي.
أولا: سبب الترجيح من حيث التملك
في هده الفقرة يمكن أن نتناول أسباب الترجيح الموضوعية من حيث التملك، اعتمادا على سبب التملك، أو أصل الملك، أو اعتمادا على الترجيح بين بينة الملك وبينة الحوز.
1- سبب التملك أو أصل المدخل
المقصود بسبب التملك، أو أصل المدخل، هو جملة الوثائق التي توضح الطريقة التي توصل بها الحائز إلى حيازة هذا الملك، وهو غير أصل الملك، الذي يرصد التطورات التي لحقته، من غرس وبناء والزيادة والنقصان.
ولما كان البيع من العقود التي تنصب على الملكية طبقا للفصل 478 من ظهير التحفيظ العقاري، فقد أوجب القانون على البائع، أن يكون مالكا ملكية تامة للمبيع، ويرجع في ذلك إلى مختلف الوثائق الرسمية والعرفية. فقد ورد في الفصل 519 من ظهير التحفيظ، ويشمل بيع العقار كذلك الخرائط وتقدير المصروفات والحجج والوثائق المتعلقة بملكيته، وإذا تعلقت حجج الملكية بالمبيع وبغيره من الأشياء التي لا تدخل في المبيع، لم يكن البائع ملتزما إلا بان يسلم نسخة رسمية للجزء المتعلق منها بالعين المبيعة. كما نص الفصل 19 من مرسوم 28/10/2008 بتطبيق أحكام قانون خطة العدالة، في فقرته السابعة، على أنه، ينص في الشهادة على المستندات اللازمة طبقا للقواعد المعمول بها، مع ذكر رقمها، وتاريخها، والدائرة التي أقيمت فيها، ومراجع التسجيل، كما جاء في المادة 30، على أنه ترفق أصول المستندات التي أسست عليها الشهادة مع وثيقتها وتسلم لأصحابها. وهو نفس المقتضى التي تضمنته المادة 36 من قانون رقم 09/32 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق، والتي ورد فيها، وجوب تضمين العقود التي يتلقاها الموثق مجموعة من البيانات، منها بيان المراجع الكاملة للوثائق التي استند عليها في إبرام العقد. ومن الطبيعي القول أنه لا يمكن للموثق، أو العدل، استنساخ جميع الأصول السابقة.
والأمر هنا يتعلق بالعقار غير المحفظ، إذ أن رسوم الملكية والاستمرار هي التي تفيد الملك في هذا النوع من العقارات، أما بخصوص العقار المحفظ، فإن القوة الثبوتية للرسم العقاري تغني عن الإدلاء بالأصول السابقة.
وعلى ضوء هذه النصوص، فإن الموثقين يعملون على استحضار أصل الملكية في العقود التي يتولون كتابتها، بغية إثبات مشروعية الحيازة، وتبيان صحة سبب التملك من خلال أدراج مراجع هذا السبب، من حيث التاريخ، والرقم، ومراجع التسجيل بالوثيقة المثبتة للتصرف، الذين يتولون الإشهاد عليه.
ومن المقرر في الفقه، أن الاستظهار برسوم الأشرية، لا تفيد الملك، ولا ينتزع بها من يد حائز.
ورسوم الاشرية المجردة من سبب التملك، لا ينتزع بها من يد الحائز الذي يدعي التملك، إلا إذا كان الحائز هو البائع، أو كان الحائز وارثا للبائع، فينزع الشيء من يده ويعطي للمدعي كان بينهما حوزا أو لا. لان من قال بان رسوم الاشرية لا تفيد الملك ولا يستخرج بها من يد حائز، مراده الحائز مدعي الملكية غير المشهود عليه بالبيع، أما إن كان الحائز، هو البائع فتقوم عليه وعلى ورثته الحجة برسم الشراء، ويستخرج به المبيع من يده.
نخلص في ذلك إلى قاعدة الترجيح مفادها، أنه إذا شهدت بينة بالملك مع بيان سبب التملك من شراء أو هبة أو صدقة أو غيره، وشهدت بينة الخصم بالملك دون بيان سبب التملك، ترجح الأولى على الثانية.

2: بينة الملك أرجح من بينة الحوز والحيازة بشروطها مرجحة على بينة الملك
لقد تناول المشرع المغربي في مدونة الحقوق العينية الجديدة الحيازة كسبب لكسب الملكية في المواد من 239 إلى 263، ويبقى نطاقها محصورا في العقارات غير المحفظة، دون المحفظة، التي تعتبر فيها رسوم الملكية نقطة الانطلاق الوحيدة للحقوق العينية، والتكاليف العقارية المترتبة على هذا الصنف من العقار دون ما عداها من الحقوق غير المسجلة، حيث ينص الفصل 63 من ظهير التحفيظ العقاري، على أن التقادم لا يكسب أي حق عيني على العقار المحفظ في مواجهة المالك المسجل اسمه، ولا يزيل أي حق من الحقوق العينية المسجلة برسم الملك.
وقد وضع قانون المسطرة المدنية في الفصول من 166 إلى 170 شروط وإجراءات الدعاوي المدنية لحماية الحيازة المادية، ولا يحمي الحق العيني في ذاته، إذ خول لمن حاز العقار سنة على الأقل، حيازة هادئة علنية مستمرة وغير مشوبة باللبس، أن يحمي حيازته، إما بإقامة دعوى منع التعرض، أو دعوى استرداد الحيازة، أو دعوى وقف الأعمال الجديدة بحسب طبيعة الأعمال التي تهدد حيازته. وإن الحكم القاضي برد الحيازة لصاحبها، لا يكون حجة على انه مالك لذلك العقار، وإنما يعني منع الغير من القيام بعمل يضر بحيازة الحائز.
أما في الفقه فالحيازة تنقسم إلى قسمين، حيازة مكسبة للملكية، وحيازة قاطعة لحق المالك السابق.
فالحيازة تكون مكسبة للملكية، بالنسبة للعقارات التي لا مالك لها، بشروط نصت عليها المادة 240 من مدونة الحقوق العينية وهي:
1- أن يكون واضعا يده على الملك.
2-أن يتصرف فيه تصرف الملك في ملكه.
3- أن ينسب الملك لنفسه والناس ينسبونه إليه كذلك.
4- ألا ينازعه في ذلك منازع.
5-أن تستمر الحيازة طول المدة المقررة في القانون.
6- وفي حالة وفاة الحائز يشترط بالإضافة إلى ذلك عدم العلم بالتفويت.
وتكون الحيازة سببا من أسباب نقل الملكية من مالك إلى آخر، ويسمى هذا النوع عند المالكية، بالحيازة القاطعة لحق الغير أو الحيازة المبطلة لملكية الغير، كما تسمى بالحيازة الدالة على الملكية، وتسمى في التشريعات الوضعية بالتقادم المكسب، وهي تكون مقترنة بالادعاء بالتملك، ومحلها ما جهل أصل مدخل الحائز، أو علم وكان ينقل الملكية عن الأول، كالبيع والتبرع. وبالتالي فمتى تنازع شخص حول ملكية أرض مثلا، وأدلى المدعي بملكية صحيحة، تشهد له بان تلك الأرض على ملكه، وأدلى الحائز بحجة مستوفية أيضا لشروط الحيازة، فإن حجة الحيازة الطويلة الأمد مع شروطها، تقدم على حجة الملك. وهذا يعني أن للحيازة اثرين:
أحدهما: أنها تعتبر مثبتة لحق الحائز، ومسقطة لدعوى الغير في ملكية الشيء المحاز، لان الحيازة نقلت ملكيته لهذا الحائز، وأزالت ملكية المالك السابق.
ثانيها: أنها تعتبر مطهرة للملكية من العيوب التي تشوبها قبل توفر شروط الحيازة، بحيث لو فرضنا أن شخصا ملك عقارا بمقتضى عقد بيع غير مستوف لشروط البيع، ثم حاز ذلك العقار طيلة المدة المعتبرة في الحيازة، وتوفرت له شروطها، فإنه يصير مالكا لذلك العقار ملكية صحيحة ويتطهر له العقد من العيوب التي شابته.
وإذا لم يدفع إلا بوضع اليد مقابل الملكية الصحيحة، فإن بينة الملكية تقدم على بينة الحوز، لان الحوز قد يكون عن ملك أو كراء أو رهن أو غصب، فكونه بيده هو أعم من كونه ملكا له. والملك أخص من الحوز وأقوى منه، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص، والعكس صحيح.
ويقدم الحوز المجرد على مجرد الدعوى، ويكفي المدعى عليه الحائز الجواب بحوزي وملكي، ولا يكلف بإثبات حيازته، ولا أنها متوفرة على شروطها، ولا من أين صار له ذلك الشيء. فإذا كانت الدار في يد شخص عدة أعوام، وهو يدعي تملكها، فأقام عليه شخص دعوى، فإن لم يكن لهذا المدعي إلا مجرد الدعوى، أو بينة سماع، فليس له إلا اليمين على الحائز، أي تحليفه، لان بينة السماع لا ينزع بها من يد حائز، كما لا ينزع مجرد الدعوى. أما إن جاء المدعي بالبينة التامة، وعجز الحائز عن الطعن فيها، فلا تردها إلا بينة الشراء من المدعي، أو موروثه ولو بالسماع.
ومع ذلك، فإن الحيازة لا يمكن أن تكون سببا لكسب الملكية، ولا دليلا عليها، بين الأصول والفروع، وبين الأزواج، والشركاء، وبين النائب الشرعي ومن هم إلى نظره، وكذا بين أطراف الوكالة، وبين المكلف بإدارة الأموال العقارية وأصحاب هذه الأموال، كالحارس القضائي، أو المسير، والسنديك وهو ما أكدته مدونة الحقوق العينية في المادتين 255 و256.

ثانيا: من حيث التفصيل والإثبات مع النفي
قد يكون سبب الترجيح بين البينات يرجع إلى كون إحداهما أكثر تفصيلا من الأخرى التي تبقى مجملة وواردة على سبيل العموم، كما قد يكون سبب الترجيح يرجع إلى كون إحدى البينات مثبتة والأخرى نافية.
1- ترجيح البينة المفصلة على المجملة؛
الإجمال عند الفقهاء هو احتمال اللفظ لمعنيين فأكثر، وقيل انه الشهادة الخالية من التفصيل المشترط في صحة الشهادة الموصل إلى غالب الظن.
فقد يقع الإدلاء بحجج متعارضة من طرفي النزاع، غير أن حجة إحداهما مفصلة في مضمونها، والآخر مجملة، فتقدم المفصلة على الحجة التي أجملت، لان الإجمال قدح من القوادح التي ترد به الشهادات، فمع الإجمال يأتي الاحتمال، ومن القواعد المتداولة أنه لا قضاء مع الاحتمال، وإن ما احتمل سقط به الاستدلال، وفي نفس هذا الإطار ورد في الفصل 403 من ق.ل.ع أنه لا يجوز إثبات الالتزام إذا كان يرمي إلى إثبات وقائع غير منتجة.
2- البينة المثبتة أرجح من النافية؛
الحجة المثبتة للحقوق والأشياء تقدم على الحجة النافية لها، فإذا أدلى كل من الخصمين بحجة، وكانت إحدى الحجتين تثبت بالنسبة للمدعى فيه، والبينة الأخرى تنفي بالنسبة لنفس الموضوع، كالبيع في الإثبات وعدم البيع في النفي، فإن الحجة المثبتة للبيع مثلا ترجح على النافية للبيع، وكذلك في سائر المعاملات، لان الحجة المثبتة علم شهودها ما لا يعلمه شهود النفي. فشرط الصحة مثلا في التبرعات هو الحوز. وقد يحدث أن ينازع من له مصلحة بعد موت المتبرع، بعدم حوز المتبرع عليه، في حين يتمسك المتبرع عليه بالحوز قبل حصول المانع وهو الموت، وأدلى كل منهما بما يثبت ادعاءه، بحجتين متعارضتين. طبعا ففي مثل هذه الحالة، تقدم وترجح حجة الحوز على عدمه.
خاتمة:
إن قواعد الترجيح بين البيانات لا تزال تحتل حيزا كبيرا في صلب الاجتهادات القضائية العقارية الصادرة عن المحاكم بشقيها الموضوعي والقانوني، بعد أن كانت هذه الضوابط مجرد قواعد فقهية بعيدة عن أي تقنين تشريعي باستثناء بعض الإشارات الواردة في القواعد العامة سواء الموضوعية أو المسطرية، ما كان يفر ض على القاضي بدل جهد كبير لاستنباط هذه القواعد والإطلاع على تفصيلاتها وضبطها حتى يتسنى له معرفة البينة الراجحة على المرجوحة، وقد تدارك المشرع المغربي هذا الفراغ بوضعه إطارا قانونيا عاما لهذه القواعد، بنصه في المادة الثالثة من مدونة الحقوق العينية على عشرة قواعد على سبيل المثال، الأمر الذي يبقى معه القاضي ملزما ببدل مجهود أكبر للبحث عن قواعد أخرى وفق ما تقتضيه كل نازلة، مستعينا بما صاغه الفقهاء من أقوال ونظم، خاصة وأن القاضي لا يلجأ إلى إعمال هاته القواعد إلا عندما يستعصي عليه الجمع بين الحجج المعروضة عليه.
لائحة المراجع:
الكتب؛
محمد نعناني؛ الساري في أصول التحفيظ العقاري، مطبعة الأحمدية، الطبعة الأولى، سنة 2017.
المقالات؛
رشيد العراقي: طرق إثبات الإلتزام، مجلة الملحق القضائي عدد 30 تاريخ 15/10/2007
محمد بخنيف: ضوابط الترجيح بين البيانات في الفقه المالكي على ضوء المادة 3 من مدونة الحقوق العينية المغربية، مقال منشور في مجلة القبص المغربية للدراسات القانونية والقضائية، نظام التوثيق بالمغرب. في ضوء مستجدات القانون 32.09 و القانون 39.08 وللقوانين ذات الصلة العدد 5 يوليوز 2013
الرسائل والأطروحات؛
جلال قرقاش؛ قواعد الترجيح بين البيانات في النزاعات العقارية ، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص بكلية الحقوق تازة سنة 2018 – 2019.
المكتبة الإلكترونية:
يزيد زمور؛ مقاربة للمتغير الإجتهادي في قواعد الإثبات في مادة التعرضات على التحفيظ” منشور على موقع الإلكتروني : Maroc droit.comتاريخ الإطلاع : 16/12/21.
أحكام وقرارات قضائية:
قرار محكمة النقض عدد 2286 والصادر بتاريخ 17/05/2011 في الملف مدني عدد 3127/1/1/2009 ومشار إليه في كتاب إدريس الفاخوري؛ ومعنون ب ” الوسيط في نظام التحفيظ العقاري بالمغرب
قرار محكمة النقض عدد 13 بتاريخ 08 يناير 2013 في الملف المدني عدد 2012/1/8/561.
قرار عدد 1-656 الصادر بتاريخ 08 دجنبر 2015 الملف المدني عدد 5189/1/65.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى