اعداد المجلةسلسلة الابحاث الجامعية و الأكاديميةفي الواجهة

سلسلة الابحاث الجامعية و الأكاديمية العدد 23 – التحكيم البحري بين إرادة الأطراف و أحكام القانون

سلسلة الابحاث الجامعية و الأكاديمية العدد 23 – التحكيم البحري بين إرادة الأطراف و أحكام القانون

 

المقدمة

 

    النزاع بين الأشخاص حقيقة ملازمة للإنسان مند الأزل، وحالة طبيعية تحدث بين الأفراد، وأساسها التمسك بالحق والمصالح الشخصية المتناقضة، فمن النادر جدا أن تجد فردا أو شخصا شهما يفصل في النزاع فيما بينه وبين غيره بإنصاف وعدل، لدى قيل ليس من المنطق أن يكون الشخص طرفا وقاضيا في نفس الوقت.

    وعلى هذا الأساس، أخذت الدولة على عاتقها إقامة العدل وإحقاق الحق و إنصاف المظلوم وسد الطريق أمام ذوي النفوس الضعيفة المعتدية عن طريق أجهزتها التي أنشأتها وأولتها سلطة الفصل في النزاعات التي تثور بين الأفراد بغية إيصال الحقوق إلى أهلها.

     وقد تمثلت هذه الأجهزة في القضاء الذي أوكلت له مختلف التشريعات والأنظمة مهمة الفصل في النزاعات التي تنشأ بين الأفراد بعيدا عن منطق القوة والقصاص الفردي أو ما كان يصطلح عليه بقانون الغاب.

    لكن التطور المستمر للمجتمعات والتفاعل فيما بينها والتقدم العلمي والتكنولوجي واختصار المسافات جعل الدولة هي الأخرى تتطور وفق متطلبات وحاجيات هذا النظام العالمي الجديد[1].

كما أن تسارع النمو الإقتصادي وتطورالعلاقات التجارية الدولية وخاصة البحرية نتيجة  انتشار أنشطة النقل البحري وعمليات التجارة البحرية بين دول العالم المختلفة منذ العصور الوسطى وحتى العصور الحديثة، دفع معظم الدول للبحث عن إيجاد صيغة قانونية  قادرة على إيجاد حلول ملائمة للنزاعات البحرية التي تثور بصدد تنفيذ العقود المبرمة في إطار هذه المعاملات بكافة أنواعها، فكان التحكيم بذلك أهم وسيلة يستطيع الأطراف من خلالها التوصل إلى هذه الحلول.

     وبهذا أضحى التحكيم  يلقى إقبالا متزايدا من قبل المجتمع الدولي والعاملين في المجال البحري إذ لا يكاد يخلو أي عقد من عقود التجارة البحرية من شرط تحكيم يفصحوا فيه الأطراف عن رغبتهم في جعل التحكيم البحري الوجهة المفضلة لديهم لفض نزاعاتهم [2]، نظرا للمزايا العديدة التي يتيحها هذا  النظام والتي لم يعد القضاء  قادر على تحقيقها[3].

     وتتجلى هذه المزايا  في عنصر السرية و خشية المنافسة أوالمضاربة أو تأثير الغير من المتعاملين معهم أو الموانئ أو الوكالات البحرية إذا ما تم الإعلان عن هذه المنازعات على الملأ في حالة اللجوء للقضاء العادي، وكذا سرعة البث في النزاعات الناشئة بين أطراف العلاقة البحرية إذا ماقرن بالمسطرة القضائية، كما أنه يسعف في تقريب وجهات النظر بين أطراف الرسالة البحرية التي لا تتحمل طول المسطرة[4]، هذا فضلاً عما يتميز به التحكيم في العقود البحرية من خصوصية فنية وتقنية خاصة تتعلق بطبيعة المسائل والموضوعات التي يثار فيها النزاع  في العلاقات البحرية التى تنبني أساساً على الأعراف البحرية المستقرة، سواء في مجال النقل البحرى والشحن والتخزين        والتفريغ، وكذاعقود الإنقاذ والمساعدة البحرية، أو في مجال التأمين البحري وبناء السفن وإصلاحها وحجز السفن وعقود التجارة والإرشاد والملاحة البحرية وضمان البضائع، والتعويض عن الإتلاف والهلاك أو التأخير عن نقل البضائع، فكل ذلك يتطلب محكمون تتوافر فيهم الخبرة الفنية العالية والإلمام التام بالمسائل البحرية والإتفاقيات والمعاهدات الدولية الخاصة بالعقود البحرية بما فيها أعراف التجارة البحرية وقواعد العدالة والإنصاف المتعارف عليها.

     ويضاف إلى ذلك، أن التحكيم يولد من رحم إرادة الأطراف، ذلك أن أطراف العلاقة البحرية لهم دور أساسي ومحوري في هذا المجال، إذ لا يمكن أن نتصور إطلاقا وجود تحكيم بدون تراضي الأطراف على اللجوء إلى هذا الطريق عبر إتفاق التحكيم يعبر فيه الأطراف بوضوح عن نيتهما في عرض النزاع على التحكيم البحري، سواء أخد هذا الإتفاق شكل شرط أو عقد، ومن تم  فلا يتصور في هذا الإطار إلا إنصياع و خضوع التحكيم لإتفاق الأطراف[5] .

     وعلى هذا الأساس يمكن القول أن إتفاق الأطراف هو جوهر التحكيم البحري – بمختلف أشكاله    و تفرعاته -، نظرا للطابع الإرادي لهذا الأخير، فنظام التحكيم ينشأ بناء على إتفاق الأطراف من أجل إخراج المنازعة من ولاية القضاء العادي والعهدة بها إلى قضاء خاص من إنشائهم، حيث أنه لم يكن ليُوجد هذا النظام لولا إتفاق الأطراف[6]، ولكي يؤذي هذا الأخير مفعوله يتعين أن تتوافر فيه كافة الأركان والشروط العامة المتطلبة لصحة هذا الإتفاق[7].

     وعلى الرغم من البساطة التي يتميز بها التحكيم فإن الدراسة القانونية تشير إلى أنه يخفي في طياته مجموعة معقدة من التصرفات تشتمل على عدة إجراءات ومراحل متعاقبة، بدء من مرحلة المفاوضات الإتفاقية – التي تعتبر مرحلة مهمة – التي تنتهي بإتفاق الأطراف على تنظيم إجراءات التحكيم، وذلك بتحديد كل المسائل المتعلقة بها من تعيين المحكمين الذين سيتولون مهمة فض النزاع، وكذا إلزامهم بإحترام إرادة الأطراف عند إختيارهم اللغة ومكان إجراء التحكيم البحري وأجله .

     ومن هذا المنطلق، حظي مبدأ إرادة الأطراف في مجال التحكيم بإقبال كبير وإهتمام بالغ الأهمية من قبل العديد من الإتفاقيات الإقليمية و الدولية، فحرصت على تطبيقه والإلتزام به، كما حثت الدول التي صادقت على هذه الاتفاقيات بوضع تنظيم قانوني له، مع الحرص على الإلتزام به و تطبيقه.

     وعلى هذا الأساس، إهتمت العديد من الدول وعملت على وضع تنظيم قانوني للتحكيم يتناول مبدأ إرادة الأطراف في إختيار القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم وكذا على موضوع    النزاع، كما حرصت على الأخذ بمبدأ إرادة الأطراف في إختيار مختلف إجراءات التحكيم عند سريان المسطرة التحكيمية إلى غاية إصدار الحكم التحكيمي، وهو النهج الذي سار عليه المشرع المغربي ، إذ عمل على سن قانون 08.05[8] المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية  لتلبية حاجيات الأشخاص سواء كانوا طبيعيين أو إعتباريين من خلال السماح لهم بتحديد القانون الواجب التطبيق على إتفاق التحكيم عموما والبحري خصوصا، ثم تعيين الهيئة التحكيمية وتحديد سلطاتهم، مروراً بتحديد مختلف الإجراءات أثناء سريان المسطرة إلى غاية إصدار الحكم التحكيمي .

     وتوقعا من هذه التشريعات، من أن يطرأ طارئ أو يكتشف مستجد من شأنه أن يؤثر على السير العادي والطبيعي لمجريات المسطرة[9]، فإنها قد خولت لأطراف التحكيم البحري أيضا إمكانية عزل   أو تجريح المحكم أو إنهاء المسطرة التحكيمية برمتها خوفا من ضياع حقوقهم . 

         وإذا كان التحكيم البحري يستند بالأساس إلى إرادة الأطراف من حيث المبدأ، فإن هذه الإرادة قد ترد عليها بعض القيود التي يلتزم المحكمون والأطراف بإحترامها، من أجل حسن سير  العملية التحكيمية وكذا ضمان تنفيذ الأحكام التحكيمية وتحقيق فاعليتها في المجال البحري،  والتي يترتب على الخروج عنها رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم التحكيمي، وبالتالي إنتفاء الحكمة المتوخاة من التحكيم عموما والبحري خصوصا.

     وتتجلى هذه القيود في قيود قانونية مثل النظام العام وقوانين البوليس[10] التي تنصب حول عدم مخالفة القواعد الآمرة والمبادئ الأساسية والجوهرية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وكذا إستبعاد ما أمكن من القوانين الأجنبية التي من شأنها المساس بالأسس العليا التي يقوم عليها النظام العام في البلد الذي يجري فيه التحكيم،  و ثم قيود خاصة بعملية التحكيم وذلك في الحالات التي يستلزم فيها الأمر تدخل القضاء الوطني بهدف المساعدة لإجبار الخصوم على إتمام الإجراء المطلوب والإنصياع لقرارات المحكم أو الهيئة التحكيمية، ومن تم فإن القضاء يقوم بدور مكمل ومساعد لهيئة التحكيم في مراحله المختلفة وفي حالات عديدة ضمانا لحسن سير الإجراءات التحكيمية[11] .

     وتبعا لذلك، عمل المشرع المغربي بدوره بموجب القانون 08.05 السالف الذكر على تقييد إرادة الأطراف بنصوص أمرة تراعي قواعد النظام العام، إلى جانب منح للقضاء صلاحية التدخل في سير العملية التحكيمية، الذي يهدف تارة إلى مساعدة الهيئة التحكيمية وتارة أخرى يمارس رقابة على سير العملية التحكيمية.

     وعليه فإن التحكيم البحري تتعاقب عليه صفتان، الأولى هي الصفة التعاقدية، والمتمثلة في تكريس دور إرادة الأطراف في مختلف مراحل التحكيم، ثم يتحول التحكيم البحري من الطبيعة التعاقدية إلى الطبيعة القضائية من خلال تدخل قضاء الدولة لفرض رقابتها على العملية التحكيمية منذ إبرام إتفاق التحكيم إلى أن يتم  تذييله الحكم التحكيمي بالصيغة التنفيذية.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى