قطع العلاقات الدبلوماسية في ضوء أحكام القانون الدولي وممارسة الدول
قطع العلاقات الدبلوماسية في ضوء أحكام القانون الدولي وممارسة الدول
بقلم الأستاذ: سالم محمد سالم*
يعتبر قطع العلاقات الدبلوماسية من أسوء مظاهر العلاقات بين دولتين، لأنه إجراء عملي ينهي الصلات الودية التي كانت قائمة بينهما قبل قطع العلاقات، ولذا فإن الدول لا تقدم على اتخاذ اجراء انهاء الصلات، إلا عندما تصل الخلافات والمنازعات درجة لم تعد وسائل الاتصال المباشر مجدية لتسويته، ومما لا شك فيه أن الممارسات التي يرتكبها الدبلوماسيون أحيانا والتي تسيء إلى المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية للدولة المستقبلة للبعثة الدبلوماسية، قد تؤدي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين.
ففي حالة القيام بعمل دبلوماسي يشكل خطورة على أمن الدولة بمفهومها الواسع وفي حالة التدخل في الشؤون الداخلية للدولة قد يؤدي ذلك إلى قطع العلاقات الدبلوماسية من طرف الدولة المعتمدة لديها البعثة الدبلوماسية أو من طرف دولة المبعوث الدبلوماسي إذا اعتبرت بأن سلوك الدولة المستقبلة تجاه دبلوماسييها يشكل تصرفا تعسفيا قامت به الدولة المستقبلة.
والواقع ان حرص الدولة على تحقيق مصالحها والمحافظة على تلك المصالح يحتم عليها إقامة علاقات دبلوماسية مع غيرها من الدول، فمصالح الدول اليوم أصبحت متداخلة ومتشعبة ومتناقضة، فلا تستطيع الدولة الحديثة أن تعيش منغلقة على نفسها ومنعزلة عن محيطها الدولي والإقليمي، وينعكس تداخل المصالح وتشعبها على مستوى وحجم العلاقات الدبلوماسية والذي ينعكس هو الآخر على خلفية دوافع قطع العلاقات الدبلوماسية، هذا القطع الذي يتخذ صور متعددة كقطع العلاقات الدبلوماسية بصورة منفردة أو جماعية، وبدوافع سياسية أو اقتصادية أو أمنية وهذا ما سنعالجه في المبحثين التاليين:
المبحث الأول: قطع العلاقات كأداة جزائية انفرادية
تنص المادة الثانية من اتفاقية افيينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961 على أن «إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدول وإيفاد بعثات دبلوماسية دائمة يتم بتراضي الطرفين».
وفي هذا المضمار تنص اتفاقية هافانا حول الموظفين الدبلوماسيين عام 1928م على «لا يحق لأية دولة أن تعتمد موظفيها الدبلوماسيين لدى دول أخرى دون اتفاق مسبق معها، ومن حق الدول أن ترفض قبول موظف دبلوماسي من دولة أخرى، كما وانه من حقها أن تطلب سحبه بعد قبوله دون أن تكون ملزمة باعطاء الاسباب لقرار من هذا النوع»[1].
فإذا كانت إقامة العلاقات الدبلوماسية تتم باتفاق بين الدولتين، فهل يكون قطع العلاقات الدبلوماسية يتم باتفاق الدولتين أيضا؟.
الواقع أنه ليس هناك التزام قانوني في هذه الاشكالية، فالموضوع يقتصر أساسا على المصلحة المنفردة للدولة، وهذا ما سيتم تناوله في المطلبين التاليين:
المطلب لأول: قطع العلاقات كتعبير عملي على رد فعل معين
من المسلم به أنه إذا ما رأت الدولة أن استمرار العلاقات بينها وبين دولة أخرى يشكل تهديدا لأمنها القومي من حقها قطع علاقاتها الدبلوماسية بالدولة المعنية حرصا منها على حماية أمنها، وفي هذه الحالة فإن قطع العلاقات الدبلوماسية يعتبر تجسيدا لارادة الدولة[2].
وقد يكون قطع العلاقات بصورة انفرادية، وقد يكون بصورة جماعية، وقد تكتفي الدولة بطرد المبعوثين الدبلوماسيين دون التصريح بقطع العلاقات الدبلوماسية
أولا: قطع العلاقات بصورة انفرادية: من الوقائع التي تبرهن على أن مسألة قطع العلاقات الدبلوماسية تعتبر من المواضيع التي تدخل في صميم الاختصاص المطلق للدولة من جهة وتصرف سليم من الناحية القانونية من جهة أخرى، واقعة اتخاذ حكومة اوروكواي قرارا بقطع علاقاتها الدبلوماسية بالاتحاد السوفيتي سابقا عام 1936م، فلقد اثيرت هذه المسألة أمام مجلس عصبة الأمم بناء على طلب حكومة الاتحاد السوفيتي مبينة وجهة نظرها على ان اتخاذ قرار قطع العلاقات الدبلوماسية من جانب واحد يعتبر اخلالا بعهد عصبة الأمم الذي يقرر أنه في حالة قيام خلاف بين أعضاء العصبة يمكن أن يؤدي إلى قطع العلاقات، فعلى الأعضاء ذوي الشأن أن يعرضوا هذا الخلاف على التحكيم وعلى مجلس العصبة[3] محاولا أن يبرهن على أن قطع العلاقات الدبلوماسية من جانب واحد يعتبر عملا غير ودي يتعين على الدولة التي اقدمت عليه أن تبرره أمام الرأي العام[4].
وقد طالبت الحكومة السوفيتية مجلس العصبة أن يتخذ قرارا يطلب من اوروكواي ابداء الاسباب التي دفعتها إلى اتخاذ هذا الاجراء وتقديم الأدلة على صحة هذه الأسباب[5].
وجاء موقف حكومة اوروكواي على اعتراض الحكومة السوفيتية على قطعها لعلاقاتها الدبلوماسية بالاتحاد السوفيتي على لسان ممثل اوروكواي في عصبة الأمم، فقد جاء في هذا الرد أنه إذا كان الأمن الداخلي لدولة ما مهددا فمن حق حكومة هذه الدولة اتخاذ جميع التدابير التي ترى ضرورتها لصيانة أمنها وأنها ليست مطالبة بأن تستشير سوى ضميرها الخاص، فارضة بهذا التصرف، على الدولة الأخرى اتخاذ قرار مماثل[6].
لقد عبر مجلس العصبة إزاء قطع هذه العلاقات عن أمله في أن يزول سوء التفاهم الذي أدى إلى اتخاذ هذا الاجراء في أسرع وقت ممكن[7].
ومن الأمثلة التي اقدمت فيها الدول على قطع علاقاتها الدبلوماسية بدول أخرى كتعبير عملي على رد فعل معين اتهمت به تلك الدول[8].
- بتاريخ 23/7/1968م قطعت بلغاريا علاقاتها الدبلوماسية بالبانيا على اثر اتهامها المبعوثين الدبلوماسيين الالبانيين بالقيام بنشاط هدام ضد أمن بلغاريا[9].
- بتاريخ 21/10/1947م قطعت شيلي علاقاتها الدبلوماسية بالاتحداد السوفيتي على أثر اتهام شيلي السفارة الروسية بمساعدة اللجنة المركزية الشيوعية الشيلية على الاضراب واحداث الشغب بالبلاد[10].
- بتاريخ 25/5/1952م قطعت فنزويلا علاقاتها الدبلوماسية بالاتحاد السوفياتي، لتجاهل الاتحاد السوفيتي طلب فنزويلا استدعاء دبلوماسيين يعملان بالسفارة الروسية، الأمر الذي اعتبرته فنزويلا يمثل اتنهاكا لسيادتها.
- بتاريخ 1/11/1956م قطعت مصر علاقاتها الدبلوماسية بفرنسا وبريطانيا لاتهامهما بالتآمر ضدها والاعتداء على أراضيها دون مبرر قانوني[11].
- بتاريخ 20/1/1960م قطعت كوبا علاقاتها الدبلوماسية باسبانيا على اثر اتهامها السفير الاسباني في هافانا بالقيام بنشاط ضد أمن كوبا.
- بتاريخ 7/5/1968 قطعت تونس علاقاتها الدبلوماسية بسوريا على اثر اتهامها البعثة الدبلوماسية السورية بتحريض المواطنين التونسيين على ارتكاب افعال مضادة لأمنها.
- بتاريخ 20/8/1969م قطعت الكونغوكينشاسا علاقاتها الدبلوماسية ببلغاريا، على اثر اتهام الكونغو المبعوثين الدبلوماسيين البلغاريين بالاشتراك في اضرابات حدثت في نفس الشهر، وقيام السفارة البلغارية بمساعدة عناصر مطلوبة أمام العدالة إلى مغادرة الدولة في مجموعة صغيرة إلى صوفيا عبر فرنسا[12].
- بتاريخ 30/12/1960م قطعت بيرو علاقاتها الدبلوماسية بكوبا، على أثر اتهام بيرو سفارة كوبا في ليما بالتدخل الهدام في الشؤون الداخلية لبيرو.
- بتاريخ 1/3/1960م قطعت السلفادور علاقاتها الدبلوماسية بكوبا على اثر اتهام السلفادور سفير كوبا بها بالتجسس وعقد لقاءات سرية مع الشيوعيين[13].
- بتاريخ 13/5/1964 قطعت البرازيل علاقتها الدبلوماسية بكوبا على اثر اتهام البرازيل لكوبا بالتآمر ضدها.
- بتاريخ 29/10/1964 قطعت بوليفيا علاقاتها الدبلوماسية بتشيكوسلوفاكيا على اثر اتهام بوليفيا سفارة تشيكسلوفاكيا بالتدخل في شؤونها الداخلية[14].
- بتاريخ 3/5/1965م اعلن الأمير الكمبودي نوردوم سيهانوك بأن كمبوديا قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة دفاعا عن شرف الوطن بعدما قامت مجلة نيوزويك الاميركية بنشر مقال في 5/4/1965م يتضمن الاهانة والقدح تجاه والدة الأمير الكامبودي سيهانوك[15] .
- بتاريخ 7/4/1976م قطعت إيران علاقاتها الدبلوماسية بكوبا، على اثر اتهام السفارة الكوبية بها بالتدخل في الشؤون الداخلية لايران[16].
- بتاريخ 6/7/1976م قطعت جمهورية السودان علاقانها الدبلوماسية بليبيا وأمرت اعضاء السفارة الليبية بها بمغادرة البلاد خلال اربع وعشرين ساعة، اثر اتهام السفارة بتمويل مؤامرة ضد أمن السودان[17].
- بتاريخ 13/11/1975 قطعت المملكة المغربية علاقاتها الدبلوماسية بالمانيا الشرقية سابقا حماية للاماني الوطنية للشعب المغربي[18].
- وفي عام 2017 اقدمت كل من جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة والمملكة البحرينية على قطع علاقتهم الدبلوماسية بدولة قطر، اثر اتهام هذه الدول بأن قطر تحيك التآمر ضد هذه الدول، وتدعم الارهاب وتأوي العناصر المتطرفة[19].
- كما حذت موريتانيا والمالديف وموريشيوس حذو هذه الدول فاقدمت على قطع علاقتها الدبلوماسية مع دولة قطر، بتهمة دعم الفوضى ونشر القلاقل ودعم الارهاب والتطرف[20].
- قطعت فينزويلا علاقاتها الدبلوماسية مع كلومبيا اثر تقديم الحكومة الكولومبية الدعم المادي للمعارضة الفينزويلية، والاعتراف برئيس المعارضة الذي أعلن تنصيبه رئيسا لفينزويلا[21].
ثانيا: قطع العلاقات بصورة جماعية: قد يأخذ قطع العلاقات الدبلوماسية صورة جماعية ضد دولة أخلت بالتزاماتها الدولية واتخذت نهجا سياسيا لا ينسجم مع سياسات دول أخرى، ففي عام 1964م طلبت منظمة الدول الامريكية من الدول الأعضاء فيها قطع علاقاتهم الدبلوماسية بكوبا بسبب اعتناق الحكومة الكوبية المذهب الشيوعي، وفي عام 1966 قرر مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وعملا بالمادة 41 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة فرض عقوبات على روديسيا الجنوبية (زمبابوي حاليا)، ومن ضمنها قطع العلاقات الدبلوماسية بسبب تطبيق سياسة التمييز العنصري[22].
وسبق وأن اصدرت عصبة الأمم، التي تاسست عقب الحرب العالمية الأولى، قرارا يقضي بقطع العلاقات الدبلوماسية بإيطاليا عقب احتلالها للحبشة (اثيوبيا حاليا) عام 1934م[23].
كما قطعت الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية بمصر عقب اتفاقية كامبديفيد مع الكيان الصهيوني، وهذا ما سيتم التطرق له بشيء من التفصيل لاحقا.
قطعت المغرب علاقاتها الدبلوماسية مع جمهورية ايران بعد أن تأكد لديها أن حزب الله اللبناني ذا المرجعية الشيعية، قام بتزويد (البوليزاريو) بأسلحة ومعدات قتالية وذخائر حصل عليها الحزب عن طريق سفارة ايران في الجزائر، أعلن هذا وزير الخارجية المغربي خلال تصريح أدلى به لقناة الجزيرة القطرية الاخبارية يوم 01 مايو عام 2018، كما استدعت الحكومة المغربية سفيرها في إيران وإغلاق السفارة المغربية في الجمهورية الإيرانية[24].
ثالثا: قد تقوم الدولة بطرد المبعوثين الدبلوماسيين المعتمدين لديها دون أن تصل إلى قطع العلاقات الدبلوماسية معها بحجج وذرائع مختلفة فقد طردت الحكومة البريطانية يوم 14 مارس عام 2018 (23) دبلوماسيين روسيين يعملون في البعثة الدبلوماسية الروسية المعتمدة لدى الحكومة البريطانية بحجة أنهم جواسيس يعملون في البعثة الدبلوماسية الروسية، وجاء القرار البريطاني اثر تحميلها الحكومة الروسية محاولة اغتيال سياسي روسي مقيم في لندن كلاجئ سياسي، وارفق هذا القرار بقرار يقضي بمقاطعة ابريطانيا للالعاب الرياضية لكأس العالم المقام في روسيا في نفس العام[25].
وفي يوم 17 مارس 2018 قامت الحكومة الروسية بطرد (23) دبلوماسيا ابريطانيا كردة فعل على الاجراء البريطاني بطرد الدبلوماسيين الروس، وفي نفس الوقت استدعت وزارة الخارجية الروسية السفير البريطاني في موسكو وقدمت له احتجاجا شديدا على الاجراء البريطاني، كما قامت الحكومة الروسية باغلاق المركز الثقافي البريطاني والقنصلية البريطانية في موسكو، وطلبت السلطات الروسية من الحكومة البريطانية تقليص بعثتها الدبلوماسية في روسيا[26].
وتضامنا مع ابريطانيا قامت (23) دولة اوربية بطرد دبلوماسيين روس، وطرد حلف شمال الأطلسي (7) دبلوماسيين روس في البعثة الدبلوماسية الروسية المعتمدة لدى حلف شمال الأطلسي تضمانا مع بريطانيا[27].
كما قامت الحكومة الروسية بطرد دبلوماسيين ينتمون إلى بعثات (23) دولة اوربية كمعاملة بالمثل[28].
- وقد طردت الولايات المتحدة الامريكية يوم 29/12/2016م 35 دبلوماسيا روسيا مع عائلاتهم بحجة التدخل الروسي في الانتخابات الامريكية شهر ابريل من نفس السنة، والتي اوصلت الرئيس اترامب إلى سدة الحكم.
وفي إطار التضامن مع الحكومة البريطانية أعلنت الحكومة الامريكية أنها ستقوم بطرد (60) دبلوماسيا روسيا من بعثتها المعتمدة لدى الحكومة الامريكية، احتجاجا على محاولة اغتيال اللاجئ الروسي حسب تعبير الولايات المتحدة الامريكية والجاسوس حسب تعبير روسيا، وعندما نفذت الحكومة الامريكية وعدها بطرد الدبلوماسيين الروس قامت الحكومة الروسية بطرد (60) دبلوماسيا أمريكيا من البعثة الدبلوماسية الامريكية في روسيا، واغلاق القنصلية الامريكية في مدينة سان بطرس برغ[29].
كما اعلنت الكويت أن سفير الفيلبين لم يعد مرغوبا فيه كسفير لبلاده لديها، وذلك اثر تدخله في مشكلة عاملة منزلية فلبينية تعمل لدى اسرة كويتية تعرضت للاهانة على يد الأسرة الكويتية حسب ادعاء السفير الفيلبيني، كما استدعت الحكومة الكويتية سفيرها في الفلبين[30]
المطلب الثاني: قطع العلاقات إثر تغيير الوضع السياسي
يقصد بالتغيير السياسي الذي يؤدي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بالدولة ذلك التغيير الذي يتم خارج الأطر القانونية والدستورية، أي انه يعني قلب الأنظمة السياسية بوسائل تتعارض مع تلك التي نصت عليها الوثيقة الدستورية، كالانقلاب العسكري أو الثورة أو الاطاحة بالحكومة الشرعية عن طريق عدوان خارجي، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، النظام السياسي الذي تم تنصيبه في افغانستان اثر التدخل العسكري السوفيتي في افغانستان أواخر عام 1979م، وفي كمبوديا بعد التدخل العسكري الفيتنامي[31].
ويعتبر قطع العلاقات الدبلوماسية الذي يتم اثر التغيير السياسي أداة سياسية جماعية تتخذ صور أساسية كما يرى الدكتور عبد الواحد الناصر أنه يمكن التمييز بين ثلاث صور لقطع العلاقات الدبلوماسية في نطاق العمل الجماعي داخل المنظمات الدولية، الصورة الأولى تتمثل في قطع العلاقات الدبلوماسية كنوع من الجزاءات الجماعية، والصورة الثانية تتجلى في قطع العلاقات الدبلوماسية كأداة للضغط السياسي، والصورة الأخيرة تتمثل في قطع العلاقات الدبلوماسية كتعبير عن التضامن داخل التجمعات أو المنظمات الدولية أو الاقليمية.[32]
أولا: قطع العلاقات الدبلوماسية كنوع من الجزاء
كانت عصبة الأمم أول منظمة عالمية دولية تدعو منتسبيها إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أي دولة عضو فيها تقوم باعتداء على دولة أخرى، فقد نصت الفقرة الأولى من المادة السادسة عشر من عهد عصبة الامم على «ان الدولة العضو التي تلجأ إلى الحرب ومخالفة مقتضيات المواد 12،13،15 تعتبر وكأنها قد ارتكبت عملا حربيا ضد جميع الأعضاء الآخرين في العصبة، ويتعين على باقي الأعضاء القطع الفوري لعلاقاتهم التجارية والمالية ومنع جميع الروابط بين رعاياها ورعايا الدولة المعتدية».
وكان العدوان الإيطالي على الحبشة (اثيوبيا) عام 1934 أول تجربة عملية تقوم بها عصبة الأمم بتطبيق المادة16 من العهد، فقد اعتبرت عصبة الأمم في شهر اكتوبر عام 1935 إيطاليا دولة معتدية بسبب حربها التي شنت على الحبشة متخذة قرارا بقطع الدول الأعضاء علاقاتهم الدبلوماسية بايطاليا[33].
أما الجزاءات التي اتخذتها منظمات اقليمية فنذكر منها مثالين: مثال اتخذته منظمة الدول الأمريكية ضد كوبا، والمثال الثاني اتخذته جامعة الدول العربية ضد مصر[34].
بعد وصول القيادة السياسية الكوبية بقيادة الرئيس فيدل كاسترو إلى السلطة عام 1958م، توترت العلاقات بين الدول الامريكية وكوبا، وقد وصل هذا التوتر إلى ذروته بعد إعلان القيادة السياسية الكوبية تبنيها للفكر الماركسي، واندلاع أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا عام 1962م والتي كادت ان تؤدي إلى حرب بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي، هذه الأسباب وغيرها ادت إلى اعتبار الدولة الكوبية تشكل تهديدا لنظام الأمن الجماعي داخل منظمة الدول الامريكية، مما دفع إلى عقد اجتماع لوزراء خارجية الدول الأمريكية في العاصمة الامريكية واشنطن، وقد اتخذ الاجتماع عقوبات اقتصادية ضد كوبا وقطع العلاقات الدبلوماسية معها[35].
أما بالنسبة لمصر، فإن زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى الكيان الصهيوني عام 1977 هي الدافع الأساسي للدول العربية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، وإن كانت ردود فعل الدول العربية على الزيارة متباينة ومتناقضة أحيانا، ففي الوقت الذي انتقدتها دول بشدة أيدتها دول علنية في حين بقيت دول متفرجة، فقامت الحكومة المصرية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدول التي وصفت الزيارة بالخيانة، وهذه الدول هي: ليبيا والجزائر والعراق وسوريا واليمن الجنوبية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فشكلت هذه الدول فيما بعد ما سمي جبهة الصمود والتصدي، ولكن بعد قيام رئيس الحكومة المصرية انو السادات بالتوقيع على اتفاقية كامديفيد ومعاهدة السلام مع الكيان الصهيوني عقدت جامعة الدول العربية قمة لها في العاصمة العراقية بغداد، وقررت الدول الأعضاء قطع علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، باستثناء جمهورية السودان وسلطنة عمان وجمهورية الصومال[36].
ثانيا: قطع العلاقات الدبلوماسية كأداة للضغط السياسي:
استخدم اسلوب قطع العلاقات الدبلوماسية كوسيلة ضغط من قبل الدول والمنظمات الدولية ضد دول معينة للتراجع عن مواقف اتخذتها تلك الدول، فقد نصت المادة 41 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة على «ان مجلس الأمن يمكنه اتخاذ التدابير التي تضمن استخدام القوة المسلحة وأن يدعوا الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير التي تشمل الوقف الكلي أو الجزئي للعلاقات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والتلغرافية واللاسلكية وطرق الاتصال الأخرى وكذلك قطع العلاقات الدبلوماسية».
وقد طبقت الأمم المتحدة المادة 41 في حالات عديدة ومن أهمها توصية الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1946م برفض عضوية اسبانيا في المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة ، وقد أوصت بقطع العلاقات الدبلوماسية معها[37].
كما اتخذت الأمم المتحدة موقفا رافضا لسياسة جنوب افريقيا، حين أصدر هذا النظام تشريعا عنصريا ورفضت حكومة جنوب افريقيا التراجع عن هذا التشريع، وعدم التعامل مع الأمم المتحدة باعتبار أن المسألة داخلية ولا يحق للدول ولا المنظمات الدولية التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وبناء على ذلك اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا طالبت فيه الدول الأعضاء في فقرته الرابعة بأن تتخذ بصورة جماعية أو فردية الإجراءات التالية بهدف ارغام حكومة جنوب افريقيا على التخلي عن سياسة التمييز العنصري[38].
- قطع العلاقات الدبلوماسية مع حكومة جنوب افريقيا والامتناع عن الدخول في هذه العلاقات.
- اغلاق موانئها في وجه السفن التي تحمل علم جنوب افريقيا.
- اتخاذ القوانين التي تمنع سفنها من الدخول إلى موانئ جنوب افريقيا.
- مقاطعة جميع البضائع الواردة من جنوب افريقيا والامتناع عن تصدير السلاح إليها.
- منع طائراتها من استعمال مطارات الدول الأعضاء.
وفي عام 1971 أصدرت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة فتوى يحث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على الامتناع عن اعتماد بعثات دبلوماسية وقنصلية لدى جنوب افريقيا تمتد صلاحياتها إلى اقليم ناميبيا، والامتناع كذلك عن ارسال ممثلين قنصليين إلى هذا الاقليم، أو سحبهم في حال وجودهم[39].
ثالثا: قطع العلاقات الدبلوماسية كتعبير تضامني
قد تقوم دولة أو مجموعة من الدول بقطع علاقاتها مع دولة أو مع دل تضامنا مع دولة أو شعب تعرض لموقف يتناقض مع مقاصد القانون الدولي العام في السلم والأمن الدوليين[40].
إن الأمثلة لقطع العلاقات الدبلوماسية كتعبير تضامني كثيرة ونكتفي بالأمثلة التالية من هذا التضامن: قطع الدول العربية لعلاقاتها الدبلوماسية مع فرنسا وابريطانيا تضامنا مع مصر اثر العدوان الثلاثي عليها عام 1956 عقب تأميم الحكومة المصرية لقناة السويس باستثناء الأردن فقد احتفظت المملكة الاردنية بعلاقاتها مع ابريطانيا في حين قطعتها مع فرنسا[41].
كما قطعت الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع كل من كوستاريكا والسلفا دور لنقل سفارتيهما إلى مدينة القدس الشريف[42].
وقد قطعت موريتانيا ومصر والجزائر وجمهورية السودان العلاقات الدبلوماسية مع ابريطانيا عام 1965م على أساس التضامن مع دول وشعوب افريقيا بسبب قضية روديسيا[43].
وفي عام 1967م قطعت كل من مصر والجزائر والعراق وسوريا العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا، وقد احتفظت الدول العربية الأخرى بعلاقات دبلوماسية على مستوى القائم بالأعمال باستثناء المملكة المغربية والسعودية والاردن والكويت وتونس التي احتفظت بعلاقاتها على مستوى السفراء[44].
ومن الملفت للانتباه ان العلاقات الدبلوماسية العراقية الايرانية لم تقطع بالرغم من اندلاع الحرب بينهما التي دامت ثمان سنوات[45].
المبحث الثاني: آثار قطع العلاقات الدبلوماسية
تقوم البعثة الدبلوماسية بوظيفة في غاية الأهمية للدولة المعتمدة والدولة المعتمدة لديها البعثة فهي الاداة الأهم لتعميق وانسيابية التعاون، وحماية وتشجيع انماء العلاقات الاقتصادية والثقافية والعلمية والاستعلام بالوسائل المشروعة عن أوضاع تلك المجالات في البلد المضيف ونقل المعلومات إلى الدولة المرسلة.
لقد سبق أن قلنا أن الدبلوماسية وظيفة سياسية من الوظائف التي ترتكز عليها الدولة في إدارة وتسيير شؤون البلاد الخارجية، وقطع هذه العلاقات يؤثر على الدولتين، وهذا ما سنعالجه في المطلبين التاليين.
المطلب الأول: الآثار السياسية لقطع العلاقات الدبلوماسية
إن تأثير قطع العلاقات الدبلوماسية على أطراف تلك العلاقة تأثير مباشر وسلبي في كثير من الاحيان، فقطع العلاقات الدبلوماسية الذي يعني الاعلان الذي تصدره دولة معينة والذي يتضمن قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة أخرى له تأثيراته وسلبياته على الطرفين[46].
وقد تكتفي الدول بسحب ممثليها الدبلوماسيين مع الابقاء على العلاقات الدبلوسية قائمة.
أولا: آثار قطع العلاقات على التمثيل الدبلوماسي: يترتب على قرار قطع العلاقات الدبلوماسية انهاء التمثيل الدبلوماسي المباشر بين الدولتين المعنيتين، ويعهد عادة باسناد تمثيل مصالحهما إلى دول أخرى بعد موافقة الدولة المعتمدة لديها بعثة الدولة الثالثة لرعاية تلك المصالح، وقطع العلاقات الدبلوماسية لا يعني سحب الاعتراف بالدولة من الناحية السياسية[47].
إن الدول تلجأ إلى قطع العلاقات الدبلوماسية لأسباب عديدة منها اندلاع حرب بين الدولتين المتنازعتين، إلا أن اندلاع الحرب بين الدولتين ليس بالضرورة أن ينتج عنه قطع العلاقات الدبلوماسية، فالحرب العراقية الايرانية التي اندلعت عام 1980م واستمرت حتى عام 1988م لم تقطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، بل إن المذكرات المتبادلة بينهما ظلت مستمرة، ومن هذه الأسباب التي تؤدي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مبدأ المعاملة بالمثل كأن تقطع دولة علاقاتها الدبلوماسية مع دولة أخرى فتقوم الدولة الأخيرة بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة الأولى معاملة بالمثل، وقد يكن قطع العلاقات وسيلة ارغام[48].
ويكون قطع العلاقات الدبلوماسية في بعض الأحيان وسيلة ارغام للدولة عندما تشعرها الدولة التي بادرت بقطع العلاقات الدبلوماسية بأنها قد تستخدم قواتها المسلحة إذا لم تستجب إلى مطالبها، خاصة إذا رافق هذا الاشعار إجلاء رعايا الدولة[49].
والواقع ان قطع العلاقات الدبلوماسية كوسيلة ارغام تؤدي إلى تعكير جو العلاقات الدولية لكونها تقضي على الوسيلة الطبيعية التي تستطيع بموجبها الدول حل مشاكلها وانماء علاقاتها الدولية، وبذلك يعتبر اجراء قطع العلاقات الدبلوماسية يتعارض مع مهام منظمة الأمم المتحدة[50].
لقد نص ميثاق منظمة الأمم المتحدة على: أن «مقاصد الأمم المتحدة هي انماء العلاقات الدولية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام»[51].
لم يقتصر دور الأمم المتحدة على اتخاذ ما تراه ملائمة بل إنها اجازت لمجلس الأمن الدولي الطلب إلى الدول الأعضاء قطع العلاقات الدبلوماسية بينها وبين الدولة المعتدية، ويجوز أن يتبع ذلك وقف العلاقات الاقتصادية، وهذا ما أكده ميثاق الأمم المتحدة حين نص على ما يلي[52]:
«لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى اعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من المواصلات وقفا جزئيا أوكليا وقطع العلاقات الدبلوماسية»[53].
ثانيا: سحب الممثلين الدبلوماسيين: يحق للدول أن تسحب ممثليها الدبلوماسيين دون أن تلجأ إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، وهذا ما فعلته يوغسلافيا مع اليونان عام 1946م، ومع الاتحاد السوفيتي وباقي دول اوربا الشرقية، كما يحق للدولة المعتمد لديها الممثل الدبلوماسي أن تطلب استدعاءه إذا تأكد لديها قيامه بنشاط يتنافى مع مقتضيات الوظيفة الدبلوماسية، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها[54]:
- طلب استدعاء وزير فرنسا في الولايات المتحدة الامريكية 1793م
- طلب استدعاء وزير ابريطانيا في واشنطن
- طلب استدعاء سفير الاتحاد السوفيتي في باريس عام 1927م.
- طلب استدعاء سفير الاتحاد السوفيتي في باريس أيضا عام 1940.
- طلب استدعاء سفير الولايات المتحدة الامريكية في موسكو عام 1952م.
- استدعت المملكة المغربية يوم 8 فبراير 2019 سفيرها في المملكة العربية السعودية مصطفى المنصوري للتشاور واعتبر السفير أن الأمر يعتبر عاديا في العلاقات الدبلوماسية حينما تعبرها بعد السحب الباردة حسب تصريحه لوسائل الاعلام، وكانت القناة العربية قد بثت عبر استديوهاتها في دبي بالامارات العربية المتحدة تقريرا عن قضية الصحراء وجولات المباحثات التي ترعاها الأمم المتحدة مع دول المنطقة، وتضمن التقرير بث صور من علم (الجمهورية الصحراوية) وتحدث عن حدودها الجغرافية وأشار إلى أن المغرب تحدها من الشمال، كما أشار إلى ان البوليزاريو معترف بها دوليا بوصفها (الممثل الشرعي) للشعب الصحراوي.
كما سحبت المغرب رسميا قواتها العسكرية التي كانت تشارك في حرب قوات التحالف العربي ضد المقاتلين الحوثيين في اليمن.
وكان وزير الخارجية المغربي قد شارك في برنامج (بلا حدود) الذي تبثه قناة الجزيرة القطرية قبل اسبوعين من بث قناة العربية السعودية التقرير الآنف الذكر.
وتعود جذور الأزمة بين الدولتين إلى موقف الحياد الذي اتخذته الحكومة المغربية من حصار بعض الدول لدولة قطر.
- كما استدعى المغرب سفيره من دولة الامارات العربية المتحدة يوم 9 فبراير 2019[55]
واستندا إلى الفقرة الأولى من المادة الحادية عشرة من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961م والتي تنص على أنه «في حالة عدم وجود اتفاق صريح على عدد أعضاء البعثة، يجوز للدولة المعتمدة لديها ان تطلب بقاء هذا العدد في الحدود المعقولة والمعتادة وفقا لما تقدره بالنظر للظروف والأحوال السائدة في هذه الدولة وللاحتياجات الخاصة بالبعثة».
وفي ضوء هذه المادة لجأت دول عديدة إلى المطالبة بتخفيض عدد المبعوثين إلى الحد المعقول، نذكر منها على سبيل المثال[56]:
- طلبت حكومة اوغندا من ابريطانيا في عام 1974م تخفيض عدد أعضاء بعثتها الدبلوماسية في كامبالا من خمسين عضوا إلى خمسة أعضاء.
- قرار حكومة الجابون عام 1973م بتحديد عدد أعضاء البعثات الدبلوماسية المعتمدة لديها بألا يتجاوز عشرة أعضاء.
- طلب الرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو تخفيض عدد موظفي سفارة الولايات المتحدة الامريكية في كوبا إلى 300 موظف.
- طلب الحكومة الروماينة من الولايات المتحدة الامريكية في عام 1950م تخفيض عدد أعضاء بعثتها الدبلوماسية إلى عشرة أشخاص.
- طلب بريطانيا من بعض الدول العربية تخفيض عدد العاملين بسفاراتها في لندن اثر اغتيال ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة البريطانية.
طلب الحكومة الروسية يوم 30/7/2017 من الحكومة الامريكية تخفيض البعثة الدبلوماسية الأمريكية في روسيا بسحب 755 من البعثة الامريكية المعتمدة لدى روسيا[57].
يعتبر قطع العلاقات الدبلوماسية أو تخفيضها في الواقع عملا قانونيا مشروعا تمارسه الدولة بمقتضى سيادتها وسلطانها، دون أن يتعارض ذلك مع التزاماتها الدولية والاقليمية، ولا يؤثر قطع العلاقات الدبلوماسية على نفاذ المعاهدات المعقودة بين الدول المعنية ولا يستتبع بالضرورة اتخاذ أي تدابير حيال رعايا كل منهما المقيمين لدى الدولة الأخرى، ما لم ينص على ذلك صراحة[58].
إن قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدول يكون أكثر خطورة على مصالح الدولة عند ما يقترن بقطع العلاقات الاقتصادية ووقف المساعدات، وهذا ما سنعالجه في المطلبين التاليين:
المطلب الثاني: أثر قطع العلاقات الدبلوماسية على الجانب الاقتصادي
يقصد بقطع العلاقات الاقتصادية قيام دولة أو مجموعة من الدول بوقف علاقاتها التجارية مع دولة أخرى بهدف ارغامها على القيام بعمل معين او الامتناع عنه[59].
ويعتبر قطع العلاقات الاقتصادية من الوسائل المؤثرة والمستخدمة بشكل واسع، فقد لجأت إليها الدول في العديد من الاحيان، وتتخذ أوضاعا مختلفة ومتباينة فتأخذ أحيانا شكل قطع العلاقات التجارية فيما يخص الواردات والصادرات، وفي أحيان أخرى ياخذ قطع العلاقات الاقتصادية المقاطعة التي تشمل جميع أنواع التعامل الاقتصادي بحيث أنها تشمل قطع العلاقات مع مواطني تلك الدولة[60].
إن استخدام المقاطعة الاقتصادية يفترض وجود وضع اقتصادي يسمح بممارسة هذا الضغط وتأثيره على اقتصاد ومصالح الطرف الآخرى والاضرار بمصالحه[61].
والمقاطعة الاقتصادية، إما أن تكون رسمية تقوم بها دولة ضد دولة أخرى، أو أن تكون شعبية يقوم بها الأفراد والشركات ضد دولة معينة لاجبارها على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل[62].
ومن أمثلة المقاطعة الشعبية مقاطعة الشعب الصيني للبضائع الامريكية عام 1906م احتجاجا على قيام حكومة الولايات المتحدة الامريكية وضع قيود تشريعية على هجرة واستيطان الصينيين فيها، وفي عام 1908 امتنع التجار الاتراك عن شراء وتسويق البضائع النمساوية والمجرية، وفي عام 1956م قررت اللجنة الوطنية للحزب الاشتراكي الهندي مقاطعة البضائع الفرنسية والبريطانية احتجاجا على العدوان الثلاثي على مصر[63].
وقد تكون المقاطعة الاقتصادية جماعية، بناء على قرارات صادرة عن منظمات دولية واقليمية، ومن أهم امثلة المقاطعة الاقتصادية التي تعود إلى المنظمات الدولية والاقليمية هذه.
أولا: المقاطعة المتخذة من قبل الأمم المتحدة:
لقد فوض ميثاق منظمة الأمم المتحدة مجلس الأمن الدولي استنادا إلى المادة 41 من الميثاق أن يطلب من الدول الأعضاء وقف الصلات الاقتصادية وقفا جزئيا أو كليا مع دولة معينة[64].
واستنادا إلى هذه المادة فقد طبقت الأمم المتحدة المقاطعة الاقتصادية ضد جمهورية الصين الشعبية وكوريا الشمالية في عام 1950م لهجومهما على كوريا الجنوبية، وطبقت المقاطعة الاقتصادية ضد البرتغال في عام 1961م لرفضها قبول مبدأ حق تقرير المصير للشعوب الافريقية الخاضعة للاستعمار البرتغالي، كما طبقت المقاطعة الاقتصادية ضد جنوب افريقيا عام 1952 لاتباعها سياسة عنصرية، وضد روديسيا عام 1965م لممارستها العنصرية، وضد الكيان «الاسرائيلي» لقيامه باستمرار معاملة الفلسطنيين معاملة سيئة عام 1983م[65].
ثانيا: المقاطعة الاقتصادية المتخذة من قبل المنظمات الاقليمية:
تقوم المنظمات الاقليمية بدعوة أعضائها إلى فرض المقاطعة الاقتصادية ضد دولة ترى هذه المنظمات أنها خرقت القانون الدولي بصفة عامة وأهداف ومبادئ هذه المنظمات، ومن أهم هذه المنظمات التي طبقت المقاطعة الاقتصادية[66].
- منظمة الدول الأمريكية، حيث اتخذت قرارا بفرض المقاطعة الاقتصادية ضد كوبا عام 1962 إلى عام 1975م احتجاجا على قيام الاتحاد السوفيتي بنصب صواريخ على الأرضي الكوبية.
- استخدمت منظمة الوحدة الافريقية (الاتحاد الافريقي) حاليا المقاطعة الاقتصادية ضد نظام جنوب افريقيا عام 1963، كما استخدمت المنظمة الافريقية المقاطعة الاقتصادية ضد رديسيا عام 1965م.
ج- كما استخدمت المقاطعة الاقتصادية من قبل جامعة الدول العربية ضد الكيان الصهيوني، ففي عام 1951م قررت جامعة الدول العربية انشاء جهازا خاصا مهمته الاشراف على المقاطعة الاقتصادية لهذا الكيان، ولهذا الجهاز مكتب مركزي مقره العاصمة السورية دمشق وله مكاتب فرعية في كل دولة عربية، وهذه المقاطعة لا تقتصر على (اسرائيل) فحسب، وإنما تشمل الأفراد والشركات التي تتعامل معها، كما قررت جامعة الدول العربية في قمة بغداد عام 1979 مقاطعة مصر اقتصاديا لثنيها عن توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني[67].
وتلجأ بعض الدول إلى الضغوط الاقتصادية عن طريق التهديد بقطع المعونات الاقتصادية الخارجية، مستغلة بذلك ظروف الدول النامية وحاجتها إلى هذه المعونات، وتهدف هذه المعونات إلى ممارسة النفوذ على الحكومات، وهذا ما طبقته الدول الأوربية على العديد من الدول الافريقية بصفة خاصة في العقد الأخير من القرن العشرين[68]*.
إن المقاطعة الاقتصادية ضد دولة معينة، وإن كانت وسيلة فاعلة ضد الدولة المقاطعة، لاجبارها على القيام بعمل، والامتناع عن عمل، فإن لها تأثيرها السلبي ايضا على الدولة التي تتخذ قرار المقاطعة الاقتصادية، غير أن الدول تتقبل هذه الأضرار السلبية من أجل ممارسة الضغط على الطرف الآخر، ومن البديهي القول بانها وسيلة مشروعة، لأن العلاقات الاقتصادية تعد من أعمال السيادة للدولة[69].
الخاتمة
يكتسي التمثيل الدبلوماسي أهمية بالغة في تدعيم العلاقات بين الدول، وتعتبر البعثة الدبلوماسية من الأدوات الأساسية للدولة المرسلة.
كما تعتبر البعثة الدبلوماسية المصدر الرئيسي للمعلومات التي تحصل عليها الدولة المرسلة عن الدولة المستقبلة، وهي وسيلتها في تعميق علاقاتها وانسيابيتها وتحقيقا لمصالحها، لذا يمثل قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدول الوجه السلبي للعلاقات الدولية بصفة عامة والعلاقات الدبلوماسية بصفة خاصة، ولذلك نجد أن الدول لا تلجأ إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع غيرها من الدول إلا عندما تجد أن مبررات إقامة العلاقات الدبلوماسية لم تعد قائمة، وذلك عندما تصل الدولة التي تلجأ إلى اتخاذ إجراء قطع العلاقات الدبلوماسية إلى قناعة بأن سلوك وتصرفات الدولة الأخرى أضحى يشكل خطورة على مصالحها أو أمنها أو سيادتها بالمفهوم الواسع.
وإذا كانت الدولة تمارس سيادتها بقيام علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الأخرى، فإن قطعها لتلك العلاقات هو تجسيد لتك السيادة، ولا تعاب على قطعها لعلاقاتها الدبلوماسية كوقاية لسيادتها وأمنها القومي، وهذا ما تمارسه الدول باستمرار.
المراجع
- د. فاضل زكي محمد، الدبلوماسية في النظرية والتطبيق، مطبعة شفيق، بغداد، 1973.
- د. فادي الملاح، سلطات الأمن والحصانات والامتيازات الدبلوماسية، مطبعة اطلس، القاهرة، 1993.
- سعدن ولد سيد محمد ولد الحاج، نظام التمثيل الدبلوماسي الدائم لدى الدول وتطبيقاتها الموريتانية، جامعة الجزائر، كلية الحقوق، بنعكنون، 2005-2006.
- د. محمد المجذوب ، الوسيط في القانون الدولي ، الدار الجامعية للطباعة والنشر ، بيروت 1999م.
- د. سموحي فوق العادة، القانون الدولي العام، مطبقة الانشاء، دمشق، بدون تاريخ.
- د. عبد الواحد الناصر، العلاقات الدولية، القواعد والممارسات الدبلوماسية، بدون ذكر مكان نشر، وبدون ذكر دار نشر، 1993.
- بيان صادر عن وزارة الخارجية الموريتانية بتاريخ 6/6/2017.
- خالد محفوظ سيد احمد، البعثة الدبلوماسية بين الحصانة ومقتضيات الأمن القومي، رسالة ماستر في القانون الدولي العام جامعة انواكشوط العصرية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية، 2015-2016 .
- د. سهيل حسين الفتلاوي، المنازعات الدولية، القادسية، بغداد 1985.
- د. كاظم هاشم نعمه، دراسات في الاستراتيجية والسياسة الدولية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1999.
- المادة الأولى الفقرة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة عام 1945.
- سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص220.
- د. قاسم سلام، الوطن العربي والأمن القومي، دار الحرية للطباعة بغداد، 1984.
- سالم محمد سالم، التوازن بين الاستقرار السياسي وتداول السلطة، المجلة الموريتانية للقانون والاقتصاد، كلية العلوم القانونية والاقتصادية، جامعة انواكشوط العصرية، العدد 20، 2013.
- ميثاق الأمم المتحدة
- اتفاقية افيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961
* استاذ بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة انواكشوط العصرية
[1] – د. فاضل زكي محمد، الدبلوماسية في النظرية والتطبيق، مطبعة شفيق، بغداد، 1973، ص 279.
[2] – د. فادي الملاح، سلطات الأمن والحصانات والامتيازات الدبلوماسية، مطبعة اطلس، القاهرة، 1993، ص121.
[3] – نفس المرجع ، ص 122.
[4] – سعدن ولد سيد محمد ولد الحاج، نظام التمثيل الدبلوماسي الدائم لدى الدول وتطبيقاتها الموريتانية، جامعة الجزائر، كلية الحقوق، بنعكنون، 2005-2006،ص129.
[5] – د. فادي الملاح، المرجع السابق، ص122
[6] – د. محمد المجذوب ، الوسيط في القانون الدولي ، الدار الجامعية للطباعة والنشر ، بيروت 1999م، ص644.
[7] – د. فادي الملاح المرجع السابق، ص122.
[8] – د. سموحي فوق العادة، القانون الدولي العام، مطبقة الانشاء، دمشق، بدون تاريخ، ص488.
[9] – د. فادي الملاح، المرجع السابق، ص125.
[10] – سعدن ولد سيد محمد ولد الحاج، نظام التمثيل الدبلوماسي، المرجع السابق، ص129.
[11] – د. فادي الملاح، المرجع السابق، ص 125.
[12] د. فادي الملاح، المرجع السابق، ص 125.
[13] – د. فادي الملاح، المرجع السابق، ص 125.
[14] – د. فاضل محمد زيكي، . المرجع السابق، ص67.
[15] – د. عبد الواحد الناصر، العلاقات الدولية، القواعد والممارسات الدبلوماسية، بدون ذكر مكان نشر، وبدون ذكر دار نشر، 1993، ص .278
[16] – د. فادي الملاح، المرجع السابق، ص 126.
[17] – نفس المرجع.
[18] – د. عبد الواحد الناصري، المرجع السابق، ص 279.
[19] – بيانات صادرة عن وزارات خارجية هذه الدول بتاريخ 5/6/2017.
[20] – بيان صادر عن وزارة الخارجية الموريتانية بتاريخ 6/6/2017.
[21] – الوكالة الفرنسية للأنباء، 21 فبراير 2019.
[22] – د. محمد المجذوب، المرجع السابق، ص645.
[23] – خالد محفوظ سيد احمد، البعثة الدبلوماسية بين الحصانة ومقتضيات الأمن القومي، جامعة انواكشوط العصرية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية، رسالة ماستر، 2015-2016 المرجع السابق، ص101.
[24] – قناة الجزيرة القطرية يوم 01/05/2018
[25] – قناة الجزيرة الاخبارية القطرية، 14 مارس 2018.
[26] – قناة بي بي سي الاخبارية اللوندنية 17 مارس 2018.
[27] – قناة بي بي سي الاخبارية اللوندنية 30 مارس 2018.
[28] – قناة الجزيرة الاخبارية القطرية 30 مارس 2018.
[29] – قناة بي بي سي الاخبارية اللوندنية 29 مارس 2018.
[30] – قناة الجزيرة الاخبارية القطرية، 25 ابريل 2018
[31] – د. عبد الواحد الناصر، العلاقات الدولية، المرجع السابق، ص282.
[32] – نفس المرجع، ص283.
[33] – خالد محفوظ، المرجع السابق، ص101.
[34] – سهيل حسين الفتلاوي، المنازعات الدولية، القادسية، بغداد 1985 ص 222.
[35] – د. عبد الواحد الناصر، العلاقات الدولية، المرجع السابق، ص284.
[36] – د. سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص223.
[37] – د. عبد الواحد الناصر، العلاقات الدولية، المرجع السابق، ص 285.
[38] – نفس المرجع، ص 286.
[39] – د. محمد المجذوب ، المرجع السابق، ص64.
[40] – د. سموحي فوق العادة، القانون الدولي العام، المرجع السابق، ص488
[41] – د. عبد القادر الناصر، العلاقات الدولية، المرجع السابق، ص287.
[42] – د. سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص221.
[43] – د. عبد الواحد الناصر، المرجع السابق، ص 288.
[44] – نفس المرجع، ص 287
[45] – د. سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص222
[46] – د. فادي الملاح، المرجع السابق، ص120.
[47] – سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص 218.
[48] – د. فادي الملاح، المرجع السابق، ص220.
[49] – د. كاظم هاشم نعمه، دراسات في الاستراتيجية والسياسة الدولية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1999 ص75.
[50] – د. سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص219.
[51] – المادة الأولى الفقرة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة عام 1945.
[52] – سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص220.
[53] – المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة، نيويورك عام 1945م.
[54] – سموحي فوق العادة، المرجع السابق، ص489.
[55] – قناة الجزيرة القطرية الاخبارية 9 فبراير 2019.
[56] – د. فادي الملاح، المرجع السابق، ص103.
[57] -انصات نشرات الأخبار لقناة الجزيرة القطرية الاخبارية يوم الأحد 30 يوليو 2017م
[58] – د. سموحي فوق العادة، القانون الدولي العام، المرجع السابق، ص489.
[59] – د. قاسم سلام، الوطن العربي والأمن القومي، دار الحرية للطباعة بغداد، 1984، ص 87.
[60] – د. سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص230.
[61] – نفس المرجع.
[62] – الباحث، التوازن بين الاستقرار السياسي وتداول السلطة، المجلة الموريتانية للقانون والاقتصاد، كلية العلوم القانونية والاقتصادية، جامعة انواكشوط العصرية، العدد 20، 2013، ص 77.
[63] – د. سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص231.
[64] – المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة عام 1945م.
[65] – د. سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص232.
[66] – د. محمد المجذوب، الوسيط في القانون الدولي العام، المرجع السابق، ص645
[67] – د. د سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص235.
[68] – الباحث، المرجع السابق، ص78
* – لقد مارست دول أوربية عديدة ضغوطا على الدول الافريقية ومن ضمنها موريتانيا، هذه الضغوط متمثلة في أن الدول الأوربية ربطت مساعداتها الاقتصادية والمالية للبلدان الافريقية بممارسة هذه البلدان للديمقراطية، وكأن الديمقراطية سلعة يمكن استيرادها وتصديرها، لذا ولدت الديمقراطية الافريقية مشوهة، فهي أقرب لعملية قيصرية على يد أطباء غير ماهرين، لانعدام الوعي الثقافي الديمقراطي في معظم البلدان الافريقية، لكونها تميزت بأنها قارة الانقلابات العسكرية والتي تعتبر نقيضا للمارسة الديمقراطية.
[69] – د. سهيل حسين الفتلاوي، المرجع السابق، ص233.