مدونة الأسرة أزمة نص أم أزمة تطبيق عملي – الباحث مراد علوي
مدونة الأسرة أزمة نص أم أزمة تطبيق عملي
مراد علوي ـ MOURAD ALLIOUI
- طالب باحث في العلوم القانونية ـ برحاب كلية العلوم القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية أكدال – جامعة محمد الخامس بالرباط .
- رئيس نادي أطلس أولماس للبادمنتون ( التنس الريشة ) .
مقدمــة :
كانت الاسرة وستبقى أهم المؤسسات الاجتماعية في المجتمعات كافة التقليدية منها والمعاصرة، وتعد من أقدم المنظمات الاجتماعية بوصفها استجابة لحاجات ضرورية أساسية وتنشأ بصورة طبيعية اختيارية ليست بصورة إجبارية. فهي الحجر الأساس الذي يستند عليه البناء الاجتماعي. فضلا عن كونها النواة الأولية للجماعة ومن خلالها يستمر جريان الثقافة من الماضي الى الحاضر والمستقبل بوصفها التي تنجب المواد الأولية الخام لبقاء المجتمع واستمراره بصورة الأطفال والوالدين، فترعاهم وتنشئهم ليكونوا أعضاء فاعلين في الارتقاء بمسيرة المجتمع وبنائه واستمراره، فيتم فيها التفاعل العميق والاتصال المباشر المستمر الذي يكون ويبلور شخصية أفرادها ليقوموا بأدوارهم بالصورة المرغوبة أو المتوقعة منهم في مجتمعهم، ولذا فإن المجتمعات كافة ومنذ بداية الإنسانية اهتمت بثباتها ودوامها ورفاهها وتنميتها.
والمغرب، كباقي المجتمعات الإنسانية خص هذه المؤسسة بكامل الاهتمام، حيث حرص على إحاطتها بكافة الضمانات الكفيلة بحمايتها اقتصاديا، اجتماعيا و قانونيا و لعل خير مثال على هذا الحرص ما نص عليه دستور المغرب لسنة 2011 في مادته 32 التي نصت على ما يلي: “الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع. تعمل الدولة على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية و الاقتصادية للأسرة، بمقتضى القانون، بما يضمن وحدتها و استقرارها و المحافظة عليها. تسعى الدولة لتوفير الحماية القانونية، و الاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية. التعليم الأساسي حق للطفل و واجب على الأسرة و الدولة. يحدث مجلس استشاري للأسرة و الطفولة“.
و إذا كانت مرحلة دسترة الأسرة قد جاءت كنتاج لمدونة الأسرة المغربية، فإن هذه الأخيرة قد مرت بمسلسل تراجيدي ابتدأت حلقاته منذ 19 غشت 1957 و لا زلنا نعيش حلقاته إلى حدود كتابة هاته الأسطر. فما هي مختلف المراحل التي عرفها قانون الأسرة المغربي حتى وصل إلى صيغته الحالية؟ و ما هي المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة ؟
انطلاقا مما سبق، سنتناول هذا الموضوع بالتطرق إلى مختلف المراحل التي عرفها قانون الأسرة المغربي منذ قانون الأحوال الشخصية إلى غاية مدونة الأسرة (المبحث الأول)، وكذا المستجدات التي جاءت بها هذه الأخيرة (المبحث الثاني( .
المبحث الأول: عرف مسار إصلاح مدونة الأسرة المغربية مدا و جزرا انتهى بصدور مدونة الأسرة
برزت ضرورة النظر في القوانين المغربية بعد حصول المغرب على استقلاله و ذلك بشكل يجعلها متلائمة مع خصوصية المغرب المستقل، و من هذه القوانين قانون الأسرة الذي يعتبر من أخطر القوانين التي يجب أن تولها العناية عند صياغتها ذلك أنه ليس قانونا ينظم العلاقة بين أفراد المجتمع بما يكفل تحقيق النظام في المجتمع ويزيل أوجه التعارض بين المصالح المختلفة . لكنه قانون ينظم النواة الاساسية التي تهدف الى الحفاظ على النوع الانساني، و هي الأسرة. إضافة إلى أن المغرب لم يعرف إطارا تشريعيا خاصا ينظم مجال الأحـوال الشخصيـة و الأسرة، حيث كانت تنظم علاقاتها وفق أحكام الشريعة الإسلامية و الراجح من مذهب الإمام مالك و العرف. تبعا لذلك، كانت أولويات المغفور له الملك محمد الخامس طيب الله ثراه هو إخراج قانون للأحوال الشخصية ينهل من أحكام الشريعة الإسلامية و مغربلا، إن صح التعبير، لأحكام الفقه الإسلامي فـي مجـال الأسـرة مـن التقاليـد و الأعراف (المطلب الأول). و قد سار الملك الحسن الثاني رحمة الله عليه على نفس خطى والده و ذلك بتعديل مدونة الأحوال الشخصية سنة 1993 استجابة لمطالب المجتمع المدني خاصة فعاليات الحركات النسائية (المطلب الثاني). أما الملك محمد السادس فقد صنع الحدث ليس بقراره فقط إعادة النظر في قانون الأحوال الشخصية الذي لم يعد مسايرا للدينامية المتسارعة التي أصبح يعرفها المغرب، و لكن لأنها المرة الأولى في تاريخ المغرب الذي تحال فيه مدونة تتعلق بالأسرة على البرلمان للمصادقة عليها، و اعتبر ذلك كمؤشر إيجابي لرد الاعتبار للمؤسسة التشريعية و تفعيلها و دعوتها إلى تحمل مسؤولياتها في هذا المجال (المطلب الثالث).
المطلب الأول: شكلت مدونة الأحوال الشخصية أول قانون ينظم العلاقة بين مختلف مكونات الأسرة
صدرت مدونة الأحوال الشخصية بموجب 5 ظهائر، أولها في نوفمبر 1957 وآخرها في أبريل 1958· سبقها إلى الوجود ظهير 19 غشت1957 الذي تكونت بموجبه لجنة، ترأسها المرحوم علال الفاسي، لدراسة مشروع مدونة الأحوال الشخصية إضافة إلى مذكرة إيضاحية قدمتها وزارة العدل التي كان على رأسها آنذاك الأستاذ عبد الكريم بن جلون و اعتمدت في اقتراحاتها على العلوم الحديثة مثل علم الاجتماع وعلم النفس وعدد من الإحصائيات الميدانية لتعزيز خلاصاتها بضرورة توخي العدل والإنصاف ورفع الضرر عن المرأة المغربية وضمان استقرار الأسرة. فهل اعتمدت اللجنة التي عينت من أجل وضع المدونة على هذا التقرير؟
لقد عقدت اللجنة ثلاث اجتماعات فقط أيام 6، 13 و 14 نونبر 1957 للموافقة على نصوص كتابي الزواج والطلاق اللذين يعتبران أكثر خطورة نظرا لارتباطهما بمستقبل الأسرة المغربية واستقرارها الذي هو استقرار المغرب وبعد صياغة المقرر العام للجنة تدوين الفقه الإسلامي أورد فيه الاتفاق المبدئي على جواز الأخذ بأقوال الفقهاء على الصيغة التالية : “سواء كانوا من أصحاب المذاهب الأربعة أو غيرهم، إذا كان في ذلك جلب للمصلحة ودفع للضرر والاحتكام للعقل، الفقه يتعقل لأن الفقه ما هو إلا وسيلة لمعايشة الأفراد فيما بينهم، وهذه المعايشة أصبحت أهم مما كانت عليه من قبل لتشابك المصالح”. و أهم ما تمت مؤاخذته على مذكرة مقرر اللجنة ومذكرته التوضيحية، هو التجاهل النهائي لمشروع وزارة العدل الذي سبقت الإشارة إليه أعلاه.
أربع سنوات بعد صدور مدونة الأحوال الشخصية وبالضبط في سنة 1961، تقدمت لجنة مكونة في مجملها من رؤساء المحاكم بمشروع للتعديل، وبعده في 26 يناير 1965 وعقب صدور قانون توحيد القضاء مشروع ثان، لكن المشروعان تم طمسهما ولم يريا النور لسبب وحيد هو أنهما كانا جريئين ومنطلقين من المشاكل التي نتجت عن تطبيق مقتضيات المدونة ميدانيا، واعتمدا على الإحصائيات وعلى تطور كبير لواقع الأسرة المغربية، ولم يعد ما أنتجه الفكر المنغلق من قوانين يستجيب لحاجياتها بقدر ما يلعب دورا خطيرا في تعقيد المشاكل وتوسيع الهوة بين أفرادها ومكوناتها، حيث ظهرت مظاهر الانحلال الأسري و التفكك العائلي و هو ما لم تستطع المؤسسة القضائية بإمكانياتها المحدودة و مواردها البشرية المتواضعة أن توقف زحفها و تضع حدا فاصلا لتجلياتها.
توالت، عقب ذلك، المبادرات الرسمية الهادفة إلى إعادة صياغة نصوص مدونة الأحوال الشخصية، و ذلك بتناول مقتضياتها بالتعديل، فتشكلت خصيصا لهذا الغرض اللجنة الوزارية المنبثقة عن وزارة العدل سنة 1974، غير أن الفشل كان خليفها، و هو نفس المصير الذي ختم أعمال اللجنة الملكية التي عينت فـي 5 مـاي 1981 و التي كلفت بإحداث مدونة جديدة. و لعل سبب هذه الإخفاقات المتلاحقة يعود بالأساس إلى غياب إجماع وطني بين مختلف مكونات الحقل السياسي و فعاليات الشأن الفقهي بالمغرب ناهيك عن تهميش دور فعاليات المجتمع المدني في الإصلاحات. هذا الأخير، خاصة الحركة النسائية المغربية، راكم تجربة بلغ مستواها من مستوى تقديم الملفات المطلبية كل تنظيم على حدة وتعميمها على الرأي العام والدفاع عنها أمام أصحاب القرار إلى مستوى إعادة النظر في تنظيماتها وهياكلها ووسائل عملها لتتخذ قرارا تاريخيا بشأن أسلوب عملها، فقد ثبت وتأكد لكل مكونات هذه الحركة ولو بشكل متفاوت في الاستغراب بأن عطاءها على مستوى الأداء وتدبير ملف مدونة الأحوال الشخصية لن يكون إيجابيا إلا بالاعتماد على أسلوب وحيد: توحيد صفوفها والدخول في عمل تنسيقي وحدوي يمكنها من أن تتحول إلى قوة ضاغطة لها وزنها في الساحة. و هـو مـا أفـرز تعديـل مدونـة الأحـوال الشخصيـة في 10 شتنبر 1993.
المطلب الثاني: تم تعديل مدونة الأحوال الشخصية بطلب و إلحاح من فعاليات الحركات النسائية و بتأييد من المغفور له الملك الحسن الثاني
تعتبر سنوات التسعينات أهم المراحل التي عرفها مسلسل إصلاح المدونة، نظرا للحركية الكبيرة التي شهدها هذا الملف، تعزز أساسا بمبادرة اتحاد العمل النسائي الذي اتخذ مبادرة في 8 مارس 1991 بالإعلان عن انطلاق الحملة الوطنية من أجل تغيير المدونة بدعوى مخالفة نصوصها للدستور و الاتفاقيات الدولية، تلتها ندوة صحفية لنفس المؤسسة الجمعوية في 8 مارس 1992 بالرباط قصد تجميع المطالب التي تشكل أساس الحملة التي أطلقها الاتحاد سنة 1991. مباشرة بعد ذلك و بالضبط في 20 غشت 1992 ألقى جلالة الملك الراحل الحسن الثاني خطابا أصبحت بمقتضاه مدونة الأحوال الشخصية من اختصاص الملك، و هو ما حذي به في 24 أكتوبر 1992 لتشكيل لجنة تعديل مدونة الأحوال الشخصية برئاسة الأستاذ عبد الهادي بوطالب توجت بإصدار مدونة الأحوال الشخصية بتاريخ 10 شتنبر 1993. ركزت تعديلات مدونة الأحوال الشخصية الأساسية على الطلاق، بحيث وضعت حدا للطلاق الغيابي الذي كان يعطي الصلاحية للزوج لتطليق زوجته غيابيا و على الحضانة كذلك بحيث جعلت الأب يحتل المرتبة الثانية بعد الأم في ترتيب الحاضنين (ف 99 )، بعدما كان يحتل المرتبة السادسة قبل تعديل 1993. كما تم تحديد سن الحضانة في 12 سنة للفتى و 15 سنة للفتاة بعدها يختار الاثنان الطرف الذي يريدان العيش معه، كما أصبح بالإمكان رفع دعوى استعجاليه قصد الحكم بالنفقة في مدة محددة، كما كان أيضا ضمن التعديلات، إنشاء مجلس العائلة الذي أحدث بمرسوم ملكي.
غير أن الجمعيات النسائية لم تستسغ هذه التعديلات التي لم تحقق أغلب متطلباتها و عبرت عن استيائها منها. و أملا في إيجاد مدونة قادرة على استيعاب الواقع الجديد للمرأة المغربية و مؤسسة للعلاقة المتكافئة بين الرجـل و المرأة تأسيسا على المرجعية الإسلامية إلى جانب المرجعية الدولية المتمثلة أساسا في المواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمرأة، قرر الملك محمد السادس إعادة النظر بشكل جذري في مدونة الأسرة.
المطلب الثالث: مهدت خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية لولادة مدونة الأسرة الجديدة
شكل” مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية” منعطفا حاسما في الإعداد المادي و النفسي لظهور المدونة، ففي فبراير 1998 تكونت ورشة عمل نظمتها كتابة الدولة المكلفة بالتعاون الوطني، بدعم من البنك الدولي وبمشاركة القطاعات الوزارية، والجمعيات النسائية والحقوقية والتنموية؛ من أجل تحديد المجالات ذات الأولوية فيما يتعلق بوضع المرأة المغربية، ووضع خطة عمل إجرائية. و في حكومة التناوب، أشرفت كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة، بمساهمة من البنك الدولي، وبمشاركة بعض المنظمات النسائية والحقوقية، على صياغة خطة العمل هذه، وقد صدرت في 1999 تحت عنوان: “مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”. يقع المشروع في أكثر من 200 صفحة، وينقسم إلى ثلاثة أجزاء:
–الجزء الأول: عام، يتحدث عن دواعي تهييئ الخطة وأهدافها و منهجيتها، ونقد للسياسات السابقة في مجال إدماج النساء.
–الجزء الثاني: يشخص المجالات الأربع ذات الأولوية التي ينبغي تدارك النقص فيها، وهي:
1.محور الأمية و التمدرس؛
2.الصحة الإنجابية؛
3.إدماج المرأة في التنمية الاقتصادية؛
4.التمكن الذاتي للنساء في المجالات القانونية والسياسية والمؤسساتية.
– الجزء الثالث: يطرح خطة العمل الإجرائية، على شكل جدول تفصيلي (بعض تلك الإجراءات مستعجلة التطبيق 9919/2000، والبعض الآخر يطبق على المدى المتوسط 9919/2003).
أثار مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية ردود فعل قوية من لدن المجتمع المغربي بمختلف فئاته التنظيمية و الجمعوية بل و حتى الرسمية منها، بين مؤيد و معارض، بدء باللجنة العلمية التي أنشأتها وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية، و مرورا بالبيانات المتكررة لرابطة علماء المغرب و مختلف فروعها و جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية، أضافة إلى البيانات الصادرة عن العديد من الهيئات و الجمعيات والأحزاب الأخرى، و كذلك المسيرات الرافضة لها و يتعلق الأمر أساسا بمسيرة الدار البيضاء المليونية. بالمقابل، نادت مجموعة من فعاليات المجتمع المدني إلى تأسيس جبهة للدفاع عن حقوق المرأة و النهوض بها و تطبيق بنود الخطة، و لكل من الاتجاهين مبرراته التي يستند عليها في تبني الرأي و الرأي الآخر.
عموما، شكلت هذه الخطة النقطة التي أفاضت الكأس و تسببت أساسا في ارتفاع حدة النزاع بين جميع الأطراف المهتمة بالمرأة و الأسرة، الأمر الذي استدعى التدخل الملكي لكن بشكل مختلف هذه المرة وذلك قصد الاستجابة لرأب الصدع الذي أصبح يهدد المجتمع المغربي بمختلف مكوناته، , عبر عنها في 27 أبريل 2001 حين أعلن عن تشكيل اللجنة الملكية الاستشارية المكلفة بتعديل بنود المدونة برئاسة الأستاذ إدريس الضحاك الذي تم استبداله بالأستاذ امحمد بوستة، فدخل هذا الملف منعطفا جديدا بعد ذلك توج بحسم الخلاف مباشرة بعد الإعلان الملكي بقبة البرلمان في 10 أكتوبر 2003 عن التعديلات الجوهرية في مدونة الأسرة التي سنتطرق إليها في المبحث الثاني.
المبحث الثاني: جاءت مدونة الأسرة بعدة مستجدات شكلت قطيعة مع أحكام مدونة الأحوال الشخصية
يعتبر الخطاب الملكي الذي وجهه الملك محمد السادس يوم 10 أكتوبر 2003 لنواب الأمة بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة للبرلمان، أرضية عمل و خارطة للطريق من أجل التطبيق السليم لبنود مدونة الأسرة الجديدة ليس بإبرازه للمستجدات التي جاءت بها المدونة فقط، و إنما للتوصيات و التوجيهات التي تضمنها الخطاب الملكي السامي، و منها إيجاد قضاء أسري عادل، وعصري وفعال، لا سيما وقد تبين من خلال تطبيق المدونة الحالية، أن جوانب القصور والخلل لا ترجع فقط إلى بنودها، ولكن بالأحرى إلى انعدام قضاء أسري مؤهل، ماديا و بشريا و مسطريا، لتوفير كل شروط العدل والإنصاف، مع السرعة في البت في القضايا، والتعجيل بتنفيذها. إضافة إلى الإسراع بإيجاد مقرات لائقة لقضاء الأسرة، بمختلف محاكم المملكة، والعناية بتكوين أطر مؤهلة من كافة المستويات، نظرا للسلطات التي يخولها هذا المشروع للقضاء، فضلا عن ضرورة الإسراع بإحداث صندوق التكافل العائلي. دون إغفال ضرورة إعداد دليل عملي، يتضمن مختلف الأحكام والنصوص، والإجراءات المتعلقة بقضاء الأسرة، ليكون مرجعا موحدا لقضاء الأسرة، وبمثابة مسطرة لمدونة الأسرة، مع العمل على تقليص الآجال، المتعلقة بالبت في تنفيذ قضاياها الواردة في قانون المسطرة المدنية، الجاري به العمل.
و قبل التطرق لأهم المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة (المطلب الثاني) سنتطرق لأهم التدابير المتخذة بغية الوصول إلى حسن تنزيل مقتضيات المدونة على أرض الواقع (المطلب الأول) .
المطلب الأول: اتخذت عدة تدابير قبل و بعد دخول المدونة حيز التنفيذ من أجل التفعيل السليـم لمقتضياتها
أعدت وزارة العدل العدة من أجل تهيئ المناخ الملائم لمدونة الأسرة، و هكذا فقد اتخذت لتفعيل هذه المدونة عدة تدابير قبل دخولها حيز التنفيذ و بعده
أولا: التدابير التحضيرية لدخول مدونة الأسرة حيز التنفيذ
تتجلى هذه التدابير فيما يلي :
- إعداد مقار أقسام قضاء الأسرة وتزويدها بالآليات و التجهيزات الضرورية حتى تضمن استقبال المتقاضين و كافة المتعاملين مع القسم بشكل لائق؛
- إحداث شعبة تخصصية بالمعهد العالي للقضاء خاصة بالقضاء الأسري؛
- تكوين الملحقين القضائيين الذين أسندت إليهم مهام القضاء الأسري؛
- تعيين قضاة أسرة مكلفين بالزواج؛
- إصدار عدة قرارات ذات الصلة بموضوع المدونة، سواء بالنسبة للقرارات الصادرة عن وزير العدل وحده، أو القرارات المشتركة له مع غيره
ثانيا: التدابير المتخذة بعد دخول مدونة الأسرة حيز التطبيق
ما يتعلق بأقسام قضاء الأسرة: لضمان انطلاقة جيدة و تطبيق سليم لمقتضيات مدونة الأسرة اتخذت وزارة العدل مجموعة من التدابير تتمثل فيما يلي:
– إسناد مهام رئاسة أقسام القضاء الأسري إلى قضاة مؤهلين مع تعيين هيات قارة مخصصة للبت في القضايا التي تدخل في اختصاص هذه الأقسام؛
– إعداد مطويات مبسطة تساعد المتقاضين و غيرهم على معرفة أهم الاجراءات المتطلبة لدى أقسام القضاء الأسري؛
– القيام بزيارات تفقدية لبعض أقسام القضاء الأسري من أجل التوجيه و الإرشاد و توحيد طريقة العمل؛
– حث كافة العاملين في حقل القضاء الأسري على إشاعة ثقافة التصالح التي يجب أن يتشبع بها الكل؛
– إصدار عدة مناشير ذات الصلة بمدونة الأسرة.
بالنسبة لأفراد الجالية المغربية المقيمين بالخارج: وعيا بخصوصية هذه الفئة فقد قامت الوزارة بما يلي:
– تعيين السادة القضاة المغاربة بست دول أوربية المكلفين بالتوثيق، قضاة للأسرة مكلفين بالزواج، و ذلك بكل من فرنسا، هولندا، بلجيكا، إيطاليا، ألمانيا و إسبانيا، بينما تتولى المحكمة الابتدائية بالرباط تغطية باقي دول العالم؛
– تنظيم أيام دراسية للسادة القضاة الملحقين بالسفارات و القنصليات المغربية بالخارج حول كيفية تطبيق مقتضيات المدونة على أفراد الجالية المغربية المقيمين بالخارج؛
– إعداد و توجيه منشور توضيحي للحلول الملائمة لكيفية تطبيق بنود مدونة الأسرة، تطبيقا سليما و مناسبا لأوضاعهم بالخارج.
– إحداث خلية خاصة بقضاء الأسرة: يتعلق الأمر بخلية مكلفة بشؤون قضاء الأسرة بمديرية الشؤون المدنية بوزارة العدل، تتكون من قضاة متخصصين و من أطر عليا من كتابة الضبط عهد إليها ما يلي:
– إعداد ملف لكل قسم من أقسام قضاء الأسرة يشتمل على كافة المعلومات المتعلقة به، من بيان وضعيته و التجهيزات و الموارد البشرية؛
– مواكبة و تتبع وضعية أقسام قضاء الأسرة، لرصد ما قد يقع لها من خصاص يتعلق سواء بالبناية أو بالتجهيزات أو بالموارد البشرية قصد تفاديه؛
– رصد و دراسة الاحصائيات المتعلقة بقضايا الأسرة من رسوم عدلية و أحكام تتعلق بالزواج و الطلاق إلى جانب القضايا التي يبت فيها بأقسام قضاء الأسرة؛
– معالجة الشكايات الواردة على وزارة العدل حول قضايا الأسرة؛
– إبداء النظر في الاستشارات القانونية التي ترد على الوزارة من مختلف الجهات؛
– مواكبة عمل أقسام قضاء الأسرة من خلال القيام بجولات تفقدية؛
– الإعداد لتنظيم أيام دراسية لمعالجة ما قد يستجد من إشكاليات؛
– المساهمـة فـي تكويـن و تأطيـر و تدريـب بعـض الأطـر التابعيـن لقطاعـات أخـرى لتفعيـل مـا يتعلـق بقضايـا الأسـرة إضافـة إلـى المشاركـة فـي النـدوات و الاجتماعـات التـي تنظمهـا قطاعـات أخـرى فـي مجـال قضـاء الأسـرة.
المطلب الثاني: سجلت مستجدات مدونة الأسرة قفزة عملاقة في اتجاه إنصاف المرأة، حماية حقوق الطفل و صيانة كرامة الرجل
يمكن اعتبار المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة بمثابة تحقيق للحداثة النافعة و إبراز المعاصرة الصالحة. فما هي أهم هاته المستجدات:
– تغيير الاسم من مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة و ذلك تجسيدا للاهتمام بجميع أفراد الأسرة؛
– التعريف بالفئات التي تخضع لمدونة الأسرة حيث لم يكن لهذا التعريف وجود في النصوص السابقة؛
– جعل النيابة العامة طرفا أصليا في جميع القضايا المشمولة بأحكام هذا القانون؛
– تغيير تعريف الزواج من ميثاق غرضه الإحصان و تكثير سواد الأمة بإنشاء أسرة تحت رعاية الزوج، إلى ميثاق غايته الإحصان و إنشاء أسرة مستقرة تحت رعاية الزوجين؛
– تفصيل أحكام الخطبة بعد أن كانت مختصرة في فصلين اثنتين في المدونة السابقة، مع تقرير الحق في تعويض الضرر الناتج عن فسخ الخطبة و هو من المستجدات؛
– توحيد سن الزواج في 18 سنة سواء الذكور أو الإناث مع إمكانية النزول عن هذا السن بناء على إذن خاص صادر من قاضي الأسرة المكلف بالزواج؛
– فتح ملف للزواج بالمحكمة؛
– إمكانية اتفاق الزوجين على طريقة خاصة لتنظيم مواردهم المالية و ممتلكاتهم المتحصلة خلال فترة الزواج بمقتضى عقد خاص يتضمن اتفاقهما؛
– حسم الولاية في الزواج بجعلها حقا للمرأة الرشيدة تمارسه حسب اختيارها ومصلحتها؛
– تعديل تعريف الصداق بالتأكيد على قيمته المعنوية و ليس المادية مع التنصيص على عدم لحوق التقادم بالمطالبة به؛
– منع التعدد إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، كما يمنع في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها؛
– منح مكانة متميزة لإرادة الطرفين بتخصيص ثلاثة مواد للشروط الإرادية بعد أن كانت تقتصر في فصل فريد في المدونة السابقة؛
– تدخل النيابة العامة من أجل إرجاع أحد طرفي العلاقة الزوجية إلى بيت الزوجية سواء أكان الزوج أو الزوجة؛
– في حالة تعذر الإصلاح واستمرار الشقاق، فإن المحكمة تثبت ذلك في محضر وتحكم بالتطليق وبالمستحقات، مراعية مسؤولية كل واحد منهما عن الفراق في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر، مع ضرورة البث في دعوى الشقاق في أجل لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ تقديم الطلب؛
– التنصيص على حقوق أساسية للأطفال على أبويهم، وذلك سواء أثناء قيام العلاقة الزوجية بين الوالدين أو حتى حين وفاة أحدهما أو كلاهما وكذا في حالة انتهاء العلاقة بينهما لأي سبب كان، مع التنصيص على ضرورة توفير رعاية خاصة للأطفال المصابين بإعاقة وتكليف النيابة العامة – بما لها من سلطات وإمكانيات – بالسهر على مراقبة تنفيذ هذه الأحكام؛
– التأكيد على أن البنوة بالنسبة للأم والأب تعتبر شرعية إلى أن يثبت العكس ، كما أن النسب يثبت بالظن ولا ينتفي إلا بحكم قضائي، ثم إنه إذا نتج عن الاتصال بشبهة حمل وولدت المرأة ما بين أقل مدة الحمل وأكثرها، ثبت نسب الولد من المتصل، ويثبت النسب الناتج عن الشبهة بجميع الوسائل المقررة شرعا، كما أنه إذا ظهر حمل بالمخطوبة وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج، فإنه يتسبب للخاطب للشبهة إذا توفرت الشروط المنصوص عليها في المادة 156؛
– أصبح من حق المحكمة اختيار من تراه صالحا للحضانة سواء من أقارب المحضون أو غيرهم وإلا اختارت إحدى المؤسسات المؤهلة لذلك؛
– التنصيص صراحة في المدونة على أن الحضانة تستمر إلى حين بلوغ سن الرشد القانوني للذكر و الأنثى على حد سواء، و هو ما وضع حدا للكثير من النقاش و الاختلاف الذي كان حاصلا حول الموضوع؛
– رفع السن التي يحق فيها للمحضون اختيار من يحضنه ( ولكن فقط من أبيه أو أمــه) حين بلوغه الخامسة عشر سنة من العمر فأصبحت الأنثى – خلاف ما كان عليه الأمر في مدونة الأحوال الشخصية سابقا والتي كانت تحدد لها سن 12 سنة – أصبحت الأنثى والذكر على حد سواء بالنسبة لسن اختيار الحاضن؛
– أجرة الحضانة ومصاريفها على المكلف بنفقة المحضون وهي غير أجرة الرضاعة والنفقة، كما أنها تعتبر مستقلة في تقديرها عن تكاليف سكنى المحــضون؛
– عدم إفراغ المحضون من بيت الزوجية، إلا بعد تنفيذ الأب للحكم الخاص بسكنى المحضون، مع وجوب تحديد المحكمة للإجراءات الكفيلة بضمان استمرار تنفيذ هذا الحكم من قبل الأب المحكوم عليه، مثل إلزام الأب بتقديم كفالة مالية أو شخصية لذلك، أو إجراء حجز على البعض من أمواله، أو إمكانية الاقتطاع من المنبع الذي يحصل منه على الدخل (مثل الراتب أو الأجر)؛
– إمكانية إعادة النظر من طرف المحكمة في الحضانة متى ثبت أن ذلك في مصلحة المحضون؛
– التنصيص صراحة على أن زواج الحاضنة الأم لا يسقط حضانتها؛ إذا كان المحضون صغيرا لم يتجاوز سبع سنوات أو يلحقه ضرر من فراقها، وكذا إذا كانت بالمحضون علة أو عاهة تجعل حضانته مستعصية على غير الأم، أو كان زوجها قريبا محرما أو نائبا شرعيا للمحضون، أو كانت هي نفسها نائبا شرعيا للمحضون، وذلك بالطبع تحت رقابة القضاء وسلطته التقديرية. مع الإشارة إلى أن زواج الأم الحاضنة يعفي الأب من تكاليف سكن المحضون وأجرة الحضانة، على خلاف النفقة، التي تبقى واجبة على الأب؛
– إلزامية تقديم طلب الطلاق للمحكمة التي تبت فيه بغرفة المشورة، وتقوم بمحاولات لإصلاح ذات البين وتحقيق التوافق بين الزوجين، و تحديد المحكمة التي يجب تقديم الطلب إليها إلى جانب استدعاء المحكمة الزوجين لمحاولة الإصلاح بينهما؛
– ضرورة البت في دعاوى التطليق لإخلال بشرط في عقد الزواج أو للضرر أو لعدم الإنفاق أو للعيب أو الإيلاء والهجر بعد القيام بمحاولة الصلح خلال أجل أقصاه ستة أشهر، ما لم توجد ظروف خاصة؛
– في حالة اتفاق الزوجين على مبدأ الخلع واختلافهما حول المقابل، يمكنهما اللجوء للمحكمة التي تقوم بتقدير مبلغ الخلع وذلك بعد محاولة الإصلاح بينهما .
خاتمــة
راهن المشرع المغربي، من خلال مدونة الأسرة، على احترام المبدأ الدستوري الذي يجعل الرجل و المرأة سواسية أمام القانون، بالإضافة إلى مختلف الاتفاقيات الدولية التي تكرس تلك المساواة و تحرم كل أشكـال العنـف و التمييز ضد النساء مع الاهتمام الكبير بحقوق الطفل.
و من خلال ملامسة المستجدات التي جاءت بها المدونة، نستشعر بقوة أننا أمام مدونة تختلف بعض جوانبها جوهريا عن مدونة الأحوال الشخصية و نلمس طبيعتها الاجتهادية المبنية على المصلحة. و هذا ما أكده صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله خلال الخطاب الذي ألقاه بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية التي صادفت يوم 10 أكتوبر 2003 حيث قال:
” إن الإصلاحات التي ذكرنا أهمها، لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها انتصار لفئة على أخرى، بل هي مكاسب للمغاربة أجمعين. وقد حرصنا على أن تستجيب للمبادئ والمرجعيات التالية:
لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين، أن أحل ما حرم الله وأحرم ما أحله .
الأخذ بمقاصد الاسلام السمحة ، في تكريم الانسان والعدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف ، وبوحدة المذهب المالكي والاجتهاد، الذي يجعل الاسلام صالحا لكل زمان ومكان، لوضع مدونة عصرية للأسرة، منسجمة مع روح ديننا الحنيف .
عدم اعتبار المدونة قانونا للمرأة وحدها، بل مدونة للأسرة، أبا وأما وأطفالا، والحرص على أن تجمع بين رفع الحيف عن النساء، وحماية حقوق الاطفال، وصيانة كرامة الرجل . فهل يرضى أحدكم بتشريد أسرته وزوجته وأبنائه في الشارع، أو بالتعسف على ابنته أو أخته؟
وبصفتنا ملكا لكل المغاربة، فإننا لا نشرع لفئة أو جهة معينة، وإنما نجسد الإرادة العامة للأمة، التي نعتبرها أسرتنا الكبرى . “
ولله والي التوفيق .