هكذا أرى إصلاح الوظيفة العمومية: محاولة في اقتراح مخطط يساهم في تجويدها – الباحث حسن المرابطي
“هكذا أرى إصلاح الوظيفة العمومية: محاولة في اقتراح مخطط يساهم في تجويدها”
حسن المرابطي
طالب بماستر التدبير السياسي والإداري
كلية المتعددة التخصصات الناظور
hassanelmorabiti@yahoo.fr
مقدمة
لقد عرفت الدولة، عبر التاريخ، عدة تغييرات، وتطورت إلى شكل مخالف لما بدأت عليه؛ حتى أصبحت الدولة الحديثة اليوم تقوم بأدوار مختلفة، وتتدخل في مجالات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ لهذا نجدها تقوم بالتخطيط والعمل على تحقيق التنمية على مستوى جميع المجالات؛ ولعل أهم ما تهتم به هي الأجهزة الإدارية بمختلف تلاوينها.
إن الإدارة في أداء نشاطها، نجدها تعتمد على مجموعة من الوسائل، كما نعلم: منها ما يصنف من الوسائل القانونية، كالقرار الإداري والعقود الإدارية؛ وقد يكون منها وسائل مادية تتمثل في الأموال العمومية؛ فضلا عن العنصر البشري، الذي يشكل إحدى أهم الوسائل، ويصطلح عليهم “الموظفون”.
وعليه، فإن الاهتمام بالوظيفة العمومية ينبع مما رأينا أعلاه، لاسيما إن استحضرنا مفهوم الدولة الحديثة وكيف تقوم بالسهر على المؤسسات العمومية والمرافق العامة ذات الأدوار الاستراتيجية وغيرها؛ ما يعني بالضرورة التفكير، بشكل دائم، العناية بالوظيفة العمومية أصالة، وبالتَّبَع العنصر البشري الذي يتمثل في الموظف؛ وبالتالي، بحكم أن الدولة الحديثة تعتمد، في تنظيم شؤونها، على القانون بالدرجة الأولى، وتنظم من خلاله العلاقة بين المؤسسات وكذا الأفراد، فإنه من المرجح أن الوظيفة العمومية بحاجة إلى إطار قانوني يعمل على تنظيمها وكذا تجويده بشكل دائم، لارتباط الوظيفة العمومية بالدولة التي لا تكف عن التطور بتطور الحياة عموما.
ولهذا، فإن أهمية الوظيفة العمومية تفرض على القائمين عليها بشكل قوي الاهتمام بالعنصر البشري؛ لاسيما إن دققنا في الأمر، وحاولنا النظر من زوايا مختلفة، سواء الأكاديمية أو السياسية وغيرها، لاتضح أن الأمر الأساسي الذي يركز عليه، ويحاول توجيه العناية به، هو العنصر البشري، فلولاه لما قامت الإدارة، ولا تطورت الدولة.
وبخلاصة، فإن خدمة المواطنين التي تؤديها المرافق العامة، وتكون خلالها ممثلة للدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، على مستوى مختلف الإدارات العمومية، تجعل من الوظيفة العمومية أداة مساهمة في تحقيق التنمية وإشباع حاجيات المواطنين.
ولعل هذا الأمر، يأخذنا، بعد التأمل في مفهوم الوظيفة العمومية، أو قل بشكل أدق مفهوم الموظف()، ومحاولة تشخيص لواقعها في المغرب، إلى طرح عدة تساؤلات وكذا وضع مجموعة من الفرضيات لتجاوز كل الإشكالات؛ ما يجعل الحاجة ماسة، ولو التعريج بسرعة، إلى التذكير بما يخص الوظيفة العمومية، أو ما يرتبط بها عموما؛ حيث نجد أن الدولة تتدخل بشكل مباشر من خلال مجموعة من القوانين المنظمة للوظيفة العمومية، والتي تعطينا فكرة أساسية لما عليه أمر الموظف، والذي يعتبر مهما كما سلف معنا الذكر (العنصر البشري)؛ وكذلك نجد أن الدولة تؤثر، بشكل غير مباشر، في الوظيفة العمومية من خلال تنظيم المرفق العام والذي عرف تطورا مهما، حاول مسايرة تطور الدولة والتغيرات التي طرأت على مجال تدخلها واختصاصاتها.
وكما يعلم الجميع، فإن نظام الوظيفة العمومية صدر أول مرة في سنة 1958 بظهير، وعرف عدة تعديلات؛ والمغرب، منذ استقلاله سنة 1956، شهد مجموعة من الإصلاحات، همت مختلف الجوانب؛ ولعل إقرار مجموعة من الدساتير، بعد دستور 1962، خير دليل على وجود حركية ونشاط دائم، إلا أن نظام الوظيفة العمومية رغم كل التعديلات التي عرفها، ما زال يتبادر سؤال إصلاح الوظيفة العمومية في الساحة السياسية لما تعرفها من إشكالات حقيقية؛ وعليه، يمكن طرح إشكالية عامة، سنحاول الإجابة عليها، وهي:
ما هو واقع وآفاق الوظيفة العمومية بالمغرب؟
حتى نتفاعل مع هذه الإشكالية التي تضمر عدة أسئلة فرعية، سنقوم بتقسيم موضوعنا إلى مبحثين، آخذين بعين الاعتبار خلال المناقشة، أن ما سيتم طرحه يصلح تضمينه في مخطط على مدى سنتين، أي أن ما يتم اقتراحه من محاور وآليات يتوافق مع إمكانية تنزيله على المدى القريب:
المبحث الأول: واقع الوظيفة العمومية بالمغرب
المبحث الثاني: آفاق الوظيفة العمومية وسبل النهوض بها.
المبحث الأول: واقع الوظيفة العمومية بالمغرب
رغم الحديث عن الوظيفة العمومية، من طرف الباحثين، في الفترة الاستعمارية، إلا أنهم يؤكدون أن مرحلة الاستقلال هي التي تشكل بداية التجربة المغربية في إدارة شؤونها الداخلية، حيث تعتبر سنة 1958 المحطة الرئيسية لنظام الوظيفة العمومية بالمغرب، بعد صدور أول قانون أساسي للوظيفة العمومية؛ لأن المغرب بعد حصوله على الاستقلال، ورث مجموعة من المشاكل، ومنها ما يرتبط بالوظيفة العمومية؛ بالرغم من أن فرنسا ساهمت في تقنين علاقة أعوان الدولة بالدولة، إلا أن المغرب سارع في بداية الاستقلال إلى مغربة الإدارة العمومية وقام بمجموعة من الإصلاحات، منها ما هم الجانب القانوني، والذي سنتناوله في المطلب الأول؛ فيما سنترك المطلب الثاني للحديث عن واقع الوظيفة العمومية من خلال بعض المعطيات الرقمية وكذا بعض المتدخلين في تدبير ما يرتبط بالوظيفة العمومية.
المطلب الأول: الإطار القانوني للوظيفة العمومية
كما سلف الذكر، فإن سنة 1958 عرفت وضع النظام الأساسي الوظيفة العمومية بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.58.008 المؤرخ في 24 فبراير1958، ليسري تطبيقه على موظفي الإدارات المركزية والمصالح الخارجية التابعة لها باستثناء رجال القضاء وجنود القوات المسلحة الملكية وهيئة متصرفي وزارة الداخلية؛ وقد تم استكمال هذا النظام الأساسي بعدة ظهائر ومراسيم وقرارات وزارية.
وفي هذا الجانب، نجد أن النظام الأساسي للوظيفة العمومية منذ صدوره إلى حدود سنة 2022 عرف سبعة عشر تعديلا؛ غير أن هذه التعديلات لم تكن بذلك الشكل الذي يغير النظام الأساسي، أو قل الفلسفة التي صيغت به في بداية الأمر؛ حيث نلاحظ أن جل التعديلات ارتبطت ببعض الجزئيات فقط، من قبيل مثلا: منظومتي التوظيف والترقي، ونظام التعويضات، والحركية؛ وربما يمكن أن نسجل أهم تعديل وقع هو الذي جاء به قانون رقم 05.50 صادر في 18 فبراير 2011، لأن الفصل 6 مكرر منه يعتبر الأساس القانوني للتشغيل بموجب عقود، إذ خول للإدارات العمومية الاستعانة بمتعاقدين، ولم يتم تفعيله إلا مع صدور المرسوم رقم 770.15.2 بتاريخ 9 غشت 2016 لتحديد شروط وكيفيات التشغيل بموجب عقود بالإدارات العمومية.
لكن عند محاولة البحث عن نصوص قانونية أخرى، والتي تهم الموظف، يتضح أن هذه النصوص يمكن تقسيمها إلى صنفين:
-
نصوص عامة ومشتركة تهم جميع الموظفين، يأتي النظام الأساسي الذي سبق أن أشرنا إليه في مقدمتهم، وما تلك التعديلات أو المراسيم التي أتت بعده إلا في مقام تجويد النص القانوني، أو التفسير والتوضيح بالنسبة للمراسيم والمذكرات؛ ذلك أن المغرب، بشكل عام، يتبنى “التصور الواسع للوظيفة العمومية، والذي يحيل على مبدأ وحدة الوظيفة العمومية، إذ بمقتضاه اختار أن يدمج في الوظيفة العمومية كل الأعوان الذين يشتغلون لصالح المرفق العام الإداري، بغض النظر عن نوعية الوظائف التي يقومون بها، أو ترتيبهم داخل التسلسل الهرمي للإدارة”().
-
لكن رغم تبني المغرب لوحدة الوظيفة العمومية، وأن القاعدة العامة هي أن النظام الأساسي للوظيفة العمومية يطبق على جميع الموظفين، فإننا نجد هناك بعض النصوص الخاصة ببعض فئات الموظفين وتجعل من الأمر استثناء، ويعفى من أحكامها هؤلاء بمقتضى أنظمة أساسية خصوصية: أعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي، الهيئات المكلفة بالتفتيش العام للمالية، الإعلاميون، المهندسون، الإعلاميون، التقنيون، المتصفون، موظفو وزارة التعليم، الباحثون في التعليم العالي، الأطباء والصيادلة وجراحي الأسنان، وزارة الصحة، موظفو الجماعات المحلية()؛ وبذلك فإن هذه النصوص عديدة ومتنوعة وقد تحمل مفاهيم مختلفة من فئة إلى أخرى، لكون أن بعض تلك الفئات لا تتفق مهامها الملاقاة على عاتقها وأحكام النظام الأساسي.
وعليه، فإنه بعد صدور هذا النظام الأساسي، وكذا بعض التعديلات، تم الاهتمام بإعادة تكوين الأطر الإدارية ورفع مستواها المهني؛ بل أتت بعد ذلك مرحلة الإصلاح، حيث تميزت بتبسيط هياكل الأطر وتوحيد الإجراءات المتعلقة بالحياة الإدارية، بالإضافة إلى إحداث نظام موحد للتسيير؛ منها تم أيضا إصلاح نظام الرواتب والأجور، غير أنها لم تكن شاملة، وخصت بعض القطاعات دون الأخرى.
لكن ما يلاحظ على القوانين المتعلقة بالوظيفة العمومية المغربية، حسب مجموعة من الباحثين، هو استلهام() المغرب من القوانين الفرنسية، وقد تأثرت بها، ويوجد تشابه كبير بينها، ما عدا بعض الاختلافات الناتجة عن طبيعة الخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكلا البلدين.
المطلب الثاني: واقع الوظيفة العمومية (المعطيات الرقمية والمتدخلون)
مما لا شك فيه أن النصوص القانونية تلعب دورا مهما في تحديد وضعية الوظيفة العمومية، وأن جل الإجراءات والسياسات المنجزة تتأثر إن سلبا أو إيجابا بمدى تقدم القانون من تخلفه؛ لكن للتعرف على واقع الوظيف العمومية بشكل أدق، ومحاولة استخراج بعض الإشكالات التي تعاني منها هو القيام بإطلالة، ولو بشكل سريع، على بعض الإحصائيات المتعلقة بالموارد البشرية في الوظيفة العمومية، لاسيما أن لغة الأرقام في عصرنا تسهل على الفهم وتفكيك الوقائع.
وعليه، حتى نستكمل التعرف أكثر على واقع الوظيفة العمومية، لابد من التطرق إلى المتدخلين في صناعة القرار السياسي، لاسيما المرتبط بسياسات تدبير الموارد البشرية، ولو بشكل موجز؛ حتى إن انتهينا من ذلك، ساعدنا على اقتراح ما يجود الوظيفة العمومية، فضلا عن تجاوز ما يعيق من إشكالات.
أولا: الوظيفة العمومية في أرقام:
بعد الاطلاع على تقرير حول الموارد البشرية لإعداد مشروع قانون المالية لسنة 2023، نجد أنه تطرق لمختلف الأرقام المرتبطة بذلك؛ غير أنه خلال ورقتنا هذه، سنحاول الإشارة إلى بعضها فقط، ولمن أراد التوسع أكثر الالتجاء إلى التقرير ().
تتوفر الإدارة العمومية على رأسمال بشري بلغ تعداده 565.429 موظفا مدنيا برسم سنة 2022، وهو ما يشكل حوالي 15،4 في الألف من عدد السكان بالمغرب، أي حوالي 15 موظفا مدنيا لكل 1.000 نسمة، وحوالي 46 موظفا مدنيا لكل 1.000 نسمة من السكان النشيطين، كما
يبين الجدول.
وعليه، فإنه وفق الإحصائيات، نجد أن نسبة تغطية الموظفين المدنيين لمجموع الساكنة خلال الفترة 2012\2022 بلغت ما يناهز 1.65% في المتوسط، وسجلت تنازلا ملحوظا؛ ونفس الأمر سجل مقارنة مع أعداد الساكنة خلال نفس الفترة.
أما ما يتعلق بتطور أعداد موظفي الدولة المدنيين خلال نفس الفترة، فقد شهد انخفاضا طفيفا ابتداء من سنة 2016، وذلك غداة انطلاق عملية التوظيف على مستوى الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وبلغ مجموع هذه التوظيفات ما مجموعه 119.000 من الأطر التعليمية خلال الفترة الممتدة من سنة 2016 إلى سنة 2022.
وبخصوص توزيع أعداد الموظفين حسب القطاعات الوزارية، فنجد أن 91% منهم يتمركزون في سبع قطاعات وزارية كبرى، وأن وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة والبحث العلمي والابتكار تستحوذ على النسبة الكبيرة كما هو مبين في الجول.
ومن الأرقام التي توحي بتطور الوظيفة العمومية، نجد توزيع أعداد الموظفين على المستويات الثلاث: وهي كما تظهر في الجداول التالية:
ويمكن قراءة الرسم البياني رقم 13 من زوايا مختلفة، لكن ما يهمنا أكثر هو نسبة أكثر السلاليم، والتي تظهر مدى تحسن مستوى الأجور.
أما الرسم البياني رقم 14، فيعطي انطباع على نوعية الأنظمة الأكثر انتشارا ويخضع لها موظفو الدولة، مما يمنح قدرة ربطنا سر تطور وتخلف الوظيفة العمومية في بعض الحالات.
إن توزيع الأعداد حسب الفئات العمرية، ودراستها بشكل دقيق، يعدا مؤشرا مهما في عملية التدبير التوقعي للوظائف والكفاءات، وعلى العموم، فإن لهذه الأرقام دورا حاسما في إعداد الاستراتيجيات الملاءمة لسد خصاص الإدارات من المارد البشرية، وكذا أعداد المتوقع إحالتهم على التقاعد، وغيرها من الميزات.
ثانيا: المتدخلون في صناعة سياسات تدبير الموارد البشرية
كما نعلم جميعا أن صناعة القرار السياسي عموما يساهم فيه الكثير من الفاعلين، كل حسب موقعه وتخصصه؛ كما نجد أن مختلف هؤلاء الفاعلين في صنع وتقييم السياسات العمومية يجدون شرعيتهم في الوثيقة الدستوري وما ترسخ بحكم العرف والواقع.
لذا، فإننا سنقتصر في هذه الورقة على أهم الفاعلين على المستوى الوطني، ولو أننا نعلم أن القرارات السياسية تتأثر في كثير من الأحيان بأطراف من خارج الوطن، بشكل غير مباشر وربما بشكل مباشر؛ وعليه، فإن أهم الفاعلين على المستوى الوطني نجد على رأسهم المؤسسة الملكية والسلطتين التشريعية والتنفيذية؛ وقد يكون فاعلين آخرين().
المؤسسة الملكية: لا شك أن المؤسسة الملكية تلعب دورا مهما في توجيه السياسات العمومية، بل إن السياسة العامة وكل ما هو ذا طابع استراتيجي يتم الحسم فيها من قبل الملك باعتباره رئيس الدولة ورئيس المجلس الوزاري؛ وعليه، فإن الوظيفة العمومية قد تم رسم معالمها الكبرى من طرف المؤسسة الملكية، وهذا يتجلى في كون أن الإطار القانوني المنظم للوظيفة العمومية تم إصداره بواسطة ظهير وتم تغييره وتتميه أكثر من مرة بظهير أو مرسوم ملكي كما أشرنا في المطلب الأول.
السلطة التشريعية: من البديهي جدا أن البرلمان، بكلتا غرفتيه، يعتبر من الناحية الدستورية الجهة المختصة بإنتاج القوانين، وكذا القيام بالوظيفة الرقابية للحكومة؛ وبذلك نجد لعب دورا مهما في تنظيم الوظيفة العمومية من خلال مجموعة من التغييرات والتتميمات التي أدخلت على النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية منذ 1989 إلى حدود 2020.
السلطة التنفيذية: لقد تطورت مهام الحكومة منذ إقرار أول دستور 1962 إلى دستور 2011؛ وأصبحت تشكل السلطة التنفيذية بصريح الدستور، فيما نجدها تتألف من مجموعة من الوزارات، غير أن تدبير الموارد البشرية يكون بشكل أكثر على ثلاث مستويات: على مستوى الوزارة المكلفة بالاقتصاد والمالية، حيث تقوم بإعداد كل ما له علاقة بالمجالات المالية، ما يعني ما يتعلق بأجور موظفي الدولة وغيرها من الأمور الأخرى التي تتقاطع مع تدبير الموارد البشرية؛ وأيضا على مستوى ثاني المتعلق بالوزارة المكلفة بإصلاح الإدارة والوظيفة العمومية، وتسمى حاليا بالوزارة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالانتقال الرقمي وبإصلاح الإدارة، وتتكلف بالسهر على تطبيق النظام الأساسي وكذا اقتراح الإجراءات اللازمة والرامية لتحسين تدبير الموارد البشرية وغيرها من مهام ذات الصلة بذلك؛ أما المستوى الثالث، نجد الأمانة العامة للحكومة، التي تلعب دورا مهما في تجويد النصوص القانونية.
فاعلون آخرون: بالإضافة إلى الفاعلين في صناعة السياسات العمومية الذين أشرنا إليهم، نجد أن القضاء يتدخل من خلال الرقابة على دستورية القوانين وتفسيرها؛ كما يتوفر المغرب على هيئات كثيرة تساهم في إعداد السياسات العمومية المتعلقة بتدبير الموارد البشرية مثل المجلس الأعلى للوظيفة العمومية، المجلس الأعلى للحسابات، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وغيرها من المؤسسات الأخرى كالأحزاب السياسية والنقابات …
المبحث الثاني: آفاق الوظيفة العمومية وسبل النهوض بها
إن الحديث عن الوظيفة العمومية وتدبير الموارد البشرية بشكل خاص، من خلال ما تطرقنا إليه في المبحث الأول، وبما أن القائم على ذلك هو الإنسان الذي يتسم بالنقص والضعف مهما حاول الاجتهاد في الوصول إلى الكمال، فإن عمله تشوبه النقائص والثغرات؛ وعليه، فإن النصوص القانونية التي تؤطر تدبير الموارد البشرية بالوظيفة العمومية، وكذا كل السياسات والإجراءات التي يتخذها أصحاب القرار في صناعة السياسات المتعلقة بتدبير الموارد البشرية، يحق لنا وصفها بغير الكاملة حتى إن لم نقم بدراستها وتقييمها؛ ما يعني ضرورة التفكير في تجويدها وتطوريها لمسايرة حتمية التطور، لأن سنة الحياة في تغير ما دام الإنسان على قيد الحياة.
غير أن الواقع كما حاولنا تقديمه، إلى جانب ما تعرفه الوظيفة العمومية المغربية من وضعية غير مرضية تماما لكل الأطراف، حسب ما يعبر عنه دائما في مناسبات مختلفة، فإن مراجعة مقتضيات النظام الأساسي وباقي النصوص القانونية، وكذا مجموعة من السياسات بتدبير الموارد البشرية، أصبح واجبا حتى نساير تطور الحياة: لأن مواطن الضعف ومظاهر الخلل متعددة ولا يمكن حصرها في ورقتنا هذه، لاسيما أن هناك جهات مختلفة عبرت عنها؛ منها ما أصدره مجلس النواب شهر دجنبر 2022 والذي كان عبارة عن الدراسة الميدانية الوطنية حول القيم وتفعيلها المؤسساتي: تغيرات وانتظارات لدى المغاربة التقرير الثالث؛ المجلس الأعلى للحسابات()؛ والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي؛ المناظرة الوطنية حول المراجعة الشاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية المنعقدة بقصر المؤتمرات بالصخيرات الجمعة 21 يونيو 2013…
وعليه، حتى نتجاوز مجموعة من الإشكالات القانونية وكذا المساهمة في تطوير الوظيفة العمومية، لكن في ضوء الإطار المرجعي للانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة بمكوناته الأربع ()، وهي: التوجهات الملكية السامية، ودستور 2011، والنموذج التنموي الجديد والبرنامج الحكومي 2021\2026؛ ذلك أن اقتراح مخطط عمل يخص القطاع الوصي على الوظيفة العمومية لابد له أن ينسجم مع الإطار المرجعي، وإلا أصبح المخطط عبارة عن أحلام ومتمنيات، وربما تصادم مع التوجهات الكبرى وكان الفشل من نصيبه قبل بداية تنزيله.
كما أن أي مشروع إصلاحي يقتضي، إضافة لما سلف، تحديد الأولويات بدقة وعدم محاولة إصلاح كل شيء حتى لا يتشتت المجهود، لأن ما تراكم من إخفاقات يصعب تجاوزه بسرعة ()؛ وعليه، فإن محاولتنا هذه ستركز على محورين أساسين، متخذين في تنفيذه بعض الآليات، حسب الإمكانية؛ ولهذا، فإننا سندرس في المطلب الأول تحيين الإطار القانوني والمؤسساتي لمنظومة تدبير الموارد البشرية، فيما سنترك المطلب الثاني الاهتمام برأسمال البشري بالإدارة العمومية.
المطلب الأول: تحيين الإطار القانوني والمؤسساتي لمنظمة تدبير الموارد البشرية
لقد سبقت الإشارة إلى أن المغرب عندما وضع قانونا للوظيفة العمومية سنة 1958 بعد استقلاله لم يقم بتعديله وفق ما تقتضيه التطورات التي عرفها لاسيما بعد إقرار دستور جديد 2011، وإنما اكتفى بتغييرات شكلية لا ترق لمستوى التطور الذي عرفه؛ وبالتالي أصبح من اللازم تحيين الإطار القانوني؛ وبعده العمل ضمنيا على تعزيز دور الهيئات الاستشارية.
أولا: مراجعة الإطار القانوني
قد بات من الضروري النظر في النظام الأساسي للوظيفة العمومية، بعدما عمر كثيرا وأصبح لا يقدر على مسايرة المستجدات والتطور الحاصل؛ وفي هذ الصدد نجد أن المناظرة الوطنية حول “المراجعة الشاملة لمقتضيات النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية” التي أشرنا إليها أعلاه، قد خرجت بمجموعة من التوصيات تؤكد على هذا الطرح؛ من بينها المطالبة بملاءمة مقتضيات النظام الجديد للوظيفة العمومية، مع المستجدات الدستورية لسنة 2011 ذات الصلة، لاسيما تلك المتعلقة بمبادئ ومعايير الحكامة الجيدة؛ وغيرها من التوصيات التي تؤسس، بعبارة أخرى، لقانون بفلسفة جديدة تقطع مع الفلسفة التي تأثرت بالظروف التي كان المغرب بعيد الاستقلال، مع اعتماد آليات حديثة لتدبير لموارد البشرية (الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات، التدبير التوقعي للأعداد والوظائف والكفاءات، توصيف الوظائف، التكوين المستمر…)().
وفي نفس السياق، بعدما رأينا أن هناك بعض الاستثناءات في عدم تطبيق النظام الأساسي للوظيفة العمومية، والالتجاء إلى أنظمة أساسية خصوصية، وأن هذه الأخيرة تعددت كما بينا من قبل؛ فإن كان الأصل فيها أتت من أجل مراعاة بعض الخصوصيات التي تخص بعض القطاعات، كالقضاء مثلا، إلا أنها أصبحت بعد تعددها تشكل نوعا من التفاوتات وعدم انسجام، لاسيما المتعلقة بنظام التعويضات، ما يجعل أمر إصلاحها ضروريا وتقليصها قدر الإمكان، حتى يتم القضاء على التمييز بين كثير من الفئات التي تعتبر في آخر المطاف عادية؛ بل إن الفلسفة التي ترسخ هذه الأنظمة غالبا ما تخلق تمايزا بين فئات المجتمع، والحال أن كل فئة تساهم في تنمية البلاد، فضلا على أن الحياة تتوقف على جميع أنواع الخدمات مهما بدت، وفق بعض التصورات، غير مهمة.
ثانيا: تعزيز دور الهيئات الاستشارية
إن من البديهي أيضا بعد إقرار دستور 2011، أن نرى كل المؤسسات العمومية والقطاعات الوزارية، بل كل الفاعلين في الميدان السياسي والأكاديمي والمدني، التوجه إلى إعمال الديمقراطية التشاركية التي نص عليها الدستور في أكثر من فصل؛ لذلك فإن الهيئات الاستشارية العامة في قطاع الوظيفة العمومية تعتبر عنصرا مهما للمساهمة في تجويد القطاع، فضلا عن خلقها فضاء للحوار والنقاش الحقيقي، لأن وجود الحوار يوفر تعدد زوايا النظر، وبالتالي اجتناب أكبر عدد ممكن من الهفوات والأخطاء.
وعليه، فإن هذه الهيئات، التي تتمثل في المجلس الأعلى للوظيفة العمومية واللجان الإدارية المتساوية الأعضاء وغيرها، يجب الاهتمام بها، وتعزيز دورها من خلال تجويد وتوسيع اختصاصاتها في الأنظمة المتعلقة بها، وكذا في القوانين المرتبطة بتدبير الموارد البشرية.
المطلب الثاني: الاهتمام بالرأسمال البشري بالإدارة العمومية
من المؤكد أن مراجعة الإطار القانوني والمؤسساتي وحده لا يكتمل دوره في تطوير الوظيفة العمومية إلا بعد الاهتمام بالرأسمال البشري، لأن الإدارة مهما توفرت لها من إمكانيات حديثة لن تخطو خطوات إلى الأمام إلا إن شعر الموظف بالارتياح والتحفيز؛ ولعل هذا لن يتحقق إلا بالعمل على مراجعة الحركية وإعادة الانتشار مع إصلاح آلية تقييم أداء الموظفين؛ وهذا لا يعني إهمال منظومة الأجور والتعيين في مناصب المسؤولية والمناصب العليا، لكن يبدو أن الظروف التي تمر بها الدولة قد لا تساعد في إنجاح هذا بشكل موازي، وإنما لابد من التدرج وإرجاء ذلك في المرحلة المقبلة.
أولا: الحركية وإعادة الانتشار
قد لا نختلف حول تعدد أنماط الشخصيات، فنجد منها المحبة للتنقل والأخرى للاستقرار، بل إن طبيعة الإنسان تعشق التغيير، ومن الناس من يحب حتى المغامرة واكتشاف الأمور، الأمر الذي يجعل الفرد دائم الحركية والنشاط، وربما إرغام بعض هذا النوع من الشخصيات للاستقرار في مكان أو وظيفة معينة سبب في خموله وإصابته بالفشل؛ وعليه، وانطلاقا من هذه الفلسفة، نرى ضرورة إعادة النظر في عملية الحركية وإعادة الانتشار، حتى نخلق نوعا من الدينامية الجديدة؛ وهذا سيكون بالأمر الممكن والسلس إن فعّلنا ما تحدثنا عنه بخصوص تقليص الأنظمة الأساسية التي تقف عقبة في تسهيل العملية:
لذلك، فإن تفعيل هذه الحركية وإعادة الانتشار نرى اعتماد بعض هذه المقترحات:
-
خلق حوافز مادية لتشجيع الموظفين للعمل خارج محور المركز، خاصة في المناطق النائية؛
-
تبسيط الإجراءات لنقل المناصب المالية بين الإدارات العمومية؛
-
تكثيف برامج التأهيل والتكوين المناسب؛
-
اعتماد الطابع الطوعي لعملية إعادة الانتشار.
ثانيا: تقييم أداء الموظفين
ليس من السهل تقييم أداء الموظف، لاسيما إن لم يتم ربط ذلك بأهداف محددة؛ بل رغم ذلك يصعب إن علمنا أن الموظف لا يشتغل في الإدارة بمفرده، وإنما هناك العديد من الظروف التي تجعل تقييم أداء الموظف معقدة؛ وعليه، فإن عملية التقييم تقتضي الكثير من الدراسة والاطلاع على التجارب المقارنة، حتى ننجز نموذجا ما، وربما يتوجب تغييره كل مرة، ووفق المناطق والأزمنة.
لذلك، فإن أهم ما يجعل التقييم ناجحا، ونحن في عصر التكنولوجيا، هو توسيع استخدامها من خلال مجموعة من البرامج بعدما أصبح المغرب يعتمد في الإدارة على الرقمنة، كما يجب التفريق بين مختلف الوظائف، لأن هناك منها ما يرتبط إنجاز المهمة على الاحتكاك بالمرتفق، ومنها ما يمكن إنجازه عن بعد دون الولوج إلى مكاتب الإدارة؛ ما يعني التركيز على لغة الأرقام والمؤشرات وربطها بالأهداف، الجودة والمبادرة، والعمل بروح الفريق وغيرها من الأمور التي توصي بها الأكاديميات العلمية والمؤسسات الناجحة التي وجب الاطلاع على مختلف تقاريرها وأبحاثها.
خاتمة
لقد تطرقنا خلال هذه الورقة، التي جاءت على شكل مشروع مخطط، أو قل: ما يجب التركيز عليه في إعداد مخطط، على مدى سنتين، إلى واقع الوظيفة العمومية، لاسيما ما ارتبط بالجانب القانوني المنظم لها، بعد إقرار أول نظام أساسي للوظيفة العمومية سنة 1958، أي بعيد الاستقلال بمدة قصيرة؛ وأيضا إلى محاولة الاطلاع على بعض المعطيات الرقمية التي تهم تدبير الموارد البشرية، للفترة الممتدة 2012\2022، حتى نكون صورة عامة، حتى إن لم تكن دقيقة بالشكل المطلوب، لأن هذا القطاع متشابك شيئا ما.
وقد تبين لنا، أن المغرب، ما زال يعمل بنظام قانوني عمر أكثر من ستين سنة، رغم بعض التعديلات التي أدخلت عليه، بينما هو في جانب آخر عرف تعديلات وتطورا مهما في الجانب الدستوري، وكذلك على مستوى قوانين أخرى، منها ما يرتبط بالتنظيم الترابي واللاتمركز وغيرها؛ مما جعلنا نتساءل عن مدى صلاحية هذه المنظومة القانونية المتعلقة بالوظيفة العمومية واستجاباتها للمستجدات الطارئة والتي لا تتوقف، لأن حياة الإنسان في حركية دائمة، بل إن عصر التكنولوجيا فرض على دول متقدمة تغيير نمط العيش وتدبير الشأن العام.
لذلك أصبح أمر إصلاح الوظيفة العمومية شبه محل إجماع كل الفاعلين في صناعة القرار السياسي، الرسميون منهم وغير الرسميون؛ ولكن يبقى اقتحام هذا المجال من الأمور الصعبة والمعقدة؛ ذلك أنه يرتبط بكثير من القطاعات ويعرف عدة إشكالات، منها ما هو مالي يصعب حله بتلك السهولة المتوقعة، ومنها، ربما، ما يمكن ربطه بالبنية الثقافية.
وعليه، خلال محاولتنا هذه، استطعنا أن نطرح مجموعة من الأسئلة ونتفاعل مع بعض المعطيات، ولما لا، وضع بعض الاقتراحات التي تبدو لنا صالحة لتجاوز بعض الإشكالات وتطوير الوظيفة العمومية؛ غير أنها تبقى قاصرة ما دام أن ورش الإصلاح يحتاج لكثير من الدراسات من مختلف الزوايا، وأيضا لارتباط الإصلاح بالعنصر البشري الذي يتحكم فيه أكثر من عامل؛ ما يعني أن قرار إصلاح الوظيفة العمومية ومحاولة تغيير الفلسفة القائمة منذ عقود، تضمر مجموعة من المخاطر وقد تكون له تداعيات لم تكن بالحسبان.
وخلاصة القول، إن عملية الإصلاح، مهما كانت شعاراتها براقة، إلا أن تنزيلها على أرض الواقع يقتضي من الحكمة الكثير، والإيمان بأن التدرج في الإصلاح أمر لابد منه ولو بدا لنا الطريق طويلا، لأن أي تهور في ذلك قد يؤدي إلى عكس ما نحلم به.
المراجع المعتمدة:
-
محمد اشنيفخ، الوظيفة العمومية المغربية وسؤال تحديث مقاربة تدبير الموارد البشرية، الرباط، مكتبة دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2020؛
-
أحمد بن عامر اليوبي، السياسة العمومية في ميدان تدبير الموارد البشرية، أطروحة لنيل شهادة الدكتورة، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وجدة، السنة الجامعية 2020\2022؛
-
مشروع قانون المالية لسنة 2023 تقرير حول الموارد البشرية، وزارة الاقتصاد والمالية؛
-
تقارير المجلس الأعلى للحسابات:
-
تقرير حول منظومة التقاعد بالمغرب: التشخيص ومقترحات الإصلاح، يوليو 2013؛
-
نظام الوظيفة العمومية ـخلاصة، أكتوبر 2017؛
-
التقرير السنوي برسم سنتي 2016 و2017 الملاحظة البارزة؛
-
التقرير السنوي برسم سنتي 2016 و2017 الجزء الأول؛
-
-
حصيلة وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة برسم سنة 2021؛
-
المناظرة الوطنية حول “المراجعة الشاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية” التقرير العام، قصر المؤتمرات بالصخريات: 21 يونيو 2013.
الفهرس
المبحث الأول: واقع الوظيفة العمومية بالمغرب 2
المطلب الأول: الإطار القانوني للوظيفة العمومية 3
المطلب الثاني: واقع الوظيفة العمومية (المعطيات الرقمية والمتدخلون) 5
أولا: الوظيفة العمومية في أرقام: 5
ثانيا: المتدخلون في صناعة سياسات تدبير الموارد البشرية 8
المبحث الثاني: آفاق الوظيفة العمومية وسبل النهوض بها 10
المطلب الأول: تحيين الإطار القانوني والمؤسساتي لمنظمة تدبير الموارد البشرية 11
أولا: مراجعة الإطار القانوني 12
ثانيا: تعزيز دور الهيئات الاستشارية 13
المطلب الثاني: الاهتمام برأسمال البشري بالإدارة العمومية 13
أولا: الحركية وإعادة الانتشار 13