في الواجهةمقالات قانونية
واقع الاستثمار في المغرب ورهان القضاء التجاري العابر للحدود: المحكمة التجارية الدولية بالصين نموذجا الأستاذة : فدوى بحراوي
15 فبراير, 2025
واقع الاستثمار في المغرب ورهان القضاء التجاري العابر للحدود:
المحكمة التجارية الدولية بالصين نموذجا
The state of investment in Morocco and the stakes of cross-border commercial judiciary:
The China’s International Commercial Court as a model.
الأستاذة : فدوى بحراوي
قاضية ملحقة بالكتابة العامة لوزارة العدل
طالبة باحثة في سلك الدكتوراه
ملخص
عرفت بلادنا مجموعة من الإصلاحات العميقة، واتخذت عدة تدابير تتوخى تسريع الأوراش الضرورية لتحسين مناخ الأعمال والرقع من الثقة وتعزيز الأمن القانوني والقضائي، ونظرا لراهنية هذا الموضوع، وتماشيا مع التوجهات العامة للمملكة المغربية والجهود المبذولة من طرف كافة الفاعلين لتحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمار ببلدنا، وتأكيدا على محورية دور العدالة عامة والقضاء خاصة، في الحفاظ على حقوق المستثمرين وتوفير بيئة قانونية وقضائية آمنة، ارتأيت فتح هذه النافذة الصغيرة لمقاربة هذا الموضوع من وجهة نظر مقارنة، وعليه سأحاول في المحور الثاني من هذا المقال، التعريف بنظام المحكمة التجارية الدولية بالصين وتركيبتها واختصاصها، وطرق عملها، كونها تتميز بتوفير عدة خيارات للأطراف، وتعتمد آليات متنوعة للتسوية، من تقاضي، ووساطة، وتحكيم؛ على أن أخصص المحور الأول منه، لكتابة نبذة مختصرة عن واقع الاستثمار في المغرب وما تم إنجازه من أجل تحسين مناخ الأعمال، وتحقيق الريادة افريقيا وعالميا.
Abstract
Our country has implemented a series of significant reforms and taken various measures aimed at enhancing the business environment, building confidence, and strengthening legal and judicial security. These actions align with the Kingdom of Morocco’s overarching goals and reflect the collective efforts of all stakeholders to foster a more favorable investment climate and encourage international investment. Recognizing the pivotal role of justice, particularly the judiciary, in safeguarding investors’ rights and ensuring a secure legal and judicial framework, I have chosen to explore this topic from a comparative perspective. In the second section of this article, I will examine the structure, jurisdiction, and operational methods of China’s International Commercial Court, which stands out for offering multiple options for parties, including litigation, mediation, and arbitration. The first section will provide a concise overview of Morocco’s investment landscape, highlighting the progress made in improving the business climate and positioning the country as a leader both in Africa and globally.
السياق العام:
يشكل المغرب وجهة مستقطبة للاستثمار العالمي، بفضل استقراره وموقعه الاستراتيجي وعلاقاته الدولية المتينة والمتنوعة، والبنية التحتية المهمة، وكذا اعتماده سياسة عمومية مشجعة ومحفزة لتحسين مناخ الأعمال؛ وبطبيعة الحال، لا يمكن الحديث عن تشجيع الاستثمار دون وضع إطار قانوني مناسب يسهل جلب رؤوس الأموال، ويحافظ على الحقوق ويحقق الأمن القانوني والقضائي.
وفي هذا السياق، ولمواكبة التطورات العالمية في مجال الاستثمار، حرص صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده على رسم الخطوط العريضة لاستراتيجية الدولة بهذا الخصوص، والحث على تسهيل جلب الاستثمارات الأجنبية، وتبسيط المساطر ورقمنتها وتفعيل آليات التحكيم وفض المنازعات وغيرها من الإجراءات، حيث وجه جلالته رسالة ملكية سامية للمشاركين في المؤتمر الدولي الثاني للعدالة المنعقد يوم 21 أكتوبر 2019 بمراكش والتي جاء فيها ما يلي:
“إن خلق فضاء آمن للاستثمار بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والإدارية والهيكلية، يفرض علينا جميعا اليوم، بذل مزيد من الجهود في اتجاه ترسيخ دولة القانون، وتعزيز استقلال السلطة القضائية، ودعم التنبؤ القانوني، وتأهيل الفاعلين في المجال القضائي، وتطوير الإدارة القضائية، وتعزيز حكامتها، من خلال مقاربة شمولية مندمجة، تتعامل مع قضايا الاستثمار في مختلف جوانبها، المرتبطة بالقوانين التجارية والبنكية، والضريبية والجمركية، والعقارية والتوثيقية والاجتماعية، وتستحضر الأبعاد الدولية والتكنولوجية التي تفرضها عولمة التبادل التجاري والمالي والاقتصادي عبر القارات” انتهى المنطوق الملكي السامي.
وهو ما أكده صاحب الجلالة الملك محمد السادس في الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية الحادية عشرة بتاريخ 14 أكتوبر 2022، حيث جاء فيه: “…. وعلى مستوى مناخ الأعمال، فقد مكنت الإصلاحات الهيكلية التي قمنا بها، من تحسين صورة ومكانة المغرب في هذا المجال.
ولكن النتائج المحققة، تحتاج إلى المزيد من العمل، لتحرير كل الطاقات والإمكانات الوطنية، وتشجيع المبادرة الخاصة، وجلب المزيد من الاستثمارات الأجنبية.
وهنا نريد التركيز، مرة أخرى، على ضرورة التفعيل الكامل لميثاق اللاتمركز الإداري، وتبسيط ورقمنة المساطر، وتسهيل الولوج إلى العقار، وإلى الطاقات الخضراء، وكذا توفير الدعم المالي لحاملي المشاريع.
ولتقوية ثقة المستثمرين في بلادنا، كوجهة للاستثمار المنتج، ندعو لتعزيز قواعد المنافسة الشريفة، وتفعيل آليات التحكيم والوساطة، لحل النزاعات في هذا المجال”، انتهى المنطوق الملكي السامي.
وتنزيلا للتوجيهات الملكية السامية في هذا الصدد، عرفت بلادنا مجموعة من الإصلاحات العميقة، واتخذت عدة تدابير تتوخى تسريع الأوراش الضرورية لتحسين مناخ الأعمال والرقع من الثقة وتعزيز الأمن القانوني والقضائي، ونظرا لراهنية هذا الموضوع، وتماشيا مع التوجهات العامة للمملكة المغربية والجهود المبذولة من طرف كافة الفاعلين لتحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمار ببلدنا، وتأكيدا على محورية دور العدالة عامة والقضاء خاصة، في الحفاظ على حقوق المستثمرين وتوفير بيئة قانونية وقضائية آمنة، ارتأيت فتح هذه النافذة الصغيرة لمقاربة هذا الموضوع من وجهة نظر مقارنة، أعرض من خلالها تجربة “المحكمة التجارية الدولية بالصين” باعتبارها نموذجا لتنزيل مفهوم القضاء التجاري العابر للحدود، باعتبارها تجربة دولية متقدمة، انبثقت من الحاجة إلى حماية الاستثمارات الدولية، وربما تكون قد تجاوزت الإصلاحات التشريعية والإجرائية التي انخرط فيها المغرب، وأسست لمؤسسة قضائية خاصة بالمنازعات التجارية الدولية فقط، فهي تبقى تجربة رائدة في مجال تشجيع الاستثمار والتجارة الدولية؛ وجاء اختياري لهذه المحكمة بالذات رغم وجود تجارب أخرى مماثلة بسنغافورة والإمارات المتحدة العربية وغيرها، لأسباب موضوعية، أولها انضمام المغرب إلى مبادرة “الحزام والطريق” ، بعد توقيع وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ونائب رئيس لجنة الدولة للتنمية والإصلاح في جمهورية الصين الشعبية، بتاريخ 05 يناير 2022، على اتفاقية “خطة التنفيذ المشترك لمبادرة الحزام والطريق” بين المملكة المغربية وجمهورية الصين الشعبية، وهو من أوائل الدول المغاربية والإفريقية المنضمة إليها، وأيضا لأن إحداث المحكمة التجارية الدولية بالصين جاء بعد إحداث محاكم مركز دبي المالي العالمي سنة 2004، ومحكمة قطر الدولية سنة 2005، والمحكمة التجارية الدولية بسنغافورة سنة 2015، وبالتأكيد ستكون قد نهلت من هذه التجارب، كما أنها تتميز بكونها لا تعتمد على التقاضي كألية وحيدة لفض المنازعات، بل توفر عدة خيارات للأطراف، وتعتمد آليات متنوعة للتسوية، من تقاضي، ووساطة، وتحكيم، وغيرها من الخصوصيات؛
وعليه سأحاول في المحور الثاني من هذا المقال، التعريف بنظام المحكمة التجارية الدولية بالصين وتركيبتها واختصاصها، وطرق عملها، على أن أخصص المحور الأول منه، لكتابة نبذة مختصرة عن واقع الاستثمار في المغرب وما تم إنجازه من أجل تحسين مناخ الأعمال، وتحقيق الريادة افريقيا وعالميا.
المحور الأول: تحسين مناخ الاعمال بالمغرب: رافعة تنمية، وترسيخ لمكانة المغرب بين الدول.
– الجهود المبذولة من طرف بعض المؤسسات الفاعلة في مجال الاستثمار.
أرسى المغرب عدة إصلاحات هيكلية أساسية في كافة المجالات، تشمل تبسيط الإجراءات والمساطر الإدارية ورقمنتها، وإحداث صندوق محمد السادس للاستثمار، ووضع الإطار القانوني للمناطق الصناعية، وتسهيل الولوج للعقار، وتحسين الحكامة، وتنفيذ الجهوية المتقدمة والتسريع بتنزيل ورش اللاتمركز الإداري، وتعزيز انخراط القطاعين الخاص والبنكي في مجال الاستثمار، حيث شمل الإصلاح الإطار القانوني المتعلق بالصفقات العمومية وآجال الأداء، باعتماد مرسوم جديد للصفقات العمومية ، وتقليص عدد الوثائق المطلوبة من حاملي المشاريع بمعدل 45 في المائة من خلال تبسيط 22 قرارا إداريا، وتسريع تنفيذ القانون رقم 55.19 اﻟﻤﺘﻌﻠﻖ ﺑﺘﺒﺴـﻴﻂ اﻟﻤﺴـﺎﻃﺮ واﻹﺟﺮاءات اﻹدارﻳﺔ اﻟﺼﺎدر ﺑﺘﺎرﻳﺦ 19 ﻣﺎرس 2020، من خلال اعتماد ونشر 4 مراسيم تنفيذية لتحسين تأطير آجال إصدار القرارات اللازمة لإنجاز المشاريع الاستثمارية، واعتماد الاستراتيجية الوطنية للاستثمار، بهدف الرفع من الاستثمار الخاص في القطاعات الإنتاجية (الصناعات التحويلية، الطاقة، الصناعات الاستخراجية، الفلاحة والصيد، السياحة، ترحيل الخدمات…)، وجذب جزء من الاستثمارات العمومية نحو الاستثمارات الخاصة عبر تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ومواكبة الفاعلين في مهن المستقبل مع زيادة الاستثمارات الخاصة تتناسب مع نمو الناتج الداخلي الخام في قطاعات مثل العقار، التجارة، الخدمات المالية و الخدمات الاجتماعية، فمنذ أكثر من عقد، شهدت الاستثمارات في المغرب نموا مستمرا، ويبقى الهدف المرسوم هو تحقيق نسبة 65٪ من الاستثمار الخاص بحلول عام 2035، وفقًا لتوصيات النموذج التنموي الجديد، حيث حددت وزارة الاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية، هدفين أولين هما جلب 550 مليار درهم من الاستثمار الخاص وخلق 500,000 منصب شغل دائم بحلول عام 2026، ورفع حصة الاستثمار الخاص إلى 50٪ من الاستثمار الإجمالي بحلول عام 2026،
لتحقيق هذه الغايات، ترأس صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، يوم 16 فبراير 2022، جلسة عمل خصصت للميثاق الجديد للاستثمار، حيث قُدّم بين يديه عرض حول الخطوط الكبرى للمشروع، وتمت المصادقة على القانون الإطار رقم 22-03 بمثابة ميثاق الاستثمار ، يتضمن الميثاق محاور أساسية: إحداث آليات دعم الاستثمار، تحسين مناخ الأعمال، وتعزيز الحكامة الموحدة اللامركزية، ويتضمن تسعة أهداف أساسية هي: إحداث مناصب شغل قارة، وتقليص الفوارق المجالية بين عمالات وأقاليم المملكة من حيث جلب الاستثمارات، وتوجيه الاستثمار نحو القطاعات ذات الأولوية ومهن المستقبل، وتعزيز جاذبية المملكة لجعلها قطبا قاريا ودوليا للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتشجيع الصادرات وتواجد المقاولات المغربية على الصعيد الدولي، وتعويض الواردات بالإنتاج المحلي، وتحقيق التنمية المستدامة، وتحسين مناخ الأعمال وتسهيل عملية الاستثمار، وأخيرا الرفع من حصة الاستثمار الخاص والوطني والدولي في مجموع الاستثمارات المنجزة، ولتنزيل هذه الخطة، وضع ميثاق الاستثمار أربعة أنظمة لدعم الاستثمار موجهة لكل المستثمرين وتشمل كل فئات الاستثمار وذلك من خلال نظام دعم أساسي يروم دعم مشاريع الاستثمار التي تستجيب لمعايير محددة، وتقليص الفوارق بين أقاليم وعمالات المملكة في مجال جذب الاستثمارات، وتنمية الاستثمار في قطاعات الأنشطة ذات الأولوية، وثلاثة أنظمة دعم خاص لدعم مشاريع الاستثمار الخاصة ذات الطابع الاستراتيجي، والمقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة، وتواجد المقاولات المغربية على الصعيد الدولي.
وفي إطار تنزيل ميثاق الاستثمار الجديد، عملت الحكومة على إصدار النصوص التطبيقية للميثاق ، كما تم إحداث اللجنة الوطنية للاستثمار، ووضعها تحت رئاسة السيد رئيس الحكومة مع تعزيز صلاحياتها، لتختص بالمصادقة على اتفاقيات الاستثمار بين الدولة والمستثمرين، كما تبت في الطابع الاستراتيجي لمشاريع الاستثمار، وبالموازة مع ذلك، يكرس الميثاق الجديد للاستثمار اللاتمركز في إعداد اتفاقيات الاستثمار على المستوى الترابي بالنسبة لمشاريع الاستثمار التي لا يتجاوز مبلغها الإجمالي 250 مليون درهم. والمصادقة عليها، وتتولى الوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات مهام الكتابة الدائمة لها، هذه الوكالة التي تعمل تحت وصاية وزارة الاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية، والتي أحدثت سنة 2017، بعد دمج المركز المغربي لتشجيع الصادرات، ومكتب أسواق ومعارض الدار البيضاء، والوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات، تقدم الدعم للمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء، وتواكبهم بتقديم المساعدة التقنية والاستشارة الضرورية.
كما وضعت الحكومة خارطة طريق لتحسين مناخ الأعمال 2023 -2026، بالتشاور مع الفاعلين من القطاعين العام والخاص، تستجيب لأولويات المملكة فيما يتعلق بتحسين مناخ الأعمال، وقد تم إطلاقها رسميا في 15 مارس 2023، وتهم الأوراش ذات الأولوية لتحفيز الاستثمار وتشجيع ظهور جيل جديد من المستثمرين ورواد الأعمال، مع مراعاة توصيات النموذج التنموي الجديد، والبرنامج الحكومي 2021-2026، والقانون الإطار بمثابة ميثاق الاستثمار، ومقترحات الكتاب الأبيض للاتحاد العام لمقاولات المغرب، ومقترحات الفاعلين الخواص والمؤسساتيين الآخرين، وتدابير التحسين المقدمة من قبل الفاعلين من القطاعين العمومي والخاص، وتعمل اللجنة الوطنية لمناخ الأعمال المحدثة بموجب المرسوم رقم 2-10- 259 الصادر بالجريدة الرسمية بتاريخ 2 دجنبر2010، والتي يترأسها رئيس الحكومة، على مواكبة الفاعلين وتتبع تنزيل خارطة الطريق المشار إليها أعلاه، وتحسين الظروف الهيكلية لعملية الاستثمار وريادة الأعمال، وتعزيز التنافسية الوطنية وتحسين تكاليف عوامل الإنتاج، وتطوير بيئة ملائمة لريادة الأعمال والابتكار، وكذا تعزيز قيم الأخلاقيات والنزاهة والوقاية من الفساد، هذه اللجنة تعتبر بحق حلقة الوصل بين القطاعين العام والخاص، وتضفي الطابع المؤسسي على الحوار بين القطاعين العام والخاص لدعم ممارسة أنشطة الأعمال، حيث يعهد إليها اقتراح الإجراءات التي من شأنها تحسين المناخ والإطار القانوني للأعمال، وتنسيق أجرأتها وتقييم أثرها على القطاعات المعنية، تمارس اللجنة الوطنية مهامها بتشاور مع مختلف الشركاء المعنيين من القطاعين العام والخاص، وتطمح إلى أن تصبح منصة حوارية وحيدة بين القطاعين الخاص والعام من أجل تحسين مناخ الأعمال وتتبع صورة المغرب بالخارج، وباعتبارها قوة اقتراحية ولجنة توجيهية مسؤولة عن تنفيذ وتقييم برامج الإصلاح التي يتم اعتمادها على الصعيدين الوطني والإقليمي كما تُمَارس هذه اللجنة نشاطها بتعاون وثيق مع باقي اللجان الجهوية لمناخ الأعمال.
– منظومة العدالة فاعل أساسي في تحسين مناخ الإعمال.
ونظرا للدور المحوري الذي يضطلع به قطاع العدالة بكافة مكوناته، وارتباطه الوثيق بمناخ الأعمال وجلب الاستثمارات، انخرط قطاع العدالة في هذه الاستراتيجية الوطنية، من أجل إنشاء ترسانة قانونية حديثة ومنظمة تساهم في تطوير عالم المال والأعمال وتشجيع الاستثمار، بتوفير ودعم الآليات البديلة لحل المنازعات، ولاسيما الوساطة والتحكيم، تبذل وزارة العدل بتنسيق مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، مجهودات مهمة في هذا الميدان، بمراجعة مجموعة من النصوص القانونية ذات الارتباط الوثيق بالمجال الاقتصادي أهمها: الكتاب الخامس من مدونة التجارة المتعلق بمساطر صعوبات المقاولة، وإحداث السجل الوطني الإلكتروني للضمانات المنقولة بموجب القانون رقم 21.18، المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 22 أبريل 2019، ومرسومه التطبيقي المنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 21 نونبر 2019، وكذا وضع الإطار القانوني لإحداث المقاولات ومواكبتها بطريقة إلكترونية، حيث صدر القانون رقم 88.17 المتعلق بإحداث المقاولات بطريقة إلكترونية ومواكبتها المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 09 يناير 2019، وصدور المرسوم التطبيقي بتاريخ 15 يوليوز 2024، دون أن ننسى مراجعة مرسوم الخريطة القضائية بالمملكة وإحداث محاكم تجارية بكل من مدن الداخلة والعيون ومحاكم استئناف تجارية بطنجة وأكادير، ويبقى في رأيي مشروع قانون المسطرة المدنية خاصة الباب الحادي عشر منه، من أهم الأوراش الحالية من خلال إضفاء الطابع الرقمي على كافة الإجراءات والمساطر، والـتأسيس القانوني للتبادل الإلكتروني بين المحاكم والمرتفقين والمهنيين، مما سيرفع لا محالة من أداء ونجاعة منظومة العدالة، بتبسيط الإجراءات القضائية والقانونية، ويخفض الوقت والكلفة، مع الرفع من مستوى الشفافية لتوفير عدالة قريبة وفعالة مرتكزة على المواطن، كما أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية قد جعل الارتقاء بفعالية منظومة العدالة توجها استراتيجيا في مخططه الاستراتيجي 2021-2026 ، وخصص الورش 28 منه لدعم المحاكم التجارية بثماني إجراءات، وغيرها من الإجراءات الأخرى التي تهم قطاع العدالة.
كما تعتبر الوسائل البديلة لفض المنازعات من الركائز الأساسية لتحسين مناخ الأعمال، حيث تكتسي أهمية بالغة بالنسبة لتموقع المملكة على المستوى الدولي، استحضارا لكون المؤسسات الاقتصادية المتخصصة تراقب مدى توفر وإعمال إجراءات التحكيم والوساطة في الدول، ولترسيخ هذه الآليات صدر القانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 13 يونيو 2022 ، والذي يعد نصا قانونيا متقدما يستجيب للمعايير الدولية في هذا المجال يمَكّن من تشجيع الاستثمار، ويهدف إلى تطوير الوسائل البديلة كالوساطة والتحكيم والصلح لحل النزاعات، وتيسير وتسهيل إجراءاتها لتحقيق السرعة والمرونة والفعالية والحفاظ على الروابط الاقتصادية والتجارية بين الأطراف، كما صدر المرسوم رقم 2.23.1119 بشأن تحديد كيفيات مسك قائمة المحكمين وشروط التسجيل فيها والتشطيب منها، المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 23 ماي 2024،و تعمل حاليا وزارة العدل على تنظيم الهيئات الوطنية للتحكيم لتصبح قادرة على منافسة المراكز الدولية، وتعزز دور المغرب كمنصة إقليمية للتحكيم الدولي، خاصة في القارة الأفريقية والعالم العربي.
– التنسيق والتعاون بين كافة الفاعلين: شرط أساسي لتحقيق الأهداف المنشودة.
إن مبدأ التعاون بين السلط المنصوص عليه في الفصل الأول من دستور المملكة، يحتم على السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، المشاركة في وضع الأسس الصحيحة وتهيئة الظروف الملائمة لضمان نجاح الاستراتيجيات الوطنية الطموحة التي تهدف إلى تحقيق التنمية وتسريع الإقلاع الاقتصادي للبلاد، وتعمل على ترسيخ اسم المملكة كوجهة مميزة للاستثمار على المستويين الإقليمي والدولي، وهو ما نلمسه حاليا في المستوى العالي من التنسيق الذي يطبع علاقات السلط مع بعضها، بما لا يتنافى بطبيعة الحال مع مبدأ فصل السلط، فبالرجوع للمخططات الاستراتيجية لمؤسسات الدولة، نجد بالضرورة خيطا ناظما بينها يترجم التوجهات الكبرى للدولة ويرسم خارطة طريق لتنزيل للأوراش المهمة وذات الأولوية، وهو ما لا يمكن إلا أن نثمنه ونطلب استمراره وتعزيزه للوصول إلى الأهداف المرجوة، وأكبر دليل على كوننا على الدرب الصحيح هو ما جاء في التقرير السنوي لبنك المغرب لسنة 2023، حيث أشار إلى أن التزامات المغرب تجاه بقية العالم ارتفعت بنسبة 2.1 % إلى 1356 مليار درهم، وهو ما يعكس، بالأساس نمو الاستثمارات المباشرة بواقع 3.5 % إلى 685.5 مليار درهم، وكذا تقدمنا في مؤشرات عدة مجموعات مالية دولية، مثل تقرير Business Ready للبنك الدولي حول تقييم الدول على مستوى مناخ الأعمال والإطار القانوني المرتبط به، والذي حل محل تقريرDoing Business ، الذي يعد بارومتر لمناخ الأعمال في العالم، ويعتمد على ثلاثة أبعاد للتقييم هي الإطار القانوني، جودة الخدمات العمومية، والفعالية، مقسمة على عشرة محاور كبرى مرتبطة بدورة حياة المقاولة منذ إنشائها وإلى غاية حلها أو تصفيتها، هذه المحاور حددت 1200 مؤشر، مع الإشارة إلى أن المحاور الثلاثة الأخيرة من هذا التقرير مرتبطة بشكل أساسي بقطاع العدالة، حيث تتعلق بالإطار القانوني المنظم لرقمنة الإجراءات القانونية والقضائية، ومساطر صعوبات المقاولة، والوسائل البديلة لتسوية المنازعات، وإحداث المقاولات بطريقة إلكترونية ومواكبتها، وغيرها من المشاريع.
يشمل هذا التقرير في أول نسخة منه هذه السنة 50 دولة، ضمنها المغرب الذي كان سباقا للانخراط فيه، في أفق تعميمه على 112 دولة سنة 2025، و184 دولة سنة 2026، وقد تم إعلان نتائج التقييم يوم 03 أكتوبر 2024، وحصل المغرب على الرتبة 22 بمجموع 62.41 %، مما يشكل تقدما ملموسا، وخطوة مهمة تثبّت مركز بلدنا بين بلدان العالم، وتزيد من مؤشر الثقة في المؤسسات وفي جودة مناخ الأعمال به، وهي نتيجة جيدة جدا بالنسبة لبعض المحاور والمؤشرات مثل إحداث المقاولات 76.73 % والتجارة الدولية 75.51 %، مع التأكيد على ضرورة إيلاء الأهمية لبعض المحاور الأخرى والتي ستحتاج إلى المزيد من العمل لتحقيق نتائج أفضل في التقارير المقبلة مثل سوق العمل والضرائب 47.69 % وحل المنازعات 43.67 %، ومساطر صعوبة المقاولة 46.58 %، وعموما فإن المغرب أبان عن مؤشرات نجاعة مهمة، خاصة فيما يتعلق بإطاره القانوني الذي يتقارب مع الممارسات الدولية، مع التأكيد على ضرورة تذليل الصعوبات ا التي تواجهها المحاور المتعلقة بجودة وفعالية الخدمات العمومية، والأوراش المرتبطة بالالتقائية L’interopérabilité والرقمنة، والبيانات المفتوحة Open Data، والتركيز أيضا على مجالي التنمية المستدامة والنوع الاجتماعي.
كل هذه المجهودات المبذولة على الصعيد الوطني، تدعونا لمواكبة التغيرات العالمية، والانفتاح على التجارب التي تعرفها بعض الدول في هذا المجال، وهو ما سأسلط عليه الضوء في المحور الموالي من هذا المقال.
المحور الثاني: المحكمة التجارية الدولية بالصين: تجسيد للقضاء التجاري العابر للحدود.
– الإطار العام للمحكمة التجارية الدولية بالصين:
تم إحداث المحكمة التجارية الدولية الصينية CICC بتاريخ 29 يونيو 2018، من طرف محكمة الشعب العليا، في إطار استجابة ومواكبة النظام القضائي الصيني للتطور الكبير الحاصل على مستوى التبادلات التجارية الدولية بجمهورية الصين الشعبية، خاصة بعد إطلاقها مبادرة ” الحزام والطريق”، التي اعتمدتها الصين رسميا في دستورها سنة 2017، وهي تتضمن محكمتين الأولى بمدينة “شنجن” جنوبي الصين، والثانية بمدينة “شيان” في الشمال الغربي، وتعتمد اللغتين الصينية والإنجليزية كلغات عمل.
كان الهدف من وراء إحداث هذه المحكمة هو الفصل في القضايا التجارية الدولية بشكل عادل وفي أجل معقول وطبقا للقانون، مع حماية الحقوق والمصالح المشروعة لأطراف النزاع الصينية والأجنبية على قدم المساواة، وخلق بيئة أعمال دولية مستقرة وعادلة وشفافة وملائمة لسيادة القانون، وهي تجمع بين التقاضي والوساطة والتحكيم وتمنح حتى إمكانية الحصول على تقييم محايد قصد التخطيط للخطوة المقبلة واختيار الوسيلة المناسبة لفض المنازعة، وتعمل تحت إشراف القسم المدني الرابع في محكمة الشعب العليا، والذي يعتبر هو المسؤول عن توجيه المحكمتين التجاريتين الدوليتين وتنسيق عملهما.
وفيما يتعلق بالإطار القانوني لعمل هذا المحكمة، أصدرت محكمة الشعب العليا في نونبر 2018، مجموعة من القرارات تتضمن بشكل أساسي العناصر التالية:
• الإجراءات المسطرية لقبول الدعاوى، والوساطة السابقة للمحاكمة، ومرحلة المحاكمة، والتنفيذ، والتحكيم؛
• تعيين وتحديد مهام لجنة الخبراء التجاريين الدوليين؛
• لائحة تتضمن المجموعة الأولى من مؤسسات التحكيم والوساطة المدرجة في منصة الكترونية أحدثتها محكمة الشعب العليا، تحت تسمية “الشباك الواحد One-Stop “؛
إن منصة “الشباك الواحد” المتنوعة لتسوية المنازعات التجارية الدولية، هي أساس هذا النظام، حيث أصدرت محكمة الشعب العليا المبادئ التوجيهية بشأنها وتتضمن 32 مادة، وقد عرفتها المادة الأولى على أنها منصة إلكترونية، تشمل التقاضي والوساطة والتحكيم، والتقييم المحايد، أحدثت بغرض تيسير التواصل مع مؤسسات الوساطة التجارية الدولية، ومؤسسات التحكيم التجاري الدولي، والأعضاء الخبراء في لجنة الخبراء التجاريين الدوليين، الذين تختارهم محكمة الشعب العليا، وتبادل البيانات والوثائق فيما بينهم وفقًا لتقدم إجراءات الدعوى.
أما بخصوص الهيكل التنظيمي للمحكمة التجارية الدولية الصينية، فهي جهاز قضائي دائم لدى محكمة الشعب العليا، وتتكون من خمسة عشر قاضية وقاضيا، تشترط فيهم الجنسية الصينية، ويتمتعون بخبرة قضائية مهمة، وأن يكونوا على دراية بالمعاهدات الدولية والممارسات الدولية، وممارسات التجارة والاستثمار الدولية، كما يجيدون استخدام اللغتين الصينية والإنجليزية كلغات عمل، إضافة إلى 64 خبيرا من بين الخبراء الصينين والدوليين، ينحدرون من دول تعتمد أنظمة قانونية مختلفة، بما في ذلك رؤساء المؤسسات الدولية الكبرى، والخبراء القانونيين، والقضاة من ذوي الخبرة والمحامين في الداخل والخارج، ويشترط فيهم الالمام الجيد بالقانون الدولي والقوانين الوطنية الخاصة بهم، وتوفرهم على خبرة عملية غنية، ويتم تعيين هؤلاء الأعضاء لمدة أربع سنوات بقرار من محكمة الشعب العليا.
تصدر جميع أحكام المحكمة بتركيبة جماعية تتكون من ثلاثة قضاة أو أكثر، وتكون الأحكام الصادرة عنها نهائية وغير قابلة لأي طعن إلا في حالات استثنائية، وتُنظر أمام محكمة الشعب العليا فقط، ورغم اعتماد اللغتين الصينية والإنجليزية كلغتي عمل وعدم اشتراط ترجمة الوثائق إلى اللغة الصينية، إلا أن كافة إجراءات التقاضي أمام المحكمة تتم باللغة الصينية، ويكون المحامون الصينيون المؤهلون هم وحدهم المقبولون للترافع أمامها.
– الاختصاص النوعي والقيمي للمحكمة التجارية الدولية بالصين.
وفيما يتعلق بالاختصاص النوعي لهذه المحكمة، فهي تملك اختصاصا قانونيا تم تحديد حالاته بموجب القانون، واختصاصا توافقيا بناء على رغبة الأطراف، وقد نصت المادة الثانية من المبادئ التوجيهية للمحكمة التجارية الدولية الصادر بموجب قرار محكمة الشعب العليا بتاريخ 21 نوفمبر 2018الذي تم اعتماده في 29 أكتوبر 2018، على أن المحكمة التجارية الدولية تختص بالبت في القضايا التالية:
– أولا: القضايا التجارية الدولية، التي يختار طرفاها أن يكونا خاضعين لاختصاص محكمة الشعب العليا وفقًا للمادة 277 من قانون الإجراءات المدنية لجمهورية الصين الشعبية، شريطة أن تتجاوز قيمة النزاع 300 مليون يوان صيني، وهو ما يقابله 44 مليون دولار؛
– ثانيا: القضايا التجارية الدولية المعروضة على المحاكم الشعبية، وتقرر إحالتها على المحكمة الشعبية العليا شريطة موافقة هذه الأخيرة؛
-ثالثا: القضايا التجارية الدولية التي لها تأثير وطني كبير؛
-رابعا: القضايا التي تشتمل على طلبات تحفظية في التحكيم، أو طلب إلغاء أو تنفيذ قرارات التحكيم التجاري الدولي؛
-خامسا: القضايا التجارية الدولية الأخرى التي ترى المحكمة الشعبية العليا ضرورة البت فيها من طرف المحكمة التجارية الدولية.
وحددت المادة الثالثة من نفس الأحكام، أربعة شروط يجب توفر أحدها على الأقل، من أجل اعتبار القضية قضية تجارية دولية، وهي كالتالي:
• أن يكون أحد الطرفين أو كليهما أجنبيا، أو عديم الجنسية، أو مؤسسة أو منظمة أجنبية؛
• أن يكون محل الإقامة المعتاد لأحد الطرفين أو كليهما خارج أراضي جمهورية الصين الشعبية؛
• أن يكون محل النزاع خارج أراضي جمهورية الصين الشعبية؛
• في حالة حدوث الوقائع القانونية التي تنشئ أو تغير أو تنهي العلاقة التجارية خارج أراضي جمهورية الصين الشعبية.
– الخصوصيات المسطرية أمام المحكمة التجارية الدولية بالصين.
بشكل عام، تخضع المحكمة التجارية الدولية لنفس القواعد المسطرية تقريبا مع المحاكم الأخرى، وليس لديها قواعد خاصة بشأن تطبيق القانون وكذلك الاعتراف بالأحكام وتنفيذها. ولكنها تختلف عنها في بعض الجوانب لجعل إجراءات التقاضي أكثر بساطة ومرونة وابتكارا، وأذكر من هذه الاختلافات ما يلي:
• إمكانية اتفاق الأطراف على القوانين التي سيتم تطبيقها في النازلة؛
• إمكانية تضمين الآراء المخالفة في القرارات الصادرة، بهدف تعزيز الشفافية القضائية وثقة الجهات الفاعلة الدولية في النظام القضائي الصيني.
• عدم اشتراط ترجمة الوثائق من اللغة الانجليزية إلا إذا طالب بها الطرف الآخر؛
• إمكانية عقد الجلسات عن بعد باستخدام الوسائل الالكترونية المتاحة، وكذلك الاستماع للشهود وكافة المتدخلين؛
• تم اختيار لجنة الخبراء التجاريين الدوليين لمساعدة القضاة في التحقق من القوانين الأجنبية، وتقديم المشورة والاقتراحات بشأن النزاع، كما أطلقت المحكمة نهاية سنة 2019، منصة الكترونية للتحقق من القانون الأجنبي، لمساعدة كافة المحاكم، والمتقاضين، والمحامين، والهيئات التشريعية، والوكالات الحكومية ومؤسسات التحكيم، قصد تيسير وصولهم للمعلومة؛
وقد خول القانون للمحكمة التجارية الدولية إمكانية التحقق من صحة القانون الأجنبي المراد تطبيقه عبر عدة آليات، منها: الإدلاء بالقانون الأجنبي من طرف السلطة المركزية أو السلطة المسؤولة في الولاية القضائية الأجنبية من خلال المساعدة القضائية، أو بتوجيه طلب من طرف محكمة الشعب العليا للسفارة أو القنصلية الصينية في البلد المعني أو طلب لسفارة البلد المعني في الصين، أو عند الإدلاء به من طرف عضو لجنة الخبراء التجاريين الدوليين.
– تنفيذ الأحكام والمقررات التحكيمية الصادرة عن المحكمة التجارية الدولية بالصين.
بالنسبة لنفاذ الأحكام الصادرة عن المحكمة التجارية الدولية على المستوى الدولي، فإن هذه الأحكام شأنها شأن باقي الأحكام الصادرة عن محاكم الصين، تخضع للاتفاقيات الدولية المتعلقة بالاعتراف بالأحكام وتنفيذها، وتمتلك الصين ترسانة مهمة من هذه الاتفاقيات الثنائية الموقعة مع 35 دولة، من ضمنها المملكة المغربية، حيث تم توقيع اتفاقية ثنائية بشأن المساعدة القضائية في المسائل المدنية والتجارية، وتشمل الاعتراف بالأحكام وتنفيذها، وقد دخلت حيز التنفيذ بتاريخ 26 نونبر 1999، كما تعمل الحكومة الصينية حاليا، على التفاوض للانضمام لمعاهدة لاهاي 2 يوليوز 2019 بشأن الاعتراف بالأحكام الأجنبية وإنفاذها في المسائل المدنية أو المعاهدة التجارية، في محاولة لتحسين قابلية تنفيذ أحكامها، وعملت أيضا على التوقيع على اتفاقية لاهاي المؤرخة 19 أكتوبر 1996 الخاصة بالاختصاص، والقانون الواجب تطبيقه، والاعتراف، والتنفيذ والتعاون فيما يتعلق بالمسئولية الأبوية وإجراءات حماية الأطفال، سنة 2017 في انتظار المصادقة عليها.
أما بالنسبة لباقي الدول التي لا تربطها بجمهورية الصين اتفاقية ثنائية، فإن الأحكام الصادرة عن المحكمة التجارية الدولية تحتاج إلى التذييل بالصيغة التنفيذية للاعتراف بالحكم وتنفيذه داخل التراب الوطني لهذه الدول.
وفيما يتعلق بالأحكام التحكيمية الصادرة عن المحكمة التجارية الدولية الصينية، فهي تبقى أكثر قابلية للتنفيذ من الأحكام القضائية، حيث صادقت جمهورية الصين سنة 1987على اتفاقية نيويورك للاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها لسنة 1958، وبالتالي فإن الأحكام التنفيذية الصادرة عنها تقبل التنفيذ فيما يقارب 170 دولة.
لكل هذه الأسباب، تبقى الأحكام الصادرة عن المحكمة التجارية الدولية قليلة، فمنذ يونيو 2019 إلى غاية غشت 2022، قبلت المحكمة التجارية الدولية 27 قضية تشمل أطرافًا من دول ومناطق مختلفة، بما في ذلك إيطاليا واليابان وجزر فيرجن ومنطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة الصينية وغيرها، ونشرت بعضها فقط على موقعها الرسمي، وهي تعمل على توسيع نطاق شراكاتها دوليا، حيث تم توقيع مذكرة تفاهم بشأن التعاون بين محكمة الشعب العليا لجمهورية الصين الشعبية والمحكمة العليا لجمهورية سنغافورة بشأن المعلومات المتعلقة بالقانون الأجنبي بتاريخ 03 دجنبر 2021، وتم إحداث نقط اتصال بموجبها لدى المحكمتين من أجل تبادل الخبرات والمعلومات القضائية.
كخلاصة لما سبق، فهذا النوع من المحاكم ليس حصرا على جمهورية الصين الشعبية، فنجد تجارب أخرى في العالم خاصة بسنغافورة والإمارات وقطر، وهناك عدة اختلافات بينها حيث تتم ملاءمة أنظمتها حسب قوانين البلد والتوجهات الاستراتيجية به، فنجد مثلا المحكمة التجارية الدولية بسنغافورة تتضمن قضاة سنغافوريين وقضاة أجانب أيضا في تركيبتها، وتعتمد اللغة الإنجليزية فقط في عملها، وهو نفس الحال بالنسبة لمركز دبي الدولي المالي، ومحكمة قطر الدولية باستثناء أن هذه الأخيرة تعتمد اللغة العربية أيضا بجانب اللغة الانجليزية كلغة عمل، وكل هذه المحاكم تقبل ترافع المحامين أمامها دون شرط جنسية البلد عكس محكمة الصين، والتي يؤاخذ عليها كون قضاتها يستمرون بمزاولة مهامهم كقضاة في محكمة الشعب العليا بالإضافة إلى مهامهم في المحكمة التجارية الدولية وهو ما قد يؤثر على جودة أحكامهم نظرا لضغط العمل وكثرته وعدم تفرغهم له.
خاتمة:
بغض النظر عن النقاشات السياسية التي أثارها إحداث المحكمة التجارية الدولية بالصين، وعن موقف بعض الدول منها، فهي تبقى تجربة مهمة قد نستقي منها بعض الأفكار، وقد تدفعنا لفتح نقاش جدي وبناء حول أهمية إضفاء البعد الدولي في النزاعات التجارية الدولية، وتقديم مفهوم القضاء العابر للحدود في بلدنا، بعد أن أدرجنا مفهوم المساطر العابرة للحدود لصعوبات المقاولة سنة 2018 عند تعديل الكتاب الخامس من مدونة التجارة المتعلق بمساطر صعوبات المقاولة في القسم التاسع، في المواد من 768 إلى 794، وربما ننجز دراسة جدوى حول اعتماد هذا النوع من المحاكم في المغرب، لا سيما أن المغرب منفتح على الاستثمارات الدولية وملتزم بتحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمار، خاصة في ظل الأوراش الكبرى المفتوحة حاليا مثل ميناء الداخلة الأطلسي، والمشاريع المرتبطة بتنزيل الاستراتيجية الوطنية في مجال الطاقات المتجددة، والاستثمارات المهمة في مجالات صناعة السيارات والطيران، وخط أنبوب الغاز نيجيريا المغرب، والأوراش الحالية والمستقبلية المرتبطة بالاستعداد لتنظيم كأس العالم لكرة القدم لسنة 2030، وغيرها من المشاريع التي ستفتح مجال الأعمال أمام الشركات الدولية، فالمغرب يتوفر على ربط مثالي مع 180 ميناء في العالم، وهو بوابة تمنح الولوج الفوري ل 2.5 مليار مستهلك، كما يتوفر على ترسانة مهمة من اتفاقيات التبادل الحر، دون أن ننسى أيضا التأثير الايجابي لمبادرة الحزام والطريق، والتي تعمل على تعزيز الولوج إلى التمويل الصيني لإنجاز مشاريع كبرى في المغرب وتسهيل المبادلات التجارية، وكذا إقامة مشاريع مشتركة في مختلف المجالات كالطاقة، والبحث العلمي، والتنمية، والتعاون التقني وكذلك التكوين المهني، لا سيما أن الاتفاقية تنص صراحة على تعاون ثلاثي الأطراف لفائدة القارة الافريقية، وتمنح المغرب صفة “الدولة المحورية”.
فالرهان حاليا هو مواكبة الاستثمارات الدولية الحالية والمحافظة عليها وتوفير البيئة القانونية والقضائية السليمة لانتعاشها وحمايتها، وخلق فضاء قانوني مشجع لجلب المزيد من رؤوس الأموال وتحسين مناخ الأعمال، والاستفادة من التجارب الدولية، وبعد سرد كل هذه الوقائع والمعطيات، وبالنظر للمؤهلات الكبرى لبلدنا، فمن حقنا أن نرفع السقف عاليا، ونحلم بمجاراة كبريات الدول، ونلتحق بمصاف الدول الرائدة في تدبير المنازعات التجارية الدولية، إما عبر التقاضي أو الوساطة أو التحكيم، فالمغرب قد اعتمد تجربة المحاكم التجارية منذ وقت ليس باليسير، ويتوفر على موارد بشرية مهمة من قضاة وموظفين ومحامين وخبراء متخصصين في القانون التجاري، وسبق لقطاع العدالة بمكوناته كافة أن انخرط في برامج تعاون دولية متعددة في الميدان التجاري، كما يتوفر على مؤسسات كفؤة تستطيع رفع التحدي، وبتظافر الجهود والتنسيق والتعاون مع باقي القطاعات والمؤسسات الوطنية والدولية، مع مراعاة الخصوصيات الوطنية والاستفادة من الموارد المعرفية والتدبيرية التي راكمناها عبر السنين، نستطيع رسم معالم منظومة عدالة شاملة وفعالة وناجعة وعادلة، تبوؤنا المراتب الأولى في التصنيفات الدولية، وتختصر الوقت والتكلفة والجهد المبذول أمام المحاكم الوطنية، وتوفر البديل أمام المستثمرين الدوليين وتمنحهم إمكانية الاختيار بين التقاضي أو التحكيم أو الوساطة واللجوء لمؤسسة وطنية تضاهي المؤسسات الدولية في جودة خدماتها.









