في الواجهةمقالات قانونية

الحجر الصحي وتأثيره على الالتزامات التعاقدية ( في ظل تداعيات فيروس كورونا )

 

بقلم محسين بوعسرية باحث في سلك الدكتوراه بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية الحسن الثاني بالدار البيضاء عين شق ومرشح للتمرين لمزاولة مهنة المحاماة بهيأة الدار البيضاء

 

الحجر الصحي وتأثيره على الالتزامات التعاقدية ( في ظل تداعيات فيروس كورونا )

 

أصبح العالم منذ نهاية القرن العشرين يعرف تغيرات بيئية بسبب التطورات التكنولوجية والصناعية خاصة صناعات الأسلحة الجرثومية التي نتجت عنها تلوثات بيئية سببت في ظهور أمراض غير سارية، ومنذ ذلك الحين نجد عدة أمراض معدية تنتقل من الحيوانات إلى الإنسان أو من أشخاص إلى أشخاص آخرين وتعبر عدوة هذه الأمراض البيئية بقاع العالم، كفيروس سارس الذي ظهر سنة 2002 بالصين، وفيروس إنفلونزا الطيور “إتش 5 إن 1″، وفيروس انفلونزا الخنازير “إتش 1 إن 1″الذي ظهر سنة 2009 بالمكسيك، ثم بعد ذلك ظهر فيروس ايبولا سنة 2013 بغينيا، وشلل الأطفال سنة2014، وفيروس زيكا في سنة 2015 بالبرازيل، فيروس كورونا المستجدcovid19″  ” سنة 2020 بالصين لينتشر في مختلف قارات العالم.

إن هذه الامراض أصبحت تشكل تحديا كبيرا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية بمختلف البلدان، وتتضرر منها البلدان النامية خاصة ذات الدخل المحدود أو البسيط. لذلك أن الوقاية والسيطرة على مثل هذه الأمراض، ليس بالأمر السهل، بل يتطلب تفعيل إجراءات الحجر الصحي العام والعالمي للحد من انتشار هذه الأوبئة الخطيرة على البشرية جمعاء.

وفي هذا الصدد أعلنت منظمة الصحة العالمية يوم الخميس 30 يناير 2020 على أن تفشي فيروس كورونا الذي ظهر في الصين وانتشر في العديد من مناطق العالم يشكل “حالة طوارئ ذات بعد دولي”، بعدما قتل 170 شخصا في الصين وانتقل إلى 18 دولة أصبح حالة طوارئ صحية عالمية.

وأوصت في ذات السياق دول العالم الأخذ بالإجراءات اللازمة لكبح جماح عدوى هذا الوباء اللعين من خلال تكثيف إجراءات الرصد والتأهب والاحتواء.

وعلى إثر ذلك بدأت الكثير من الدول تطبق الحجر الصحي الذي أصبح يأخذ أشكالا متعددة كتدبير استثنائي من بينها الحجر الوطني المتمثل في إغلاق الحدود كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتونس والجزائر وإيران والسعودية والمغرب(…)، في حين قررت بعض الدول الحجر المنزلي أو ما يمكن تسميته بالحجر الصحي العام  على مواطنيها كالصين وإيطاليا اللتين اغلقتا  جميع المرافق باستثناء الصيدليات ومحلات بيع الاغدية أو حظر التجول كإسبانيا.

إن اتخاذ مثل هذه التدابير الاحترازية تأهبا لخطورة الفيروس العابر للقارات كل هذه الإجراءات لها تأثيرات على التوازنات الاقتصادية لكبريات البورصات في العالم ولها تبعات قانونية على الالتزامات التعاقدية الوطنية والدولية الشيء الذي يضعنا أمام إشكالات قانونية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية، تتمثل في التبعات القانونية للحجر الصحي كإجراء قانوني ووقائي من فيروس كورونا المستجد على الالتزامات التعاقدية، الأمر الذي يفرض علينا الكشف عن الاشكالات التي يمكن تصورها في هذه الحالة داخل المحاور التالية.

المحور الأول: الأساس القانوني للحجر الصحي في التشريع المغربي

فرضت حكومات الدول مجموعة من الإجراءات الصارمة لمقاومة تفشي فيروس كورونا، وذلك بعد ارتفاع حالات الإصابة والوفيات بالفيروس في الأيام والساعات الأخيرة بشكل متسارع، للحد من حركة مواطنيها، بهدف احتواء الوباء الأمر الذي عرض آلاف الأشخاص حول العالم للحجر الصحي، لذلك أعلن المغرب يوم الاثنين 16 مارس 2020 حجرا صحيا  شبه عام حيث تم إغلاق مؤسسات التعليم والمقاهي والحمامات(… )، إن هذه الأزمة ليست الأولى من نوعها في تاريخ البشرية، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث، مبادئ الحجر الصحي، بأوضح بيان ، فمنع الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون ، ومنع كذلك أهل تلك البلدة الخروج منها، بل جعل ذلك كالفرار من الزحف الذي هو من كبائر الذنوب، وجعل للصابر فيها أجر الشهيد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اذا سمعتم الطعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وانتم فيها فلا تخرج منها)) .(رواه البخاري)

إن ظهور مصطلح الحجر الصحي ككلمة وممارسة لها تاريخ مظلم ومعقد يعود إلى العصور الوسطى، فكلمة “الحجر الصحي” نفسها مشتقة من اللغة الفرنسية “quarantaine” ” والتي تعني “حوالى 40″، واستخدمت الكلمة للمرة الأولى بالإنجليزية سنة 1617 في إشارة إلى 40 يوم إثر احتجاز سفينة إيطالية كان يشتبه فيها أنها تحمل مرضا معديا بعيدا عن الشاطئ.

وفي هذا الصدد يعتبر احتواء انتشار فيروس كورونا أهم هدف -تقريبا- اليوم للدول بصفة والدولة المغربية على وجه الخصوص، لكن فرض تطبيق الإجراءات الوقائية التي تقرها الحكومة من استشفاء وجوبي أو عزل وقائي أو حجر صحي يستوجب سندا قانونيا يقر جانبا ردعيا للمخالفين لكل الإجراءات التي تعلن عنها الحكومة المغربية.

فبالرجوع إلى التشريع المغربي نجد السند القانوني للحجر الصحي كإجراء قانوني وقائي في الظهير الشريف الصادر في فاتح ربيع الأول 1332 (28 يناير 1914) القاضي بوجوب التصريح بالأمراض المعدية أو الوبائية حسبما وقع تغييره أو تتميمه والظهير الشريف الصادر في 3 ذي الحجة 1356 (4 فبراير 1938) المتعلق بتحرير بيان الحالة والنشرة الشهرية للأخبار الإحصائية والديموغرافية والصحية بالمنطقة السابقة للحماية الإسبانية، ثم بعد ذلك ظهر مصطلح الحجر الصحي من جديد كمصطلح قانوني سنة 1967، في الفصل الأول من المرسوم الملكي المعتبر بمثابة قانون والمنشور بالجريدة الرسمية تحت عدد 2853 المتعلق بوجوب التصريح ببعض الأمراض واتخاذ تدابير وقائية للقضاء على هذه الأمراض. جاء في هذا الفصل “إن حالات الأمراض الجاري عليها الحجر الصحي والأمراض ذات الصبغة الاجتماعية والأمراض المعدية أو الوبائية الموضوعة قائمتها بقرار لوزير الصحة العمومية، يجب التصريح بها على الفور من طرف أصحاب المهن الطبية الذين أثبتوا وجودها إلى كل من السلطة الإدارية المحلية والسلطة الطبية للعمالة أو الإقليم.

ويتعين أيضا على أصحاب المهن الشبيهة بالطبية المأذون لهم قانونيا في مزاولة المهنة كلما ارتابوا في وجود حالة من حالات الأمراض المذكورة أن يصرحوا بها فورا إلى السلطة الطبية للعمالة أو الإقليم التي تعمل على التأكد من هذه الحالة بواسطة أحد الأطباء”.

ثم نص في الفصل 3 من هذا القانون على آليات الوقاية التي يجب على السلطات الإدارية أن تقوم بها من خلال تطهير الأماكن المسكونة والأثاث المستعملة من طرف كل شخص مصاب ببعض الأمراض المشار إليها في الفصل الأول والموضوعة قائمتها بقرار لوزير الصحة العمومية أو على إبادة الحشرات في الأماكن والأثاث المذكورة.

إضافة إلى ذلك نص في الفصل 4 على اتخاذ التدابير المستعجلة في حالة وجود خطر جسيم على الصحة العمومية يستوجب على الطبيب الرئيس للإقليم أو العمالة الموكولة إليه مهمة تقدير درجة خطورة الحالة واستعجالها يؤهل للآمر بأن يدخل إلى المستشفى حتما كل شخص مصاب بأحد الأمراض المنصوص عليها في الفصل الأول أو كل شخص قابل لنشر هذا المرض.

يتين لنا أن المشرع المغربي من خلال هذا المرسوم لم يعط تعريفا للحجر الصحي بل اكتفى فقط بذكر الحالات التي يجري عليها الحجر الصحي. ولذلك يمكن تعريف الحجر الصحي، أنه  تدبير صحي استثنائي يرمي إلى المحافظة على الصحة العمومية والعالمية بموجبه يتم منع الأشخاص من دخول المناطق التي انتشر فيها الوباء، والاختلاط بأهلها ، وكذلك يمنع أهل تلك المناطق الخروج منها ، سواء كان الشخص مصابا بهذا الوباء أم لا.

وقد يأخذ هذا الوباء فترة حضانة بالنسبة للأشخاص المصابين به، خلال الفترة التي تسبق ظهور أعراضه وقد تكون هذه الفترة طويلة أو قصيرة الأمد  حسب نوع الفيروس، فمثلا حضانة هذا الفيروس أي covid19  هي 14 يوما وفي هذه الفترة لا يبدو على الشخص أنه يعاني من أي مرض، ويخضع خلالها الشخص  لمراقبة طويلة أو قصيرة تسمح باكتشاف الإصابة المرضية المعدية وتقييم الوضع الصحي العام للشخص بدقة، ومنع انتقال واحد أو أكثر من مسببات العدوى.

أما  فيما يخص العقوبات التي تترتب عن مخالفة الحجر الصحي وكل الإجراءات والتدابير المتخذة بشأنه (..)، نجد المشرع المغربي نص على عقوبة حبسية في الفصل 6 من هذا القانون ؛ “يعاقب كل من خالف إجراءات وتدابير الحجر الصحي المتخذة من طرف السلطات العمومية بعقوبة سجنية تتراوح مدتها ما بين ستة أيام وشهرين وغرامة يتراوح قدرها ما بين 40 درهما و2.400 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط”.

تم صادق مجلس الحكومة، اليوم الأحد، على مشروع مرسوم بقانون رقم 2.20.292 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، أن هذا المشروع يشكل السند القانوني للسلطات العمومية من أجل اتخاذ كافة التدابير المناسبة والملائمة وكذا الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية بأي جهة أو عمالة أو إقليم أو جماعة أو أكثر، أو بمجموع أرجاء التراب الوطني عند الاقتضاء، كلما كانت حياة الأشخاص وسلامتهم مهددة من جراء انتشار أمراض معدية أو وبائية، واقتضت الضرورة اتخاذ تدابير استعجالية لحمايتهم من هذه الأمراض، والحد من انتشارها، تفاديا للأخطار التي يمكن أن تنتج عنها.

كما يشكل هذا المشروع، السند القانوني للسلطات العمومية لاتخاذ جميع التدابير اللازمة التي تقتضيها هذه الحالة، خلال الفترة المحددة لذلك، بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية، أو بواسطة مناشير وبلاغات، من أجل التدخل الفوري والعاجل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض، وتعبئة جميع الوسائل المتاحة لحماية حياة الأشخاص وضمان سلامتهم.

تم نص على عقوبة حبسية، على كل شخص يخالف الأوامر والقرارات الصادرة عن السلطات العمومية بهذا الشأن بالحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر وبغرامة تتراوح بين 300 و1300 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين، وذلك دون الإخلال بالعقوبة الجنائية الأشد.

وفي مقابل ذلك نص على أن هذه التدابير المتخذة لا تحول دون ضمان استمرارية المرافق العمومية الحيوية، وتأمين الخدمات التي تقدمها للمرتفقين.

من جهة أخرى، يخول هذا المشروع للحكومة، إذا اقتضت الضرورة القصوى ذلك، أن تتخذ، بصفة استثنائية، أي إجراء ذي طابع اقتصادي أو مالي أو اجتماعي أو بيئي يكتسي صبغة الاستعجال، والذي من شأنه الإسهام، بكيفية مباشرة، في مواجهة الآثار السلبية المترتبة على إعلان حالة الطوارئ.

 

 

المحور الثاني: موقف التشريعات الوطنية والدولية من الحجر الصحي كآثار ناتج عن فيروس كورونا  على الالتزامات التعاقدية

إن تفشي بعض الأمراض والأوبئة كفيروس كورونا الوباء اللعين الذي ينتشر كالنار في الهشيم عبر بقاع العالم له آثار وخيمة على العقود بصفة عامة وبصفة خاصة على العقود التجارية الدولية في الدول المتضررة من انتشار هذا الوباء الخطير غير المتوقع أثناء المفاوضات التعاقدية، سوف يؤدي إلى إرهاق المدينين عند تنفيذ التزاماتهم، أو قد سيؤدي إلى استحالة تنفيذ التزاماتهم بالمرة.

وفي هذا الصدد أعلنت هيئة تنمية التجارية الدولية الصينية خلافا لمنظمة الصحة العالمية حالة القوة القاهرة للشركات الدولية التي تكافح من أجل البقاء والتأقلم مع تأثيرات عدوى فيروس كورونا، إنها ستمنح لهم شهادات «القوة القاهرة» مقبولة ومعترف بها دوليا. وبالتالي إن الشركات التي ستسطيع تقديم مستندات موثقة لإثبات التأخير أو تعطل وسائل المواصلات، وعقود التصدير، وإعلانات الجمارك، ستحصل على شهادات  القوة القاهرة التي تمكن أطراف الالتزامات التعاقدية التحلل أو الابراء من مسؤولياتهم التعاقدية التي يصعب الوفاء بها بسبب ظروف استثنائية تخرج عن نطاق سيطرتهم.

كما حث على ذلك وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير، يوم 28 فبراير 2020 بعد الاجتماع الذي عقده مع الشركاء الاقتصادين أن فيروس كورونا يعد قوة قاهرة بالنسبة للمقاولات، ولن يتم تطبيق الغرامات عن التأخير في التنفيذ على الشركات المرتبطة بعقود مع الدولة الفرنسية، علاوة على ذلك حث هؤلاء الشركاء على أنه يمكن اللجوء إلى الخدمات الجزئية وإعطاء مهلة الميسرة لأداء الواجبات الضريبية والاجتماعية للمقاولات التي يمكن أن تتضرر من الآثار السلبية لوباء فيروس كورونا.

وفي هذا الإطار نلاحظ أنه رغم إعلان منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ الصحية العالمية واوصت بنشر توصيات في هذا الشأن نجد أن هيئة  تنمية التجارة الدولية الصينة ووزير الاقتصاد والمالية الفرنسي يتبنيان نظرية القوة القاهرة، الأمر الذي يجعلنا أمام إشكالية قانونية قديمة متجددة هل نحن أمام نظرية القوة قاهرة أم أمام نظرية الظروف الطارئة أم أمام هذه وذاك؟

بالنظر إلى التشريعات الوطنية والدولية، نجد بعض التشريعات الوطنية تأخذ بنظرية الظروف الطارئة وأخرى التزمت الصمت واكتفت بالاعتماد على نظرية القوة القاهرة. وهكذا بالرجوع إلى التشريع المغربي والفرنسي نجد ليس هناك قاعدة محددة توفر حماية للطرف المدين عندما تصبح التزاماته مكلفة للغاية نتيجة لظروف طارئة غير متوقعة، بحيث أن مبدأ العقد شريعة المتعاقدين المنصوص عليه في الفصل230 من ظ.  ل .ع المغربي، والمادة 1134 من القانون المدني الفرنسي هو الأساس، والقوة القاهرة هي الاستثناء الوحيد من ذلك، فعرف هذه الأخيرة وحدد شروطها في الفصل  الفصل 269 من ظ.ل.ع كالآتي:

“القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه، كالظواهر الطبيعية، (الفيضان والجفاف والعواصف والحرائق والجراد)، وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا”. فهي إذن كل حادث لم يكن بالإمكان توقعه ويستحيل دفعه مما يجعل تنفيذ العقد مستحيلا.

أما فيما يخص التشريع الدولي نجد أن نظرية القوة القاهرة حظيت باهتمام عدة اتفاقيات دولية فاعلة في مجال التجارة الدولية كاتفاقية الجات GATT  الموقعة بمدينة مراكش سنة 1994 في المادة 15 المتعلقة بالتزامات الأعضاء المستخدمين في مجال الاتفاق بشأن الفحص قبل الشحن كونها “إكراه أو إجبار لا يقاوم وغير متوقع خلال عملية الفحص يعفي من تنفيذ الالتزام” كما تنص المادة 7 من نفس الاتفاقية بخصوص الأثر المعفي من المسؤولية والأثر التبريري للعمل الذي يقوم به المدين أنه “لا يحدث إزاحة أو إعاقة تؤدي إلى إضرار خطير بمقتضى الفقرة 3 عندما توجد الظروف التالية خلال الفترة ذات الصلة:

….

….

وقوع كوارث طبيعية أو اضطرابات أو توقف النقل أو قوة قاهرة أخرى تؤثر بصورة كبيرة على إنتاج المنتجات المتاحة للتصدير من العضو الشاكي أو على كميتها أو نوعيتها أو أسعارها”.

وفي هذا الإطار نلاحظ أن هذه المادة من بين الأمثلة التي ضربتها في فقرتها الثالثة نجد الكوارث الطبيعية والقوة القاهرة  للتبرير والاعفاء من المسؤولية العقدية، لأن حرف أو الوارد في هذه الفقرة يفيد التوقع بين القوة القاهرة كواقعة مادية مستقلة بذاتها والكوارث الطبيعية كوقائع مادية مستقلة هي الأخرى بذاتها، وبالتالي يمكن القول أن واضعي هذه الاتفاقية كانوا يتوقعون أن الكوارث الطبيعية قد لا ترقى إلى مثابة القوى القاهرة بل قد تكون من قبيل الظروف الطارئة التي يمكن أن تزول وحينئذ يمكن مواصلة تنفيذ الالتزامات التعاقدية بعد ذلك، عكس المشرع المغربي الذي نرى أنه يعتبر الكوارث الطبيعية حالة من حالات القوة القاهرة ليس إلا.

لإعمال نظرية القوة القاهرة يستوجب توفر مجموعة من الشروط في الواقعة المكونة للقوة القاهرة بحيث لا تترتب آثارها بالنسبة للعقد إلا إذا توفرت هذه الشروط وهي:

أولا: عدم التوقع.

ثانيا: استحالة الدفع.

ثالثا: عدم صدور خطأ من المدين المتمسك بالقوة القاهرة.

أما فيما يخص التشريعات التي أخذت بنظرية الظروف الطارئة فهي كثيرة نجدا، من بينها المشرع البلوني الذي نص في المادة 269 من قاتون الالتزامات على ما يلي ” إذا وجدت حوادث استثنائية كحرب أو وباء أو هلاك المحصول هلاكا كليا أو غير ذلك من النوازل الطبيعية فأصبح تنفيذ الالتزام محاطا بصعوبات شديدة أو صار يهدد أحد المتعاقدين بخسارة فادحة لم يكن المتعاقدان يستطيعان توقعها وقت إبرام العقد جاز للمحكمة إذا رأت ضرورة لذلك تطبيقا لمبادئ حسن النية وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن تعين طريقة لتنفيذ الالتزام أو أن تحدد مقداره أو أن تقضي بفسخ العقد”.

علاوة على ذلك نجد المادة 1467 من القانون المدني الإيطالي نصت على ما يلي “… في العقود ذات التطبيق المستمر أو التنفيذ الدوري المؤجل إذا أصبح التزام أحد المتعاقدين مرهقا إثر ظروف استثنائية جاز للمتعاقد المدين بهذا الالتزام أن يطلب فسخ العقد وللمتعاقد الآخر أن يدرأ الفسخ بأن يعرف تعديلا لشروط العقد بما يتفق مع العدالة”.

بينما نص عليها المشرع الجزائري  في المادة 3/107  من القانون المدني التي  جاء فيها، “غير أنه إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها و ترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي،  وإن لم يصبح مستحيلا، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعا للظر وفي شروط العقد وبعد مراعاة لمصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك”.

ثم تناولها المشرع المصري في المادة 147من القانون المدني الصادر عام 1948، والمشرع العراقي بموجب المادة 146 من القانون المدني رقم 40 لسنة.

نلاحظ أن هذه التشريعات رغم أخذها بنظرية الظروف الطارئة لم تقم بتعريفها بل اكتفت فقط بتحديد شروطها  لكن عرفها الفقه على أنها ” هي كل حادث عام لاحق على تكوين العقد، وغير متوقع الحصول أثناء التعاقد، ينجم عنه اختلال بين المنافع المتولدة عن عقد يتراخى تنفيذه إلى أجل أو آجال، بحيث يصبح تنفيذ المدين لالتزامه كما أوجبه العقد يرهقه إرهاقا شديدا ويتهدده بخسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف”.

و يشترط لإعمال نظرية الظروف الطارئة شأنها في ذلك شأن نظرية القوة القاهرة، توفر مجموعة من الشروط في الواقعة المكونة لنظرية الظروف الطارئة، ونستنتج هذه الشروط من أحكام التشريعات المشار إليها أعلاه، فيجب توافر الشروط التالية:

أولا: وجود التزام عقدي متراخي التنفيذ

ثانيا: وجود ظروف خارجية استثنائية غير متوقعة أثناء نشوء العقد (كفعل السلطة مثلا)

ثالثا: أن يكون الحادث عاما، (بمعنى أنه يشمل بآثاره طائفة من الناس أو أكثر كأهل البلد أو سكان إقليم معين أو جهة من جهات بلد ما أو دولة برمتها أو عدة دول… وليس خاص بالمدين أو الملزم (كالحجر الصحي النتاج covid1 مثلا).

رابعا: أن يؤدي الظرف الطارئ إلى جعل تنفيذ التزام أحد المتعاقدين مرهقا وليس مستحيلا.

 

وعلى غرار هذه التشريعات الوطنية والدولية التي سبق بيانها، تطلعنا اتفاقية فيينا المتعلقة بالعقود التجارية لسنة 1980 بمصطلح جديد فيما يخص الإعفاءات من المسؤولية  Exonérations de responsabilité في مادتها 79 التي نصت في فقرتها الأولى على أنه: “لا يسأل أحد الطرفين عن عدم تنفيذ أي من التزاماته إذا أثبت أن عدم التنفيذ كان بسبب عائق يعود إلى ظروف خارجة عن إرادته، وأنه لم يكن من المتوقع بصورة معقولة أن يأخذ العائق في الاعتبار وقت انعقاد العقد أو أن يكون بإمكانه تجنبه أو تجنب عواقبه أو التغلب عليه أو على عواقبه”.

كما نصت الفقرة الثانية من ذات المادة بأنه: “إذا كان عدم تنفيذ أحد  الطرفين نتيجة لعدم تنفيذ الغير الذي عهد إليه بتنفيذ العقد كلا أو جزءا فإن الطرف لا يعفى من التبعة إلا إذا:

أ- أعفي منها بموجب الفقرة السابقة.

ب- كان الغير سيعفى من المسؤولية فيما لو طبقت عليه أحكام الفقرة المذكورة”.

وهكذا يتبين لنا من فحوى هذه المادة لم تعط تعريفا للعائق بل اقتصرت فقط على تحديد شروطه الواجب توافرها للإعفاء من المسؤولية العقدية. فلذلك إذا كان العائق مؤقتا فإن الإعفاء من الالتزامات التعاقدية لا يسري إلا في المدة التي يبقى فيها العائق قائما، فيلتزم بعدها المتعاقد بالاستمرار في التنفيذ بمجرد زواله، أما إذا كان العائق دائما يؤدي إلى عدم التنفيذ الكلي للالتزام فإن المتعاقد الآخر لا يكون أمامه إلا إعلان فسخ العقد لأن شرط الاستحالة أصبح قائما.

علاوة على ذلك نرى أن مصطلح العائق  empêchent  الوارد في هذه المادة يبدو لنا قريب إلى حد كبير لمرامي نظرية الظروف الطارئة، على اعتبار أن العوائق والصعوبات غالبا ما ترتفع عند زوال الظرف الطارئ وليست مستحيلة، فمثلا الحجر الصحي لا محالة أنه سيزول بزوال فيروس كورونا. وبالتالي يمكن القول أن هذه الاتفاقية أخذت بنظرية القوة القاهرة من خلال الفقرة الأولى من المادة 79 التي نستشف من خلالها عدم التوقع واستحالة التنفيذ كشرطين أساسيين لقيام قوة قاهرة، في مقابل ذلك نلامس نظرية الظروف الطارئة من خلال الفقرة الثانية التي من خلالها يمكن اللجوء إلى مفاوضة العقد وملاءمة الشروط وفق الظروف الطارئة وهذه المكنة توجد في نظرية الظروف الطارئة.

إن انتشار وباء فيروس كورونا كواقعة مادية قد يكون ظروف طارئة كلما أصبح أحد المتعاقدين مرهقا عند تنفيذ التزاماته بسبب إجراءات الحجر الصحي الناتج عن تفشي هذا الفيروس الذي حدث بعد إبرام العقود خاصة العقود المتراخية التنفيذ بسبب طبيعتها كعقود (التوريد والتعهدات والمقاولات وعقود الصفقات العمومية وعقود العمل…)، وباعتبار هذا الفيروس من الظروف الخارجية التي لا يمكن توقعها من جانب المدين أن تحدث تغييرات غير عادية ستغير موازين العقود، أي ستؤدي إلى اختلالات فادحة في التوازن المالي والاقتصادي في عقود الصفقات ولم يتمكن طرفي العقد من تدارك آثارها التي ستغير الأوضاع والتكاليف والأسعار، تغييرا كبيرا، يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة، من تقلبات الأسعار التجارية في ظل هذا الحجر الصحي، فإنه يتولد عنه للمتعاقد المتضرر الحق في أن يطلب من القضاء تعديل شروط العقد عند التنازع خاصة إذا كان العقد من العقود الزمنية، كما يجوز له أن يطلب فسخ العقد، أو اللجوء إلى المفاوضات التعاقدية من جديد والخروج بتوازن عقدي جديد يراعي واقع الظروف الطارئة مادام أن هناك إمكانية زوال الإرهاق عندما ترتفع تلك الظروف الطارئة هذا فيما يخص العقود التي يمكن تنفيذها بعد مغادرة الجائحة أو طلب مهلة استرحامية(الامهال القضائي/ فترة الميسرة)، هذا فيما يخص العقود المتعلقة بالكراء أو بالنسبة  للحالات التي يكون فيها سند الدين محددا من حيث تاريخ الأداء والاستحقاق، وحان وقت تسديده في ظل هذه الظروف العصيبة يمكن للمدين أن يلجأ للمحكمة ومطالبتها بمنحه آجالا استرحامية طبقا للفصل 243  من ظ. ل .ع المغربي الذي نص في فقرته الثانية”… ومع ذلك يسوغ للقضاة مراعاة منهم لمركز المدين ومع استعمال هذه السلطة في نطاق ضيق أن يمنحوه آجالا معتدلة للوفاء وأن يوقفوا إجراءات المطالبة مع إبقاء الأشياء على حالاها.”

إضافة إلى ذلك نجد المادة 149 من قانون حماية المستهلك رقم 31.08 ، تقضي بذلك بحيث  تنصت على أنه” … ، يمكن و لاسيما في حالة الفصل عن العمل أو حالة اجتماعية غير متوقعة أن يوقف تنفيذ التزامات المدين بأمر من رئيس المحكمة المختصة .

و يمكن أن يقرر في الأمر على أن المبالغ المستحقة لا تترتب عليها أي فائدة طيلة مدة المهلة القضائية.

يجوز للقاضي ، علاوة على ذلك أن يحدد في الأمر الصادر عنه كيفيات أداء المبالغ المستحقة عند انتهاء أجل وقف التنفيذ، دون أن تتجاوز الدفعة الأخيرة الأجل الأصلي المقرر لتسديد القرض بأكثر من سنتين. غير أن له أن يؤجل البت في كيفيات التسديد المذكورة إلى حين انتهاء أجل وقف التنفيذ “.

وهكذا سيستفيدون المدينين من الامهال القضائي، والتالي يجب على كل المدينين للأبناك والمؤسسات التمويلية وغيرها والمتأثرين بإجراءات الحجر الصحي الناتج عن تفشي فيروس كورونا مثلا أن يطالب بوقف أداء الأقساط التي يؤدونها للأبناك أو المؤسسات التمويلية(..)، من خلال سلوك مسطرة وقف أداء الأقساط البنكية (الامهال القضائي) في هذه الحالة الاجتماعية الصعبة غير المتوقعة ، كالفصل من العمل، أو التوقف مؤقتا عن العمل، الناتج عن الحجر الصحي بسبب فيروس كورونا يشكل ظرفا طارئا في بعض الحالات و قاهرا في حالات أخرى، يحول دون إكمال أداء الأقساط من طرف المدين البنكي، و تقدير هذه الأمور بطبيعة الحال يرجع إلى رئيس المحكمة وفق سلطته التقديرية .

لكن فيما يخص المقاولات ذات المناعة الاقتصادية الهشة أو الضعيفة التي ستضطر اللجوء إلى مسطرة الإغلاق لأسباب اقتصادية ناتجة عن الحجر الصحي كاثر من آثار فيروس كورونا المستجد، ففي هذه الحالة يجب تطبيق مقتضيات الكتاب الخامس من مدونة التجارة المتعلق بنظام صعوبات المقاولة، أما إذا لجأت إلى مسطرة تسريح العمال، ففي هذه الحالة من وجهة نظرنا المتواضعة يجب تطبيق نظرية الظروف الطارئة مادام أن القرار القاضي بإلاغلاق وهو قرار من فعل السلطة الإدارية التي يمثلها وزير الداخلية وباعتبار وزارته وحدة من وحدات الحكومة ككل، مخول لها الحفاظ على الأمن الصحي العام بالتنسيق مع وزارة الصحة ومختلف مكونات الحكومة، إضافة إلى ذلك أن قرار التوقف عن ممارسة الأنشطة والعمل، يبقى قرار متوقع زواله في أية لحظة ولن يدوم طويلا لأن فعل  السلطة غالبا ما يتخذ في اللحظات الحريجة على البلاد والتي تكون بطبيعتها قابلة  للتجاوز والزوال.

وفي هذا المضمار أن وباء فيروس كورونا شبيه بالحرب من خلال الإجراءات الاحترازية والتدابير اللازمة التي تتخذها الحكومة من أجل كبح جماحه المتمثلة بالأساس في الحجر الصحي (كأثر سلبي على الأنشطة الاقتصادية)، التي جعلت تنفيذ العقد مرهقا بالنسبة للمشغل والأجير على حد سواء، رغم بإمكانهما تنفيذه ماديا أو  واقعيا وليس مستحيل تنفيذه، وبالتالي يمكن مواصلة تنفيذه عند زوال المنع الإداري المؤقت المتمثل في فعل السلطة وإن كان المشرع المغربي يعتبره  من قبيل القوة القاهرة، لأن هذا المنع في اعتقادنا ليس ناتجا عن نشاط المقاولة بل ناتجا عن النظام الصحي العام، وبالتالي في حالة ما إذا لجأت المقاولة إلى تسريح العمال يجب أن يكون هذا الأخير بالتناوب ضمانا لاستمرارية المقاولة والحفاظ على مصالح الأجراء وإن  كانت هذه الإمكانية غير واردة في مدونة الشغل لأن مبادئ العدالة والانصاف يقتضيان ذلك وبالتالي نكونوا أمام مقاولة مواطنة تخدم مصلحة الصالح العام.

لأن تدخل مثل هذه  الأحداث الاستثنائية غير المتوقعة لحظة إبرام عقود الشغل بصفة عامة (باستثناء عقود الشغل الإدارية التي يجب تطبيق  بخصوصها نظرية فعل الأمير التي تجد مكانها في حالات فعل السلطة) مثل الحجر الصحي الناتج عن وباء فيروس كورونا، والذي نجمت عنه مجموعة من القرارات الإجرائية والاحترازية اللازمة لتدبير مخاطر الوباء والقاضية بتعليق العمل الحر في بعض القطاعات كحجر صحي وقائي عام، تجعل تنفيذ العقد صعبا وأشد إرهاقا أكثر مما كان يتوقعه الأطراف دون أن يجعل تنفيذ العقد مستحيلا، لذلك يجب على الإدارة (الدولة طبقا للفصل 40 من الدستور المغربي )أن تعوض المتعاقد تعويضا جزئيا نتيجة للظروف الطارئة بغية تمكينه من مواصلة تنفيذ العقد دون توقف هذا بالنسبة للأجراء غير المسجلين في الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات anapec أو مسجلين فيها ولم تتوفر فيهم الشروط المنصوص عليها في القانون رقم 03.14 المتعلق بالتعويض عن فقدان الشغل، أما الأجراء المسجلين وتتوفر فيهم شروط التعويض عن فقدان الشغل فسيحصلون على التعويض من طرف مؤسسة الصندوق الوطني للضمان  الاجتماعي cnss  بعد استفتاء الإجراءات الإدارية اللازمة التي يشترطها هذا القانون.

أما فيما يخص المقاولات المعنية بالقرار الإداري كوحدة اقتصادية  فيجب على الحكومة أن تمنحها امتيازات كالإعفاء  الضريبي ومنح القروض بدون فوائد حتى يتسنى لها استرجاع عافيتها(..).

أما إذا نتج عن هذا الحجر الصحي استحالة تنفيذ العقد بالمرة ففي هذه الحالة نكونوا أمام قوة قاهرة  شرطية توفر شرطين أساسيين شرط عدم التوقع عند إبرام العقد وشرط الاستحالة عند حلول أجل تنفيذه، وبالتالي ينفسخ(الانفساخ) العقد من تلقاء نفسه.

صفوة القول نرى أن كلا النظريتين يجدان مكانا لتطبيقهما في القضايا التي ستتأثر بالحجر الصحي، بحسب كل حالة تعاقدية على حدة، لأن الحجر الصحي كآثار ناتج عن وباء فيروس كورونا ستختلف من عقد لآخر ومن بضاعة لأخرى. فلذلك يمكن تطبيق نظرية الظروف الطارئة كلما كانت العقود مرهقة التنفيذ للمدينين أثناء تنفيذ التزاماتهم، إذا ما توفرت ثلاث شروط  أساسية أولا وجود ظروف خارجية استثنائية غير متوقعة أثناء نشوء العقد، ثانيا أن  يكون الحادث عاما، ثالثا أن يكون التنفيذ مرهقا وغير مستحيل. كذلك يمكن تطبيق نظرية القوة القاهرة اذا ما توفرت لها شرطين أساسيين أولا  عدم التوقع وثانيا استحالة التنفيذ بشكل مطلق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى