في الواجهةمقالات قانونية

الحجر الصحي و أثره على العلاقات التعاقدية –دراسة مقارنة – مغبر أسماء

 

 

 

الحجر الصحي و أثره على العلاقات التعاقدية –دراسة مقارنة –

 بقلم : مغبر أسماء

باحثة في القانون الخاص

متحصلة على شهادة ماستر في قانون العقود

 

 

تمهيد :

أصبح العالم منذ نهاية القرن العشرين يعرف تغيرات بيئية بسبب التطورات التكنولوجية والصناعية خاصة صناعات الأسلحة الجرثومية التي نتجت عنها تلوثات بيئية سببت في ظهور أمراض غير سارية  ومنذ ذلك الحين نجد عدة أمراض معدية تنتقل من الحيوانات إلى الإنسان أو من أشخاص إلى أشخاص آخرين وتعبر عدوة هذه الأمراض البيئية بقاع العالم ، كفيروس” سارس ” SARS-CoV-2 الذي ظهر سنة 2002 بالصين ، وفيروس إنفلونزا الطيور “H5N1 ″، وفيروس انفلونزا الخنازير “H1N1″الذي ظهر سنة 2009 بالمكسيك ، ثم بعد ذلك ظهر فيروس إيبولا سنة 2013 بغينيا ، وشلل الأطفال سنة2014 ، وفيروس زيكا في سنة 2015 بالبرازيل ، فيروس كورونا المستجدcovid19″    “سنة 2020 بالصين لينتشر في مختلف قارات العالم.

إن هذه الأمراض أصبحت تشكل تحديا كبيرا للتنمية الإجتماعية و الإقتصادية بمختلف البلدان ، و تتضرر منها البلدان النامية خاصة ذات الدخل المحدود أو البسيط .

لذلك أن الوقاية والسيطرة على مثل هذه الأمراض ، ليس بالأمر السهل ، بل يتطلب تفعيل إجراءات الحجر الصحي العام والعالمي للحد من انتشار هذه الأوبئة الخطيرة على البشرية جمعاء[1].

فلا صوت يعلوا مؤخرا على صوت ” كورونا ” فقد شملت أثاره جميع مفاصل الحياة مما أدى إلى طرح إشكالات قانونية تحتاج إلى معاملات خاصة.

ومن هنا قسمنا بحثنا إلى محورين :

المحور الأول نتحدث فيه عن  ( الأساس القانوني للحجر الصحي ) أما المحور الثاني ( أثر العلاقات التعاقدية في ظل أزمة كورونا )

 

المحور الأول- الأساس القانوني للحجر الصحي

يقتضي منا هذا المحور تحديد مفهوم كلمة ( الحجر الصحي ) ثم تبيان ( أساسها القانوني )

أولا-مفهوم الحجر الصحي

(المَحْجَر الصحي (الكرنتينة أو الكورنتينةQuarantine  بالاتينية هو مكان يُعزل فيه أشخاص ، أو أماكن ، أو حيوانات ، قد تحمل خطر العدوى.

وتتوقف مدة الحجر الصحي على الوقت الضروري لتوفير الحماية ، في مواجهة خطر إنتشار أمراض بعينها ويشير الحجر الصحي في سياق الرعاية الصحية إلى مختلف الإجراءات الطبية المتبعة لإحباط إنتشار العدوى التي قد تنتشر بالمستشفيات[2]

وقد كان أول فرض لعملية حجر عزل وعزل للمرضى في التاريخ كانت استخدمته السلطات في مدينة Dubrovnik الكرواتية عام 1377 ، واستخدم مرة أخرى في مدينة Venise الإيطالية عام 1423 م ، حيث فرض العزل على سفن قادمة من مناطق مختلفة ضربها الطاعون.

ومدة الحجر هي 40 يوما ومنها اشتقت الكلمة الفرنسية للحجر، “كارانتين” نسبة إلى “كارانت” وهو الرقم 40 باللغة الفرنسية.

وأطلق على منشآت الحجر التي تستقبل الطواقم المصابة بالوباء ، اسم ” lazaretto “، وهو مشتق من اسم جزيرة ” Santa Maria Di Nazareth ” (القديسة مريم الناصرية) الواقعة في خليج Venise حيث كانت ترسو تلك السفن. وقد يكون تحويرا لاسم أليعازر المجذوم الوارد في الإنجيل، اعتمدت عمليات الحجر بعد ذلك مرارا في أوروبا، كما في حصل مع انتشار وباء الكوليرا العالمي في ثلاثينات القرن التاسع عشر[3].

وأشار تقارير بعنوان ” من الطاعون إلى فيروس كورونا.. تاريخ طويل من الطوق والحجر الصحى” فأن تعبير “الطوق الصحى” استخدم لأول مرة في فرنسا خلال القرن التاسع عشر، عندما قامت سلطات باريس بإرسال 30 ألف جندى لإغلاق الحدود مع إسبانيا ، بهدف امتداد وباء الحمى الصفراء لكن ، حتى قبل هذا التاريخ ، أنشئت حواجز صحية في بعض الأحيان في مراحل انتشار الطاعون ، كما يذكّر مدير معهد الأمراض المعدية والصحة العامة في جامعة ليفربول Tom Solomon.

ويشير إلى “مثل” العزل الطوعي “الشهير” في عام 1665 لقرية iyam في إنجلترا ، بعد ظهور إصابة بالطاعون ، بهدف تفادي انتقال العدوى إلى باقي المنطقة ، وفي جنوب شرق فرنسا ، رفع “جدار الطاعون” على امتداد 27 كلم في فوكلوز الفرنسية من أجل حماية مقاطعة Vinassan من الوباء الذي كان يفتك حينها بمرسيليا.

يمكن لفرض قيود على الحركة أن تأتي “بنتائج عكسية”، عبر إثارتها الذعر ما يحث العديد من الأشخاص على الفرار مهما كلف الأمر، بحسب Soloman قد تؤدي أيضا إلى اضطرابات اجتماعية خطيرة .

كما حصل في Bombay  الهندية عند انتشار الطاعون أواخر القرن التاسع عشر، بسبب إرغام رجال ونساء على الاستشفاء دون أخذ طبقتهم الاجتماعية بعين الاعتبار، كما يوضح Patrick Zylberman [4].

 

ثانيا : الأسس القانوني للحجر الصحي وفق القانون الجزائري

تفاديا لتفاقم الوباء وضع المشرع الجزائري جملة من القرارات بداية من المرسوم التنفيذي رقم 20-69 المتعلق بتدابير الوقاية من انتشار وباء كورونا (كوفيد 19) ومكافحته ، على ما يلي :

المادة الأولى : يهدف هذا الـمرسوم إلى تحديد تدابير التباعد الاجتماعي الـموجهة للوقاية من انتشار وباء كورونا فيروس –كوفيد19- ومكافحته

ترمي هذه التدابير إلى الحد ، بصفة استثنائية ، من الاحتكاك الجسدي بين المواطنين في الفضاءات العمومية وفي أماكن العمل. يمكن عند الحاجة ، رفع هذه التدابير أو تجديد العمل بها وفق نفس الأشكال.

المادة 2 : تطبق التدابير موضوع هذا الـمرسوم ، على مستوى كافة التراب الوطني لـمدة أربعة عشر (14) يوما. و يمكن ، عند الاقتضاء ، رفع هذه التدابير أو تمديدها حسب نفس الأشك

المادة 3: تعلق نشاطات نقل الأشخاص الآتي ذكرها خلال الفترة الـمذكورة أعلاه

الخدمات الجوية للنقل العمومي للمسافرين على الشبكة الداخلية النقل البري في كل الإتجاهات: الحضري وشبه الحضري بين البلديات بين الولايات نقل المسافرين بالسكك الحديدية النقل الموجه : الـمترو ، الترامواي ، والنقل بالـمصاعد الهوائية النقل الجماعي بسيارات الأجرة يستثنى من هذا الإجراء نشاط نقل الـمستخدمي

المادة 4: دون المساس بأحكام الـمادة 03 أعلاه ، يتولى الوزير المكلف بالنقل ، والوالي الـمختص إقليميا ، كل فيما يخصه ، تنظيم نقل الأشخاص من أجل ضمان استمرارية الخدمة العمومية و الحفاظ على النشاطات الحيوية في:

المصالح الـمستثناة من أحكام المرسوم ، المحددة في المادة 07 أدناه المؤسسات والإدارات العمومية الهيئات الاقتصادية والمصالح الـمالية ومهما يكن، يجب أن يتم تنظيم النقل في ظل التقيد الصارم بمقتضيات الوقاية من انتشار كورونا فيروس – كوفيد 19 -، المقررة من طرف المصالح المختصة للصحة العمومية

المادة 5: تغلق في المدن الكبرى،خلال المدة المذكورة في المادة 02 أعلاه ، محلات بيع المشروبات ، ومؤسسات و فضاءات الترفيه والتسلية والعرض والـمطاعم باستثناء تلك التي تضمن خدمة التوصيل إلى المنازل.

يمكن أن يتم توسيع إجراء الغلق إلى أنشطة ومدن أخرى،بموجب قرار من الوالي الـمختص إقليميا.

المادة 6: يوضع في عطلة استثنائية مدفوعة الأجر، خلال المدة المنصوص عليها في المادة 02 أعلاه، ما لا يقل عن 50% من مستخدمي كل مؤسسة و إدارة عمومية.

المادة 7: يستثني من الإجراء المنصوص عليه في الـمادة 06 أعلاه ، المستخدمون الآتي ذكرهم:

مستخدمو الصحة مهما كانت الجهة المستخدِمة

المستخدمون التابعون للأمن الوطني

المستخدمون التابعون للمديرية العامة للحماية الـمدنية

المستخدمون التابعون للمديرية العامة للجمارك

المستخدمون التابعون للمديرية العامة لإدارة السجون

المستخدمون التابعون للمديرية العامة للمواصلات السلكية واللاسلكية الوطن

مستخدمو مخابر مراقبة الجودة وقمع الغش

المستخدمون التابعون للسلطة البيطرية

المستخدمون التابعون لسلطة الصحة النباتية

المستخدمون المكلفون بمهام النظافة والتطهير

المستخدمون الـمكلفون بمهام المراقبة والحراسة

غير أنه يمكن السلطات المختصة التي يتبعها المستخدمون المستثنون من هذا الإجراء ، أن ترخص بوضع التعدادات الإدارية وكل شخص لا يعد حضوره ضروريا ، في عطلة استثنائية.

كما يمكن أن يستثنى من الإجراء الـمنصوص عليه في المادة 06 أعلاه ، الـمستخدمون اللازمون لاستمرارية الخدمات العمومية الحيوية.

المادة 8 : تمنح الأولوية في العطلة الاستثنائية للنساء الحوامل والنساء الـمتكفلات بتربية أبنائهن الصغار وكذا الأشخاص المصابين بأمراض مزمنة وأولئك الذين يعانون هشاشة طبية.

المادة 9: يمكن أن تتخذ المؤسسات والإدارات العمومية كل إجراء يشجع العمل عن بعد فيظل احترام القوانين والتنظيمات الـمعمول بها.

المادة 10: يمكن للوالي الـمختص إقليميا أن يتخذ كل إجراء في إطار الوقاية من انتشار كورونا فيروس – كوفيد 19 – و مكافحته ، كما يمكن في هذا الإطار تسخير:

الأفراد العاملين في أسلاك الصحة و المخبريين ، التابعة للمؤسسات الصحية والوقائية العامة والخاصة

الأفراد العاملين في أسلاك الأمن الوطني و الحماية المدنية و النظافة العمومية وكل سلك معني بإجراءات الوقاية من الوباء و مكافحته

كل فرد يمكن أن يكون معني بإجراءات الوقاية و المكافحة ضد هذا الوباء بمناسبة مهنته أو خبرته المهنية

كل مرافق الإيواء و المرافق الفندقية أو أي مرافق أخرى عمومية أو خاصة

كل وسائل نقل الأفراد الضرورية عامة كانت أم خاصة ، مهما كانت طبيعتها

أي وسيلة نقل يمكن أن تستعمل للنقل الصحي أو تجهز لهذا الغرض سواءً كانت عامة أو خاصة

يمكن أيضاً للوالي المختص اقليمياً تسخير أي منشأة عمومية أو خاصة لضمان الحد الأدنى من الخدمات العمومية للمواطنين.

الـمادة 11: يدخل هذا الـمرسوم حيز التنفيذ ابتداء من يوم الأحد 22 مارس 2020 على الساعة الواحدة صباحا[5].

يليه مرسوم تنفيذي 20-70 تدابير تكميلية للوقاية من إنتشار وباء فيروس كورونا ، ثم المرسوم التنفيذي رقم 20-72 المتضمن تمديد إجراء الحجر الجزئي المنزلي إلى بعض الولايات[6]  ، المتمثلة لمدة عشرة أيام قابلة للتجديد من الساعة السابعة مساء إلى السابعة من صباح الغد تتضمن ولايات : باتنة ، تيزي وزو ، سطيف ، قسنطينة ، المدية ، وهران ، بومرداس ، الواد ، تيبازة .

وكذا المرسوم التنفيذي رقم 20-86 والمتضمن تمديد إجراء الأحكام المتعلقة بتدابير الوقاية من انتشار وباء فيروس كورونا (كوفيد – 19) ومكافحته[7].

و أيضا المرسوم التنفيذي رقم: 20-92 المؤرخ في:05-04-2020 يعدل و يتمم المرسوم التنفيذي رقم:20-72 المؤرخ في 28-03-2020 المتضمن تمديد الإجراء الحجر الجزئي المنزلي إلى بعض الولايات

وقد وضعت إجراءات جزائية في المقابل ، لرذع مخالفي أحكام بإجراء الحجر الـمنزلي ، يستوجب ذلك تطبيق العقوبات الجزائية المنصوص عليها في القانون ، أي غرامات تتراوح من 3-6 آلاف دينار ضد كل الـمخالفين الذين قد يتعرضون علاوة على الغرامات ، إلى الحبس لـمدة 3 أيام على الأكثر.

وكذا تطبيق العقوبات الإدارية من خلال إجراء حجز السيارات والدراجات النارية الـمستعملة من قبل الأشخاص الذين خالفوا قواعد الحجر الصحي الـمنزلي.

 

المحور الثاني : أثر العلاقات التعاقدية في ظل أزمة كورونا

ما يحدث الآن في ظل انتشار «كورونا» هو ما نسميه القوة القاهرة ، وقد وضع الفقهاء تعريفاً لها ، بأنها:

1 – حادث خارجي لا يمكن توقعه، ولا يمكن دفعه مطلقاً.

2 – يحدث قضاءً وقدراً.

3 – ليس ناتجاً عن خطأ أو إهمال من جانب المتعاقدين.

فكما لفيروس كورونا آثاره الصحية والاجتماعية و السياسية و الإقتصادية ؛ فإن له أثره على العقود الإدارية ، التجارية والمدنية ؛ حيث ستخلق جائحة كورونا على مدى منظور كثيرًا من الإشكالات المتعلقة بالعقود ، والتي يحتاج حلها إلى تفاوض بين أطراف العقد ، أو ربما محكمة مختصة لإنهاء النزاع ؛ فأعراض كورونا ستظهر على العقود [8]

ومن هنا إرتأينا التطرق إلى موقف المشرع الجزائري و التشريعات المقارنة على أثر الإلتزامات التعاقدية  في ظل الوباء ” كورونا ” ، إضافة إلى إبراز رأي القضاء .

أولا – موقف المشرع الجزائري

و كما هو متداول قانونا فإن القاعدة العامة في معظم التشريعات تنص أن ” العقد شريعة المتعاقدين ” فعلى غرار بقية التشريعات المقارنة نجد هذا المبدأ منصوص عليه في المادة 106 التي نصت أن” العقد شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون “ وهذا المبدأ نتيجة لسلطان الارادة

غير أنه إذا طرأت حوادث إستثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها و ترتب على حدوثها أن تنفيذ الإلتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلا ، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعا للظروف و شروط العقد وبعد مراعاة لمصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول ، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك طبقا للمادة 107 من القانون المدني الجزائري.

ما يمكن الإشارة إليه أن المشرع الجزائري لم يفرق بين القوة القاهرة و الظرف الطارئ، وذكرهما مجتمعين في عدة مواد منها : 127 ، 138 ،  178، 640 ، 851 من القانون المدني في حين ذكر الحادث الطارئ أو المفاجئ مستقلا في المواد : 168 ،   568،   843، 954 وذكرهما ضمن حالات السبب الأجنبي في المواد :215 ، 307 ، 336 ، 569  من القانون المدني الجزائري

 

و هو ما يعرف بنظرية الظروف الطارئة وهو إستثناء عن المبدأ العام المنصوص عليه في المادة 106 قانون مدني جزائري[9]

إن تسمية هذه النظرية بهذا الإسم ، فيه الدلالة الكافية على معناها ، حيث تفترض هذه النظرية أن عقدا يتراخى تنفيذه إلى أجال كعقد التوريد ، وعند حلول أجل التنفيذ تكون الظروف الاقتصادية قد تغيرت تغيرا فجائيا لم يكن منظورا وقت إبرام العقد ، فيصبح الوفاء بالالتزامات الناشئة من العقد لا مستحيلا استحالة تامة ينقضي بها الإلتزام كالإستحالة التي تنشأ من القوة القاهرة مثلا ، وإنما يصبح مرهقا للمدين بحيث يؤدي إجباره عليه إلى إفلاسه أو ينزل به على الأقل خسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف ، فما مصير هذا العقد وما ينبغي أن يكون موقف المشرع أو القاضي من هذا المدين الذي أبرم العقد وهو عازم على تنفيذه بأمانة وحسن نية ، إلا أن ظروف باغتته لم تكن في الحسبان طرأت به ، أعاقته عن تنفيذ التزامه وهددته بخسارة فادحة ؟[10]

تقول نظرية الظروف الطارئة بأن الإلتزام لا ينقضي لأن الحادث الطارئ ليس قوة قاهرة ، ولا يبقى هذا الالتزام كما هو لأنه مرهق ، ولكن يرد القاضي الإلتزام إلى الحد المعقول حتى يطيق المدين تنفيذه ، بحيث يطيقه بمشقة ولكن في غير إرهاق ، وهذا بالرغم من تشبث الدائن بالقوة الملزمة للعقد وتمسكه بمطالبة المدين بوفاء التزاماته كاملة ، متجاهلا ما تغير من الظروف وما يلحق بالمدين من خسارة لو أكره على التنفيذ تقضي المادة 107 فقرة 3 قانون مدني جزائري على: « غير أنه إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي ، وإن لم يصبح مستحيلا ، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعا للظروف وبعد مراعاة لمصلحة الطرفين أن يرد الإلتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك » .

وعليه يجوز تعديل العقد إذا طرأت بعد إبرامه حوادث استثنائية لم تكن متوقعة جعلت تنفيذ الالتزام مرهقة على المدين.

وهذه نظرية الظروف الطارئة التي استمدها المشرع الجزائري من الشريعة الإسلامية ولم يأخذ بها القانون الفرنسي ، حيث عمل الفقه الإسلامي بهذه النظرية من قبل أن تعرف في الفقه الغربي بأربعة عشر قرنا ..

فمتى توفرت الشروط الثلاثة المتقدمة كان للقاضي تبعا للظروف وبعد المقارنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الإلتزام المرهق إلى الحد المعقول وله أن يعدل العقد في حدود مهمته العادية وهي التفسير ، كما له أن يختار بين أكثر من وسيلة لهذا التعديل إذ المهم أن يعيد التوازن ، وعليه تتمثل سلطة القاضي وفقا لهذه النظرية في :
– أن يأمر بتنفيذ العقد حتى يزول الحادث إذا كان مؤقتا يرجى زواله طبقا للمادة 281 فقرة 02
– أن ينقص التزام المدين المرهق .
– أن يؤخذ من التزام الدائن بما يؤدي إلى توزيع الخسارة بين الدائن والمدين.
– أن يجمع بين إنقاص الالتزام المرهق ، وزيادة الالتزام المقابل أي أن يوزع الزيادة على عاتق طرفي العقد.

ويلاحظ في هذا المجال أنه ليس للقاضي أن يفسخ العقد.

وهنا يختلف القانون الجزائري عن الشريعة الإسلامية التي تجيز فسخ العقد للضرر، ويعتبر تطبيق نظرية الظروف الطارئة إذا تحققت شروطها من النظام العام ، يقع كل اتفاق على مخالفتها باطلا.

ثانيا : موقف التشريعات المقارنة

فيما يخص التشريعات التي أخذت بنظرية الظروف الطارئة فهي كثيرة نجدا، من بينها المشرع البلوني الذي نص في المادة 269 من قاتون الالتزامات على ما يلي ” إذا وجدت حوادث استثنائية كحرب أو وباء أو هلاك المحصول هلاكا كليا أو غير ذلك من النوازل الطبيعية فأصبح تنفيذ الالتزام محاطا بصعوبات شديدة أو صار يهدد أحد المتعاقدين بخسارة فادحة لم يكن المتعاقدان يستطيعان توقعها وقت إبرام العقد جاز للمحكمة إذا رأت ضرورة لذلك تطبيقا لمبادئ حسن النية وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن تعين طريقة لتنفيذ الالتزام أو أن تحدد مقداره أو أن تقضي بفسخ العقد”.

علاوة على ذلك نجد المادة 1467 من القانون المدني الإيطالي نصت على ما يلي “… في العقود ذات التطبيق المستمر أو التنفيذ الدوري المؤجل إذا أصبح التزام أحد المتعاقدين مرهقا إثر ظروف استثنائية جاز للمتعاقد المدين بهذا الالتزام أن يطلب فسخ العقد وللمتعاقد الآخر أن يدرأ الفسخ بأن يعرف تعديلا لشروط العقد بما يتفق مع العدالة “.

ثم تناولها المشرع المصري في المادة 147 من القانون المدني الصادر عام 1948 ، والمشرع العراقي بموجب المادة 146 من القانون المدني رقم 40 لسنة.

و نلاحظ أن هذه التشريعات رغم أخذها بنظرية الظروف الطارئة لم تقم بتعريفها بل اكتفت فقط بتحديد شروطها  لكن عرفها الفقه على أنها ” هي كل حادث عام لاحق على تكوين العقد، وغير متوقع الحصول أثناء التعاقد، ينجم عنه اختلال بين المنافع المتولدة عن عقد يتراخى تنفيذه إلى أجل أو آجال، بحيث يصبح تنفيذ المدين لالتزامه كما أوجبه العقد يرهقه إرهاقا شديدا ويتهدده بخسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف “.

وعلى غرار التشريع الجزائري و التشريعات المقارنة التي سبق بيانها ، نجد اتفاقية فيينا المتعلقة بالعقود التجارية لسنة 1980 بمصطلح جديد فيما يخص الإعفاءات من المسؤولية  Exonérations de responsabilité في مادتها 79 التي نصت في فقرتها الأولى على أنه:  ” لا يسأل أحد الطرفين عن عدم تنفيذ أي من التزاماته إذا أثبت أن عدم التنفيذ كان بسبب عائق يعود إلى ظروف خارجة عن إرادته، وأنه لم يكن من المتوقع بصورة معقولة أن يأخذ العائق في الاعتبار وقت انعقاد العقد أو أن يكون بإمكانه تجنبه أو تجنب عواقبه أو التغلب عليه أو على عواقبه” كما نصت الفقرة الثانية من ذات المادة بأنه: ” إذا كان عدم تنفيذ أحد  الطرفين نتيجة لعدم تنفيذ الغير الذي عهد إليه بتنفيذ العقد كلا أو جزءا فإن الطرف لا يعفى من التبعة إلا إذا:

أ- أعفي منها بموجب الفقرة السابقة.

ب- كان الغير سيعفى من المسؤولية فيما لو طبقت عليه أحكام الفقرة المذكورة “.

وهكذا يتبين لنا من فحوى هذه المادة لم تعط تعريفا للعائق بل اقتصرت فقط على تحديد شروطه الواجب توافرها للإعفاء من المسؤولية العقدية. فلذلك إذا كان العائق مؤقتا فإن الإعفاء من الالتزامات التعاقدية لا يسري إلا في المدة التي يبقى فيها العائق قائما ، فيلتزم بعدها المتعاقد بالاستمرار في التنفيذ بمجرد زواله ، أما إذا كان العائق دائما يؤدي إلى عدم التنفيذ الكلي للالتزام فإن المتعاقد الآخر لا يكون أمامه إلا إعلان فسخ العقد لأن شرط الاستحالة أصبح قائما.

علاوة على ذلك نرى أن مصطلح العائق  empêchent  الوارد في هذه المادة يبدو لنا قريب إلى حد كبير لمرامي نظرية الظروف الطارئة ، على اعتبار أن العوائق والصعوبات غالبا ما ترتفع عند زوال الظرف الطارئ وليست مستحيلة ، فمثلا الحجر الصحي لا محالة أنه سيزول بزوال فيروس كورونا[11].

وبالتالي يمكن نستنتج أن هذه الإتفاقية أخذت بنظرية القوة القاهرة كإستثناء عن المبدأ العام في القانون المدني .

ج-موقف القضاء المقارن من تأثير الأوبئة والأمراض على تنفيذ الالتزامات العقدية

إشكالية الزمن:

السؤال الذي يطرح نفسه هو متى يتم تقدير شرط “عدم توقع الحدث”، أي فيروس “كورونا” من طرف القضاء؟

مبدئيا، يتم ذلك بالنظر إلى تاريخ إبرام العقد وهو ما قررته محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 29/12/2009 بمناسبة قضية تتعلق بوباء (chukungunya) الذي ظهر شهر يناير 2006 معتبرة أن شرط “عدم التوقع” الذي يبرر فسخ العقد لم يتحقق ما دام أن الاتفاق تم شهر أوت سنة 2006 أي بعد ظهور الوباء بأشهر.

توجه قضائي نستشف منه أن هذا الإشكال لن يطرح الآن بمناسبة فيروس “كورونا” بالنسبة إلى العقود القديمة ؛ لكن التساؤل سيطرح بالنسبة للعقود التي أبرمت بعد ظهور هذا الوباء.

وهنا أيضا نتوقع حدوث نقاش جاد حول التاريخ الواجب اعتماده لإعلان ظهور فيروس “كورونا”، هل تاريخ إعلانه بالصين؟ أم بالبلد الذي توجد به الشركة التي تتمسك بالقوة القاهرة؟ أم التاريخ الذي حددته منظمة الصحة العالمية؟

إشكالية تحديد المناطق المصابة بالوباء؟

إن مسألة تحديد المناطق هاته ليست بالسهلة أو اليسيرة لاختلاف المعايير ، وقد أثير هذا الإشكال سابقا في نزاعات تتعلق بقضايا الأسفار حيث تم رفض السفر إلى مناطق قريبة ، ومحاذية لأماكن وصفت بالخطيرة لانتشار وباء صحي بها ، حيث اعتبرت محكمة باريس أن الخطر الصحي لم يكن قاهرا وموجودا بدولة التايلاند وأنه لم يكن مقبولا اعتبار السفر إلى هذا البلد مستحيلا (حكم بتاريخ 4/5/2004).

وفي حكم آخر بتاريخ 25/7/1998 أكدت نفس محكمة باريس أن توقف الطائرة ببلد مجاور لمنطقة تعرف انتشار وباء الطاعون لا يشكل خطرا يفسر أنه قوة قاهرة.

إننا، إذن، أمام وضع صحي عالمي يثير الكثير من التساؤلات ، والإشكالات ذات بعد اقتصادي وقانوني وتتطلب منا مقاربة حكيمة تضمن التوازن العقدي وتكرس الدور الأساسي للقضاء في تحقيق الأمن القانوني والاجتماعي المنشود[12].

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة

ما يمكن أن نختم به ، فهو الإشارة إلى كون نظرية الظروف الطارئة ، نظرية حديثة أخذت بها جل القوانين العربية مستمدة إياها من الشريعة الإسلامية ، وخالفت بذلك ما استقر عليه القضاء المدني الفرنسي والقوانين الغربية مند عهد طويل ، فالعقد عندهم شريعة للمتعاقدين لا يجوز تعديله إلا باتفاق المتعاقدين ، وعلى ذلك فنظرية الظروف الطارئة تعتبر استثناءا يرد على المبدأ ، ولذا أوردها القانون المصري كاستثناء في فقرة ثانية على كون العقد شريعة للمتعاقدين ( 147 قانون مدني مصري) وعلى خطى هذا الأخير سارت جل القوانين المدنية العربية أما القانون المدني الجزائري ، فحتى وإن نقل الفقرة الثانية من المادة 107 نقلا حرفيا من المشرع المصري ، إلا أنه بفعله هذا يكون قد شد على الاتجاه السابق ، ذلك أن نظرية الظروف الطارئة التي تقتضي تعديل العقد قضاء ، جاءت استثناءا لعدم جواز تعديله ، وليس استثناءا لوجوب تنفيذه بحسن نية [13].

 

 

 

 

قائمة المراجع

أولا : باللغة العربية

-الكتب القانونية :

1- علي علي سليمان ، النظرية العامة للإلتزام ،مصادر الإلتزام في القانون المدني ، ديوان المطبوعات الجامعية ، سنة 2003

2- نظرية الظروف الطارئة في القانون المدني الجزائري(دراسة مقارنة) بولحية جميلة، رسالة ماجستير1983.

3- الدكتور محمد خضوري “الآثار القانونية لفيروس كورونا المستجد على الالتزامات التعاقدية.”

-النصوص القانونية

-مرسوم تنفيذي رقم 20-70 مؤرخ في 24 مارس 2020 الموافق ل 29 رجب 1441 ج.ر16

-المرسوم التنفيذي رقم 20-72 المؤرخ في 28 مارس 2020 الموافق ل 3 شعبان 1441 ج.ر عدد 17
-المرسوم التنفيذي رقم 20-86 المؤرخ في 2 أفريل 2020 الموافق ل 8 شعبان 1441 ج.ر 19 Haut du formulaire

-المرسوم التنفيذي رقم: 20-92 المؤرخ في:05-04-2020  الموافق ل 11 شعبان 1441 ، المعدل و المتمم للمرسوم التنفيذي رقم:20-72 المؤرخ في 28-03-2020 ، ج.ر 20

ثانيا : باللغة الفرنسية

1- مواقع الأنترنيت

 

– www.aljarida.com

https://ar.wikipedia.org/

– https://www.droitetentreprise.com/

– www.france24.com

– http://manifest.univ-ouargla.dz/

– https://www.marocdroit.com/

 

[1]  موقع : https://www.marocdroit.com/

[2]  موقع : https://ar.wikipedia.org/

[3]  موقع : www.france24.com

[4]  فرانس 24 المرجع السابق

[5]  المرسوم التنفيذي رقم 20-69 المؤرخ في 26 رجب 1441 الموافق ل21 مارس 2020، المتعلق بتدابير الوقاية من انتشار وباء كورونا (كوفيد 19) ومكافحته ، جريدة رسمية عدد 15

[6]  أنظر الجريدة الرسمية العدد 17

[7]  جريدة رسمية عدد 19

[8]  www.aljarida.com

 

[9] نظرية الظروف الطارئة في القانون المدني الجزائري(دراسة مقارنة) بولحية جميلة، رسالة ماجستير1983، صفحة 50.

[10]  علي علي سليمان ، النظرية العامة للإلتزام ،مصادر الإلتزام في القانون المدني ، ديوان المطبوعات الجامعية ، صفحة 157

[11]  https://www.droitetentreprise.com/

[12]  مقال رأي للدكتور محمد خضوري بعنوان “الآثار القانونية لفيروس كورونا المستجد على الالتزامات التعاقدية

[13]  http://manifest.univ-ouargla.dz/

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى