دور العقار في تتبيث القيم الحضارية
الاستاذ محمد الحبيب اكوضار
مفوض قضائي
الاستاذ فيصل كرمات
مستشار بمركز سوس ماسة للدراسات القانونية والاجتماعية
بين يدي موضوع هاته الورقة – والتي لامست جوانب متعددة ترتبط بالعقار كوعاء للتنمية الشاملة وترتبط بالتشريعات التي تخصه سواء للحماية القبلية من الاعتداء المادي أو ترتبط بالقضاء لفض النزاع الذي يعرض عليه لتحقيق الأمن العقاري – أود أن أشير الى فكرة يثم تداولها في حياة الناس على اختلاف مستوياتهم سواء كانوا مثقفين متخصصين أو مثقفين ثقافة عامة ، وسواء كانوا من علية القوم أو من بسطاء المجتمع.
تلكم الفكرة مفادها أن أفكارنا وتوجهاتنا في مجال الفكر الفلسفي والعلوم الانسانية عموما يمليها علينا المحيط الذي يحيط بنا بشكل عفوي _ تلقائي أو المحيط الذي ثم انشاؤه ليصبح محيطا بنا من أجل أن يشكل عنصر ضغط قوي يخضعنا للعديد من عمليات التفكير التي تنتج في النهاية نمطا معينا للعيش ، ليس بالضرورة أن يكون هو النمط الصحيح ولكنه النمط الذي يؤسس وعاء الأفكار والقيم والمعتقدات بل والنموذج الأمثل الذي يفتح أفق الحياة لنا ويمدنا بالقيم الفضلى التي نعيش من أجلها.
أنا أدرك جيدا أن صلب هاته المقولة تكمن أنماط فكرية وأنساق اجتماعية وتوجهات سياسية ونظريات متعددة المشارب ، كما أدرك جيدا أن القول بصحتها أو عدم صحتها هي مجازفة فكرية غير محسوبة العواقب خصوصا لمن يحلل الأشياء بمنطق الجزم الأحادي النظرة أو لمن ينظر للفكر الواحد الخاضع للقهر أكثر من خضوعه للإقناع.
السؤال الان هو : ما هي علاقة هاته الفكرة وهاته المجازفة الفكرية بموضوع العقار ودوره في تتبيث القيم الحضارية أو في انتاج القيم عموما؟
لا أحد يجادل في كون العقار يعد رافعة للتنمية الاقتصادية ودعامة أساسية للتنمية الاجتماعية وأداة فعالة لتنفيذ المخططات الحكومية في مجال الاسكان والتعمير ووعاء للاستثمار بشتى تنوعاته ، فهو قيمة اقتصادية وتنموية واجتماعية .
وبعض من هذا الكلام أكدته الرسالة الملكية للمشاركين في المناظرة الوطنية حول السياسة العقارية سنة 2015 بالصخيرات حيث ذكرت الرسالة بأن العقار يعتبر عامل إنتاج استراتيجي، ورافعة أساسية للتنمية المستدامة بمختلف أبعادها، أكد جلالته أن العقار هو أيضا الوعاء الرئيسي لتحفيز الاستثمار المنتج، المدر للدخل والموفر لفرص الشغل، ولانطلاق المشاريع الاستثمارية في مختلف المجالات الصناعية والفلاحية والسياحية والخدماتية وغيرها.
وفضلا عن ذلك، تضيف الرسالة الملكية، فالعقار تنبني عليه سياسة الدولة في مجال التعمير والتخطيط العمراني، وهو الآلية الأساسية لضمان حق المواطنين في السكن.
هاته القيم تكاد تعلن عن نفسها بنفسها دونما حاجة الى كثير من التدقيق والاستنباط ، لأن المبتدئ في علم الاقتصاد عموما والاقتصاد السياسي على وجه الخصوص يدرك أنه لا اقتصاد دون وعاء عقاري ، كيفما كان موضوع الاقتصاد وكيفما كانت طبيعة العقار، هذا المعطى يكاد يكون من الأشياء المعلومة بالضرورة.
انما مرادي أنا من القيم تلك الإفرازات المعنوية التي تنتج خلسة بسبب مظاهر عقارية ثم تتحول تدريجيا وبسرعة غير مرئية الى معطى مادي قوي يفرض الايمان به بل والدفاع عنه باستماتة باعتباره منطقا يفرضه الواقع.
من المعلوم أن العقار لغة وفقها وقانونا هو كل ملك ثابت كالدور والأراضي وجميع أنواع الممتلكات الثابتة وغير المنقولة وكل ما يرتبط بها من حقوق ومن تعريفاته أيضا أنه هو أصل الدواء .
من المعلوم أيضا أن التثبيت هو الغرس المحكم للشيء وهو التحصين من الانجراف والاندثار والخلط والزيغ والميلان.
من المعلوم أيضا أن القيم هي ما استساغه الناس واتفقوا على ذوقيته وصوابيته وصدقيته وصحة مضمونه.
من المعلوم أيضا أن الحضارة هي خلاف البداوة وهي عملية اكتساب الثقافة وهي الهوية للجماعة وهي الرقي في الفكر والعلم وهي السمو في التعامل والسلوك وهي الحد الفاصل بين العيش في الظلام والعيش في النور.
اليكم الان هذا السؤال المحوري : من أين وكيف يستمد العقار سلطانه وسلطته بل وسطوته على قيم الناس؟
ان شئتم نطرح السؤال بطريقة أخرى : هل فعلا تخضع القيم لسلطة العقار؟
من الناحية الأكاديمية البحتة سيكون الاعتراض على هذا السؤال من مستلزمات النظر العلمي ، أما من النحية الفكرية فان هذا الاعتراض هو نوع من التدجين الغير المبرر.
دعونا نطرح افتراضات ليس من باب الرجم بالغيب ولكن من باب قول القائل : ان سمو القاعدة القانونية لا يعني بالضرورة سمو من سنها وشرعها ، لأن الفصل بين المشرع والتشريع تقتضيه ضرورة البحث وضرورة مساءلة النصوص التشريعية حتى يكون الفهم سليما.
الفرضية الأولى تقول بأن من يملك العقار يملك سلطة التقرير في مصير من لايملكه.
الفرضية الثانية تقول أن من يملك العقار يملك سلطة التشريع لكيفية التعامل مع ما يمكن أن يقدمه العقار وما يمكن أن ينتجه من خدمات مادية ومن قيم معنوية.
الفرضية الثالثة تقول أن من يملك العقار يملك القدرة على ادارة وترويض عقول من لا يملكه.
وأخر الفرضيات أن من يملك العقار يمكنه أن يخضع قسرا لرغباته وأهوائه رقاب من لا يملكه.
عندما نتأمل هاته الفرضيات نستطيع أن نقول ودونما مجازفة فكرية بأن بين العقار بشتى أشكاله وبمختلف تجلياته وبين القيم المتفق عليها في زمان معين علاقة تجادب قوية لا يمكن كبح جماحها بالنظريات الأخلاقية أو بالتشريعات التي تحاول الحد من سطوتها .
بالرجوع قليلا الى التاريخ حيث ما تزال ماثلة قضية بيع ولاية الاسكا من طرف القيصر الروسي ألكسندر الثاني الى وزير الخارجية الأمريكي ويليام ستيوارد كنتيجة لمفاوضات مارطونية مع سلفه جيرمي سوليفان بلاك عام 1867 بسبب تدهور الاقتصاد الروسي ، وكان ثمن المبيع وقتها 7.2 مليون دولار أي ما يعادل في وقتنا الحالي 115 مليون دولار.
مع مرور الوقت نشأت نظريات بسبب هاته الواقعة تناقش تأثير العقار في العلاقات الدولية وفي السياسات الحكومية ، ومع مرور الوقت أيضا أصبح الروس يذمون القيصر الى اليوم والأمريكان يكرمون ويمجدون وزيرهم في كل مناسبة تتاح لهم .
ضياع الالاسكا من الروس ولد عندهم قيما سياسية تكاد تتحول مع الزمن الى قيم عقائدية جعلت منهم عبيدا للأرض ، في المقابل نشأت عند الأمريكان قيم اقتصادية دفعتهم الى اعتبار أنفسهم أسياد الدنيا.
هاته الواقعة التاريخية لا تعطينا بالضرورة ربطا منطقيا لتأثير العقار على القيم – وهو اعتراض مقبول من طرف من يمر على الوقائع التاريخية مرور الكرام ، ولكنه اعتراض مرفوض من طرف من يعتبر التاريخ البشري ملهما قويا للعبر والنظر فيه محفزا كبيرا للتطور والارتقاء الفكري والعلمي.
في واقعنا نحن اليوم سأبرز سطوة العقار على القيم من خلال بعض النماذج التي تكاد تفصح عن نفسها بنفسها :
1 – النموذج الأول يتعلق بسياسة تحديد النسل كإرادة لمن يؤرقه التكاثر البشري وكيف ثم التحول من : تكاثروا فاني مباه بكم الأمم يوم القيامة الى منطق ضاغط بقوة يقول بأن كثرة الأبناء عبء لا يطاق؟ بل هو نوع من التخلف الاجتماعي وهو دليل على عدم الوعي الأسري.
لقد أدرك خبراء علم الاجتماع بأن العقار الذي يسكنه الناس يؤثر سلبا أو إيجابا في كيفية تفكيرهم ، فكانت الخلاصة انشاء سكن بشتى المسميات : عصري ، اقتصادي ، وظيفي بمواصفات لا يسمح بكثرة قاطنيه مع ما يتطلب ذلك من جدل اعلامي لإحداث زلزال في المفاهيم لخلخلة القناعات ولإفراز قيم وتقديمها على أنها حضارية لتدمير قيم أخرى أفرزها السكن السابق باعتبارها قيم البداوة والتخلف واللامنطق وجعلها في مرتبة الصدارة ، وطبعا بعد المقاومة لها بدأ التطبيع معها ثم الايمان بها واليوم الكل يدافع عنها دون هوادة لأنه لا يملك غير ذلك ، فلم يعد السكن فضاء لاحتواء ساكنيه بل أصبح محددا قويا للقناعات التي تؤتث فضاء التفكير الأسري وعامل ضغط كبير للتفكير في المستقبل دونما مجازفة غير محسوبة العواقب ، انها سطوة العقار بلا ريب .
2 – النموذج الثاني له ارتباط بالسياسات الحكومية في الميدان الاجتماعي وكيف تحولت الحكومات المتعاقبة الى محتضن للقيم المستوردة بل وأصبحت معملا لإنتاجها وتسويقها داخليا لمواطنيها بدلا من الدفاع والحماية والتحصين وتوطين القيم الأصيلة ، وأبرز مثال في هذا الشأن هو دور العجزة والمسنين التي ظهرت في العالم الاسلامي فجأة وبمبررات ومسوغات مقبولة من حيث منطق الواقع الذي احتضنها لغرض في نفس يعقوب ، مرفوضة من حيث منطق حضارتنا كمسلمين مغلوبين على أمرهم في مجال التشريعات الاجتماعية والأسرية ، برزت هاته الدور مع ظهور كثرة المسنين المتخلى عنهم من طرف أبنائهم الذين ليسوا دائما في وضعية مادية مقلقة ، بل ان تقارير المندوبية السامية للتخطيط تفيد بأن العديد من العجزة المتخلى عنهم ينحدرون من أسر ميسورة ، هل السبب هو سطوة مظهر من مظاهر العقار ؟ أم أن هذا الطرح مغالطة اجتماعية ليس لها ما يبررها؟
ان النظر الى العقار كحالة مادية جامدة يؤدي الى القول بأن هذا الكلام هو نوع من العبث الفكري وهو نوع من الافتراء ليس له ما يؤيده .
ولكن النظر الى العقار كمعطى ثم افرازه من خلال النقاش السياسي المؤطر للتشريعات العقارية بمختلف أشكالها وكمجسد لأرقى ما وصلت اليه المخططات الاجتماعية سواء كانت مرتبطة بمحيطها أو منفصلة عنه سيؤدي بنا الى القول بأن العقار هو الذي يمهد لمنظومة القيم التي ستتجسد في ذلك المحيط.
تعددت الأسباب وتنوعت المبررات بين ما هو عقائدي وثقافي وسياسي واقتصادي ولكن الخيط الناظم لكل ذلك شيء اسمه العقار في كثير من الحالات .
وفي الختام أقول اذا كانت التشريعات تهدف الى تحقيق الأمن العقاري فان السياسات العقارية هي التي تزود ذلك المشرع بالقيم الجديدة التي ستنبت مع تلك التشريعات دون أن تكون محط نظر حتى لا ترصد مسبقا.