بحوث قانونيةفي الواجهةمقالات قانونية

أثر مبدأ حياد القاضي على الخصومة المدنية – الباحث : محمد الغالمي

أثر مبدأ حياد القاضي على الخصومة المدنية

Effect of the principle of judge’s impartiality on civil litigation

الباحث : محمد الغالمي

باحث بسلك الدكتوراه في القانون الخاص

جامعة ابن طفيل- كلية العلوم القانونية والسياسية القنيطرة مختبر الدراسات والأبحاث في العلوم القانونية والقضائية-

للاطلاع على المجلة كاملة

مجلة القانون والأعمال الدولية : الاصدار رقم 49 لشهري دجنبر 2023 / يناير 2024

ملخص:

إن منطق تحقيق دولة الحق والقانون لا يمكن تجسيده إلا من خلال العدل، و الذي اختص به القاضي بعد أن ولى زمن اقتضاء الحقوق بالوسائل الخاصة،ونظرا لجسامة هذه المسؤولية وضع المشرع مجموعة من الضوابط التي تحكم سلطة القاضي ، ومن أهمها التزامه الحياد في مواجهة أطراف النزاع ،حيث يعتبر مبدأ حياد القاضي من أهم المبادئ التي لا مناص منها لضمان استقلال القضاء وتحقيق العدل بين المتقاضين.

ولتبيان أثر مبدأ حياد القاضي المدني على الخصومة المدنية قسمنا هذا العمل لمبحثين أساسيين، تطرقنا في الأول لماهية مبدأ حياد القاضي في التشريع المغربي، وتطرقنا في المبحث الثاني لمجال تحرك القاضي المدني وأثره على الخصومة المدنية.

كلمات مفتاحية: القاضي المدني، الحياد، الخصومة،السلطة التقديرية.

Abstract:

The logic of the State’s realization of the right and the law can only be achieved through justice, which is the judge’s prerogative. In view of the gravity of this responsibility, the legislator has established a set of controls governing the authority of the judge, the most important of which is his commitment to impartiality in the face of the parties to the dispute.

To analyse this issue, we divided it into two main points, the first touching on what is the principle of impartiality of the judge in Moroccan legislation, and the second on the area of the civil judge’s movement and its impact on civil litigation.

Keywords: civil judge, neutrality, litigation, discretion.

مقدمة:

إن إقامة العدل غاية منشودة وضرورة ملحة في كل مجتمع كيفما كان نظامه ومستوى حضارته،فبالعدل تعم السكينة النفوس،وتسود الطمأنينة ويعم الأمن في البلاد،رغم أن العدالة تظل نسبية، إلا أنها رهينة بالسمو الفكري والخلقي للقاضي،ومقترنة باقتناعه الصميم وتنزيله العادل للقانون،باعتباره الذي ينفخ الروح في القاعدة القانونية، ويضعها موضع التطبيق على الواقعة المعروضة عليه ،دون الإخلال بما جاء فيها من لفظ ومعنى.

وقبل أن تصل الدعوى إلى مرحلة صدور الحكم فإنها تمر بمرحلة سابقة أساسية ،تعد أهم مرحلة في سير الدعوى، وهي ما يعبر عنها بمرحلة تحقيق الدعوى،والتي يتم فيها جمع الأدلة والحجج واتخاذ الإجراءات اللازمة التي تساعد القاضي على تكوين قناعته،ومن هنا يبرز دور الإثبات القانوني الذي يعد جوهر التقاضي ومعين أطراف النزاع لاقتضاء حقوقهم.

و يعرف الإثبات القانوني بكونه:”إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون،على واقعة قانونية ترتبت آثارها”،واتخذت القوانين اللاتينية المذهب المختلط كمبدأ عام في سلوك القضاة تجاه أدلة الإثبات ، وفي مقدمة هذه القوانين القانون المغربي و الفرنسي، والقانون المصري والجزائري، فهي لا تسمح للقاضي بالتدخل في سير الدعوى إلا في حدود معينة ، فيستطيع القاضي مثلا أن يأمر بإجراء تحقيق من تلقاء نفسه في الوقائع التي تكون بطبيعتها قابلة للإثبات بطريق البينة، والتي يكون التحقيق فيها جائزا ومنتجا في الدعوى .

و يعد مبدأ “حياد القاضي” من أهم المبادئ التي لا محيد عنها لضمان استقلال القضاء وتحقيق العدل بين المتقاضين، ولذلك يقال بأن حياد القاضي واستقلاله يعدان وجهان لعملة واحدة، فلا حديث عن حياد للقاضي إلا إذا كان متمتعا باستقلال وظيفي وشخصي، وهو ما أكدته كل القوانين الحديثة وعلى رأسها المشرع المغربي في العديد من المحطات القانونية، بدءا من دستور سنة 2011 مرورا بالنظام الأساسي للقضاة رقم 106.13، بالإضافة إلى ما احتوته القوانين المسطرية المتمثلة في قانون المسطرتين المدنية والجنائية وقانون التنظيم القضائي من تطبيقات عملية تهدف إلى تكريس هذا المبدأ والحيلولة دون المساس به نذكر منها تلك المتعلقة بتجريح القضاة ومخاصمتهم، وواجب التقيد بطلبات الأطراف إلى غير ذلك.

ويكتسي الموضوع أهمية بالغة تتجلى في أن الحقيقة القضائية تتأثر بمبدأ حياد القاضي، باعتبارها قائمة على اقتناع القاضي بناء على تفاعله مع وسائل الإثبات، والسلطة المحدودة المخولة له في إجراءات الدعوى، حيث تقوم الحقيقة القضائية التي يصل إليها القاضي في حكمه على ما يصل إليه من البحث والتحري ، لكن قد لا يستطيع الوصول إلى كل الحقيقة نظرا لتقييده بوسائل معينة للإثبات ،كما أنه قد يخطئ في تقديره أحيانا فيقضي بما لا يتفق مع الواقع، ومن هنا تأتي نسبية الحقيقة القضائية التي قد تغاير الحقيقة الواقعية ،و بالرغم من هذه النسبية ، إلا أنها تعتبر صحيحة بصفة نهائية ولا رجوع فها إذا أصبح الحكم غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن انطلاقا من أن الأحكام هي عنوان الحقيقة.

تفاعلا مع الموضوع سنتخذ المنهج التحليلي كأساس للبحث،عن طريق تحليل مختلف النصوص القانونية المؤطرة للموضوع وبعض الإشكالات المحيطة به،على أن نعتمد كذلك على المنهج المقارن من خلال استقراء مختلف التجارب المقارنة وتعزيز البحث متى أعوزنا ذلك لسد خلل بالنص القانوني أو لاستدراك نقص أو تزكية موقف المشرع المغربي.

و يطرح موضوع البحث إشكالية جوهرية مفادها:

إلى أي حد قارب المشرع المغربي أثر مبدأ حياد القاضي على الخصومة القضائية؟

تتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من التساؤلات الفرعية التالية:

– ما المقصود بمبدأ حياد القاضي؟

– إلى أي حد تأثرت قواعد الإثبات بمبدأ حياد القاضي؟

– كيف عالج المشرع المغربي أثر مبدأ حياد القاضي على الخصومة المدنية ؟

للإجابة عن الإشكالية المقترحة أعلاه، وبسط الموضوع سواء في شقه الموضوعي أو الشكلي، سنقسمه لمبحثين رئيسيين، سنتطرق في الأول لماهية مبدأ حياد القاضي في التشريع المغربي، على أن نتطرق في المبحث الثاني لمجال تحرك القاضي المدني وأثره على الخصومة المدنية.

المبحث الأول: ماهية مبدأ حياد القاضي في التشريع المغربي :

يعتبر مفهوم الحياد من أبرز الشروط الملازمة للأنظمة القضائية برمتها ،و التي تقوم بتأمين فاعلية القانون، فبقدر ما يكون تناسب بقدر ما يكون ثمة عمل قضائي سليم، لكن إذا ما اختل التوازن في هذا المبدأ سيكون لا محالة فساد في العمل القضائي، فمن المفروض على القاضي أن يتميز بالحياد تجاه أطراف الدعوى القضائية ،و تجاه الموضوع الذي بين يديه وتجاه القانون الواجب التطبيق، وعليه سنتطرق في المطلب الأول لمفهوم حياد القاضي، على أن نتطرق في المطلب الثاني لحياد القاضي وموقف مذاهب الإثبات منه.

المطلب الأول: مفهوم مبدأ حياد القاضي:

لابد من الإشارة أولا أنه لا يقصد بمبدأ حياد القاضي عدم تحيزه لمصلحة طرف دون الآخر ، فعدم التحيز أمر مفروض بداهة ويشكل أول قاعدة للبث في النزاعات، ويظهر الفرق بين عدم التحيز والحياد في أن التحيز يعني وقوف القاضي إلى جانب طرف وتفضيله على خصمه، مما يتعارض مع مبدأ الإنصاف والموضوعية و المساواة بين الخصوم، أما الحياد فيقف القاضي فيه بين الخصوم بموقف الحكم الذي يزن المصالح القانونية للخصوم بالعدل، وحياد القاضي يمنعه أن يقضي بعلمه الشخصي وعلى هذا الأساس قضت محكمة النقض المصرية في قرار لها بأن: “المبدأ الأساس الذي يحكم النظرية العامة في الإثبات هو مبدأ حياد القاضي ،فلا يجوز له أن يقضي بعلمه الشخصي عن وقائع الدعوى دون أن يكون من قبيل ذلك ما يحصله استقاءً من خبرته بالشؤون العامة المفروض إلمام الكافة بها” ويقول الدكتور أحمد أبو الوفا:” إن مبدأ منع القاضي من الحكم بعلمه الشخصي لا يتأتى من مبدأ حق الخصوم في مناقشة الأدلة التي تقدم في الدعوى ، وإنما يتأتى من أن ما شاهده القاضي أو ما سمعه مما يتصل بوقائع القضية ، سوف يؤثر حتماً في تقديره، بل قد يشل هذا التقدير وهو عندئذ يصلح أن يكون شاهداً في القضية ليقدر شاهد آخر شهادته وإنما لا يصلح أن يكون قاضياً وإلا عد قاضيا وشاهدا في نفس الوقت”.

ويمكن تعريف مبدأ حياد القاضي إذن بأنه المبدأ الذي يزن به القاضي المصالح القانونية للخصوم بالعدل و أن يقف موقفا من الخصومة يجعله بعيدا عن مظنة الميل لأحد الأطراف،الأمر الذي يجعله من أبرز الضمانات للخصوم و دعامة أساسية لمنح الحقيقة للحكم .

وينطلق مبدأ حياد القاضي من تأثير النزعة الفردية التي تعتبر الخصومة كمنازعة خاصة بين الأطراف، وبالتالي لا يحق للقاضي أن يتدخل فيها إلا بالقدر اللازم لتنظيمها، كما أن مبدأ شرعية الإثبات، وثيق الصلة بهذه النزعة، وأبرز مظاهر هذا الحياد في الإثبات المدني تظهر في سلبية دور القاضي فيما يتعلق بأدلة الخصوم أو إتمامها أو إحضارها، فيترك ذلك كله للأطراف ،كما يترك لهم تحديد محل النزاع،وهو ما قضت به محكمة النقض في إحدى قراراتها ، حيث جاء فيه:” ليس للقاضي المدني-في إطار الحياد- أن يستند إلى دليل يتحراه بنفسه بعيدا عن الخصوم ولم يعرض عليه وفقا للإجراءات التي يقررها القانون”.

إلا أن مبدأ حياد القاضي لم يستمر في جموده كما نشأ في بداية الأمر حيث بدأت صلاحيات القاضي تتسع بالتدريج ، وساعدت عدة عوامل على تطور الإثبات المدني، وفي إعادة النظر في مبدأ حياد القاضي، فنجد الاتجاهات الحديثة تعتبر الخصومة تهم المجتمع ومرتبطة بالمصلحة العامة، ومن ثم لا بد من إيجاد نوع من التعاون بين الخصوم والقاضي، حتى يكون الحكم الصادر في الدعوى أقرب إلى العدالة.

ويتعلق بموضوع حياد القاضي إزاء أدلة الإثبات مسألة “قضاء القاضي بعلمه”، حيث يثار التساؤل حول إمكانية فصل القاضي في الدعوى بناء على ما يصل إلى علمه الشخصي من معلومات ، إن هذا السؤال وجد أجوبة مختلفة بالنسبة للمذاهب الفقهية التي تعرضت له، أما بالنسبة للقوانين الحديثة ،فقد استقر القضاء الفرنسي على أنه لا يحق للقضاة أن يأخذوا بعين الاعتبار إلا تلك الأدلة التي أقرها القانون والتي قدمها الخصوم طبقا لقواعد الإجراءات ، فالقاضي لا يستطيع أن يشير في حكمه إلى أنه قد أسس قضاءه على المعلومات التي تحصل عليها بصفة شخصية ، خارج نطاق الأدلة والطرق التي قررها القانون، فيمنع عنه الاستناد إلى المعلومات التي وصلت إلى علمه قبل إصدار حكمه ، إما بواسطة الرسائل التي يبعثها الخصوم ،إما إليه مباشرة ، وإما إلى رئيس المحكمة …

واتفق الفقهاء على جواز الإثبات بعلم القاضي في أربع حالات :

1- اتفق الفقهاء على أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه ، ولو مع البينة،فإذا علم بطلاق أو بدين أو بإتلاف أو بقتل ثم قامت البينة على ما يخالف علمه فلا يجوز له القضاء بالبينة قطعاً، وقال بعض الفقهاء بالإجماع عليه لأنه متيقن ببطلان حكمه، والحكم بالباطل حرام فيجب عليه أن يعتزل النظر بالقضية أو يفوض غيره فيها ويكون شاهدا،أو يرفض سماع الدعوى أصلاً.

2 – اتفق جمهور الفقهاء على جواز العمل بعلم القاضي في الجرح والتعديل ، فإذا علم حال الشهود عدالة أو فساداً فيجب عليه أن يعمل بموجب علمه، فيقبل العدل شهادته دون أن يأمر بتعديله وتزكيته ، ولو طلب الخصم ذلك، ويرد كل طعن فيه أو تجريح إلا إذا بين المجرّح شيئاً جديداً لم يطلع عليه القاضي، فيقدم الجرح، وإذا علم فسق الشاهد وتجريحه فلا يقبل شهادته ولا يسأل عنه، ولا يسمع تعديله ولو طلب الخصم ذلك، وقبول علم القاضي في الجرح والتعديل جائز عند الجمهور لئلا يؤدي إلى التسلسل فيه.

3- اتفق جمهور الفقهاء على جواز حكم القاضي بعلمه فيما يحدث في مجلس حكمه ، فإذا بدرت إساءة من أحد أطراف النزاع نهره القاضي، وإذا تطاول أحدهم بالكلام على القاضي أو على خصمه منعه،ويؤدب من تبين كذبه من المتخاصمين، وإذا حَدَثَ ضرب أو جرح في مجلس القضاء حكم القاضي على المعتدي، واستند في حكمه على علمه ولا يحتاج إلى بينة، وأما العلم الحاصل للقاضي من الإقرار وجواز الحكم به، الاختلاف فيه في فصل الإقرار.

4 – اتفق الفقهاء على جواز الحكم بعلم القاضي في حق الله تعالى حسبة، كمن سمع الطلاق البائن، ثم ادعى الزوجية، فيمنع الزوج من الاتصال بزوجته ، ومن سمع وقفية أرض ثم ادعى ملكيتها .

وأخيراً اتفقوا على أن يقضي القاضي بعلمه في تغليب حجة أحد الخصمين على حجة الآخر إذا لم يكن في ذلك خلاف، وهذا يرجع إلى علمه بالأحكام الشرعية، ومنها طرق الترجيح عند التعارض.

ثم اختلف الفقهاء بعد ذلك في جواز الحكم بعلم القاضي فيما علمه خارج مجلس القضاء، سواء أكان الموضوع حداً أم قصاصاً أم حقاً مالياً أم حقاً غير مالي، وسواء أكان علمه قبل توليه القضاء أم بعده.

إلا أنه إذا تبين للقاضي أن معلوماته الشخصية سوف تؤثر في حكمه، واستشعر الحرج من نظر الدعوى وجب عليه أن يتنحى عن نظرها ، أما المعلومات العامة المستقاة من خبرة القاضي بالشؤون العامة المفروض إلمام الكافة بها، فلا تعد من قبيل المعلومات الشخصية المحظور على القاضي أن يبني حكمه عليها ، ولا يعتبر من قبيل المعلومات الشخصية ما يصل إليه القضاء من معلومات فى مجلس القضاء وذلك مثل النتيجة التي يستخلصها القاضي عقلا ومنطقاً من أقوال شاهدي الإثبات ، إلا أنه لا يجوز الحكم في المسائل الفنية بعلم القاضي، بل يجب الرجوع إلى أهل الخبرة ما لم يتعلق الأمر بمسالة منطقية.

المطلب الثاني: حياد القاضي وموقف مذاهب الإثبات منه.

اتفقت جميع التشريعات على تنظيم قواعد الإثبات، غير أنها لم تلتزم بمذهب واحد، فاختلفت في مدى حرية الأطراف في اختيار الدليل الذي يستلزم تقديمه لإثبات الواقعة القانونية المدعى بها، الأمر الذي على ضوئه يتحدد دور القاضي في الإثبات، وهذا الاختلاف في نظم الإثبات يعود إلى اعتبارين، يتعلق الأول بفكرة العدالة المطلقة الذي يدفعه أن يفسح المجال للقاضي للبحث عن الحقيقة الواقعية بكل السبل في النزاع المعروض عليه حتى تكون متطابقة، أما الثاني فهو تحقيق استقرار في التعامل الذي يرى فيه المشرع أنه اعتبار جدير بالحماية ليعمد إلى تقييد القاضي في الأدلة التي يأخذ بها ، وهي تقدير كل دليل حتى يأمن جوره إذا مال إلى الجور، فلا يختلف القضاة فيما يقبلون من الأدلة وفي تقدير قيمة كل دليل في الأقضية المماثلة.

يلعب القاضي دورا أساسيا في توجيه الخصومة القضائية من خلال تدخله في تسيير المساطر القضائية بدءا من تسجيل مقال الدعوى إلى غاية صدور حكم فيها والإشراف على تنفيذه. وقد كثر الحديث مؤخرا عن الدور الإيجابي للقاضي ومفهوم القضاء المتحرك لتجاوز سلبيات المفهوم التقليدي للحياد. غير أن مركزية مسؤولية القاضي في هذا المجال لا يمكنها أن تعفي باقي المتدخلين في إدارة العدالة سواء كانوا موظفين عموميين أم أصحاب مهن حرة.

هذا المبدأ وثيق الصلة بمدى حرية القاضي ،الذي يجد سنده مباشرة في المذهب المعتمد في الإثبات ، فهو في المذهب الحر موقف إيجابي، ينشط القاضي فيه إلى توجيه الخصوم ، واستكمال ما نقص من الأدلة، واستيضاح ما أبهم منها،وهو في المذهب المقيد موقف سلبي محض، لا يعدو القاضي فيه أن يتلقى الأدلة طبقا للقيم التي حددها القانون، فإذا رأى الدليل ناقصا أو مبهما ، فليس له أن يطلب إكماله أو توضيحه،بل يجب عليه أن يقدره كما هو في الحالة التي قدمه فيها الخصوم،وهو في المذهب المختلط ينبغي أن يكون موقفا وسطا بين الإيجابية والسلبية، ولكنه يجب أن يكون أقرب إلى الإيجابية منه إلى السلبية.

إلا أن مبدأ حياد القاضي لم يستمر في جموده ، فنجد الاتجاهات الحديثة أصبحت تعتبر الخصومة تهم المجتمع ومرتبطة بالمصلحة العامة ، ومن ثم لا بد من إيجاد نوع من التعاون بين الخصوم والقاضي، حتى يكون الحكم الصادر في الدعوى أقرب إلى العدالة،إلا أن حياد القاضي في بعض الأحيان، ليس إيجابيا على إطلاقه، بل قد يصبح عبئا على العدالة، ويتحول إلى أداة للجور وطريقا معبدة للطرف القوي لسلب حقوق خصمه أمام أنظار القاضي وبمباركة منه، فيغلف الظلم بغلاف الحياد والمساواة ليكتسي شرعية قانونية وقضائية،لهذا كان من الطبيعي والبديهي أن يضع المشرع استثناءات لمبدأ الحياد تتيح للقاضي أن يتخلى عن حياده السلبي ويتدخل بشكل إيجابي يضمن إعطاء كل ذي حق حقه.

إلا أنه يمكننا التساؤل حول ما إذا كانت السلطة التي يتمتع بها القاضي المدني في هذا المجال واحدة أم أنها سلطة تختلف بحسب طبيعة ونوعية القضايا ، علما أن النظام الحالي للإثبات بالمغرب يعرف عدة مصادر نجدها مشتتة بين قواعد قانونية وأخرى مستمدة من الفقه الإسلامي، كما أنها سلطة تتأثر في جميع الأحوال بطبيعة الرقابة التي تفرضها محكمة النقض على توظيف القاضي في سلطته في مواجهة وسائل الإثبات والترجيح بينها.

إذا كان مبدأ الحياد يقتضي عدم تدخل القاضي أثناء مقارعة الحجج وتبادل الطلبات و الدفوع بين أطراف الدعوى، فإن لهذه القاعدة استثناءات تتيح للقاضي التدخل ، وإثارة بعض النقط القانونية ، وتوجيه الإنذار لأحد الخصوم قصد تصحيح المسطرة، وهو أمر لا يتم إلا بوجود نص قانوني باعتباره استثناء على مبدأ الحياد، هذه الاستثناءات التي تشكل في جوهرها أهم مظاهر الحياد الإيجابي للقاضي في التشريع المغربي،كإنذار القاضي للأطراف لتصحيح المسطرة ،وتحديد البيانات غير التامة أو التي قد تم إغفالها،و لبعض المقتضيات المتعلقة بالنظام العام،بالإضافة إلى أن من أهم مظاهر التدخل الإيجابي للقاضي في تسيير الخصومة وإثباتها تلك المكنة التي تمنح له الأمر بإجراءات التحقيق،وتوجيه اليمين المتممة …فهذه النصوص تعطي للقاضي دورا إيجابيا تمكنه من إدارة الخصومة القضائية، دون أن يعتبره صناعة للحجج والأدلة و خروج عن مبدأ الحياد، بل تشكل سبيل للوصول للحقيقة وتحقيق العدالة.

وفي الأخير نشير إلى أن عدم جواز اعتماد القاضي على علمه الشخصي يقوم على أساسين :

الأول: حماية القاضي من التمييز ،حيث تعد قاعدة عدم قضاء القاضي بعلمه الشخصي وسيلة من وسائل ضمان نزاهة القضاة وحمايتهم من طبيعتهم البشرية، لأن القاضي إذا رأى بصفته الشخصية إلى خارج حدود عمله، فإنه يمثل دليلا في قضية معروضة عليه، فسوف تغلب عليه عاطفته البشرية، وبطبيعة الحال فلن يكذب نفسه ولن يسمح بمناقشته.

الثاني: التزام القاضي باحترام مبدأ المواجهة حيث إن اعتماد القاضي على علمه الشخصي يحرم المتقاضي من حقه في مناقشة الأدلة، حتى ولو ضمنت نزاهته وعدم تأثيره بما لديه من معلومات، حتى لا يقاضي الأطراف بالاعتماد على ما لم يقدموا دفاعهم بشأنه.

وخلاصة القول أن امتناع القاضي عن القضاء بعلمه الشخصي يقوم من جهة أولى على حماية الأطراف من قبل القاضي وضمان الوقاية من هوى نفسه البشرية، ومن جهة ثانية على حماية حقوق الأطراف في الدفاع، عن طريق منع القاضي من القضاء بناء على دليل لم يعرض على الأطراف لمناقشته.

المبحث الثاني : مجال تحرك القاضي المدني وأثره على الخصومة المدنية:

لا ريب أن القاضي هو الذي ينفخ الروح في القاعدة القانونية، ويضعها موضع التطبيق والتنفيذ على الوقائع المعروضة عليه، دون إخلال بما جاء فيها من لفظ ومعنى، وعليه سنتطرق في هذا المبحث لمطلبين، سيتضمن الأول مجال تحرك القاضي المدني وأثره على الخصومة المدنية، على أن يتضمن الثاني قواعد ضمان الحياد القاضي وأثره على الخصومة المدنية

المطلب الأول : مجال تحرك القاضي المدني وأثره على الخصومة المدنية :

اعتمد المشرع المغربي في تنظيمه للإثبات المدني على المذهب المختلط الذي يجمع بين الإثبات المقيد والإثبات الحر ،إلا أن المشرع المغربي وغيره من التشريعات التي أخذت بالمذهب المختلط قد خففت من حدة هذا التقييد ، بما خوله للقاضي من سلطات في هذا المجال ،فالمشرع قد حدد طرق الإثبات وقوتها وبين الحالات التي يتخذ فيها كل من هذه الطرق،فموقف القاضي وإن كان يقوم أساسا على مبدأ الحياد إزاء دعاوى الخصوم إلا أن المشرع قد أعطاه سلطة محدودة في إدارة الدعوى واستكمال عناصر الإقناع، وهذا المبدأ لم يمنع خروج القاضي على حياده في بعض الحالات، ليحرره من سلبيته ويجعل له دورا إيجابيا في الإثبات .

والعمل القضائي زاخر بالقرارات المثبتة للدور الإيجابي للقاضي في الدعوى،نذكر من بينها ما جاء بقرار لمحكمة النقض حيث جاء فيه:” إن تقدير النفقة وتوابعها مما تستقل به محكمة الموضوع ولا رقابة عليها في ذلك من طرف محكمة النقض ما دامت قد راعت عناصر التقدير المقررة قانونا…”، كما زكت محكمة النقض الدور الإيجابي للقاضي في تعامله مع وسائل التحقيق كالخبرة ،حيث جاء بقرارها “إن محكمة الموضوع لها السلطة التقديرية للأخذ بالنتيجة التي تنتهي إليها إحدى الخبرات المنجزة في النزاع واستبعاد ما انتهت إليه أخرى، ولا رقابة عليها في ذلك من طرف محكمة النقض إلا من حيث التعليل”، وجاء بقرار آخر :”للمحكمة سلطة تقييم نتائج الخبرة وتقديرها لاستخلاص ما يبرر قضاءها. المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه لما ثبت لها من الخبرة المنجزة من طرف الخبير أن شراء المطلوب ينطبق على محل النزاع في حين أن عقد شراء الطالب لا يمتد حسب واقع الحال إلى البقعة محل النزاع واعتبرت الخبرة التي لم يطعن فيها بأي طعن جدي مادام الطالب لم يطعن فيها بعدم الحضورية واعتمدتها فيما قضت به من رفض الطلب، تكون قد أجابت الطالب عما أثاره من طعون ضد الخبرة وركزت قضاءها على أساس وجاء قرارها معللا.”

كما يمكن للمحكمة في إطار سلطتها عدم الاستجابة لطلبات إنجاز الخبرة، حيث جاء بقرار أخر لمحكمة النقض:”للمحكمة ألا تستجيب لطلب إجراء خبرة جديدة متى اطمأنت لنتائج الخبرة المنجزة أمامها. المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه لما أمرت بإجراء خبرة خطية بواسطة الخبير الذي أنجز مهمته وحرر تقريرا اثبت أن التوقيع المضمن بعقد الهبة صادر عن الطالب تكون قد ردت ضمنيا طلب إجراء خبرة جديدة واكتفت بالخبرة الأولى فجاء بذلك قرارها معللا تعليلا سائغا،”على أن محكمة النقض أرست قاعدة جوهرية مفادها أن المحكمة غير ملزمة بمسايرة الأطراف في جميع مناحي دفوعهم، وهو ما يرجعها لدورها السلبي في الإثبات.

بالإضافة لتدخل القاضي في توجيه اليمين المتممة ، بحيث لا يكتفي بتقدير الأدلة المقدمة إليه من الخصوم بل يسعى من جانبه إلى تكملة الدليل الناقص،إذ هو يطلب من أحد الخصمين التعبير عن حسن نيته وصدق ادعاءاته تكملة للدليل الذي قدمه في الدعوى،إلا أن هناك جانب من الفقه يرى على أنه يحسن بالقاضي ألا يلجا إلى المين المتممة إلا عند الضرورة، لأنه ليس من وظيفته أن يضيف للخصم دليلا على الأدلة التي قدمها في الدعوى ، وإنما وظيفته تنحصر في تقدير الأدلة المقدمة إليه من الخصوم.

من كل هذا يتضح أن مبدأ حياد القاضي يقوم على أن يكون موقفه من الدعوى يقتصر في تكوين اقتناعه على ما يقدمه الخصوم من الأدلة في الدعوى بالطريقة التي يقررها القانون،فلا يكون للقاضي أن يساهم من جانبه في جمع أدلة جديدة، ولا يكون له أن يعول على أدلة وصلت إلى علمه الشخصي بعيدا عن الخصوم، ومعنى هذا أن كل دليل يدخله القاضي في حسابه لصالح أحد الطرفين يجب أن يلم به الطرف الآخر وأن تتاح له فرصة المناقشة والرد.

وهي قاعدة تتفرع عن مبدأ المساواة أمام القاضي، الذي يقتضي وجوب تساوي الخصوم عند مباشرة حق التقاضي،فالمشرع نظم إجراءات التقاضي خدمة للعدالة وللتيسير على المتقاضي، ولذلك سوى بين المتقاضين،فلا يملك أي منهم أن يعرض على المحكمة إجراءات بعينها،بل ولا تملك المحكمة نفسها تطبيق إجراءات بخلاف تلك المقررة في القانون.

كما أن الشريعة الغراء اعتنت بأدق تفاصيل مسطرة التقاضي ، لأن العدل هو الذي يحكم عملية التقاضي من مبتدئها إلى منتهاها ، فالقاضي مأمور بالتسوية في الجلوس والإقبال والإشارة والإسكات ورفع الصوت وخفضه،حيث جاء في رسالة عمر بن الخطاب إلى موسى الأشعري ما يلي:” آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك”.

ولذلك فإن ضوابط الرقابة القضائية على وسائل الإثبات المدنية تتلخص في الآتي:

  1. إعمال مبدأ مجابهة الخصم بالدليل بحيث يتم عرض أدلة كل من الخصمين على الآخر لمناقشتها ودحضها وهو ما يمنع القاضي من القضاء بعمله الشخصي، ثم أنه غالبا ما تطرح على قاضي الموضوع مجموعة من الأدلة، وله أن يوازي بينها مفضلا بعضها على البعض الآخر. فيأخذ من بينها ما اطمأن إليه ويطرح ما سواه مما لم يطمئن إليه وذلك دون رقابة من محكمة النقض، علما أنه ليس له أن يغض الطرف عن بعض هذه الأدلة و إلا عد حكمه منعدم الأساس ومتعين النقض، وليس لقاضي الموضوع أن يوازن بين حجج الخصوم فحسب، ولكن عليه أن يوازن في عملية أولية بين الأدلة التي تقدم بها كل خصم على حدة لأن هذه الحجج إما أن تكمل وتعضد بعضها البعض وإما أن تتناقض فيما بينها، و إلا اعتبر حكمه منعدم الأساس.

    فالحكمة من تقديم المدعي أدلة على ادعائه تتجلى في تمكين المدعي من الاطلاع على أدلته ومناقشتها ودحضها ،وتمكين المحكمة من البث في النزاع بأسرع وقت ممكن،بحيث إذا اقتنعت المحكمة بطلب المدعي حكمت دون اللجوء إلى أي إجراء من إجراءات الدعوى كالخبرة والمعاينة وتحقيق الخطوط، وسماع الشهود…

    لكن في غالبية الأحيان فالأطراف يدفعون بوسائل لدحض ادعاءات الخصم مما يجعل من المستحيل على القاضي البث للطرفين معا بالحق نفسه المدعى به ، الأمر الذي يدفعه للترجيح بين الحجج وفقا لضوابط محددة ، ونشير إلى أن الترجيح لا يستقيم إلا بوجود وثائق سليمة من الناحية القانونية ، أما إذا اختل شرط جوهري فيها فلا تصلح للترجيح بينها وبين غيرها من الوثائق، بالإضافة إلى أن الترجيح لا يكون إلا إذا استحال الجمع بين الحجج، أما إذا أمكن الجمع فذلك أولى.

    بالإضافة إلى أن هناك عدة وسائل يستطيع القاضي من خلالها تطبيق التزامه باحترام مبدأ المواجهة، فمثلا يستطيع أن يجعل من المرافعة الشفوية وسيلة لتبليغ الأطراف بما يبحثه من عناصر الواقع والقانون التي توصل إليها في غيابهم، فإذا كان تناول التبليغ بين الأطراف هما الطريقتان المثلثان لاحترام الأطراف لمبدأ المواجهة فيما والإطلاع بينهم، فإن الجلسة هي المكان المفضل لاحترام القاضي لمبدأ المواجهة، والمرافعة وإن كانت وسيلة فعالة لالتزام القاضي باحترام مبدأ المواجهة – حيث إنها وسيلة للاتصال المباشر بين القاضي والأطراف ،إلا أنها رغم ذلك ليست من ضروريات مبدأ المواجهة بحيث يفقد احترامه في غيابها .

  2. لا يحكم القاضي إلا بناء على الأدلة التي يقدمها إليه الخصوم بالطرق التي رسمها القانون، فلا يحق له أن يبني حكمه على دليل يستمده بنفسه دون طرحه من الخصوم ولو كان ظاهرا من أوراق الدعوى، كما لو كان مأخوذا من حكم سابق حائز لحجية الشيء المقضي فيه مادام صاحب المصلحة في التمسك بهذا الدليل لم يتمسك به .
  3. التسبيب:يلعب التسبيب الكافي والمنطقي دورا مهما في ضمان مراقبة حياد القاضي، فمن خلال أسباب الحكم يمكن التأكد من أن القاضي لم يؤسس اقتناعه ولم يبين حكمه إلا على الوقائع والطلبات والدفوع الملزمة في الدعوى، والتي ناقش فيها الأطراف، وأنه لم يضف إليها جديدا ولم يهمل منها شيئا، وأنه أسس قناعته بثبوت وقائع الدعوى بناء على الأدلة التي قدمت فيها ، وطرحت على بساط البحث، وأن لهذه الأدلة مصدر ثابت في أوراق الدعوى.

    ولعل أهمية التسبيب تظهر في القرار التالي لمحكمة النقض الذي جاء فيه:”إن المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه أدانت الطاعن من أجل الفعل المنسوب إليه وهو جنحة انتزاع عقار من حيازة الغير متبنيا علل وأسباب الحكم الابتدائي، والحال أن الأسباب والعلل المذكورة تفيد عدم استجماع المتابعة لعناصرها التكوينية وعدم ثبوت قيام الجنحة في حقه، وهو ما يجعل أسباب القرار كما وردت عليه متناقضة مع منطوقه، مما يجعله في هذا الجانب من الدعوى مشوبا بعيب سوء التسبيب غير المؤدى بصفة واقعية ولا قانونية إلى نتيجة منطوقه”.

    ولذلك، فإن تبين من خلال أسباب الحكم أن القاضي قد خالف ما تقدم، كإضافته إلى وقائع الدعوى وقائع لم يتقدم بها الأطراف، أو ذكر بأن واقعة من وقائع الدعوى ثابتة، دون أن يبين الدليل الذي استند إليه في ذلك، أو أن الدليل الذي يستند إليه وهمي لا وجود له في أوراق الدعوى، كان حكمه جديرا بالنقض، لإهداره لمبدأ حياد القاضي.

    وعليه ،أصبح القاضي بمقتضى هذه السلطة يمارس عملا قريبا من عمل المشرع لأنه يستطيع بذاته أن يعيد تنظيم العلاقات التعاقدية أو غيرها بين الناس على أساس من العدل والمساواة بما يملك من حق التعديل والتفسير والتعويضو من تجليات ذلك أن القاضي في تطبيقه للقانون على وقائع النزاع المعروضة عليه يتمتع بنوع من الحرية ، فهو الذي يحدد ما إذا كان النص القانوني واضحا فيطبقه أم غامضا فيفسره، وهو بواسطة تكييفه للوقائع يمكنه عمليا اختيار القاعدة القانونية التي يطبقها ،إذ أن العبرة في تكييف الدعوى بالقانون وليس بما يصرح به الأطراف،كما أن المشرع المغربي أرسى قاعدة جوهرية في باب تأويل العقود، بنصه على أنه إذا كانت ألفاظ العقد صريحة، امتنع البحث عن قصد صاحبها، وهذا توجيه للقاضي في التفسير، حيث أن المشرع أرسى له قواعد جوهرية يمكن أن يتدخل بها في إطار تقييد دوره الإيجابي تجاه الألفاظ الغامضة، وهو ما أكدته محكمة النقض في إحدى قراراتها، حيث جاء فيه:” من المقرر أن تأويل العقد عند الاختلاف حول مضمونه لا يصار إليه إلا إذا كانت ألفاظه لا يتأتى التوفيق بينها وبين الغرض الذي قصد منه عند تحريره، أو كانت غير واضحة بنفسها أو لا تعبر تعبيرا كاملا عن قصد صاحبها طبقا لما ينص عليه الفصل 462 من ق.ل.ع، والعقد المستدل به من طرف الطاعن لا يستوجب تأويلا ولا تفسيرا إذ حدد صفته كمشرف وأجير مكلف بالمستودعات المتواجدة بالمحطة، وأن المطلوب في النقض هو صاحب المحطة، وهو من يتولى جميع المصاريف المتعلقة بها، وتم تحديد مناب المطلوب في الثلثين من الأرباح والثلث الباقي للطاعن، مما يعني أن هذا الأخير كان أجيرا لا شريكا، والمحكمة لما استخلصت من تأويل العقد الرابط بين الطرفين أن العلاقة بينهما علاقة شراكة لا علاقة شغل، تكون قد حملت العقد ما لا يحتمل، وأولته تأويلا مخالفا لمضمونه ولما اتجهت إليه إرادة طرفيه، مما يجعل قرارها عديم الأساس القانوني، وناقص التعليل المنزل منزلة انعدام”.

    كما أن سلطة القاضي ، وإن كانت تتراوح بين المحدودية في وسائل الإثبات ذات الحجية المطلقة، والاتساع في وسائل الإثبات ذات الحجية النسبية، فإن الغاية منها هي الوصول إلى الحقيقة من خلال استجماعه لكل العناصر التي تمكنه من إصدار حكم بات في الخصومة المعروضة عليه،ثم إن القاضي المدني في إطار السلطة التقديرية المخولة له، عليه أن يبرر موقفه عند قبول وسيلة تم الاستدلال بها في الخصومة أو عند رفضها، وهو تعليل تبسط عليه محكمة النقض رقابتها، وهي رقابة واسعة تحد من سلطته في مجال الإثبات.

    وهو ما أكدته محكمة النقض في مجموعة من قراراتها،حيث جاء في إحداها:” إن تقييم وسائل الإثبات والحجج يرجع للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع ولا تعقيب عليها في ذلك إلا فيما تسوقه من تعليل لتبرير وجه قضائها،” كما لا يمكن أن نغفل أهمية الاجتهاد القضائي في تجسيد روح القانون على واقع النزاع المعروض عليه في ضوء سلطة القاضي التقديرية، من أجل تحقيق العدالة، لكن هذه الأهمية تدق كلما كانت هناك أزمة قانون سواء كانت الأزمة ناتجة عن محدودية نطاق القاعدة القانونية أو كانت ناتجة عن قدمها، ذلك أن الاجتهاد القضائي يضمن للقاعدة القانونية أمرين اثنين: يتعلق أولهما بملائمة القاعدة القانونية مع جزئيات الواقع، وثانيهما يتعلق بتطوير القاعدة القانونية

    المطلب الثاني: قواعد ضمان حياد القاضي وأثره على الخصومة المدنية:

    سطر المشرع المغربي والعمل القضائي مجموعة من الضمانات والركائز التي يقوم عليها مبدأ حياد القاضي كضمانة للمحاكمة العادلة و المنصفة التي تكفل للقاضي عند النظر في القضايا المطروحة أمامه القيام بمهامه بكل نزاهة ،و حتى يطمئن الخصوم للإجراءات المسخرة لهم قانونا، و تحقيقا للحقوق و إزهاقا للأباطيل التي قد تشكل مانعا للوصول إلى الحقيقة القضائية،ذلك أنه لا يمكن تصور وجود الحق في محكمة محايدة إلا إذا تم ضمان مبدأ المساواة بين جميع المتقاضين، وما يتطلبه من تمكين المتقاضين من إمكانية استبدال القاضي أو الهيئة القضائية المعروض عليها النزاع وفق المساطر المحددة لذلك ،حيث جاء في قرار لمحكمة النقض:”القوانين المنظمة للتقاضي تقضي بأنه كلما قام سبب يدعو إلى الشك في حياد القاضي في النزاع المطروح عليه، فإنه يمكن تنحيته عن الفصل في هذا النزاع سواء كانت هذه النتيجة بحكم القانون أو مجرد توفر السبب الذي جعله القانون قرينة على عدم الحياد” .وعليه سنبين بعض ضمانات حياد القاضي، وذلك من خلال:

  4. استقلال القضاء كدعامة لحياد القاضي:

    إن جهاز القضاء بمقتضى الدستور الجديد للمملكة لسنة 2011 أصبح يشكل سلطة ثالثة داخل الدولة إلى جانب السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، بحيث أصبحن يشكلن ثالوث واحد مستقل ومتكامل لا يطغى أحد أجزاءه على باقيه، بحيث لا تتدخل أي من السلطات المذكورة في اختصاصات السلطة الأخرى، خصوصا عدم جواز تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في عمل السلطة القضائية….

    إن استقلالية القضاء والذي من أهم مقوماته حياد القاضي،يفرضه مبدأ العدالة، بحيث يكون القاضي بعيدا عن أي مؤثرات أو ضغوط خارجية، كما أن استقلال القاضي يتجلى في مستويين هما: الاستقلال الوظيفي والاستقلال الشخصي،يقصد بالاستقلال الوظيفي أن القاضي لا يخضع لأية سلطة تملي عليه ما يجب فعله عند نظر الخصومات ولا يكون مسئولا أمام أي جهة. وإنما يخضع للقانون، و ما يمليه عليه ضميره واقتناعه الشخصي ،أما المستوى الثاني فيجد سنده في تمتيع القاضي بهامش واسع من القناعة في اتخاذ ما يراه مناسبا من قرارات ومواقف من النزاعات التي تعرض عليه في إطار النصوص القانونية التي تؤطر النازلة،كما أن القاضي محمي من كل أشكال الضغوط والتدخلات والمناورات التي قد تضر بأداء مهمته، أو تمس نزاهة حكمه،و تتدخل في سير العدالة.

  5. تجريح القضاة:

    نظم المشرع المغربي مبدأ تجريح القضاة في الفصول من 295 إلى 299 من قانون المسطرة المدنية، ولم يخصه بتعريف قانوني، الأمر الذي نحى ببعض الفقه إلى اعتباره ” إمكانية يمنحها القانون للأطراف لتجريح القاضي المشكوك في حياده في القضية المعروضة عليه، والتي ينظر فيها ضمن اختصاصه القانوني” كما يعتبر بأنه “تلك الآلية التي تسمح للأطراف بمنع القاضي وصرفه عن متابعة نظر النزاع المطروح أمامه متى تحققت أسباب ذلك.

    وبالتالي يمكن لأي قاض ينظر في نزاع معين ، سواء كقاض فرد أو كعضو في هيئة جماعية، أن يتقدم بطلب إعفائه كلما كانت استقلاليته مهددة بالنظر لملابسات النزاع أو لهوية أطرافه، حيث أنه على غرار معظم التشريعات الحديثة عمل المشرع المغربي على تحديد الإطار القانوني لدعوى التجريح بما يكفل ثقة المتقاضين في مؤسسة القضاء، تكريسا للقاعدة المتأصلة التي تقضي بأن الأصل في المتقاضي أن يطمئن إلى قاضيه، وأن الأصل في المحكمة الحياد، وهو ما أكدته محكمة النقض في قرارها:” إن مبدأي حياد المحكمة ومساواة الأطراف أمام القانون كأساس لكل محاكمة عادلة يقتضيان ألا يكون كل أو بعض قضاة الحكم أطرافا أو أصحاب مصلحة في النزاع، وإن المحكمة بعدم اعتدادها بتجريح النيابة العامة، بالرغم من انتصابها مطالبة بالحق المدني، وكذا استبعادها تجريح بعض أعضاء هيئة الحكم الذين يعتبرون أطرافا في النزاع، في حين أنهم مجرحون بقوة القانون، تكون خارقة القانون، وغير مراعية لقصد المشرع من سنه المقتضيات الرامية إلى احترام المبدأين المذكورين”

  6. تنحي القضاة:

    أجمعت القوانين الإجرائية على أنه ثمة حالات تكون فيها شخصية القاضي أثناء سير الدعوى قد تؤثر سلبا على مهمته نظرا لانتمائه ولعلاقاته بمحيطه الاجتماعي والأسري، الأمر الذي دفع بمختلف التشريعات لتبني مبدأ التنحي،ذلك أن مبدأ التنحي يوجب على كل قاض يعلم بوجود سبب يمس حياده أن يصرح به،ويجد هذا المبدأ سنده القانوني في الفصل 298 من قانون المسطرة المدنية الذي ينص على ما يلي:

    ” يجب على كل قاض يعلم بوجود أحد أسباب التجريح المعددة في الفصل 295 أو أي سبب آخر لتنحيته بينه وبين أحد الأطراف أن يصرح بذلك :

    *        لرئيس المحكمة الابتدائية إذا تعلق الأمر بقاض من هذه المحكمة أو قاض بغرفة الاستئنافات بها؛

    *     للرئيس الأول لمحكمة الاستئناف إذا تعلق الأمر برئيس المحكمة الابتدائية؛

    *         لقضاة الغرفة الذين يحكمون معه إذا تعلق الأمر بقاض من محكمة النقض أو من محكمة الاستئناف.

    *        يتعين على القضاة الموجه إليهم التصريح أن يقرروا ما إذا كان يتعين على القاضي المعني بالأمر أن يتخلى عن الحكم في القضية.

  7. عدم الأهلية أو عدم الصلاحية:

    يعتبر مبدأ عدم الأهلية أو عدم الصلاحية ضمانة أخرى من الضمانات الهادفة إلى صون حياد القاضي، وهو مبدأ يقوم على منع القاضي من النظر في النزاع المطروح عليه، كلما تحقق سبب من أسباب عدم أهليته دونما طلب من أحد الخصوم، وهو بذلك خلاف لمبدأ التجريح الذي يستوجب تقديم طلب به من قبل الخصوم أو أحدهم.

    بالإضافة إلى أنه لا يمكن أن نتكلم عن الحياد إذا لم تكن هناك ضمانات للقاضي في أداء مهمته النبيلة لإقامة العدل إحقاقا للحق و إزهاقا للباطل، هذه الضمانات التي تعتمد على طريقة تعيين القضاة،و حماية شخص القاضي من كل المخاطر المباشرة، و غير المباشرة عند أدائه لمهامه، هذه الضمانات تظهر كذلك من خلال ما منحته الدساتير من حجية للأحكام والقرارات التي يصدرها القاضي .

    ومن الواضح أنه ما لم يتمكن منتسبوا العدالة من القضاة والمدعون العامون والمحامون من ممارسـة مهـامهم المهنية بحرية واستقلال ونزاهة وما لم تكن السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية مستعدتين على الدوام لتأمين هذا الاستقلال،فإن سيادة القانون ستتآكل ببطء متزايد وستتآكل معها الحماية الفعلية لحقوق الأفراد.

    خاتمة:

    من خلال دراستنا المتواضعة لمبدأ حياد القاضي وأثره على الخصومة المدنية ،تبين لنا أن القاضي المدني و إن كانت سلطته مقيدة بوسائل للإثبات لا يخرج عنها ،إلا أن له حق المفاضلة في كثير من الأحيان بين دليل وآخر ،وله سلطة مهمة في تدبير الخصومة المدنية، ولقد أحسن المشرع عندما منحه إياها، سيما وأن القاضي أكثر احتكاكا بالدعوى و أطرافها مما يسمح بإعطاء الأمور حقها و نصابها وتقدير شهادات الأطراف وتجعله يوجه اليمين المتممة لاستكمال اقتناعه و ذلك فيه من مراعاة الكثير من مصالح الخصوم سيما من تعسر عليه الدليل الكتابي الذي جعله المشرع على رأس أدلة الإثبات إذ يستخدم في الإثبات مهما كانت الوقائع المراد إثباتها ، إلا أن النظام الحالي للإثبات في المواد المدنية بالمغرب، ما يزال يعاني من مجموعة من الاختلالات التي تجعل مجال تدخل القاضي بسلطته في الإثبات معقدا .

    لعل من أهم مظاهرها تعدد مصادر القاعدة القانونية التي يستقي منها القاضي مادة حكمه الفاصل في النزاع بين قواعد القانون الوضعي وأحكام الفقه الإسلامي،وبين الشق الموضوعي والمسطري، بالإضافة إلى أن سلطته في هذا النظام ليست مستقرة وعلى طبيعة واحدة بل إنها تختلف باختلاف القضايا التي ينظر فيها، الأمر الذي يؤدي إلى تعقيد الدور الذي يقوم به القاضي في الإثبات، دون أن نغفل سلاح الرقابة المتنامي الذي تفرضه محكمة النقض على سلطة القاضي المدني .

    لائحة المراجع:

    الكتب :

    -أحمد أبو الوفا ، المرافعات المدنية والتجارية، مطبعة منشأة المعارف، الطبعة الخامسة عشر، بدون ذكر السنة .

    – أنور سلطان، المبادئ القانونية العامة،النظرية العامة للالتزام، دار الجامعة الجديدة للنشر الأزارطة، الاسكندرية، الطبعة الأولى، سنة 2005.

    – بكوش يحيى ، أدلة الإثبات في القانون الجزائري والفقه الإسلامي، المؤسسة الوطنية للكتاب،الجزائر، الطبعة الثانية بدون ذكر السنة .

    – جواد أمهمول،الوجيز في المسطرة المدنية،مطبعة الأمنية-الرباط-الطبعة الأولى، سنة 2015.

    – عبد الكريم الطالب ،التنظيم القضائي المغربي وفق القانون 38.15 ،مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء- الطبعة السابعة،سنة 2023.

    – مصطفى الزحيلي ، وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية في المعاملات المدنية والأحوال الشخصية –الجزء الاول والثاني-مكتبة دار البيان ، دمشق بيروث، الطبعة الأولى، سنة 1986.

    – محمد نصر محمد، أدلة الإثبات في الأنظمة المقارنة،مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، الطبعة الأولى ، سنة 2014.

    الأطروحات والرسائل:

    -الحسان الوردي، حق الدفاع أمام القضاء المدني،أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة القاضي عياض،كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية –مراكش-السنة الجامعية 2023-2014.

    – بنسالمأوديجا،سلطةاالقاضي في الغثبات في المادة المدنية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه،الجزء الثاني، جامعة محمد الخامس ، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال-الرباط- السنة الجامعية 2014-2015.

    – بطيميحسين،مبدأ حياد القاضي وأثره على الإثبات بالاستخلاص القضائي،أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص،جامعة الجزائر، كلية الحقوق بن عكنون، السنة الجامعية 2012-2013.

    – محمد أوزيان ،الرقابة القضائية على أدلة الإثبات في المادة المدنية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة، السنة الجامعية 2004-2005.

    -قروف موسى الزين،سلطة القاضي المدني في تقدير أدلة الإثبات،أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، جامعة محمد خيضر-كلية الحقوق والعلوم السياسية،بسكرة الجزائر، السنة الجامعية2013-2014.

    المقالات:

    – بالطيب فاطمة، حياد القاضي في ظل مبدأ استقلالية القضاء- دراسة فقهية وقانونية-، مقال منشور بمجلة البحوث العلمية والدراسات الإسلامية، العدد الرابع عشر،سنة 2017.

    -حسن لميني علوي، القاضي بين تطبيق القانون وتحقيق العدالة في ضوء مقتضيات الفصل 110 من دستور 2011، مقال منشور بالمجلة المغربية للحكامة القانونية والقضائية ،العدد الخامس، مطبعة الامنية بالرباط،سنة 2018.

    – لحميم زليخة دور القاضي المدني في الإثبات في ضوء قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجديد، مقال منشور بمجلة دفاتر السياسة والقانون، العدد الرابع ، جانفيي 2011.

    – محمد اوزيان،الرقابة القضائية على أدلة الإثبات في المادة المدنية-دراسة مقارنة-مقال منشور بمجلة القضاء المدني،العدد الثامن، مطبعة النجاح الجديدة،الدارالبيضاء،سنة 2013.

    -نزهة الخلدي، الترجيح بين الحجج قراءة في المادة الثالثة من مدونة الحقوق العينية،مقال منشور بمجلة أبحاث في العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية،العدد الأول ، مطبعة صوفيا برانت،سنة 2015.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى