“أنسنة السجون وارتفاع حالة العود بالمغرب”
بقلم: الطالب الباحث
محماد الفرسيوي
إن العقوبة كرد فعل اجتماعي ضد الجريمة ليست حديثة النشأة، بل قديمة قدم الإنسانية، حيث عرفتها سائر المجتمعات وصاحبتها في تطورها ورقيها إلى يومنا هذا ومزال العمل بها قائما.
وبالعودة إلى مختلف الأنظمة وردود الفعل العقابية على مر التاريخ، نجد أن العقوبة في بدايتها كان الغرض منها هو الإيلام، والقصاص ، إلا أنه وانسجاما مع هذه النظريات الحديثة ظهر ما يسمى بتفريد العقوبةكمؤسسة قانونية غيرت وظيفة العقوبة، من الانتقام والتنكيل إلى الإصلاح والتأهيل.
الأمر الذي استوجب إعادة النظر في المعاملة العقابية للمحكوم عليه ومراعاة قواعد الإنسانية في التنفيذ العقابي حتى يحقق العقاب الفائدة المرجوة منه بإعادة تأهيل وإدماج المحكوم عليه للعودة إلى الحياة الاجتماعية عضوا صالحا في الجماعة.
إلا أن إعمال كل هذه المبادئ والقواعد، جعل من المؤسسات العقابية ملاذا وملجأ يوفر للمعتقل ما هو غير موفر خارج المؤسسة، مما يجعل منها وجهة وقبلة، خاصة العائدين الذين سبق وأن استفادوا من هذه الظروف، مما يزيد من حدة الإكتضاض داخل هذه المؤسسات، وإفراغ السياسة العقابية المعمول بها من محتواها.
انطلاقا مما سبق يمكننا بسط إشكالية محورية وهي:
إلى أي حد يمكن إرجاع تنامي حالة العود إلى القواعد القائمة على أنسنة المؤسسات السجنية؟
ولتفكيك عناصر الإشكالية السابقة ومقاربة الموضوع من مختلف جوانبه الممكنة، ارتأينا تناول الموضوع وفق التصميم التالي:
المحور الأول: مظاهر أنسنة المؤسسات السجنية بالمغرب
المحور الثاني:ارتفاع ظاهرة العود بالسجون المغربية
المحور الأول: مظاهر أنسنة المؤسسات السجنية بالمغرب
بالرجوع إلى القانون رقم 98 ـ 23 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، وباستقراء لمجموعة من نصوصه نجد أنه جاء بمجموعة من الحقوق التي تقوم على أنسنة هذا الفضاء وجعله يتسجيب للمواثيق الدولية، وكذلك لروح دستور المملكة لسنة 2011 الذي ينص على أنه ” …لا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية…”[1]
ولتنزيلا لهذه المقتضيات وأخرى نجد أن القانون 98 ـ 23 ينص على وجوب الإعتقال في ظروف ملائمة لصحة والسلامة، سواء على مستوى البنايات وصيانتها أو بسير المصالح الإقتصادية أو بتنظيم العمل وكذا بتطبيق النظافة الشخصية وبممارسة تمارين الرياضة البدنية، بالإضافة إلى توفير تغذية متوازنة، حيث يستفيد السجناء من وجبات غدائية متوازنة مجانية، والتي قد تختلف عن الوجبات التي يحصل عليها الإنسان العادي خارج أسوار السجن إذ تشبه تلك الوجبات المعروضة ببعض الفنادق، مع احتفاظهم بحق شراء مؤن زيادة على الوجبات العادية.
ولحماية صحة المعتقلين ينص القانون على ضرورة توفر كل مؤسسة سجنية على مصحة، وطاقم طبي يسهر على صحة النزلاء، وهو الأمر الذي قد لا يستفيد منه خارج السجن الأمر الذي يدفع بالبعض إلى البحث عن استصدار مقرر قضائي من المحكمة، باعتباره تأشيرة لولوج المؤسسة الأمر الذي يمكنه من الإستفادة مجانا، خاصة إذا تعلق الأمر ببعض الأمراض المزمنة أو لإجراء عمليات جراحية، عطفا على ذلك تعمل المؤسسات السجنية على تنظم حملات طبية دورية تستهدف الكشف عن بعض الأمراض والأوبئة التي قد تنتشر بالمؤسسة السجنية.
ومن مظاهر الأنسنة كذلك نجد إهتمام المشرع المغربي بالتأهيل التعليمي للنزلاء على مختلف مستوياته والمهني للمفرج عنهم وإقراره لضرورة ملائمة مناهج وبرامج التعليم داخل المؤسسة السجنية لما مقرر خارجها. وهو ما أكدته المادة 116 من 23.98 وأيضا وجب متابعة المفرج عنهم لتعليم إذا تم الإفراج عنهم قبل إكمال السنة الدراسية. وذلك بهدف تسهيل إندماج السجناء المفرج عنهم داخل المجتمع. وهو الأمر الذي ساعد المحكوم عليه على تقويم اعوجاجه وتنشئة شخصيته على أسس علمية.
كذلك يمكن للمعتقل الإستفادة من التكوين المهني التي تسهر مؤسسة محمد السادس لإعادة الإدماج، والتي تعمل على إعادة إدماج هذه الفئة من المجتمع في سوق الشغل بعد إطلاق سراحهم، وتمكينهم من إحداث أنشطة مدرة للدخل تحول دون تجدد حالات العود في صفوفهم، والأمر أبان عن قدرات مجموعة من النزلاء الذين تم الإعتراف بإبداعاتهم من خلال عرضها بمجوعة من المناسبات، إذ يعترف القانون 98 ـ 23 بحق الإبداع الفني والفكري[2]، إذ نجد مجموعة من المؤلفات التي ألفت داخل أسوار السجن.
كما يضمن هذا القانون للمعتقل حق الإطلاع على ما يروج خارج المؤسسة عبر الصحف والمجالات التي خول له القانون 89 ـ 23 إمكانية الحصول عليها.
الإستفادة من الزيارات التي يقوم بها أفراد عائلاتهم وأوليائهم، فضلا عن زيارات
أعضاء المنظمات الحقوقية والمنظمات، أو أعضاء الهيئات الدينية، الذين تهدف زيارتهم إلى تقوية وتطوير المساعدة التربوية المقدمة لفائدة المعتقلين، وتقديم الدعم الروحي والمعنوي والمادي لهم ولعائلاتهم عند الإقتضاء، والمساهمة في إعادة إدماج من سيفرج عنهم.
كما يمكن أن يمنح لكل شخص أو عضو في جمعية مهتمة بدراسة خطط ومناهج إعادة التربية، رخص استثنائية لزيارة المؤسسات السجنية[3].
وبما أن المؤسسات السجنية المغربية قد تستقبل نزلاء أجانب فقد أعطى هذا القانون إمكانية الزيارة كذلك لأعوان التمثيل الدبلوماسي أو القنصلي، بترخيص من مدير إدارة السجون، زيارة رعاياهم المعتقلين، بعد إدلائهم بما يثبت صفتهم.
هناك أيضا الزيارت التي تقوم بها الأجهزة القضائية سواء تعلق الأمر بالنيابة العامة أي الوكيل لعام للملك أو وكيل الملك، أو قضاء التحقيق أو قضاة الأحداث والقضاة المنتدبون لأجراء بحث تكميلي أو ضباط الشرطة القضائية في إطار الإنابة القضائية أو المحامون في إطار قيامهم بعملهم، وذلك طبقا لمقتضيات قانون المسطرة الجنائية.
وقد أعطى القانون 98 ـ 23 للمعتقلين إمكانية توجيه وتلقي الرسائل بمقتضى المادة 89، وذلك لأي شخص حسب اختيارهم، بحيث يمكن أن تكون موجهة إلى وزير العدل أو مدير إدارة السجون أو السلطات القضائية، أو السلطات الإدارية المؤهلى لمراقبة المؤسسات السجنية.
وفيما يتعلق بحفظ النظام والأمن داخل المؤسسة السجنية؛ أوجدت المندوبية العامة للسجون وإعادة الإدماج طاقم مكلفة بهذه المهمة تتوفر على تكوين في المستوى العالي سواء القانوني أو الإداري وحتى العسكري، وخير دليل على ذلك هو المباراة الأخيرة الذي أعلنته المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج لتوظيف 45 قائدا مربي ممتاز، وفق تخصصات محددة وهو الأمر الذي يعكس الإهتمام البالغ بالموارد البشرية الساهرة على ضبط هذه المؤسسة على المستوى الأمني.
وفي ختام هذا المحور أود الإشارة إلى مسألة مهمة تتعلق بالخلوة الشرعية، والتي لم ينص عليها القانون 98 ـ 23 إلا أنها قد تتخذ شكل امتياز في بعض المؤسسات السجنية لذوي السلوك الحسن، وذلك بإعمال المعنى الواسع للمادة 74 من قانون 98 ـ 23 التي تنص على ” يجب بصفة خاصة، الحرص على الحفاظ على علاقة المعتقل مع أقاربه وتحسينها، كلما تبين أن في ذلك فائدة له ولعائلته، وذلك لتسهيل إعادة المعتقل داخل وسطه العائلي عند الإفراج عنه”، على عكس بعض التشريعات المقارنة منها الأردني الذي ينص في الماة 20 من قانون مراكز الإصلاح والتأهيل على أنه ” لكل نزيل محكوم عليه مدة سنة أو أكثر الاختلاء بزوجه الشرعي في مكان في المركز يخصص لهذه الغاية تتوافر فيه شروط الخلوة الشرعية وفق تعليمات يصدرها المدير”.
إن إقرار هذا الحق ببعض الدول له ما يبرره خاصة ما يقع داخل المؤسسات من أفعال الشذوذ الجنسي وغيرها والتي قد ينتج عنها نزلاء مرضى ومنحرفين جنسيا، دون أن ننسى الأفعال التي ترتكب من قبل الأزواج بسبب سجن أزواجهم منها الخيانة الزوجية مثلا، إلا أن الإعتراف بهذا الحق لن يزيد الأمر إلا تعقيدا خاصة في ظل الأوضاع الراهنة.
المحور الثاني:ارتفاع ظاهرة العود بالسجون المغربية
عرف المشرع المغربي في المادة 154 من القانون الجنائي العود بانت ” يعتبر في حالة العود، طبقا للشروط المقررة في الفصول التالية، من يرتكب جريمة بعد أن حكم عليه بحكم حائز لقوة الشيء المحكوم به من أجل جريمة سابقة ”
ومن المفهوم السابق يتضح أنه لتحقق حالة العود وجب توفر مجموعة من الشروط أولا؛ صدور حكم حائز لقوة الشيء المحكوم به لمؤاخذة وعقاب شخص معين للقول بأن نفس الشخص يوجد في حالة العود، بالإضافة إلى شرط ثاني وهو ارتكاب الشخص للجريمة بعد صدور حكم سابق يقضي بعقابه.
والحديث عن ظاهرة العود وارتفاع مستوياتها يجعلنا نطرح سؤال محوري وهو لماذا العقوبة ؟ هل هو الانتقام، الزجر، التكفير عن الجرم، إصلاح الضرر، تطبيق العدالة، مواساة الضحية، التخويف والردع، الإصلاح والعلاج. كلها هواجس ودوافع كانت ولا تزال أغراضا للعقوبة، لكن تبنيها أو هيمنتها على رد الفعل العقابي تختلف وتتفاوت من نظام عقابي لآخر ومن ثقافة مجتمعية لأخرى، فقد تعرّضت لجدالات ونقاشات طويلة لم تستطع نهائيا أن تجزم بأحقية أحد هذه المبررات على المبررات الأخرى، أو أن تجزم في عدم الصلاحية أو الصلاحية المطلقة لغرض ما دون الاعتماد على الأغراض الأخرى.
لكن بالنظر إلى الإكتضاض التي تعرفه السجون المغربية اليوم، يجعل بعض أغراض العقوبة لا تتوفر اليوم منها التخويف والردع والإصلاح، بحيث أن السجن لم يعد له ذلك الدور الذي كان له، وهذا راجع بالأساس إلى تغير تلك التمثلات التي كان في حد ذاتها ردعا معنويا، وبناء تمثلات جديدة مما لا يتحقق معه الردع القبلي وحتى البعدي.
وإلى جانب هذه البنيات والتمثلات المستوحاة من الواقع، يمكننا القول أن الإفراط في العدل كما يقال يؤدي إلى الظلم، أي أن توفير كل الحاجيات داخل المؤسسات السجنية هو بمثابة طعم يدفع إلى استقطاب مزيدا من الضحايا بين قوسين، أي أننا أمام معادلة مختلة من حيث ترتيب عناصرها، بحيث لو تم رصد كل تلك الأموال خارج المؤسسات لاستفاد الجميع، وكانت المعادلة صحيحة.
وفي هذا السياق تجب الإشارة إلى أن أغلبية العائدين لا يرتكبون جرائم خطيرة مما يفسر أنهم فقط يبحثون على ارتكاب جرائم بسيطة تمكنهم من الحصول على تأشيرة العودة لذلك الفضاء الذي يوفر لهم ما لا يجدونه خارج أسواره، وهي في الغالب جرائم السرقة والسكر العلني واستهلاك المخدرات إلى غيرها من الجرائم.
الخاتمة:
إن أنسنة المؤسسات السجنية أمر مطلوب، ومواجهة حالة العود لا يجب أن يكون على حساب الأنسنة، ذلك أن السبب الرئيسي لهذه الظاهرة والتي تساهم يوما بعد يوم في تعميق أزمة العدالة الجنائية، هو في الظروف الإقتصادية والإجتماعية للدولة التي لا تستجيب لمتطلبات وحاجيات أفراد المجتمع مما يجعل من السجن الملاذ الذي به ينال البعض حقوقه المفقودة خارج أسوار السجن، بمعنى أن السجين يبحث فقط عن متطلبات الحياة المفقودة خارج السجن، مما يجعل منه ضحية ثانية إلى جانب ضحيته هو.
[1] ـالفقرة الثانية من الفصل 23 من ادستور المملكة.
[2] ـ المادة 121 من قانون 98 ـ 23.
[3] ـ المادة 84 من القانون 98 ـ 23.