البشير عدي
– دكتوراه في الشريعة تخصص: فقه المعاملات من كلية الشريعة جامعة القرويين بأكادير؛
– دبلوم التقني في المحاسبة من المعهد المتخصص للتكنولوجيا التطبيقية ISTA)) بأكادير؛
– شهادة التكوين التأهيلي في التسيير التجاري من المدرسة الوطنية للتجارة و التسيير ENCG) ) جامعة ابن زهر بأكادير.
الحمد لله و حده اللهم صل على سيدنا محمد وعلى اله و صحبه.
البنوك التشاركية وآفاقها بالمغرب.
البشير عدي([1])
تمهيد
أضحت البنوك الإسلامية، بعد عقود من التجاهل و الجحود ، حقيقة واقعية نتيجة الطفرة النوعية التي حققتها خاصة في عقدها الأخير.
وصارت هذه الأخيرة مطلبا جماهيريا و نخبويا على الصعيد العالمي قبل الإسلامي، إثر نجاحها الباهر في تخطي الأزمة المالية العالمية، التي أطاحت بعمالقة المؤسسات المصرفية العالمية، و كبدت أعتى اقتصاديات العالم خسائر تقدر بملايير الدولارات.
ومع أن تجربة البنوك الإسلامية صار لها من التواجد ما يناهز نصف القرن، عمت خلاله معظم بقاع العالم الإسلامي و الغربي، إلا أنها لم تعرف طريقها لبلادنا التي شكلت استثناء غير مقبول على مر العقود السالفة– أمام الإقبال العالمي المتزايد على هذه التجربة، و أمام نجاعتها المالية و مردوديتها الاقتصادية– قبل أن تقتنع السلطات المالية مؤخرا بهذه التجربة ، و تخصها بالتنظيم من خلال مقتضيات مشروع القانون البنكي الجديد، الذي نتمنى أن يرى النور مؤذنا بدخول هذه التجربة حيز التطبيق كاملة غير منقوصة، في هذا البلد الذي يعتبر بخصائصه و مؤهلاته تربة خصبة و سوقا فتيا للعمل المصرفي الإسلامي، الذي سيثري الاقتصاد المغربي، و يجعل من المغرب قطبا ماليا واعدا بامتياز.
وسنلقي في هذه الدراسة نظرة موجزة عن تجربة هذه البنوك و آفاقها بالمغرب، من خلال ثلاثة محاور نخصص الأول للحديث عن أسس النظام المصرفي التقليدي و الموقف الشرعي منها، والثاني للحديث عن نشأة البنوك الإسلامية و تطورها، والثالث للحديث عن البنوك التشاركية في مشروع القانون البنكي المغربي، مختتمين بمحاولة تقييم و استشراف آفاق هذه الأخيرة بالمغرب.
أولا: أسس النظام المصرفي الحديث و الموقف الإسلامي منها.
تشكل الوساطة المالية بين المدخرين والمستثمرين أساس النظام المصرفي الحديث، وذلك عبر تجميع الأموال من المدخرين و وضعها تحت تصرف المستثمرين، علاوة على تقديم بعض الخدمات والتسهيلات التي تيسر تعاملات الفاعلين الاقتصاديين المتعاملين معها.
وإذا نظرنا إلى المبدأ الذي يقوم عليه هذا النظام -بغض النظر عن التطبيق، و بغض النظر عما آل إليه العمل المصرفي من التخصص في خلق النقود و الاتجار في الديون – سواء من حيث تجميع المدخرات من الأموال وإعادة استثمارها وتوزيعها، أو من حيث تقديم خدمات تسهم في تيسير المعاملات بين المتعاملين معها، نجده يتفق تماما وغاية عمارة الأرض التي خلق الباري عز وجل الإنسان من أجلها، وكذا أهم مقاصد الشرع في الأموال وهو رواجها وفي المعاملات عموما وهو تيسيرها([2]).
فعمارة الأرض -خاصة في الوقت الحاضر- تقتضي إقامة مشاريع ضخمة، تتطلب أموالا ومجهودات مهمة، قد لا تتوافر لمجموعة معينة، فضلا عن فرد معين، وقيام مؤسسة من نوع المصرف بمهمة تجميع الأموال من المدخرين وتوجيهها للاستثمار بغية تحقيق نماء اقتصادي، ما هو إلا أحد تجليات العمارة التي هي إحدى وظائف الإنسان على الأرض، كما يعتبر تطبيقا لأهم مقاصد الشرع في الأموال وهو رواجها حتى لا تكون دولة بين فئة محدودة من الناس، كما أنه الصيغة المثلى لتجنب الاكتناز، الذي حرمته الشريعة وتوعدت عليه بأشد أنواع العقاب، للذين يملكون من الأموال ما لا قدرة لهم على استثمارها وأداء حقوقها.
يقول الأستاذ سامي حمود: “ومن يتأمل في المسألة بعمق وتفهم، يجد أن النقود لها نظر خاص في الإسلام؛ فهي -أي النقود- محرم كنزها من ناحية، ومحظور إنفاقها تبذيرا وإسرافا من ناحية ثانية، ولو نظرنا بين هذين الحدين لوجدنا أن الأسلوب المصرفي في جمع المال وحفظه حفظا حسابيا بأسماء المالكين ثم القيام بتشغيله عن طريق إعادته للعمل في المجتمع من باب آخر يتفق تماما -من حيث غاياته- مع المقاصد الشرعية العامة، ولا نرى أننا نتجاوز بالقول حين نقرر بأن الأسلوب المصرفي في جمع الأموال وتوظيفها هو تحقيق عملي تطبيقي لنظرة الشريعة إلى ما يجب أن يكون عليه دور المال في المجتمع، وهو أسلوب يتحقق فيه التوفيق بين حقوق الأفراد في تملك المال وحق الجماعة في الانتفاع بهذا المال حتى لا يبقى معطلا بالاكتناز”([3]).
غير أن الأمر إن كان على هذا الشأن من التناغم من حيث المبدأ، فإنه على العكس تماما من حيث التطبيق، يناقض مقاصد الشرع في الأموال والمعاملات، بل يناقض من الأحكام ما هو معلوم من الدين ضرورة، سواء من حيث الوسائل المستعملة أو الغايات التي ينتهي إليها.
أما الوسائل فلأن هذا النظام يعتمد في جمع المدخرات وتوزيعها، مبدأ سعر الفائدة، والفائدة بما لا يدع مجالا للشك عين ربا الجاهلية ، والربا حرام شرعا بغض النظر عن طبيعة القرض، إنتاجيا كان أم استهلاكيا، وبغض النظر عن طبيعة أطراف القرض، أشخاصا طبيعيين أم اعتباريين كانوا ، أفرادا أم مؤسسات أم دولا، و بغض النظر عن يسر أو عسر المقترض. والتعامل بالربا يعني إعلان الحرب على الله عز وجل؛ حيث يقول عز من قائل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مومنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}([4]).
هذا من حيث الوسائل، أما من حيث الغايات فلأن الوسائل المتبعة والقيود المشترطة، تؤدي إلى حصر الاستفادة من هذه الأموال في فئة معينة، هي فئة الأغنياء التي توفرت لها الملاءة والضمانات المشترطة من قِبل المصرف للاستفادة من قروضه([5])، ومن ثم تكديس الأموال لدى الفئة غير المحتاجة أصلا في مقابل حرمان الفئة المحتاجة منها.
فيصير المصرف أداة لحصر تداول المال بين الأغنياء فقط، بل أداة لنقلها من الفئات ذات الدخل المحدود إلى الفئة الغنية، وهو عكس مراد الشرع في تداول الأموال([6]).
أمام هذا التعارض والتناقض بين الأمرين، وقف المعنيون في بلاد الإسلام أمام هذا النظام ثلاثة مواقف جعلتهم فرقا ثلاثة:
– فريقا قبل بهذا النظام جملة وتفصيلا دون أدنى تحفظ، جريا على مذهبه في التسليم بكل ما أنتجه الغرب أو طوره.
– فريقا رفض هذا النظام جملة وتفصيلا إدراكا منه لمخالفته أحكام الشرع ومقاصده، وطالب بإقامة بديل لاربوي يراعي حاجيات الناس طبقا للشريعة الإسلامية.
– فريقا حاول تسويغه وإضفاء الشرعية عليه تحت هذه الذريعة أو تلك، إما إرضاء للسلطة التي تبنت المشروع، وإما تحت تأثير بريق الحضارة الغربية وقتها.
ولم يقف الفريق الأول عند مجرد القبول بهذا النظام، بل وقف سادنا ببابه وانبرى للدفاع عنه ضد كل من حاول انتقاده أو بيان عيوبه، وخاصة ضد الفريق الرافض والذي التحق به أكثر الذين حاولوا إضفاء الشرعية عليه بعد سنوات من النقاش والأخذ والرد انتهت إلى تأكيد ربوية العمل البنكي التقليدي،وما فتئوا يؤكدون، جاهرين، ربوية النظام المصرفي التقليدي ويدعون إلى إحلال بديل إسلامي لا ربوي عادل. وبموازاة ذلك “كتبت بحوث ومقالات، وألفت كتب ورسائل للدفاع عن موقف الإسلام في تحريم الربا، وبيان ما وراء إباحته من أضرار ومفاسد اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية، وبيان فضل الاقتصاد الإسلامي وما يتميز به من وسطية وواقعية مثالية، تجمع بين رعاية الواقع وعدم إغفال العنصر الأخلاقي” ([7]).
غير أن مثل هذا الكلام النظري، رغم إشادة بعض كبار الاقتصاديين المنصفين به كالفرنسي جاك أوستري الذي قال حينذاك: “إن طريق الإنماء الاقتصادي ليس محصورا في النظامين المعروفين، الرأسمالي والاشتراكي، بل هناك مذهب اقتصادي ثالث راجح هو المذهب الاقتصادي الإسلامي، وسيسود عالم المستقبل لأنه طريق للحياة المعاصرة” ([8])، لم يكن ليحرك ساكنا أمام أبواق صورت وسوقت النظام الربوي المتمثل في سعر الفائدة على أنه “الجهاز العصبي للنظام المصرفي الحديث، وهو الأداة الأساسية لإدارة النظام النقدي، وهو العامل المؤثر في المدخرات، وهو المعيار الذي يضمن انتقاء أكفأ المشروعات، وهو الذي سيخلص الدول النامية من مزيد من المديونية الخارجية ومن ثم من التبعية…” ([9]).
ثانيا: نشأة البنوك الإسلامية وتطورها.
كانت النقلة النوعية التي بدأ البديل الإسلامي يرى بها النور، تلك التي عملت على تنزيل التنظيرات الفقهية على أرض الواقع، والمتمثلة بالأساس في تجربة "بنوك الادخار المحلية"([10])، التي أنشئت في الأرياف المصرية سنة 1963 بإشراف الدكتور أحمد عبد العزيز النجار والتي أخذت بنظام لا ربوي يقوم على روابط وعلاقات مباشرة وعلى ثقة متبادلة بين البنك والفلاحين.
وفكرة هذه البنوك مستوحاة من تجربة بنوك الادخار المحلية التي تعرف بطابعها المحلي و الشعبي و تعاملها اللاربوي وتنوع تعاملاتها([11]).
وقد تأثر الدكتور النجار بتجربة هذا النوع من البنوك في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية و نجاحها في تعبئة المدخرات بشكل لافت، وعمل على تطبيقها و فقا لقواعد الشريعة الإسلامية و أحكام معاملاتها([12]).
و استطاعت هذه البنوك من خلال استعمالاتها للأموال المتجمعة لديها عن طريق الاستثمار المباشر و التشاركي والقرض الحسن، أن تحقق نجاحا لافتا إذ بلغ عدد فروعها في السنوات الأربع التي عملت فيها تسعة فروع كبيرة، وما يزيد على عشرين فرعا صغيرا،يديرها طاقم مكون من 200 فرد، وتجاوب معها جمهور المدخرين و المستثمرين بمختلف فئاتهم حتى وصل عدد المتعاملين معها مليون متعامل، واستطاعت أن تغطي مصروفاتها الإدارية وأن توزع عائدا على المستثمرين فيها بدأ بحوالي7% وأخذ في التزايد بعد ذلك ([13]).
ورغم بساطة هذه التجربة، وقصر عمرها الذي لم يتجاوز أربع سنوات، فإن أهميتها تكمن في كونها “أقامت الحجة على جدارة النظام التجاري الإسلامي في تحقيق الاستثمارات حسب مبدأ المشاركة في الربح والخسارة بدلا من مبدأ الفائدة الذي جعل المال دولة بين الأغنياء… وأحدثت تأثيرا ملموسا على مختلف المستويات، وفتحت المجال فسيحا أمام انطلاق مسيرة بنوك اجتماعية وتجارية مشابهة كمشروع كراتشي وبنك التمويل اللبناني، وبنك الصناعة والعمل بتركيا وبنك ناصر الاجتماعي…” ([14]).
هكذا اعتبرت هذه التجربة تحولا نوعيا في النظام الاقتصادي الإسلامي؛ حيث نقلت البديل اللاربوي في التعامل المصرفي من النظرية إلى التطبيق وأعطت الدليل والمثال، وفسحت المجال أمام تجارب مماثلة بدأت في العقد السابع من القرن المنصرم بإنشاء بنك ناصر الاجتماعي المصري سنة 1971، بسعي من السلطات المصرية بغرض توسيع قاعدة التكافل الاجتماعي بين المواطنين المصريين، على أساس عدم التعامل بالفائدة، و استثمار الأموال عن طريق المشاركة، وتم استثناء معاملاته من الخضوع لمقتضيات القوانين المصرفية الجاري بها العمل بما في ذلك الخضوع لرقابة البنك المركزي.
و بعد ذلك أُنشِئَ البنك الإسلامي للتنمية سنة 1975 ، في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية سنة 1975 بعد مصادقة 36 وزيرا لمالية الدول الإسلامية، و تم افتتاحه سنة 1976. ([15])
و في ذات السنة أنشئ بنك دبي الإسلامي الذي يعد الطفرة النوعية الحقيقية التي كرست العمل المصرفي الإسلامي المتخصص على أرض الواقع، و قد تميز هذا المصرف النموذجي خلال مسيرته و أبهر بنجاحه حتى اعتلى في ظرف وجيز من نشأته المرتبة الأولى بين بنوك الإمارات العربية سنة 1988 من حيث صافي الربح إلى مجموع حقوق المساهمين بنسبة بلغت 81.1% و المرتبة الثانية من بين 18 بنكا تجاريا من حيث حجم الإقراض و التسليف([16]).
وفي سنة 1977 أنشئ بنك فيصل الإسلامي المصري، و نظيره السوداني، وكذا بيت التمويل الكويتي. وهي السنة التي أنشئ فيها الإتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، باتفاق رؤساء البنوك الإسلامية القائمة وقتها، و تم الاعتراف به دوليا في الاجتماع التاسع لوزراء خارجية الدول الإسلامية المنعقد بدكار سنة 1978([17]).
ثم أنشئ البنك الإسلامي الأردني سنة 1978، وبعده بنك البحرين الإسلامي سنة 1979، وهي السنة التي بدأ فيه التحول الفعلي للبنوك التقليدية في باكستان و إيران نحو الأسلمة و استبعاد التعامل بالفائدة. ففي هذه السنة تحولت المؤسسة الوطنية الباكستانية " التروست الوطني للاستثمار"، إلى أول بنك متخصص يعمل بدون فائدة، وأقيم في إيران بعد نجاح الثورة الإسلامية بنك مركزي لتنسيق العمل البنكي الإسلامي([18]).
و توالى بعد ذلك إنشاء المؤسسات المالية الإسلامية لتتجاوز عتبة العشرين في بداية العقد الثامن، و لتعرف طريقها نحو الأسواق العالمية حيث أنشئ بيت المال الإسلامي بسويسرا سنة 1981.و تم تأسيس بيت التمويل الإسلامي بلندن و المصرف الإسلامي الدولي بالدانمارك و البنك الإسلامي العربي الأفريقي بالباهاماس سنة 1983. و لتتجاوز عتبة الخمسين بحلول سنة 1986([19])، وما فتئت تتزايد حتى وصلت إلى غاية مايو 1997 حوالي 150 مؤسسة مصرفية ومالية تدير استثمارات تقدر بحوالي 750 مليار دولار غطت قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا وانتشرت في أكثر من 27 دولة([20]).
فشهد لها الجميع – إلا من أبى- بالكينونة والتميز بما في ذلك المصارف التقليدية، وذلك من خلال الإسراع بفتح فروع ونوافذ تتعامل بصيغة إسلامية بما فيها عمالقة البنوك الدولية من أمثال: “تشيس منهاتن، وسيتي بنك، وإيه إن زد جرندلايز، ولكين ورت بينسون، و … يونيون بنك أوف سويزرلاند، وجيروزنتال، والإيه بي سي انترناشيونال” ([21])، في أوروبا وأمريكا وغيرها من دول العالم بما فيها الدول العربية؛ حيث بلغ عدد الفروع الإسلامية في البنوك التقليدية العربية إلى غاية أبريل 1999 في مصر وحدها 70 فرعا، و46 في المملكة العربية السعودية([22])، وبلغ من نجاح هذه التجربة وتفوقها، أن وصل -نتيجة تدفق الودائع بشكل لافت- معدل الزيادة في إجمالي أرصدة الميزانية التجميعية (مبلغ الأموال المستقطبة) لاثني عشر بنكا إسلاميا في سنة 1983 عنه في سنة 1982 (49.1%)، بينما كان معدل الزيادة على مستوى البنوك التقليدية (19.9%) في الفترة نفسها([23]).
ومع بداية القرن الحالي بلغ عدد هذه المصارف قبل متم سنة 2002 ما يناهز 176 بنكا 51 منها بجنوب آسيا، و 35 بأفريقيا، و 31 بجنوب شرقي آسيا، و 26 بالشرق الأوسط، و 21 بمجلس التعاون الخليجي، و 9 بأوروبا و أمريكا، و2 بآسيا، و 1 بأستراليا. وبلغ عدد أصولها و ودائعها ما يفوق 260 مليار دولار. ([24])
ليصل عددها قبل متم عام 2008 ، في عز الأزمة المالية العالمية، ما يناهز 396 مصرفا ، موزعة عبر أرجاء العالم على 53 دولة، فيما بلغ عدد المصارف التقليدية التي تقدم منتجات إسلامية 320 مصرفا. و بلغ رصيد التمويل بها ما مجموعه 642 مليار دولار.
وأثبت الأزمة المالية العالمية صمود هذه المؤسسات و قوتها في مقابل المؤسسات الربوية التي سقط العديد من عمالقتها واحدا تلو الآخر ، و أثبتت الأساليب و الصيغ المصرفية الإسلامية القائمة على المشاركة و المخاطرة جدارتها و جدواها وكذبت مزاعم السماسرة و الدجالين، وأكدت تنبؤات المحللين العقلاء المتجردين من أمثال الاقتصادي الأمريكي " سيمونز" الذي قال ذات يوم بأن :"خطر الاضطراب الاقتصادي يمكن تفاديه إلى حد كبير إذا لم يتم اللجوء إلى الاقتراض، و إذا تمت الاستثمارات كلها في شكل تمويل ذاتي و بالمشاركة." ، ومن أمثال الباحثة الإيطالية " لوريتا نابوليوني" التي قالت بأن :" التمويل الإسلامي هو القطاع الأكثر ديناميكية في عالم المال الكوني"، و أن :" المصارف الإسلامية يمكن أن تصبح البديل المناسب للبنوك الغربية."([25]).
فسارت المؤسسات المالية الإسلامية في خطى نموها المطرد في الوقت الذي اندحرت فيه العديد من أعتى المؤسسات المصرفية الربوية في العالم وعلى رأسها عملاق بنوك الأعمال " ليمان برادرز" الذي أعلن إفلاسه بعد عقود من الريادة المصرفية المزعومة ، ليبلغ عددها حسب آخر إحصائيات مجلس إدارة الجمعية المصرية للتمويل الإسلامي، 500 بنك عبر العالم تتواجد في نحو 60 دولة يتجاوز حجم أصولها ترليون دولار، فيما بلغ عدد البنوك التقليدية التي تقدم خدمات إسلامية 320 بنكا في مختلف أنحاء العالم ويصل حجم تمويلاتها 200 مليار دولار. ([26]).
وتوسع نطاق معاملاتها و خدماتها ، بعد أن كانت أعمال أول تجربة إسلامية منحصرة في الاستثمار المباشر والمشاركة و القرض الحسن، ليشمل أغلب العمليات المصرفية بما فيها : الحسابات الجارية و حسابات الادخار الاستثماري و الودائع الاستثمارية و خطابات الضمان و الاعتمادات المستندية و خدمات الصرف الأجنبي و البطاقات الالكترونية وخدمات الصراف الآلي و شبكة التحويلات العالمية و الشيكات السياحية وتمويل المباني السكنية و التجارية و الصناعية، و تمويل البضائع و السلع و تمويل السيارات و تمويل التجارة المحلية و الدولية، عن طريق العقود المدنية العادية و عقود المضاربة و المرابحة و المشاركة و الاستصناع و الإجارة و المغارسة و المزارعة، وغيرها من صيغ التمويل الشرعية.
وهكذا بعد أن ظن الكثير أن لا مفر من نظام الفائدة إلا إليه، وأن أي محاولة للتخلص من نظام الفائدة يعني انهيار النظام المصرفي وشل النظام النقدي وتلاشي المدخرات، وبعد أن قيل لثلة من الغيورين: “لا تحلموا بقيام بنك إسلامي، بنك يقوم على غير الفائدة. ومن ثم لا تحلموا باقتصاد إسلامي يوما، إن الاقتصاد عصب الحياة، والبنوك عصب الاقتصاد، والفوائد عصب البنوك. فإذا نشدتم بنوكا بلا فائدة فقد نشدتم المستحيل” ([27])، أصبح النظام المصرفي الإسلامي حقيقة قائمة، بل أكثر تميزا واستقرارا من النظام الربوي بشهادة صندوق النقد الدولي الذي صرح في تقرير له أن:“النظام المالي الإسلامي المرتكز على المشاركة في الربح والخسارة دون حساب سعر الفائدة أكثر استقرارا من النظام المالي الغربي” ([28]). وبشهادة مجلس الشيوخ الفرنسي الذي أكد أن هذا النظام المستمد من الشريعة الإسلامية يعيش ازدهارا واضحا و أنه مريح للجميع مسلمين و غير مسلمين و دعا إلى ضمه للنظام المصرفي في فرنسا([29]).
وتزايدت أعداد غير المسلمين الذين يعتبرون البنوك الإسلامية ملاذا آمنا لحماية أموالهم من خطر أزمة السيولة كما أوردت صحيفة "آر بي ديلي" الروسية في تقرير لها تحت عنوان: " نجاح البنوك الإسلامية في مواجهة الأزمة العالمية"، وصار تطبيق النظام المصرفي الإسلامي- المتسم بالأخلاقية فضلا عن النجاعة و الربحية- مطلبا غربيا، بعدما وضع أهل النظر الأصبع على مكمن الداء و الخلل، بحيث نجد على سبيل المثال السيد " بوفيس فانسون"، رئيس تحرير مجلة " تشالينجر" الفرنسية، يكتب في افتتاحية العدد الصادر في عز الأزمة العالمية في سبتمبر2008 موضوعا تحت عنوان: " البابا أو القرآن" ، مما جاء فيها:" أظن أننا بحاجة أكثر إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا،لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث و أزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري، لأن النقود لا تلد النقود." ([30]).
كما نجد السيد" رولان لاسكين" رئيس تحرير صحيفة " لوجورنال دي فينونس" الفرنسية، في افتتاحية العدد الصادر في نفس التاريخ يطالب بضرورة تطبيق الشريعة في المجال المالي و الاقتصادي في مقال افتتاحية الصحيفة تحت عنوان:" هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة.".
وعقدت منتديات و ندوات متخصصة في كبرى العواصم المالية الأوروبية، كباريس و لندن، فصارت المصطلحات الاقتصادية و المالية الإسلامية من مرابحة ومشاركة ومضاربة وإجارة وسلم و استصناع وغيرها متداولة في الساحة المالية و الاقتصادية الغربية، و يتم التعاطي معها كأمر واقع وحاجة ضرورية في عالم المال والأعمال([31]).
ما دفع العديد من الحكومات التي كانت متخلفة عن الركب، كما هو الشأن في فرنسا- وهي المعروفة بالحساسية المفرطة تجاه كل ما هو إسلامي- إلى تعديل التشريعات الخاصة بالقطاع المصرفي، لتتيح الفرصة لتسويق المنتجات المصرفية الإسلامية، وتفسح المجال أمام دخول الصكوك الإسلامية للتداول في بورصة باريس، وهو ما فسح المجال أمام المؤسسات المصرفية الفرنسية لاعتماد الصيغ الإسلامية ضن سلة تعاملاتها .
وصارت العديد من الدول الأوروبية خاصة بريطانيا و سويسرا و فرنسا تتسابق لتحظى بلقب عاصمة المالية الإسلامية في أوروبا([32]).
ثالثا: البنوك التشاركية في مشروع القانون البنكي.
رغم ما ذكر آنفا لم يكتب لتجربة البنوك الإسلامية التي ناهز عمرها نصف قرن من الزمن، أن ترى النور ببلادنا على امتداد عمر هذه التجربة ، رغم المناداة بأسلمة المعاملات المالية منذ فجر الاستقلال، و رغم مساعي بعض المهتمين و الغيورين على هذه التجربة منذ سنة 1985 لإقامة بنك إسلامي، أو على الأقل فتح شبابيك تتعامل بالصيغ الإسلامية في البنوك التقليدية، على غرار ما كان عليه الأمر بالعديد من الدول الغربية و العربية والإسلامية الموغلة وقتها في التوجه العلماني كتركيا و تونس، بعدما أبدت مجموعة بنك الوفاء وقتها استعدادها لتبني التجربة، نتيجة المعارضة الشرسة للوبي البنوك التقليدية التي تسيطر على سوق تبلغ أرباحه السنوية، ما يناهز 1000 مليار درهم و ممالأة السلطات النقدية المركزية لها؛
كما لم تفلح العديد من البنوك الإسلامية التي تقدمت بطلبات لإنشاء فروع لها بالمغرب، في الحصول على موافقة السلطات المالية التي ما فتئت تتذرع بعدم قدرة السوق المغربية على استيعاب المزيد من الفاعلين الجدد في هذا القطاع.
و رغم ما أثبتته الدراسات المتخصصة المنصبة في هذا الشأن على السوق المغربية، من جدوى المنتوجات المصرفية الإسلامية وقدرتها على استقطاب مبالغ مهمة غير مساهمة في النشاط الاقتصادي الوطني، و التي قدرتها بعض الدراسات في مبلغ 30 مليار درهم أي ما يعادل 6% من الناتج الخام الداخلي، وكذا على استقطاب فئات عريضة من مقاطعي الأبناك التقليدية للموقف الشرعي منها، بما سيمكن من اجتذاب سيولة مهمة، ويرفع نسبة الاستبناك لتتجاوز عتبة 30% وهو ما سيؤتر بالنتيجة على معدلات الادخار و الاستثمار؛
فإن السلطات المالية المغربية لم تقدم على فتح المجال أمام هذه الصيغ للتداول المصرفي، إلا بحلول سنة 2007 من خلال توصية بنك المغرب رقم 33/2007، تحت مسمى:" توصية متعلقة بمنتجات الإجارة والمشاركة و المرابحة"([33]).
هذه التوصية اليتيمة والغير ملزمة- والتي استندت للمرجعية الدولية في إقرار هذه الصيغ([34])– لم تراع طبيعة هذه الأخيرة و خصوصياتها، مما جعلها تحمل منذ الولادة أعراض احتضارها متمثلة بالأساس في :
1 – الازدواجية والتداخل التنظيمي بين الشرعي و الربوي، فلا هي من خلال أغلب تطبيقاتها بربوية محضة بالنظر لشكلها، و لا هي بشرعية محضة بالنظر لمصادر تمويلها ؛
2 – عدم إحاطتها بأية رقابة شرعية يمكن أن تكسبها الشرعية و تضفي عليها طابع الإسلامية، و يطمئن معها روادها من العملاء؛
3 – قدرتها التنافسية غير المشجعة بالنظر لارتفاع تكلفتها مقارنة بالمنتوجات الربوية من خلال فرض ضريبة تصل إلى 20% بما يعادل ضعف الضريبة المفروضة على المنتوجات التقليدية.
وهو ما ساهم إلى جانب عوامل أخرى في تعثرها و فشلها مباشرة بعد دخولها حيز التنفيذ.
فلم تلق هذه التجربة – كما أريد لها- الإقبال الجماهيري، رغم بعض الإجراءات المتخذة لتشجيعها من قبيل الخفض من قيمة الضريبة إلى حدود 10%، بحيث لم يتجاوز حجم تمويلاتها سنة 2011 حسب تقرير البنك الإفريقي للتنمية 0.1% من إجمالي التمويلات المصرفية المغربية([35]).
وكان علينا الانتظار إلى غاية الإفراج عن مشروع القانون البنكي الجديد، لنسجل إقرار المشرع المغربي بالعمل المصرفي الإسلامي من خلال تنظيمه للبنوك الإسلامية تحت مسمى "البنوك التشاركية"، على غرار ما عليه الأمر في بعض الدول ذات النظام المصرفي المزدوج كأندونيسيا التي تطلق عليها "بنوك المعاملة"، لما لمصطلح الإسلامية من حساسية، ولما قد يشكله من عامل ايجابي في اجتذاب العملاء لصالح البنوك الإسلامية في مواجهة غيرها من البنوك.
وقد خصص لها الباب الثالث من المشروع وأفرد لها 22 مادة من خلال ثلاث فصول، الأول تحت عنوان: مجال التطبيق، و الثاني تحت عنوان: هيئات المطابقة، والثالث تحت عنوان: أحكام متفرقة.
و عزا المشرع من خلال المذكرة التقديمية للمشروع ، وضعه لإطار قانوني يحكم نشاط البنوك التشاركية إلى وعي السلطات العمومية بما يمكن أن تقدمه المنتوجات والخدمات المالية التشاركية فيما يخص تعبئة الادخار و التمويل الإضافي للاقتصاد الوطني، آخذا بعين الاعتبار عناصر عديدة في سن المقتضيات المتعلقة بها و المتمثلة أساسا في:
– نضج النظام المالي الوطني؛
– آفاق الاستثمار و التمويل التي يختزلها هذا المجال ببلادنا؛
– إحداث قطب مالي يتميز بإشعاع على المستوى الجهوي و العالمي و الذي يستوجب توافر هذه الفئة من المالية العالمية؛
– ضرورة توفير منتوجات و خدمات مالية لفائدة المواطنين المقيمين و كذلك الجالية المغربية المقيمة بالخارج التي يوفر لها القطاع المالي لبلد إقامتها منتوجات منبثقة من المالية التشاركية.
وسنتناول باقتضاب مقتضيات هذا المستجد التشريعي من خلال الحديث عن مقتضيات الفصول الثلاثة المكونة للباب الثالث من هذا المشروع المخصص للبنوك التشاركية، قبل أن نختم بمحاولة تقييم هذا المستجد و استشراف آفاقه.
أ- تعريف البنوك التشاركية و إجراءات تأسيسها.
عرف مشروع القانون البنكي، البنوك التشاركية بأنها الاشخاص المعنوية المؤهلة لمزاولة أنشطة مؤسسات الائتمان و المتمثلة في :
– تلقي الأموال من الجمهور، بما في ذلك الودائع الاستثمارية؛
– عمليات الائتمان؛
– وضع جميع وسائل الأداء رهن تصرف العملاء أو القيام بأدائهما. بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة؛
بالإضافة إلى مزاولة العمليات التجارية والمالية والاستثمارية، باستثناء كل عملية تعامل بالفائدة أخذا وعطاء.
كما عرف باقتضاب بأهم صيغ تمويل البنوك التشاركية لعملائها والمتمثلة أساسا في المرابحة والإجارة والمشاركة والمضاربة . فاسحا المجال أمام باقي الصيغ التمويلية الأخرى التي لا تتعارض مع أحكام الشرعية بعد أن تتحدد مواصفاتها التقنية وكيفية تقديمها للعملاء، بمنشور يصدره والي بنك المغرب بعد استطلاع رأي لجنة الشريعة للمالية ولجنة مؤسسات الائتمان.
وعرض للإجراءات الإدارية لتأسيس البنوك التشاركية واعتمادها، محيلا على مقتضيات المادة 32 من ذات المشروع، والتي يمكن إجمالها في تقديم طلب الاعتماد لمزاولة نشاط مؤسسة ائتمان لبنك المغرب، مرفقا بجميع الوثائق التي يراها والي بنك المغرب ضرورية للبت في طلب الاعتماد، بما في ذلك ما يطلبه من معلومات إضافية بعد وضع الطلب وأثناء دراسته . و بعد التأكد من توفر الشروط اللازمة يبلغ والي بنك المغرب مقرر منح الاعتماد أو رفضه عند الاقتضاء إلى المؤسسة بمقرر معلل بوجه قانوني داخل أجل لا يزيد على أربعة أشهر من تاريخ تسليم جميع الوثائق والمعلومات المطلوبة.
وتبعا لمقتضيات المادة 60 من هذا القانون ، فيمكن للبنوك التقليدية وشركات التمويل أن تقوم بفتح شبابيك تتعامل بصيغ البنوك التشاركية .
ب – الرقابة على البنوك التشاركية.
علاوة على إلزام المشروع في المادة 67 البنوك التشاركية على غرار البنوك التقليدية بتكوين لجنة افتحاص، تحدد شروط وكيفيات سيرها بمنشور يصدره والي بنك المغرب بعد استطلاع رأي لجنة مؤسسة الائتمان، والتي يعهد إليه القيام بما يلي:
– التعرف والوقاية من مخاطر عدم المطابقة لأحكام الشرعية؛
– ضمان تتبع تطبيق أراء لجنة الشريعة للمالية ومراقبة مدى احترام هذا التطبيق؛
– وضع المساطر والمرشد المتعلقة بأحكام الشرعية الواجب احترامها؛
– اعتماد التدابير المطلوبة في حالة عدم احترام الشروط المفروضة عند وضع منتوج صدر بخصوص رأي شرعي.
علاوة على ما ذكر، نص المشروع على آلية الرقابة الشرعية، و التي سمى إطارها بهيئات المطابقة، من خلال إحداث لجنة الشريعة المالية استنادا لأحكام المادة 7 و8 من الظهير الشريف المتعلق بإعادة تنظيم المجالس العلمية والتي ستحدد تركيبة وكيفية سيرها بمرسوم، محددا مهامها في ما يلي:
– البت حول مطابقة العمليات والمنتوجات المقدمة للجمهور للشريعة؛
– الرد على استشارات البنوك؛
– إبداء رأي مسبق حول محتوى الحملات الدعائية لمؤسسات الائتنان التي تزاول النشاط التشاركي؛
– اقتراح أي تدبير من شأنه الإسهام في تنمية أي منتوج أو خدمة مالية مطابقة للشريعة.
هذه اللجنة التي يتولى بنك المغرب أعمال سكرتاريتها، وتكون آراؤها مقدمة على أي تفسير مناف للمقتضيات المتعلقة بالمنتوجات والخدمات المطابقة للشريعة، وقابلة للاحتجاج بها بالنسبة للبنوك التشاركية ولكل مؤسسة مالية تقدم منتوجات وخدمات مطابقة للشريعة.
وتنشر هذه الهيئة تقريرا سنويا بآرائها المبداة خلال السنة المالية السابقة، وتقديرها وتقييمها بشأن مطابقة أعمال البنوك التشاركية لأحكام الشريعة.
وتكون البنوك التشاركية ملزمة برفع تقرير تقييم لهذه اللجنة حول مطابقة أعمالها لأحكام الشريعة.
ج – ضمان الودائع و حماية المودعين.
أوجب المشروع في فصله الأخير من الباب المخصص للبنوك التشاركية على هذه الأخيرة الانضمام للجمعية المهنية لبنوك المغرب. وتحدث عن إحداث صندوق ضمان الودائع الخاص بالبنوك التشاركية، لتعويض المودعين في حالة عدم توفر ودائعهم أو جميع الأموال الأخرى القابلة للإرجاع، باستثناء الودائع الاستثمارية والأموال المستثناة من الضمان بمقتضى المادة 13 من ذات القانون.
ويكون المشرع المغربي بذلك قد نهج مسلك جمهور الفقهاء المعاصرين المانعين لضمان الودائع الاستثمارية خلافا لما عليه الأمر في القانون المصرفي السوداني و ما عليه العمل في البنوك الإسلامية الأردنية.
هذا الصندوق وعلى غرار صندوق ضمان الودائع في البنوك التقليدية، يمكنه على وجه الاحتياط والاستثناء أن يقدم لبنك تشاركي في وضعية صعبة وفي حدود المتوفر مساعدات قابلة للإرجاع، أو أخذ مساهمة في رأسمالها.
ويمنح امتياز هذا الصندوق إلى الشركة المسيرة للصندوق الجماعي لضمان الودائع المنصوص عليها في المادة 135، وتحدد شروط وكيفيات سير هذا الصندوق بمنشور يصدره والي بنك المغرب بعد استطلاع رأي لجنة مؤسسة الائتمان ولجنة الشريعة المالية.
خاتمة
من خلال استعراض المقتضيات الخاصة بالبنوك التشاركية يمكن القول بأن المشروع قد أولى اهتماما بالغا لتنظيم هذه المؤسسات، من خلال التأكيد و بشكل واضح على الصيغ الشرعية لتعاملاتها و ضرورة مطابقتها لأحكام الشريعة و بعدها عن التعامل بالفائدة أخذا و عطاء؛
و كذا من خلال إحاطة هذه المؤسسات برقابة شرعية داخلية و مركزية، بحيث لا يسعنا- رغم ما يعتري هذا المشروع من نقص و ما قد يرد عليه من ملاحظات انتقادات ، إن على مستوى الإطار العام، أو على المستوى التنظيمي، أو على مستوى العلاقة مع البنك المركزي و البنوك الربوية، أو على مستوى الرقابة الشرعية … – إلا التنويه به وما جاء به من مقتضيات بهذا الشأن ، وكلنا أمل أن ترى النور و تعرف طريقها إلى التطبيق وأن لا تعترضها عقبات تشريعية تعرقل إقرارها أو تشوه صياغتها وتفرغها من محتواها، أو تقرنها بشروط تعجيزية تحول دون قيام هذه البنوك أو قيامها مشلولة ومتعثرة.
و نتمنى أن لا يتم الاكتفاء بالترخيص مؤسسة وحيدة تحت أية ذريعة كانت، لما سينتج عن هذه التجربة من آثار إيجابية على السوق المالي المغربي أمام أزمة السيولة و الخصاص الحاد في الموارد المالية الذي تعيشه المؤسسات المركزية رغم إعمال جميع آليات السياسات النقدية، بما في ذلك خفض معدل الاحتياط الإجباري للبنوك بالبنك المركزي ، وأمام ثقل أعباء مبالغ التسبيقات المقدمة للبنوك والتي وصلت في بعض الأوقات 50 مليار درهم في الأسبوع([36]).
وذلك لما لهذه البنوك و المؤسسات التي في حكمها من أهمية في اجتذاب السيولة النقدية من خلال:
1 – جذب المدخرات المحلية المعطلة و التي قدرتها بعض الدراسات كما أسلفنا في مبلغ 30 مليار درهم ، وهو ما سيرفع نسبة الاستبناك بنسبة تقارب ضعف النسبة الحالية، بعدما أكدت دراسة حديثة متخصصة استعداد 84% من العينة المشمولة بالدراسة للتعامل مع البنوك الإسلامية حال قيامها بالمغرب؛
2 – اجتذاب أموال المواطنين المغاربة بالخارج المتعاملين مع المؤسسات غير الربوية و المودعة بالمؤسسات المصرفية الغربية، والتي بلغت حسب تصريحات مدير مكتب الصرف سنة 2011، حوالي 38 مليار درهم، في الوقت الذي عرفت فيه تحويلات الجالية المقيمة بالخارج انخفاضا مهولا في السنوات الأخيرة؛
3 – جلب استثمارات كبريات البنوك الإسلامية ذات السيولة العالية، كبنك فيصل الإسلامي، وبنك قطر الإسلامي الدولي، و مجموعة البركة المصرفية، و غيرها من المؤسسات التي أعلنت استعدادها للاستثمار في السوق المصرفي المغربي بعد إقرار البنوك الإسلامية؛
د – استقطاب الأموال الخليجية التي تبحث عن أسواق آمنة متعاملة للاستثمار وفق الصيغ الشرعية و التي تقدرها بعض الإحصائيات في مبلغ 400 مليار دولار([37]).
وهذا ما سينعش السوق المالية المغربية، وينوع سلة تعاملاته، ويفتح الباب أمام تدفق الأموال و السلع و الخدمات، مما يجعل من المغرب بالفعل قطبا ماليا يتميز بإشعاع على المستوى الجهوي و العالمي، و سيؤثر إيجابا ، بالضرورة و التبع، على الاقتصاد المغربي عموما من خلال المساهمة في التخفيف من التبعية الاقتصادية والمالية للدول والجهات الدائنة الخارجية و التخفيف من أعباء خدمة الديون الربوية. و ذلك من خلال:
أ – إيجاد صيغ تمويلية للقطاعات غير المهيكلة التي لا توفر لها الصيغ المعمول بها حاليا في البنوك التقليدية آليات تمويل مشاريعها ، متمثلة بالإضافة للمشاركة و المضاربة و المرابحة و الإجارة، في السلم و الاستصناع و المغارسة و المزارعة.
ب – المساهمة في تنويع الاستثمارات في مختلف المجالات الصناعية و الحرفية و الفلاحية، وتشجيع المشاريع الإنتاجية المحلية للتخفيف من آثار عجز الميزان التجاري و تشجيع التشغيل الذاتي و بالتالي إدماج موارد و طاقات بشرية مهمة في سوق الشغل بما يخفف من أزمة البطالة، و يرفع من وثيرة النمو ويدفع بالعجلة الاقتصادية نحو الأفضل بما يحقق السلم و الاستقرار الاجتماعيين .
هذا فضلا عن ربط الاقتصاد المغربي بمحيطه العربي و عمقه الإسلامي، وإعادة صلته بجذوره وأصوله التشريعية، بما يكرس هوية هذا البلد و أهله، و يمكن لتطبيق شرع الله في معاملات عباد الله، و يرفع الحرج و الحيف عن فئة أقصيت-قسرا وبقوة القانون- لعقود من الزمن في ولوج الحقل المصرفي و الاستفادة من معاملاته وخدماته، لا لشيء إلا لأنهم لا يقبلون التعامل بالفائدة، و لا توفر لهم السلطات النقدية البدائل المتاحة أسوة بباقي بلدان العالم الغربي فضلا عن العربي و الإسلامي.
و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
([1]) – دكتوراه في الشريعة تخصص: فقه المعاملات من كلية الشريعة جامعة القرويين بأكادير؛
– دبلوم التقني في المحاسبة من المعهد المتخصص للتكنولوجيا التطبيقية بأكادير؛
– شهادة التكوين التأهيلي في التسيير التجاري من المدرسة الوطنية للتجارة و التسيير جامعة ابن زهر بأكادير.
([2]) ينظر في مقاصد الشرع في الأموال: مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ص: 175 وما بعدها.
([3]) تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، د. سامي حسن حمود، ص: 82.
([4]) سورة البقرة، الآيتان: 278-279. هذا علاوة على الأضرار الاقتصادية للفائدة حيث خلص العديد من كبار الاقتصاديين الغربيين من أمثال: كينز و سيمونز و فريدمان و ليبلنج و آرثر كينستون و هايلز و موريس آلي، فضلا عن أمثالهم من العرب و المسلمين، إلى أن سعر الفائدة لا يشجع الادخار و يعيق الاستثمار ، و يزيد من البطالة، و يولد الأزمات الاقتصادية و يؤدي إلى تدهور النقود،و سوء تخصيص الموارد وسوء توزيع الدخل، و يخفض من معدل نمو الاقتصاد القومي، و يكرس الطبقية و يمنع الحراك الاجتماعي و يخلق الاستغلال المقيت بين طبقات المجتمع، و يقف حجر عثرة في طريق التنمية و يسلب الدول حريتها و إرادتها، و يهوي باقتصادها و يراكم ديونها. فيكون بذلك " إيدز" المعاملات الاقتصادية، بحيث يفقد الحياة الاقتصادية مناعتها، و يسلبها قدرتها على محاربة الأمراض الاقتصادية. أنظر في هذا الشأن : الأرباح والفوائد المصرفية بين التحليل الاقتصادي والحكم الشرعي، د. عبد الحميد الغزالي، ص: 15. و: الأزمة المالية العالمية " رؤية إسلامية" د: أشرف دويبة ، ص 106/107. و : الربا و أثره على المجتمع الإنساني، د: عمر سليمان الأشقر، ص 118 وما بعدها.
([5])هذا قبل أن تعمد الآلة التسويقية المصرفية و تتفنن في ابتداع أساليب خلق الضمانات الوهمية لتوسيع دائرة معاملاتها و تعظيم أرباحها من خلال اجتذاب فئة الزبناء، التي يمكن أن تحظى قروضها بالشراء من قبل المؤسسات المالية و المتخصصة في شراء الديون.
([6]) وهو ما عبر عنه المستشار الألماني برانت بكلمات بليغة حين قال عن حقيقة الفائدة من خلال العمل المصرفي:" إن ما يجري هو عملية نقل دم عكسية من المريض إلى الطبيب". انظر: د أشرف دويبة: الأزمة المالية العالمية " رؤية إسلامية"، ص 106/107.
([7]) فوائد البنوك هي الربا الحرام، د. يوسف القرضاوي، ص: 39.
([8]) عن مفهوم الاقتصاد في الإسلام: د. محمود الخالدي، ص: 29.
([9]) الأرباح والفوائد المصرفية بين التحليل الاقتصادي والحكم الشرعي، د. عبد الحميد الغزالي، ص: 15.
([10]) ظهرت بآسيا في هذا السياق تجارب في الخمسينيات من القرن المنصرم ، كصندوق الحج في ماليزيا، لكنها لم ترق إلى مستوى تجربة بنوك الادخار المحلية في مصر، تنظيما و ممارسة.
([11]) ذ: علي يوعلا: تجربة المصارف الإسلامية. "في الاقتصاد الإسلامي". أعمال ندوة من منشورات كلية الآداب جامعة محمد الخامس الرباط. 1989. ص186.
([12])البنوك الإسلامية، التجربة بين الفقه و القانون و التطبيق. د عائشة الشرقاوي المالقي. ص 64.
([13]) المصارف الإسلامية ضرورة حتمية، د. محمود محمد بابللي، ص: 143.و البنوك الإسلامية، التجربة بين الفقه و القانون و التطبيق. د عائشة الشرقاوي المالقي. ص 65.
([14]) الاقتصاد الإسلامي، د. علال الخياري، ص: 133.
([15]) هذا البنك مؤسسة مالية دولية للتمويل الإنمائي، يهدف إلى المساعدة على تنمية التِّجارة الخارجية، وتوفير وسائل التدريب، والقيام بالأبحاث اللازمة للنشاط الاقتصادي و المالي و المصرفي الإسلامي، وتشارك فيه جميع الدول الإسلامية المتمتعة بعضوية منظمة المؤتمر الإسلامي بعد الاكتتاب في رأس ماله؛ وذلك لدعم التنمية الاقتصادية والتقدُّم الاجتماعي لشعوب الدول الأعضاء و المجتمعات الإسلامية مجتمعة و منفردة بما لا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية.
([16]) لا يزال هذا المصرف محتلا للصدارة بين البنوك الإسلامية، حيث تظهر أحدث الإحصائيات أنه يعتلي برسم سنة 2012 المرتبة الأولى بين المصارف الإسلامية الإماراتية الخمسة (المساهمة العامة)، من حيث حجم الأصول بواقع 95.37 مليار درهم إمارتي بما نسبته 41.17% من إجمالي أصول المصارف المذكورة. و المرتبة الأولى من حيث حجم الودائع بواقع 66.8 مليار درهم، والمرتبة الأولى من حيث حجم التمويلات التي قدمها بواقع 55.56 مليار درهم. و المرتبة الأولى من حيث النمو في حجم الأرباح التي تم توزيعها، وقام في نفس السنة بفتح 9 فروع جديدة بدولة الإمارات العربية ليصل عدد فروعه في بداية 2012 إلى 74 فرعا.
([17]) أنشئ هذا البنك بهدف تقديم المساعدة التقنية و الخبرات للمجتمعات الإسلامية الراغبة في البنوك الإسلامية و متابعة أنشطتها و تطويرها وتذليل الصعوبات التي تعترضها ووضع أسس التعاون و التنسيق و تبادل الخبرات بينها و تمثيل المصالح المشتركة لها و الدفاع عن مصالحها، و السعي لتحقيق ضمان حرية انتقال الأموال بين البنوك الإسلامية، والعمل على تنسيق و توحيد نظم العمل و النماذج المصرفية، و إبداء المشورة و إعداد الدراسات فيما يتعلق بمشروعاتها، و اقتراح وسائل تدبير الموارد، و القيام بالوساطة و التحكيم بين البنوك الإسلامية طبقا لنظام يضعه الإتحاد، وبحث مشاكل النقد و الائتمان في البنوك محليا و دوليا و اقتراح حلول لمشاكل المتعلقة بها، والنهوض بأوضاع العاملين بالبنوك الإسلامية الأعضاء.
([18]) البنوك الإسلامية، التجربة بين الفقه و القانون و التطبيق. د عائشة الشرقاوي المالقي. ص 87/98.
([19]) ذ علي يوعلا: تجربة المصارف الإسلامية. "في الاقتصاد الإسلامي". أعمال ندوة من منشورات كلية الآداب جامعة محمد الخامس الرباط. 1989.
([20]) تطور العمل المصرفي الإسلامي: مشاكل وآفاق، الشيخ صالح عبد الله كامل، ص: 9.
([21]) التحديات التي تواجه العمل المصرفي الإسلامي، منور إقبال، وأوصاف أحمد، وطارق الله خان، ص: 61.
([22]) مجلة اقتصادنا الصادرة بالدار البيضاء، حوار مع د. سعيد المرطان، عدد 52، أبريل-ماي 1999.
([23]) البنوك الإسلامية بين الحرية والتنظيم، التقليد والاجتهاد، النظرية والتطبيق، د. جمال الدين عطية، ص: 19.
([24])مجلة الاقتصاد والأعمال – كانون الأول / ديسمبر 2002
([25]) الأزمة المالية العالمية " رؤية إسلامية"، د: أشرف محمد دويبة، ص 107.
([26]) صحيفة المصريون العدد المؤرخ في 26 مايو 2013.
([27]) فوائد البنوك هي الربا الحرام، م.س.، ص: 33.
([28]) انظر: من أجل بنك إسلامي أفضل، د. عبد الرحمن لحلو، ص: 45.
([29])الأزمة المالية العالمية " رؤية إسلامية"، د: أشرف محمد دويبة، ص 140.
([30])نفسه، ص 139/140.
([31]) في هذا السياق انتشر الحديث لدى الأوساط المراقبة في أوروبا عن الإسلام الاقتصادي على غرار الإسلام السياسي، دون أن يثير الأول ما كان يثيره الثاني من حساسية و توجس، فكأن التاريخ يعيد نفسه ليتوسع الإسلام وينتشر في أوروبا عن طريق المؤسسات و الصيغ المالية، كما انتشر ذات زمن في آسيا غيرها عن طريق التجار و هدي الشريعة في المعاملات.
([32]) مجلة الاقتصاد الإسلامي الصادرة بدبي: افتتاحية العدد 388، مايو 2013.
([33]) انظر بشأن هذه التوصية: البنوك الإسلامية في ضوء المستجدات التنظيمية للمنتجات التمويلية بالمغرب"، مريد جواد، ص 220 و ما بعدها.
([34]) تتضح هذه المرجعية من خلال مقتضيات المادة 15 من هذه التوصية والتي جاء فيها: " ينبغي على مؤسسات الائتمان التي تقدم المنتجات المنصوص عليها في المادة الأولى أعلاه أن تتأكد بكل وسيلة من مطابقة المنتجات المذكورة للمقاييس الدولية المعمول بها". وهي ذات المرجعية التي استند إليها مشروع القانون البنكي حيث عزا واضعه من خلال مذكرته التقديمية تنظيم نشاط البنوك التشاركية إلى وعي السلطات العمومية بما يمكن أن تقدمه المنتوجات والخدمات المالية التشاركية فيما يخص تعبئة الادخار و التمويل الإضافي للاقتصاد الوطني، وسعيها إلى إحداث قطب مالي يتميز بإشعاع على المستوى الجهوي و العالمي، والذي يستوجب توافر هذه الفئة من المنتوجات والخدمات المالية، و التي وصفها بالفئة من المالية العالمية.
([35]) هكذا ذهبت الإستراتيجية المالية الوطنية المؤطرة لهذه التوصية سدى، إذ لم تنجح هذه الأخيرة في رفع درجة الاستبناك، كما لم تنجح في تلبية حاجيات المواطنين الراغبين في ممارسات مالية منسجمة مع قناعاتها الدينية، فضلا عن استقطاب الاستثمارات المالية المتاحة بدول الخليج بيد رواد المصرفية الإسلامية.
وإن كان من شيء يشفع لهذه التجربة في فشلها الذريع في تحقيق هذه الأهداف الثلاثة، فهو أنها نجحت في تحقيق الهدف الرابع والمتمثل في عدم زعزعة استقرار معاملات البنوك التقليدية !!!.
([36]) عبد الواحد كنفاوي: "أزمة السيولة تفتح الباب للبنوك الإسلامية"، مقال بالموقع الإليكتروني لجريدة الصباح مؤرخ في 11/09/2012 .
([37]) د عمر الكتاني: حوار مع جريدة الصباح منشور بالموقع الإليكتروني للجريدة بتاريخ 11/09/2012