الدبلوماسية القضائية المغربية نحو التأسيس لريادة دولية
الباحث : يـــــــــــونس الجنـــــــــاتي باحث بسلك الدكتوراه بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية -فاس- باحث بالمركز الوطني للدراسات القانونية باحث في القانون الدبلوماسي والقنصلي
الدبلوماسية القضائية المغربية نحو التأسيس لريادة دولية
Moroccan judicial diplomacy towards establishing international leadership
الباحث : يـــــــــــونس الجنـــــــــاتي
باحث بسلك الدكتوراه بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية -فاس-
باحث بالمركز الوطني للدراسات القانونية
باحث في القانون الدبلوماسي والقنصلي
ملخص باللغة العربية
تأتي الدبلوماسية القضائية المغربية كنتاج للممارسة الدبلوماسية الموازية،وإحدى السبل المثلى من أجل تحقيق الدعم للقضايا الوطنية،لذلك سعت المملكة المغربية إلى تدشين هذا الورش الكبير عن طريق ميكانيزمات تشريعية ومؤسساتية ترنو إلى الدفع بها وتطويرها في افق جعلها رائدة على المستوى الدولي.
ولعل الأبعاد الوظيفية لهذا النوع الجديد من الدبلوماسية،يستقي ماهيته من بعد الدفاع عن الوحدة الترابية،إضافة إلى البعد التعريفي بالتراث القضائي تم البعد الاستثماري والاقتصادي
إن تجليات الدبلوماسية القضائية المغربية ضاربة في عمق التاريخ،بدأت بترسيخ المكون العبري المعتبر مادة فريدة ومتميزة في التشريع المغربي ،مرورا بالتشريعات الجديدة الرامية لاستقلالية السلطة القضائية،تم المؤسسات الدستورية المنافحة (المجلس الأعلى للسلطة القضائية)،فالاتفاقيات الدولية المبرمة مع المجالس العليا للقضاء الأجنبية
و من تم فإن التأسيس لدبلوماسية قضائية مغربية لابد لها من مراكمة المكتسبات الحالية والبحث عن قنوات أخرى من أجل تعزيز حظوتها وهو ما سيتأتى من خلال توسيع الشركاء الاستراتيجيين،خاصة الدول الخليجية والآسيوية،إضافة إلى تخصيص أروقة داخل المجلس الأعلى للسلطة القضائية للتعريف بالتراث القضائي العريق.
Summary
Moroccan judicial diplomacy comes as a product of parallel diplomatic practice, and one of the best ways to achieve support for national issues. Therefore, the Kingdom of Morocco sought to inaugurate this great workshop through legislative and institutional mechanisms that aspire to advance and develop on the horizon to make it a pioneer at the international level.
Perhaps the functional dimensions of this new type of diplomacy, its essence, derives from the dimension of defending the territorial integrity, in addition to the introductory dimension of the judicial heritage, the investment and economic dimension.
The manifestations of Moroccan judicial diplomacy are deeply rooted in history, beginning with the consolidation of the Hebrew component, which is considered a unique and distinct substance in Moroccan legislation, passing through new legislation aiming at the independence of the judiciary, and the competing constitutional institutions (the Supreme Council of the Judicial Power), and international agreements concluded with foreign supreme judicial councils.
Thus, the establishment of a Moroccan judicial diplomacy must accumulate current gains and search for other channels in order to enhance its fortunes, which will come through the expansion of strategic partners, especially the Gulf and Asian countries, in addition to allocating corridors within the Supreme Council of the Judiciary to introduce the ancient judicial heritage.
بعد مرور زهاء ثلاثة عقود من الزّمن على نهاية الحرب الباردة، وما رافق ذلك من تبشير بولادة «نظام دولي جديد» يدعم تحقيق السلم والأمن الدوليين ونبذ الحروب،ويرسّخ احترام حقوق الإنسان، وتشجيع الإصلاحات الديمقراطية ،مازال الواقع الدولي يعجّ بالأزمات والنزاعات المسلحة، الأمر الذي تمخض عنه تفشي المخاطر والتهديدات العابرة للحدود كالإرهاب وتلوث البيئة والجرائم الرقمية…
وعليه فإن الضوابط الدولية التقليدية التي أقرّها القانون الدولي ومختلف المواثيق والاتفاقيات الدولية، لم تعد قادرة على مواكبة التحولات الدولية الراهنة بتعقد وتسارع أزماتها وتشابك قضاياها، الأمر الذي فرض تطويرها، والبحث عن سبل موازية تساهم في تعميق التواصل والحوار الدولي على طريق ترسيخ سلام دولي مستدام، يدعم تحقيق الديمقراطية والتنمية، وفي هذا السياق، طرح على طاولة الشأن الدبلوماسي العالمي مفهوم جديد يروم دعم الدبلوماسية الرسمية عبر تقويتها بميكانيزمات مستجدة لا تتدخل فيها الأنظمة الحكومية ببروتوكولات رسمية أو ايتيكت خاص يقيد عملها وتصورها للعمل الدبلوماسي الرسمي، يتعلق الامر بدبلوماسية تقودها الفعاليات الوطنية من مجتمع مدني ومؤسسات دستورية و أخرى علمية وأكاديمية إضافة إلى الجامعات والمراكز البحثية والمجتمع المدني والاعلام البنّاء المتتبع للشأن العام داخليا و دوليا.
ورغم أن هذا المفهوم قد استخدم لأول مرة من طرف باحثين كنديين وأمريكيين لتمييز الاتصالات الدولية المنفردة لكل ولاية من الولايات المشكلة للدولة الفدرالية الأمريكية والكندية، فإنه سرعان ما انتشر في أرجاء المعمور بسبب تضاعف عدد الفاعلين ضمن هذا النوع المستجد من الدبلوماسية، مما سمح بتطور سريع للتنظير للظاهرة أكاديميا وإعلاميا أيضا بشكل برزت معه أنواع شتى من التسميات لهذه الدبلوماسية، فلم يعد غريبا أن نسمع بدبلوماسية شعبية، وأخرى برلمانية، وثالثة روحية و قضائية.
وفي سياق كهذا، كان من الطبيعي أن تعمد الدول والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية إلى تشجيع هذا النوع من الدبلوماسية ومحاولة استغلاله في خدمة مصالحها، وجعله مكملا ورافدا لتحركاتها الدبلوماسية الرسمية، وأحيانا مفتاحا سريا لحل أو حلحلة بعض القضايا التي تستعصي على الاتصالات العلنية في مختلف مستوياتها.
واستنادا على ذلك ، لم يحد المغرب عن هذه القاعدة، بل كان سباقا إلى تبني هذا النوع المستجد من الدبلوماسية والعمل على تأطيره. لتكون أول إشارة رسمية في هذا الاتجاه هي الكلمة التي ألقاها جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني رحمه الله مهندس السياسة الخارجية و عميد التوجهات الاستراتيجية ،عند إنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان حين طلب من أعضائه آنذاك الدفاع عما سماه وجه المغرب الحقوقي والتصدي لافتراءات منظمة العفو الدولية التي قال إنها “تأتي… وتمارس علينا الرقابة وكأننا تحت الحماية..”
واستكمالا لهذا الورش الدبلوماسي الكبير، وإيمانا من المملكة المغربية الشريفة بدورها الطلائعي ضمن كوكبة الدول الرائدة دبلوماسيا ، دشن جلالة الملك محمد السادس دام له النصر والتمكين منذ اعتلائه سدة أسلافه المنعمين حقبة دبلوماسية جديدة تراوحت بين تأكيد الحضور الرسمي القوي في كل المحافل الدولية ، وتعبئة الدبلوماسية الموازية ، الشيء الذي نتج عنه بعد الممارسة الواقعية، التقعيد لدبلوماسية موازية مغربية خالصة ذات طابع مؤثر وخلاق ،و لعل ما يؤكد هذه الاستراتيجية الفريدة، الخطب الملكية السامية الداعية لضرورة تكاثف الجهود العملية بين الدبلوماسية الرسمية والموازية ، نذكر منها الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك و الشعب وعيد الشباب بتاريخ 21 غشت 2002 الذي أعطى اللبنات الأساسية للرؤية الاستراتيجية في تدبير الشأن الدبلوماسي وأدخل المنظمات غير الحكومية كفاعل فيها ،إضافة لذلك الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى الخامسة لاعتلاء الملك محمد السادس العرش العلوي المجيد الذي حدد على إثره معالم السياسة الخارجية المغربية وحدد بعضا من توجهاتها وجدد الدعوة الى اصلاح الدبلوماسية المغربية، وتأهيلها وذلك باستثمار التحولات الديمقراطية للمغرب ورصيده التاريخي وموقعه الجيوستراتيجي كشريك دولي وقد تضمن الخطاب الملكي كذلك إشارات واضحة لإرساء دبلوماسية مغربية قوية ومؤهلة للاطلاع بدورها التاريخي في اجتياز المنعطف الحاسم.
( مقتطف من الخطاب الملكي السامي ) : ” واذا كانت الدبلوماسية الرسمية تقوم بدورها التقليدي والرئيسي في صنع القرار في ما يخص السياسة الخارجية للبلاد, فإن النقاش الذي يطرح نفسه بإلحاح هو ما يتعلق بالدبلوماسية الموازية كما اصطلح عليها خطاب العرش””.
تبعا لذلك،وعطفا على ما سلف، أكد ملكنا الهمام في مضامين الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى34 للمسيرة الخضراء, أهمية تفعيل الدبلوماسية الرسمية والموازية للدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة وحماية حقوق ومصالح الوطن, مسجلا أن المسؤولية تقع اليوم, بالأساس, على عاتق الأوساط التي تأخذ بزمام المبادرة.
وتجسيدا لهذه التوجيهات الملكية، تطورت أشكال وأنواع الدبلوماسية الموازية في المغرب وبرزت العديد من الوجوه من ضمنها كما أسلفنا الذكر، كما تناسلت مؤسساتها ليصل بعضها إلى أن يصبح مؤسسة دستورية، كما هو حال المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومجلس الجالية المغربية بالخارج. وقد خصصت لمعظم تنظيمات الدبلوماسية الموازية ميزانيات ووفرت لها إمكانيات لعلها تؤدي دورها بفعالية وتقدم دعما للأجهزة الدبلوماسية التقليدية الرسمية ولأدواتها.
اعتبارا لذلك ،وتثمينا لهذا لورش الدبلوماسي الحيوي،لم يكن القضاء بمعزل عن هذه التغيرات الاستراتيجية منذ عهد الحماية،باعتباره حامي الحقوق والحريات، ومنبع التنمية الشاملة، وعليه واستشعارا لأدواره الجديدة التي لم تعد تقتصر على ما قضائي فقط ،أبى على نفسه إلا أن يكون في طليعة المؤسسات الدستورية المنافحة عن قضايا هذا الوطن الشريف،واضعا الحجر الأساس لدبلوماسية قضائية من نوع فريد تمزج بين أبعاد متعددة منها ما هو دفاعي عن الوحدة الترابية ومنها ما هو اشعاعي واقتصادي،خاصة بعد التأسيس للمقتضيات القانونية الناظمة للسلطة القضائية،( القانونين التنظيميين رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والنظام الأساسي للقضاة رقم 103.13،علاوة على القانون الداخلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية)، وتحديد اختصاصاته الاصيلة عن الوزارة الحكومية المكلفة بالعدل.
بناء على ما تقدم، يظهر أن القضاء كان ولا زال في صلب كل القضايا الوطنية بقضاته وكفاءاته المجندة من أجل خدمة المواطن والصالح العام ،بما يحفظ هيبته ومكانته كسلطة مستقلة ونزيهة، إضافة لكونه فاعلا محوريا في مسلسل الإصلاحات الهيكلية فيما يتعلق بالدبلوماسية الموازية عامة، والدبلوماسية القضائية خاصة،الشيء الذي تم تنزيله في السنوات الماضية على مستوى محكمة النقض و تكريسه بشكل أكبر بعد تنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
في خضم هذه الاعتبارات، وملامسة لموضوع مستجد وحيوي ضمن منظومة العدالة،كان لابد من بسط تساؤلين يرميان إلى التحديد الموضوعي لمجال واسع ومتشعب يتداخل فيه الدبلوماسي مع القانوني و الاقتصادي في بوثقة واحدة خادمة للشأن القضائي المغربي ومنفتحة على واجهات متعددة كما سنرى آتيا.
فما هو موقع الدبلوماسية القضائية كفاعلة في خدمة القضايا الوطنية ؟ وما هي أبعادها الوظيفية و آفاقها المستقبلية ؟
ومن أجل بسط متكامل لموضوع ذو راهنية وجدة ، كان لزاما تنزيله وفق قالب منهجي رصين،مقسم إلى ثلاث محاور :
- المحور الأول : الأبعاد الوظيفية للدبلوماسية القضائية المغربية
- المحور الثاني : تجليات الدبلوماسية القضائية المغربية
- المحور الثالث : آفاق الدبلوماسية القضائية (ورش استراتيجي نحو التموقع القضائي الدولي
المحور الأول : الأبعاد الوظيفية للدبلوماسية القضائية المغربية
تتمأسس الدبلوماسية الرسمية على خدمة المصالح العليا للوطن، وتنفيذ الاستراتيجيات الرامية لتبوأ المملكة المغربية مكانتها البارزة ضمن المنتظم الدولي، وهو القاسم المحدد والمحوري في كل أنواع الدبلوماسية، لذلك ساهم القضاء من جانبه في تحقيق هذه الغاية المشتركة عبر ملامسته لمجموعة من الابعاد الوظيفية من ضمنها الدفاع عن الوحدة الترابية ( أولا) علاوة على الدور التعريفي بالتراث القضائي المغربي ( ثانيا) و المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية عبر تشجيع الاستثمار الأجنبي (ثالثا)
أولا: بعد الدفاع عن الوحدة الترابية
تعد قضية الصحراء المغربية، قطب رحى الأولويات الوطنية وشريان التحركات الدبلوماسية،خاصة مع تعدد الروايات المغالطة للرأي العام الوطني والدولي، وضعفها كأسانيد في مواجهة المملكة المغربية الشريفة، واعتبارا للدور الطلائعي للقضاء كدبلوماسية موازية فإنه كان وفيا لنصرة قضيته الأولى، وإذا كان الشرط مناسبة كما يقال فإنه يلزم الوقوف بروية و تأمل والاعتراف لقضاة أجلاء كافحوا من أجل وحدة هذا الوطن في أحلك الظروف، وقاوموا المستعمر بمحافظتهم على استقلاليتهم وقدسية مهامهم إذ وهبوا حياتهم للمحافظة على وطنهم والإخلاص لبيعتهم لملكهم.
بل الأكثر من ذلك ، كانوا حصنا حصينا للأمة أمناء على وحدتها، بتوطيد العزم في نفوس الفقهاء والعلماء والشرفاء والمرابطين في قبائل متفرقة من مغربنا الحبيب وشحذ هممهم لمحاربة المستعمر عن كل شبر فيه، ونذكر على سبيل المثال الحملة الوطنية التي قام بها القاضي المفضل والفقيه المبجل أحمد بن محمد بن عبد الله الزدوتي رحمه الله بهذا الشأن حيث نجد في الإشهاد الذي خاطب عليه بتاريخ 7 شوال 1309 هـ/ 4/5/1892م وهو إشهاد استغاثة ونشدان من قبل قبائل ثكنة ومن لف لفها طالبين فيه من مولانا الحسن بن محمد بن عبد الرحمان بن هشام العلوي الاعتناء بالمناطق الجنوبية من وادي نون إلى وادي الذهب وشد أزرهم في مواجهة الغزو الإسباني على سواحل المنطقة،إضافة لذلك، نجد وثيقة تجديد البيعة التاريخية التي تقدمت بها قبائل واد.[1]
لقد أفرد التاريخ للقضاء مكانة هامة ودورا بارزا في تحقيق وحدة المملكة بعد الاستقلال، إذ شكل إنشاء المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا ) ضمن المنظومة القضائية بالمغرب محطة هامة في درب الإصلاح القضائي باعتباره الساهر على توحيد الاجتهاد القضائي والتطبيق السليم للقانون داخل المملكة، كما نجد على المستوى الدولي محكمة العدل الدولية التي أكدت وجود روابط البيعة التاريخية بين جلالة ملك المغرب وسكان الساقية الحمراء وواد الذهب حيث جاء في حكمها : »كانت بين الصحراء والمملكة المغربية روابط قانونية وروابط ولاء«، لينطلق بعدها الشعب المغربي في مسيرة خضراء أدهشت العالم بأكمله وليس غريبا أن نجد وثيقة تجديد البيعة التاريخية التي تقدمت بها قبائل واد الذهب سنة 1979 لصاحب الجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني، بقلم القاضي البلدي أحمد حبيب اهلل برابوه، ليبدأ بعد ذلك المغرب مسيرة الجهاد الأكبر بتأسيس دولة تنموية عصرية بمؤسساتها القضائية النظامية وقوانينها المستندة على المرجعيات المغربية الثابتة والمنفتحة في نفس الآن على كافة التجارب التشريعية الدولية وذلك دون تمييز بين أجزاء المغرب وأقاليمه في ظل وحدة مسطرية وموضوعية.
وعليه فإن القضاء كان على مر التاريخ القضائي جندا مجندا بأحكامه ومخلصا في عمله بما يوازي قيمته العملية والمعنوية كفاعل في تجديد فروض الانتماء الوطني والدفاع عن كل بهمة وإخلاص.
ثانيا : الدور التعريفي بالتراث القضائي المغربي
يعد التعريف بالتراث القضائي المغربي أحد الابعاد الوظيفية للدبلوماسية القضائية، لما يشكله من إرث تاريخي ممتد عبر عبق التاريخ، و لما له من مرامي تذكيرية بالملحمات التاريخية للقضاء المغربي من أجل إحقاق العدل وإشاعة السلم الاجتماعي والدفاع عن وحدة الوطن وهويته الاسلامية.
و عليه، فإن النظام القضائي المغربي من أكثر النظم القضائية قدما في مبادئه، لأنه وليد تراث يمتد لأكثر من ثلاثة عشر قرنا، بدأ منذ دخول الحكم الإسلامي في المغرب، ليستمر و يمد لحقب متتالية تعاقب على حكم المملكة فيها دول كثيرة اشتركت والتقت في تواثرها على إرساء دعائم نظام قضائي ذو هوية إسلامية، وذو اشعاع ثقافي وفكري يجسد انتماء المغرب إلى الحضارة الاسلامية.
فقد أعطى قضاة المملكة الشريفة درسا تاريخيا ينم عن الانتماء الأصيل لمغربنا بوحدته الوطنية واستطاعوا مجابهة الحماية الاسبانية إبان قراراتها الجائرة بإدخال الأجهزة الاسبانية في الحكم في القضاء الشرعي بعد سنة 1960 ، خاصة بعد تعيين القضاة الأجانب، وربط أحكامها من حيث النقض بباريس أو مدريد.
وفي هذه الفترة سيظل التاريخ شاهدا للقضاة و لشيوخ القبائل وأعيانها على وطنيتهم الصادقة ووفائهم للقيم الإسلامية، إذ لم يقبلوا ولو يوما واحدا أن يتدخل الحكام الإسبان في أمر القضاء، ولا حتى أن يتعايش القضاءان، عصري يحكم بالمسطرة والمدونة القانونية الإسبانيين وشرعي تحسن نمطيا وبقي على صله الشرعي، ومما يؤكد صمود هذا الجهاد القضائي هو أن القضاء الجنائي الإسباني لم يطبق في الصحراء أبدا، حتى إن حوادث السير التي تصل أحيانا إلى القتل عن طريق الخطأ ظلت خاضعة لأ حكام الحدود في الشريعة الإسلامية، إذ تعطى العاقلة الدية، وتطبق في كل أنواعها جميع النصوص التي استمرت عبر التاريخ تميز القضاء المغربي عبر وحدة المسطرة ووحدة النصوص.
إضافة لما سلف، لابد من التعريج على مكون قضائي استثنائي وفريد تمتاز به المملكة المغربية الشريفة عن غيرها من التجارب المقارنة، يبرز غزارة التراث القضائي المغربي وإشعاعه على المستوى الإقليمي والدولي، و يؤكد عمقه التاريخي ، وهو القضاء العبري المتبنى منذ أكثر من قرن من الزمن، و الممثل بغُرفة قضائية للبت في شؤون اليهود من أحوال شخصية ودينية وتوزيع للإرث وفض لبعض الخلافات ، ومع توالي السنين، أولت القيادة المغربية اهتماماً كبيراً بهذا النوع من القضاء، وذلك حفظاً لحقوق يهود البلاد، وأولها الحق في التقاضي، إذ جاء ظهيران شريفان سنة 1957 لمنح هذه المحاكم تنظيماً موازيا لنظيراتها الأخرى التي يتقاضى فيها المسلمون، لتصبح بذلك كياناً قضائياً قائم الذات.
ويتلقى جميع القضاة الموجودين بهذه المحاكم تأطيراً دينيا يهودياً، ويعملون إلى جانب القضاء على ختان الأطفال اليهود، والنظر في حلة من حرام ما يتناوله يهود البلاد من مواد غذائية.
ويأتي اختيار هؤلاء، وفقاً لمعايير الكفاءة والإلمام بالشؤون الدينية اليهودية، وتضلعهم بالفقه القضائي والتشريعات اليهودية.
إنها غُرفة مثلت استثناء قضائياً مغربياً حافظت عليه المملكة على الرغم من تناقص عدد اليهود في المملكة،الأمر الذي يبرز الرصيد التراثي القضائي المغربي وحجم تعدده وتميزه عن الأنظمة القضائية المقارنة،ما يدعم الدبلوماسية القضائية ويمنحها قصب السبق التراثي في مجال فريد ومتميز.
ثالثا : البعد الاقتصادي والاستثماري
إن متطلبات التنمية الاقتصادية ترتبط بتوفير الأمن والاستقرار وبقضاء مستقل يحمي حقوق المستثمرين بمناسبة معاملاتهم الاقتصادية، لذلك فإن القضاء يعد سفيرا وممثلا وفاعلا محوري للتحفيز الاستثماري، إذ يمثل الوجه التعريفي للمستثمر الأجنبي و مبناه المحدد من أجل تحويل رأسماله صوب المغرب من خلال أحكامه و قراراته ، وتبعا لذلك فهو يمارس دبلوماسية غير مباشرة في استقطاب رؤوس الأموال، خاصة القضاء التجاري والإداري اللذان لهما صلة بكل ما يرتبط بالنزاعات التي قد تثار منذ نشوء المشروع بدء من تأسيس الشركة أو المقاولة إلى حين تصفيتها أو استمرارها…
لهذه الاعتبارات، ومساهمة من القضاء في تكريس أحكام ذات جودة مطوقة بآجال معقولة،دشن المشرع المغربي إصلاحات هيكلية قانونيا ومؤسساتيا بتعديل قوانين الأعمال (قانون الشركات،مدونة التجارة، التأمين،القانون البنكي، ميثاق الاستثمار) ،علاوة على المراكز الجهوية للاستثمار التي تبنت مقاربة سلسة في تبسيط المساطر الإدارية على المستثمر، و قانون إحداث المقاولات بشكل الكتروني الذي من شأنه لا محالة أن ييسر عملية التأسيس المقاولاتي في وقت قياسي بأقل تكلفة وأداء كل مستحقات التسجيل بطريقة رقمية دونما الحضور الشخصي.
وعليه فإن القضاء معول عليه من أجل التمثيل القضائي المغربي في شقه الاستثماري لاسيما خلال الخمس سنوات الأخيرة التي يراهن المغرب فيها أن يحظى بمؤشر متقدم ضمن ال50 دولة في مقياس سهولة ممارسة الاعمال على المستوى العالمي،علما أنه يحتل الان الرتبة 53 المعطى يؤكد انخراط المملكة الشريفة في ركب التحول الاقتصادي وإشعاعها القضائي والإداري في تدبير الشأن الاستثماري
المحور الثاني : تجليات الدبلوماسية القضائية المغربية
لا غرو أن الدبلوماسية القضائية ،ورش استراتيجي مستمر يروم خدمة قضايا مختلفة وملامسة أبعاد متعددة ، منها ما سقناه أعلاه ومنها ما سيستجد بتغير الزمان،لذلك كان لزاما تفعيل هذا الورش عبر آليات مؤسساتية وموارد بشرية كفؤة تساهم في التنزيل المعقلن والامثل لهذا الورش الحيوي، وهو ما تجلى من خلال محكمة النقض (أولا) ، تم بعدها المجلس الاعلى للسلطة القضائية (ثانيا).
تعد محكمة النقض أعلى هيئة قضائية بالمملكة، لما تحتله من قيمة قضائية في توحيد الاجتهاد القضائي وإعمال سلطتها كمحكمة قانون في كل القضايا المعروضة عليها، غير أنه إلى جانب هذه الاختصاصات المركزية، تمارس محكمة النقض دبلوماسية موازية قضائية تستنبط من خلال تركيبتها الداخلية ، فالمتأمل لمختلف تفرعات هيكلتها سيلاحظ وجود قاض للإعلام والتواصل (1) مهمته تواصلية تفاعلية ، إضافة إلى التمثيلية الخارجية في الملتقيات الدولية،وهو إحدى التجليات للدبلوماسية القضائية في أفق عقد اتفاقيات دولية في مجال التعاون الدولي (2)، كما تساهم كذلك محكمة النقض في التعريف بالذاكرة القضائية ( 3 ).
تأسست الخطوط الكبرى لمؤسسة قاضي التواصل بمحكمة النقض منذ سنة 2010 باقتراح آنذاك من السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض ، مهمتها جعل المحكمة منفتحة على جميع أطياف المجتمع المدني ، والفاعلين في منظومة العدالة وعلى مختلف الجامعات والمعاهد العليا ومراكز البحث العلمي في جميع الشعب والتخصصات القانونية
وتنزيلا لهذه الأهداف، تم وضع استراتيجية للتواصل بمثابة ميثاق تواصلي يحدد قيمة المؤسسة ورؤيتها وشعارها وأيضا منهجية عملها والبرامج التي ستسعى من خلالها الى خلق فضاء تواصلي مؤسساتي يجمع بين الحوار والانصات والاستماع للآخر وتقديم جميع الخدمات القضائية والإدارية التي تتميز بالجودة والسرعة والاحترافية، علاوة على الانفتاح على كل التجارب المقارنة فيما يخص الشأن القضائي، وربط جسور تبادل الخبرات والكفاءات الشيء الذي من شأنه أن ينقل الخبرة القضائية المغربية لدول أخرى، وبالتالي تحقيق دبلوماسية موازية بينها وبين المجالس العليا للقضاء.
2.اتفاقيات التعاون القضائي الدولي
و تعد قطب الرحى للدبلوماسية الموازية لمحكمة النقض والوسيلة المثلى لخلق شبكة من المرتكزات الأمامية الحليفة للتعريف بقضايانا المختلفة على المستوى القاري والدولي والترويج لمطالبنا المشروعة وصد أعداء وحدتنا الترابية والتأثير على الرأي العام الدولي والسعي لسحب اعترافات العديد من الدول المغرر بها في قضيتها الأولى (الصحراء المغربية).
وقد أثبتت هذه البنيات فعاليتها في العديد من المناسبات من خلال نجاعتها المثمرة في الاعتماد عليها لصد مؤامرات عدة تحاك ضد المملكة من ضمنها مروجي أطروحات الكيان المزعوم وفضح زيف ادعاءاتهم سيما وأن هذه البنيات تتشكل من قضاة أفاضل يكون لكلمتهم ورأيهم عظيم الأثر ببلدانهم ودور هام في تشكيل الرأي العام الرسمي لبلدانهم.
في هذا المضمار عقدت محكمة النقض العديد من الشراكات والاتفاقيات نأتي على ذكرها فيما يلي:
اتفاقية توأمة مع محكمة النقض بفرنسا.
اتفاقية توأمة وتعاون مع محكمة النقض بجمهورية مصر العربية.
اتفاقية تعاون مبرمة بين المحكمة العليا والمجلس العام للسلطة القضائية بالمملكة الإسبانية.
اتفاقية توأمة مع المجلس الأعلى بكندا.
اتفاقية تعاون مع المحكمة العليا للعدل
اتفاقية تعاون ثنائية مع محكمة النقض ببوركينافاسو.
بروتوكول تعاون مع المحكمة العليا الفيدرالية بجمهورية البرازيل الاتحادية.
اتفاقية تعاون مع مجلس القضاء للسلطة القضائية لدولة الأرجنتين.
اتفاقية تعاون مع المحكمة العليا للعدل لجمهورية الباراغواي.
اتفاقية التوأمة والتعاون القضائي مع محكمة النقض للجمهورية السنغالية.
اتفاقية توأمة وتعاون مع المجلس الأعلى بجمهورية البنين.
اتفاقية تعاون مع محكمة النقض ببوركينافاسو ومكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل .
اتفاقية توأمة مع المحكمة العليا بجمهورية السودان.
مذكرة اتفاق التعاون القضائي بين محكمة النقض ومحكمة التمييز بدولة الكويت.
اتفاقية توأمة وتعاون بين المحكمة الاتحادية العليا بالإمارات العربية ومحكمة النقض .
اتفـاقية توأمة وتعاون مع محكمة التمييز في المملكة الأردنية الهاشمية.[2]
إن التاريخ القضائي في شقه المتعلق بالتراث الفقهي والقضائي ، و شقه الآخر المتمثل في الدفاع عن الوحدة الترابية لهو في الواقع ملحمة تجسد التلاحم التاريخي المجيد بين العرش والشعب يعكس المسار الوضاء للحضارة المغربية الأصيلة لذا بادرت محكمة النقض إلى ترصد جزء من هذا التاريخ شكلت من خلاله متحف الذاكرة القضائية والذي يحتوي على وثائق تاريخية نادرة تحمل رموز ودلالات مادية معبرة لواقع الوحدة والتلاحم عبر غنى المحطات البارزة في تاريخ القضاء المغرب من شماله إلى جنوبه.
ويتوفر المتحف على دفتر ذهبي وقع عليه عدد هام من الوزراء والسفراء ورؤساء الدول والوفود والبعثات الأجنبية الصديقة والشقيقة تجاوز عددها 50 توقيعا.
من خلال هذا المتحف أبرزت محكمة النقض المكانة الهامة التي أفردها التاريخ للقضاء المغربي وقضاته ودورهم البارز في تحقيق وحدة المملكة بعد الاستقلال.
و المناسبة شرط، فمن أهم معروضات المتحف:
حكم محكمة العدل الدولية الذي أكد وجود روابط البيعة التاريخية بين جلالة ملك المغرب وسكان الساقية الحمراء وواد الذهب حيث جاء في حكمها: (كانت بين الصحراء والمملكة المغربية روابط قانونية وروابط ولاء) لينطلق بعدها الشعب المغربي في مسيرة خضراء أدهشت العالم بأكمله.
وثيقة تجديد البيعة التاريخية التي تقدمت بها قبائل واد الذهب سنة 1979 لصاحب الجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني، بقلم القاضي البلدي أحمد حبيب الله برابوه ليبدأ بعد ذلك المغرب مسيرة الجهاد الأكبر بتأسيس دولة تنموية عصرية بمؤسساتها القضائية النظامية وقوانينها المستندة على المرجعيات المغربية الثابتة والمنفتحة في نفس الآن على كافة التجارب والتشريعات الدولية.
كما يتضمن المتحف شواهد عن القضاء الشرعي في الأقاليم الجنوبية، تثبث ديدن قضاة الصحراء على القضاء والإفتاء بمذهب الإمام مالك وبالريال الحسني والريال العزيزي باعتبارهما العملة الوطنية المتداولة آنذاك في كافة ربوع المملكة كما تدل على ذلك وثيقة الفتوى الصادرة عن القاضي محمد بن يحضيه بن عبد الباقي أواخر القرن 19 وأوائل 20.
و عليه فإن محكمة النقض تشكل تجلي بارز ورئيسي في ورش الدبلوماسية القضائية من خلال دورها الثلاثي المحدد حسب تصورنا تواصلي، التقائي ، تعريفي.
ثانيا : على صعيد المجلس الأعلى للسلطة القضائية
منذ تأسيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية بشكل فعلي ، عمد لأجرأة كل المهام الدستورية الموكولة إليه بمقتضى الدستور المغربي والقوانين التنظيمية ، كما انكب على هيكلة نظامه الداخلي لتأثيت البيت القضائي وفق المنظور الجديد المؤسس على استقلالية السلطة القضائية عن الوزارة الحكومية المكلفة بالعدل، وذلك بتدبير الوضعية الإدارية والمهنية الخاصة بالقضاة، وإنجاز الدارسات التقارير ، إضافة الى ممارسة صلاحيات أخرى من بينها التعاون الدولي في إطار تبادل الخبرات و التكوين المستمر للعاملين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية (1) في أفق عقد اتفاقيات للتوأمة بينه و بين مجالس عليا أخرى ، علاوة على تعيين قضاة للاتصال (2)، و مشاركته الفعالة في كل المناسبات الوطنية والدولية (3) ما يمتح ورش الدبلوماسية القضائية ويعطيه آليات متعددة من أجل اشعاع إقليمي و دولي.
طبقا لمقتضيات المادة 40 من النظام الداخلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية فإن شعبة التعاون والشراكة المهام التالية:
- تنفيذ استراتيجية المجلس في مجال التعاون والشراكة على المستويين الوطني والدولي؛
- دراسة الجوانب القانونية المتعلقة بإعداد وتنفيذ اتفاقيات وبرامج وتدابير التعاون والشراكة؛
- إعداد مشاريع الاتفاقيات والبرامج والتدابير التي تدخل في إطار التعاون والشراكة مع المؤسسات الأجنبية المماثلة والهيئات الأجنبية المهتمة بقضايا العدالة؛
- إعداد مشاريع الاتفاقيات والبرامج والتدابير التي تدخل في إطار التعاون مع مؤسسات وهيئات وطنية في مجال منظومة العدالة و كذا التنسيق مع السلطة الحكومية المكلفة بالشؤون الخارجية والتعاون.
بناء على المقتضى أعلاه يظهر جليا أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، أضحت له استراتيجية تعاونية دولية تمكنه بموجبها من ممارسة دبلوماسية قضائية مرماها وحجر زاويتها التأثير في المشهد القضائي وتسخير ذلك لخدمة التنمية الشاملة و التعريف بالقضايا الوطنية في المحافل القضائية الدولية والمنابر المؤسساتية ذات الصلة بقطاع العدالة وهو ما سار على نهجه ليعقد بعد ذلك اتفاقيات للتوأمة سنراها فيما هو آت.
حتى عهد قريب لم يكن من المتصور أن يمارس قاض مهامه خارج ترابه الوطني -باستثناء ما تعلق بقضاة التوثيق الذين تقتصر ممارستهم مع الجالية المقيمة في المهجر داخل القنصليات-باعتبار أن العدالة شأن سيادي لا يمكن للدولة أن تتنازل عن مراقبتها، إلا أن تطور الجريمة وانتشارها وتباين الأنظمة القضائية للدول جعل التعاون القضائي الدولي يشتكي من بعض الثغرات أدت إلى خلق آليات جديدة لمواجهة هذا النقص كان من بينها قاضي الإتصال الذي ظهرت بوادره بتعيين فرنسا قاضيا مكلفا بمهمة دبلوماسية إلى ايطاليا بمناسبة ما كان يعرف بقضية كوزا نوسترا (cosa nostra) التي كان يتولاها القاضي الايطالي الشهير جيوفاني فالكوني Geovani Falcone ،فك رموزها ولغزها، بتوجيهه مراسلات وإنابات قضائية في إطار التعاون القضائي الدولي بقيت بدون جواب، الشيء الذي أدى إلى إبرام اتفاقية ثنائية بين الدولتين المذكورتين في مارس1993 تم بمقتضاها تعيين أول قاضي اتصال فرنسي بإيطاليا لمواجهة الخلل الذي عرفه التعاون القضائي في المجال الجنائي لتتوسع بنود الإتفاقية فيما بعد لتشمل الجانب المدني أيضا، وبعد أن تبين نجاعة المبادرة المذكورة سعى مجلس الاتحاد الأوربي le conseil de l’union européenne بتاريخ 22-04-1996 بمقتضى العمل المشترك l’action commune إلى إقرار المبادرة المذكورة، وذلك بخلق إطار قانوني لتبادل قضاة وموظفين في مجال التعاون القضائي الدولي بين الدول الأعضاء على أساس اتفاقيات ثنائية.
أما على صعيد المملكة المغربية، فقد أثير موضوع قاضي الإتصال ضمن توصيات اللقاء الثاني الذي انعقد بالرباط سنة 2003 بين المجلس العام للسلطة القضائية الاسباني والمجلس الأعلى المغربي (محكمة النقض حاليا) ليتم تفعيل التوصية المذكورة سنة 2004 ابتدأت بتعيين قاضيين للإتصال في كل من فرنسا واسبانيا،ليبلغ عددهم لحدود الآن حسب آخر تحيين 4 قضاة في كل من مدريد وباريس وبروكسيل، وروما.
وعليه فإن مؤسسة قاضي الاتصال مقتضى مستجد في التشريع المغربي، لم يكن منصوص عليها قبلا بنص خاص حتى دخول القانون التنظيمي 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية حيز التنفيذ ،ليخصص له المادة 81 منه التي لم تتحدث عن مهامه ،واقتصرت على شكلية تعيينه بنصها على أنه يعين قضاة الاتصال،بقرار مشترك بين المجلس الأعلى للسلطة للقضائية والوازرة المكلفة بالعدل،ووزارة الشؤون الخارجية والتعاون،طبقا للمادة 81 من القانون التنظيمي 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية بعد استيفاء مسطرة الانتقاء التي تشرف عليها وزارة العدل.
وتتحدد مهام قاضي الاتصال رغم تشعبها في :
*تسهيل التعاون القضائي في المجالين المدني والجنائي
وهي الوظيفة الأساسية التي فرضت ظهور قاضي الإتصال ذلك أنه مطالب بالعمل على تذليل الصعاب والمعوقات الحدودية وتيسير الترجمة الحقيقية لإرادة التعاون القضائي في إطار الحدود المسموح بها والمتعارف عليها سواء تعلق الأمر بالمجال الجنائي، حقل التعاون الدولي بامتياز من خلال الإنابات القضائية وقضايا تسليم المجرمين ونقل المعتقلين المحكوم عليهم وتتبع الإتفاقيات المبرمة بين الدولتين والسهر على احترام مقتضياتها وتفعيل بنودها، أو تعلق الأمر بالمجال المدني الذي استقطب لاحقا أهمية قصوى من خلال تتبعه للقضايا الرائجة والنزاعات المدنية والتجارية أو ما له علاقة بقضايا الأسرة من نفقة وزيارة وحضانة وإرجاع الأطفال أو اعتراف بالزواج والطلاق إلى غير ذلك.[3]
* إنجاز دراسات تتعلق بالقانون المقارن
إن أي دولة ترغب في إجراء إصلاحات قانونية تكون مطالبة بمعرفة تجارب البلدان الأخرى خاصة تلك التي حققت سبقا في مجال العدالة، ولعل قاضي الإتصال هو المؤهل بامتياز لنقل هذه التجربة فسواء في فرنسا التي تعتبر كمصدر تاريخي للقانون في المغرب أو إسبانيا التي تعتبر ورشا دائما للإصلاحات لحداثة المنظومة القانونية الإسبانية التي انطلقت بعد وفاة فرانكو وتنزيل دستور 1978 كفيلتان بإفادة الإصلاحات التي يقوم بها المغرب حاليا وإعطائها قيمة مضافة. كما أن قاضي الاتصال مطالب بالتعريف بالإشعاع الحقوقي لبلده والتعريف بمضامين تشريعه الوطني وبالمؤسسات القضائية والمساطر المباشرة أمامها والمجهودات المبذولة في سبيل تطوير العدالة بل أكثر من ذلك فهو مطالب بإعادة قراءة الاتفاقيات التي تربط البلدين وتأويل مضامينها والإتيان بالبديل الذي يسعف في تحقيق مصلحة جاليتنا هناك.
* خلق علاقات مؤسساتية
يعتبر قاضي الإتصال قناة للتواصل بامتياز ولذلك فإن من أبرز مهامه القيام بعملية تواصل مكثفة لإزالة المعوقات وتبسيط السبل ليس فقط في المجال القضائي الصرف فحسب، بل في كافة المجالات القانونية ببلد الاستقبال وذلك بالبحث عن سبل التواصل مع المهن القضائية بهدف خلق قنوات للتعارف وتبادل التجارب التي تهم جميع الفاعلين القانونيين من معاهد قضائية وهيئات مهنية والجامعات والمحامين والأعوان القضائيين والموثقين، وارتباطا بذلك فإن عليه ضبط قواعد وترتيبات وجداول أعمال اللقاءات .
*ممارسة دبلوماسية قضائية
لا يختلف اثنان في كون أن الدبلوماسية الموازية غدت استراتيجية مسعفة في نصرة القضايا الوطنية وايصال صداها إلى كل الدول ،لذلك كان لقاضي الاتصال جانب في هاته الممارسة الفعالة التي ما فتئت تعرف بالمملكة المغربية وقضاياه العادلة والمشروعة إضافة لتصوراته الحقوقية،ولما كان الامر كذلك، فإن قاضي الاتصال اليوم مدعو لتفعيل مقاربة جيوستراتيجية تمزج بين مهامه الكلاسيكية المذكورة آنفا، و أدواره الجديدة التي قد تمكن المغرب من تبوأ تموقع دولي على الصعيد القضائي و الاقتصادي ، ولن يتحقق ذلك إلا بتوسيع خريطة قضاة الاتصال وتحديد مهامهم و توجيههم إلى دول تجمعنا بهم وشائج الصداقة والأخوة كالسنغال ومالي والكوديفوار،الغابون….علاوة على الدول الخليجية كالإمارات وقطر والسعودية ،لان العدد الحالي لا يكفي نظرا لتعدد الشركاء الاستراتيجيين وتشعب العلاقات الدبلوماسية مع الكثير من الدول الشقيقة.
وتجدر الإشارة ،أن المملكة المغربية تحظى كذلك بدبلوماسية موازية بتعيين عدد من قضاتها في بعض الهيئات الدولية ، كمحكمة العدل الدولية بلاهاي ، ومنظمة اليونيسف، الامر الذي يعطي القضاة المغاربة قصب السبق في التعريف ببلدهم و نظامه القضائي وتمرير رسائله وقضاياه عبر أروقة المنظمات والبرلمانات الاوربية.
3- اتفاقيات التوأمة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية والمجالس العليا للقضاء المقارنة
حرص المجلس الأعلى للسلطة القضائية على اعمال جملة من الاتفاقيات والشراكات مع مختلف المجالس العليا للقضاء والمنظمات الحكومية،في إطار تعزيز انفتاحه الدولي ودبلوماسيته الموازية ، نذكر منها اتفاقية التوأمة بين المجلس الأعلى و المجلس الأعلى البلجيكي سنة 2019،التي بمقتضاها سيتم تبادل الخبرات القضائية بين الدولتين ونسج علاقات تعاونية ستسهم لا محالة في التأسيس لشراكات أخرى مستقبلا.
إضافة للدور الاشعاعي للقضاء في بلورة نموذج قضائي متميز في الجانب المرتبط بتعزيز هياكله وتجويد احكامه، فإنه مطالب كذلك بالسعي نحو استعادة ثقة المواطن باعتباره المستهدف من اصلاح العدالة، وسعيا لذلك ساهم المجلس الأعلى للسلطة القضائية منذ تأسيسه على المشاركة في الفعاليات الوطنية والدولية عبر ورشات أو ندوات ، نذكر منها المعرض الدولي للكتاب الذي دشن المجلس مشاركته ضمن فعالياته في نسخته السادسة والعشرين تحت شعار: “ العدل أساس التنمية الشاملة“ خلال الفترة الممتدة من 06 إلى 16 فبراير 2019بالدار البيضاء ، وهو وجه من أوجه الدبلوماسية الموازية التي يسعى المجلس لتكوينها وطنيا ودوليا في انتظار مبادرات أخرى مستقبلا بعد انتهاء وباء كورونا، علاوة على المؤتمر الدولي للعدالة في دورته الأولى والثانية التي شكل حدثا بارزا للتعريف بالإصلاحات القضائية للمملكة لمجموعة من الوفود الأجنبية التي زينت المدينة الحمراء مراكش وقد زارت مختلف الوفود المشاركة من مغاربة وأجانب، هذا معرض تثمين الذاكرة القضائية الذي ضم العديد من المخطوطات والوثائق التاريخية التي تؤكد على حضارة المغرب العريقة وعلى وحدة أراضيه، والمتمثلة في وثائق وحجج قانونية وقضائية تاريخية دامغة تجسد فعلا ارتباط جنوب المغرب بشماله ووسطه في توليفة قانونية وقضائية موحدة، فضلا عن وثائق للبيعة وأحكام قضائية صادرة بالصحراء في جنوب المغرب لها مئات السنين تؤكد على عمق العلاقة والعناية التي أولاها السلاطين والملوك المغاربة لأسرة القضاء.
المحور الثالث : آفاق الدبلوماسية القضائية (ورش استراتيجي نحو استكمال التموقع القضائي الدولي)
لاشك أن الدبلوماسية القضائية ورش من الاوراش الاستراتيجية التي وضعها المجلس الأعلى للسلطة القضائية نصب أعينه منذ تأسيسه وهو ما يتجلى من خلال عقده لمجموعة من الاتفاقيات والشراكات ومشاركته في مجموعة من الفعاليات الوطنية والدولية، غير أن هذا الورش لابد له من عناية، وقوة اقتراحية وتفعيلية تدعم مسلسل ترسيخ دبلوماسية قضائية ترنو إلى التموقع الدولي ، لذلك أبينا من خلال هذا البحث إلا أن نسجل بعض من هاته الاقتراحات تجويدا لعمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية،وإيمانا بأن المقاربة التشاركية مفتاح لاي تطور.
أولا : توسيع خريطة الدبلوماسية القضائية ( تجاه شركاء جدد )
تطورت الدبلوماسية المغربية منذ اعتلاء عاهل المملكة المغربية محمد السادس عرش اسلافه المنعمين ، وزادت قوتها وصداها خلال أوقات الازمات، فأصبحت معادلة صعبة في ميزان القوى الدبلوماسي، خاصة بعد الاعتراف التاريخي للولايات المتحدة الامريكية بمغربية الصحراء، واتفاقيات مع دول استراتيجية كالصين والهند في إطار محاربة وباء كورونا.
تبعا لذلك، ومواكبة لهذه الطفرة الدبلوماسية في شقها الرسمي، كان لابد من مواكبتها بشكل موازي عن طريق توسيع الخريطة القضائية تجاه دول ـأخرى، و توجيه العلاقات للدول الاسيوية كالهند وماليزيا و سنغافورة إضافة للدول الخليجية كالسعودية وقطر والامارات باعتبارها ذات وزن ثقيل داخل القارة الصفراء،و لن يتأتى ذلك إلا عبر آليات سبق أن عالجناها كقضاة الاتصال، أوقضاة ملحقين أو أطر المجلس داخل هياكلها، ما سيعطي طابع التعاون بين المغرب ونظرائه الدول، وسيساعد الجالية المغربية هناك على تيسير مصالحها والاستماع إلى مشاكلها وأزماتها.
ثانيا : إنشاء متحف للزيارات الأجنبية داخل المجلس الأعلى للسلطة القضائية
إسوة بمحكمة النقض،فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية مدعو إلى انشاء متحف خاص يعطي إضافة اشعاعية لدوره التاريخي قبل تأسيسه الفعلي (المجلس الأعلى للقضاء)،وتطوره عبر التاريخ و ما صاحب ذلك من وثائق وأرشيف تؤسس لعمل متواصل حرص فيه على الارتقاء بالمجلس إلى سلطة مستقلة لها قيمتها الدستورية باعتبار رئيسها الفعلي ملك البلاد وضامن استقلال السلطة القضائية.
وعليه فإن تأريخ كل هذه الفترات في متحف وثائقي و فوتوغرافي من شأنه أن يعطي إرثا قضائيا مهما سيعزز من مكانة المجلس بين المجالس العليا للقضاء ويعطيه خطوة إضافية في سعيه للتموقع الدولي.
ثالثا : انشاء دفتر خاص بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية
تعزيزا للشق التعاوني بين المجلس الأعلى والوفود رفيعة المستوى التي تزوره بمقره،أصبح لزاما التفكير في خطوة حرية بالتفعيل داخل اروقته، يتعلق الامر بإنشاء دفتر ذهبي خاص للتوقيع عليه في كل مناسبة ينتقل فيها وفد أو شخصية قضائية كبيرة إليه من أجل التعرف على هذه المعلمة الدستورية الجديدة.
يظهر من خلال ما سلف أن الدبلوماسية القضائية ورش استراتيجي ومشروع واعد بدأت معالمه الكبرى تتضح شيئا فشيئا و آلياته تفعل بشكل تدريجي ، الأمر الذي لوحظ من خلال اعتماد المجلس الأعلى على شعبة لتدبير التعاون والشراكة من أجل رسم خططه المستقبلية وشعبة للتواصل المؤسساتي مع للتفاعل البناء مع محيطه الداخلي، إضافة إلى إسهامه في تحقيق إشعاع قضائي عبر قضاته لاسيما قضاة الاتصال والقضاة الملحقين في الهيئات الدولية، ، الأمر الذي سيشكل دون شك خطوة كبيرة في سيره للتموقع القضائي الدولي.
المراجع والمصادر
الندوة الوطنية المنظمة من قبل المجلس الأعلى (محكمة النقض ) بعنوان : وحدة مملكة من خلال القضاء،بتاريخ 6 ماي 2011
ذة.إيمان المالكي : دور الدبلوماسية القضائية في الدفاع عن القضية الوطنية،مقال منشور في الجريدة الالكترونية هسبريس بتاريخ 9 أبريل 2016
ذ.عبد اللطيف المرسلي : قضاة الاتصال،مقال منشور في العدد العاشر من منبر النيابة العامة سنة 2018
[1] – الندوة الوطنية المنظمة من قبل المجلس الأعلى (محكمة النقض ) بعنوان : وحدة مملكة من خلال القضاء،بتاريخ 6 ماي 2011
[2] – ذة.إيمان المالكي : دور الدبلوماسية القضائية في الدفاع عن القضية الوطنية،مقال منشور في الجريدة الالكترونية هسبريس بتاريخ 9 أبريل 2016
[3]– ذ.عبد اللطيف المرسلي : قضاة الاتصال،مقال منشور في العدد العاشر من منبر النيابة العامة سنة 2018