الذكاء الاصطناعي القضائي نطاقه امكانياته و آفاقه 

من إعداد : محمد بواللوح
طالب باحث في سلك الماستر بجامعة محمد الخامس
كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بسلا
تخصص المنازعات القانونية و القضائية

لطالما شكلت الرغبة في التطور نحو حياة أفضل، الدافع الرئيسي وراء العديد من إنجازات الانسان فكما لا يختلف اثنان على ما شهده العالم من تغييرات جذرية بسبب الثورة الصناعية في القرن 18، فقد أظهر العديد من المفكرين و المخترعين مجموعة من الوسائل و التقنيات المتطورة التي لا مثيل لها. و استمرت آثار هذه الثورة الى الآن لدرجة ان العالم العاصر وصل لمستوى تقدم تكنولوجي غير مسبوق انعكس على مختلف مجالات الحياة التي أصبحت تتنافس فيما بينها لركوب موجة التطور التكنولوجي الحاصل في الآونة الأخيرة،
ذلك أن العقل البشري الذي لا يتوقف عن التفكير لازال في كل يوم يبحث عن التغيير و التجديد لدرجة وصل معها الى محاولة محاكات ذكائه الخاص بذكاء آخر مصطنع ما فتئ هو الآخر ينمو بشكل هائل و تتنوع استخداماته في شتى المجالات مما أدى الى تسريع وتيرة اتخاذ القرارات و انجاز المهام على قدر كبير من الكفاءة و الدقة بفضل ما يتيحه هذا الذكاء الاصطناعي من قدرات التنبؤ بالأنماط المستقبلية و ما يقدر عليه من تحليل للبيانات الضخمة من خلال خوارزميات متطورة. و لا يستثنى قطاع العدل من هذا الاهتمام المتزايد بالذكاء الاصطناعي. خصوصا في إطار تسابق دول العالم للظفر بأكثر نظام ذكاء اصطناعي نضجا وأصلحه استخداما في شتى المجالات.
وقد جاء اختيار هذا الموضوع نتيجة لتســـابق دول العـــالم الرائـــدة للارتقـــاء بنضج الـــذكاء الاصطناعي، حيـــث يُعد عامـــاً جوهرياً في تعزيز التنافســـية الوطنيـــة في الحقبـــة المقبلة، مما يتطلب جهـــوداً وطنية تنظمها الحكومة لدفع عجلـــة تبني الذكاء الاصطناعي بطريقة آمنـــة وأخلاقية وموجهـــة نحو القيمة.
وقـــد انضمـــت المملكة المغربية الشريفة إلى مجموعة الـــدول الرائـــدة بتقدم كتلة برلمانية معارضة في مجلس المستشارين بمقترح قانون لقتنين استخدام الذكاء الاصطناعي، والذي دعت فيه الى ضرورة تقنين استعمال الذكاء الاصطناعي بغرض التصدي لسلبياته واستعمالاته غير المشروعة، كما اكدت هذه الكتلة على ضرورة احداث مؤسسة لحوكمة الذكاء الاصطناعي وتنفيذ الاستراتيجية الوطنية بهذا الصدد. كل ذلك بهدف المساهمة في نشر الوعي في كافة المؤسسات الوطنية بأهمية الذكاء الاصطناعي، ورفع كفاءة العاملين في مختلف الإدارات والهيئات العمومية والخاصة.
وفي ضـــوء الـــدور الرئيـســي الـــذي تضطلع بـــه السلطة الحكومية المكلفة بالعدل في التحـــول إلى الـــذكاء الاصطناعـــي، تطمـــح المملكة إلى أن تكـــون حكومتهـــا مثـــالاً يُحتـــذى به عالميـــاً في تبني الـــذكاء الاصطناعـــي، لا ســـيما في قطاع العدل.
ويمثل هذا الذكاء الاصطناعي مجموعة من التقنيات التي تســـاعد آلة أو نظام مـــا على الفهم والتعلم والتصرف والشـــعور مثـــل البشر. و بالتالي فنظام الذكاء الاصطناعي هو مجموعة نماذج تنبؤية و خوارزميات متقدمة ينتج عن استخدامها تحليل أسهل للبيانات مع إمكانية توقع نتائج مستقبلية اعتمادا على طبيعة و نمط البيانات التي تم تحليلها .و يقصد بالبيانات في حد ذاتها تالكم الحقائق في صورتها الأولية أو في صورة غير منظمة مثل الأرقام أو الحروف أو التسجيلات الصوتية أو غيرها من أساليب التعبير، يتم إدخالها من طرف المستخدم النهائي الذي يمثل أي شخص اعتباري أو طبيعي يستهلك السلع أو الخدمات التي تنتجها أنظمة الذكاء الاصطناعي. وفق ما تمت برمجتها عليه من طرف مطور النظام.
 و فيما يخص تاريخ استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في القضاء يمكن القول أن الدول الغربية كانت هي السباقة لهذه المبادرة، اذ طورت احدى الشركات في الولايات المتحدة الامريكية برنامجا خاصا يستند على صفحات و قواعد بيانات المحكمة الفيدرالية لتوليد أفكار و تنبؤات حول القادم من القضايا و تحليل ما يبق منها، و قد توصلت احدى الدراسات بعد ذلك الى تقديم برنامج ذكاء اصطناعي يمكنه التنبؤ بقرارات القضاة استنادا الى ما هو أمامهم من وثائق و أدلة .
حتى الصين بدورها تملك العديد من الروبوتات بمختلف محاكمها تعمل على استرجاع بيانات الأحكام والقضايا السابقة، وكذا التحقق من الأدلة المقدمة والتعرف على الوجوه بشكل مساعد للقاضي ولا تحل محله في أداء هذه الوظائف وغيرها بأي وجه كان. كما تعمل على الإجابة على التساؤلات القانونية للعموم و تشرح المصطلحات و تقدم المشورات.
أما في الدول العربية فقد أوصت ندوة أبوظبي بالتعاون مع المدرسة القضائية الفرنسية بإدراج مسار الذكاء الاصطناعي في مناهج العاهد القضائية لتحسين أداء القضاة دون أن يعني ذلك بأي شكل كان استبدال العنصر البشري ، حيث سيقتصر دوره في :
• التنبؤ بمدة الفصل في القضايا اعتمادا على البيانات المتوفرة من القضية الحالية ومن القضايا السابقة المشابهة.
• تحليل وعرض السجل القضائي للمتهم قصد اصدار احكام أكثر دقة ومراعات لظروف المتهم.
و في المملكة العربية السعودية فقد تم إنشاء مركز وطني للذكاء الاصطناعي و البيانات الضخمة، كما تم انشاء الهيئة السعودية للبيانات و الذكاء الاصطناعي (سدايا) ، أما في مجال القضاء فتستخدم برامج الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالأحكام و التعرف على الوثائق بعد مسحها، و كذا تنقيح النصوص وتوصية القضاة.
أما المغرب فإنه لازال حديث عهد بالتوجه نحو خلق تأطير قانوني لمجال الذكاء الاصطناعي والاستثمار فيه، حيث أن وزير العدل أعلن في 22غشت2024 عن بدء استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في المحاكم المغربية بهدف مساعدة القضاة والمحامين في تحرير الاحكام والبحث في أرشيف النصوص القانونية والاجتهادات القضائية تسهيلا لعملهم.
كما صرح في جلسة برلمانية أن هناك جهودا مستمرة لخلق اطار قانوني ينظم استخدام الذكاء الاصطناعي سواء في مجال العدل أو غيره من المجالات الحيوية تحسينا للكفاءة و الشفافية و دون المساس بالحريات و الحقوق الأساسية .
ويكتسي هذا الموضوع أهمية بالغة سواء على المستوى النظري من خلال تقريبه للقارئ من هكذا مفاهيم مستجدة وتمكينه من فهمها فهما صحيحا سليما ومبسطا حتى يستخدم هذه البرامج وفق الغايات التي صنعت لأجلها.
وعلى المستوى العملي من خلال جواز اعتماده كدليل لتنزيل سياسة الدولة الرامية الى تحديث قطاع العدالة بتقنيات تكنولوجية تمكنه من مواكبة التطور المجتمعي الحال خصوصا وأننا على أعتاب ثور الذكاء الاصطناعي. وهو ما يثر الأشكال حول مدى قابلية الإدارة القضائية لمثل هذه التحديثات، وهو ما يمكن صياغة على الشكل الآتي:
إلى أي مدى قد تتوافق برامج الذكاء الاصطناعي مع خصوصيات مهنية القضاء؟
يتفرع عن هذه الإشكالية المحورية اشكالان فرعيان هما:
الأول يتمثل في إلى أي حد يعتبر مفهوم الذكاء الاصطناعي واضح المعالم لدرجة تسمح بتقنين استخدامه على الوجه الصحيح؟
والثاني فهو إلى أي حد يمكن السماح لبرامج الذكاء الاصطناعي بالتدخل في مهام القاضي؟
و من خلال مقاربة الموضوع من هذه الزاوية نفترض أن يتم الحكم في الأخير بجواز السماح للذكاء الاصطناعي بالتدخل في المهام القضائية بشكل مساعد لا غير سواء فيما يخص المهمات الإجرائية و التي بحسب طبيعتها التقنية يمكن توكيلها لأنظمة ذكاء اصطناعي خاصة و معدة لهذا الغرض لتتولاها بشكل شبه تام مع ضرورة استمرار عنصر الرقابة البشرية، أو بالنسبة للمهمات الموضوعية التي تخضع سلطة و رقابة القاضي و بالتالي لن يسمح فيها للذكاء الاصطناعي سوى بمساعدة القاضي من خلال انجاز مهم بسيطة له كتقييم الأدلة أو التحليل السريع و الجيد لمجمل البيانات المجمعة سلفا من دراسة الاجتهاد و العمل القضائي فيما له علاقة بالنزالة المعروضة على أنظاره.
و في طريقنا للتأكد من صحة هذه الفرضية سنتبع التصميم التالي :
المبحث الأول: الذكاء الاصطناعي حقيقته. مبادئه واخلاقياته
المبحث الثاني: تأثير الذكاء الاصطناعي على السلطة القضائية

المبحث الأول: الذكاء الاصطناعي حقيقته. مبادئه واخلاقياته
الذكاء الاصطناعي هو فرع من علوم الحاسوب يهدف إلى تطوير أنظمة قادرة على أداء مهام تتطلب عادةً ذكاءً بشريًا، مثل التعلم واتخاذ القرارات. وفق ما يستلزمه التطبيق السليم لمجموعة من المبادئ السامية التي تضفي على هذا العلم طابع القبول من بينها نجد : الشفافية، الإنصاف، والمسؤولية تعزيز الشمولية، وضمان عدم التحيز في الأنظمة الذكية وغيرها من المبادئ التي تضمن استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي وآمن لحماية حقوق الإنسان،. لذلك سنحاول في مطلب أول الوقوف حول حقيقة برامج الذكاء الاصطناعي، على أن نتوقف في مطلب ثاني على أخلاقيات ومبادئ استخدام هذه البرامج.

المطلب الأول: حقيقة الذكاء الاصطناعي
إن الوقوف على ماهية الشيء وحقيقته يستلزم الالمام (على الأقل) بمفهومه وأنواعه، وهو ما سيتم تناوله في الفقرتين أدناه.

الفقرة الأولى: مفهوم الذكاء الاصطناعي
يعد مفهوم الذكاء الاصطناعي كتقنية تكنولوجية شيئا يتميز بالتطور و التغير المستمر لكونه(كمفهوم أو كتقنية) لازال حديث عهد بالوجود، اذ في كل مرة يتخذ شكلا جديدا أو مهمة جديدة، و بالتالي صعب على كل من حاول تعريفه بلوغ هذه الغاية.
ثم إن هنالك اختلاف واسعا حول المكونات الأساسية التي يجب أن يتضمنها التعريف، بحيث تتأرجح الآراء بين اعتماد العناصر المادية التي تبنى عليها العناصر الجزئية لأنظمة الذكاء الاصطناعي، وبين آراء تقول بضرورة الوقوف على هذه باعتبارها وحدة متكاملة غير قابلة للتجزئة.
غير أن ما يزيد نيران الاختلاف حدة هو ما يقول به بعد البحثين من أن التعريف أيا كان يجب أن يشمل الحالتين اللتان يكون فيهما النظام في حالة سكون و في الاشتغال أو النشاط أو يجب وضع تعريف مستقل له في كل من الحالتين.
وبالتالي يظهر أن إيجاد تعريف مانع جامع لمصطلح الذكاء الاصطناعي هو هدف بعيد المنال حاليا، لذلك سنورد بعضا من أبرز محاولات تعريفه كالآتي:
– تعريف تورينج Turing: : يستند على مدى قدرة الآلة أو الحاسوب على وجه الدقة من التفكير مثل الانسان و على هذا الأساس يرى أن : الذكاء الاصطناعي هو كل حاسوب يجتاز اختبارا ، غير أن ما يلاحظ على هذا التعريف أنه أأغفل حقيقة الذكاء الاصطناعي و اكتفى بوصفه بأنه آلة ذكية متى حققت الشروط التي وضعها.
– تعريف Stuart Russell و Peter Norvig : يريان أنه هو العميل الذكي الذي يدرك بيئته و يتصرف وفقا لها من خلال محركات ذاتية ، غير أن هذا التعريف انتقد بحجة العمومية المبالغ فيها لدرجة أن العديد من المصطلحات الواردة بها تحتاج بدورها إلى تحديد للوقوف على مقابلها المادي في الوجود الواقعي.
– تعريف Bill Gates : هو نموذج لحل مشكلة معينة أو تقديم خدمة ما ، و إن كان يبدو على قدر كبير من الدقة إلا ان هذا التعريف يعاب عليه الانحياز التام للجانب التقني في برامج الذكاء الاصطناعي و اغفال مفهومها المجرد.
وبصـــورة عامـــة، يمكن القول إن الـــذكاء الاصطناعـــي يتمحور حـــول برمجـــة الآلات ليتســـنى لهـــا تشـــكيل الآراء حيادية خاصة بالاعتـمــاد عـلــى كميـــات هائلـــة من البيانات، وذلك على عدة مستويات.
فعلى مستوى الشعور يمكـــن تدريب الآلات على تطوير قدراتهـــا عــلـى الإدراك والتعـــرف على العالم، من خلال الاســـتماع إلى مقطـــع صوتي أو ترجمة نص مكتـــوب، ورؤية أو التعرف على الأشـــياء في صـــورة أو مقطع فيديـــو، ورصد التغيـــرات في بيئة معينة …
وعلى مستوى الفهم فيمكن تدريـــب الآلات على الفهم مـــن خلال المعرفـــة، وتركز الجهـــود في هـــذا المجال بصورة رئيســـة على فهم لغـــة البشر أو تطويـــر قـــدرة الآلات على فهم اللغة (الأسـمــاء والأفعـــال وأحرف الجـــر وغيرها) ومعـــاني مفرداتها ثـــم التحدث بها.
إضافـــة لذلـــك، وبالاعتماد عـلــى الشـــعور والفهم، يمكـــن تدريب الآلات عــلى مستوى آخر هو التـــرف واتخـــاذ قـــرارات مدروســـة. عـــلى ســـبيل المثـــال، بعـــد أن تتعـــرف الآلات عـــلى البيانات الحيوية عند شـــباك الهجـــرة بدقـــة عاليـــة، تفتـــح البوابـــة بناء عــلـى أمر صـــادر إليها .
وأســـوة بالبشر، تحتـــاج الآلات إلى التعلم الدائم لتحســـن أدائها مع مرور الوقت كي تســـتطيع الشـــعور والفهم والتصرف بصورة أفضـــل، ويمكن القـــول إن البيانـــات هي العنصر الأســـاسي في هذه العملية

الفقرة الثانية: أنواع أنظمة الذكاء الاصطناعي
نظرا للإمكانيات اللامتناهية التي يتوفر عليها هذا النوع من البرامج وما مر به ن مراحل أثناء تطوره فإنه قد يتخذ عدة أشكال تبعا للوظيفة المتوخاة منه لذلك الذكاء الاصطناعي يمكن تقسيمه إلى:
أولا الذكاء الاصطناعي الضيق :
هو الذكاء الاصطناعي الذي يتخصص في مجال واحد من المهام تمت برمجت من اجل إنجازها ولا يكون سوى عاجز عن القيام بأي شيء في غير ما برمج للقيام به، فمثلا هناك انظمة ذكاء اصطناعي كالذي يستخدمه المكتب الوطنية للسكك الحديدية للقيام فقط بمهمة الاجابة على تساؤلات الزبناء، وهو الشيء الوحيد الذي تفعله.
ثانيا الذكاء الاصطناعي العام :
يشير هذا النوع إلى حواسيب بمستوى ذكاء مقارب للإنسان في جميع المجالات، يمكنه تأدية مجموعة واسعة و متنوعة من المهام الفكرية التي يمكن للإنسان القيام بها، إن إنشاء هذا النوع من الذكاء أصعب بكثير من النوع السابق و لازال مفهوما نظريا يفرض تحديات علمية و تقنية و أخلاقية كبيرة اذا لم يتم حلها فلن يتم الوصول إلى هذا المستوى بعد.
ثالثا الذكاء الاصطناعي الفائق :
يعرف الفيلسوف أكسفورد نيك بوستروم الذكاء الفائق بأنه “فكر أذكى بكثير من أفضل العقول البشرية في كل مجال تقريبا ، بما في ذلك الإبداع العلمي والحكمة العامة والمهارات الاجتماعية”، وبسبب هذا النوع يعتبر مجال للتعمق به.
رابعا الذكاء الاصطناعي التوليدي
مثل الأشكال الأخرى للذكاء الاصطناعي، يتعلم الذكاء الاصطناعي التوليدي كيفية بناء معلومات جديدة من البيانات السابقة، وينشئ محتوى جديدا تماما، سواء كان نصا أو صورة أو حتى شفرة برمجية، بناء على هذا التدريب بدلا من مجرد تصنيف أو تحديد البيانات مثل الذكاء الاصطناعي العادي.
ومن أشهر تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدية برنامج “شات جي بي تي (CHAT GPT) وهو روبوت محادثة أطلقته شركة “أوبن إيه آي ( (OpenAIأواخر العام الماضي وتدعمه مايكروسوفت.
ويعتبر “جي بي تي- ” (GPT-4) 4أحدث نسخة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدية التي أعلنت عنها شركة “أوبن إيه آي” ، والمميز في هذه النسخة أنها “متعددة الوسائط” حيث يمكنها استيعاب النص والصور…
وبغض النظر عن الاعتراضات التي تثور حول استخدامات الذكاء الاصطناعي، فإن الشركات تستثمره فعلا في العمل، وخاصة الذكاء الاصطناعي التوليدي. و هذه التقنية مفيدة في إنشاء مسودة أولى لنسخة تسويقية، على سبيل المثال، على الرغم من أنها قد تتطلب تنقيحا.
و في الجانب المقابل هناك مخاوف بشأن إساءة استخدام هذه التكنولوجيا المحتملة، فقد شعرت المدارس والجامعات بالقلق من استعانة الطلاب بتقنية الذكاء الاصطناعي لإنجاز بحوثهم وواجباتهم المدرسية، مما يقوض الجهد المطلوب منهم بذله للتعلم. كما أعرب باحثون في الأمن السيبراني أيضا عن قلقهم من أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن يشجع إنتاج المعلومات المضللة، وتزييف الحقائق.
عموما ينـــدرج معظـــم مـــا نـــراه اليـــوم تحـــت الـــذكاء الاصطناعي المحـــدود، الـــذي يـــؤدي مهمـــة وحيـــدة أو مجموعة من المهـــام المترابطـــة. تتميـــز تطبيقـــات الـــذكاء الاصطناعي المحـــدود بقوتهـــا، وقدرتها عـــى التأثير عـــى طريقة عملنـــا وحياتنـــا عالمياً، حيث يســـاعد الذكاء الاصطناعي، غير أنه في الآونة الأخيرة، تنامت جهود كثيرة للانتقال إلى الـــذكاء الاصطناعـــي العـــام، حيث تســـتطيع الآلات الإدراكيـــة محاكاة الـــذكاء البشري، والتفكير الاستراتيجي ّ والتجريـــدي والإبداعـــي، مـــع قدرتهـــا على تـــولّيّ مجموعة مـــن المهام المعقـــدة. وفي حين أن الآلات تســـتطيع التفـــوق عـــى البـشــر في أداء بعـــض المهـــام (مثل معالجـــة البيانـــات،) فإن رؤيـــة الـــذكاء الاصطناعـــي العام لم تتحقـــق بالكامـــل بعـــد، و بالتالي، يبقى التعـــاون بين الإنســـان والآلة عامـــاً مهماً، ويبقى الـــذكاء الاصطناعي مجرد امتداد للقـــدرات البشرية .

المطلب الثاني: أخلاقيات مبادئ الذكاء الاصطناعي
لما كان الذكاء الاصطناعي يتطور ليصبح دعامة أساسية للتنمية المستدامة في مجتمعاتنا المعاصرة، إلا أنه لا زال يثير قضايا و إشكاليات أخلاقية جمة ، إذ كيف يمكن ضمان أن الخوارزميات المكونة للبرنامج لا تنتهك الحقوق و الحريات الأساسية للمواطن؟، أو كيف يمكن ضمان عدم تكرار الصور النمطية الاجتماعية و الثقافية في برامج الذكاء الاصطناعي خصوصا مسألة التمييز بشتى أشكاله؟، ثم كيف يمكن ضمان المسألة إذا كانت القرارات و الإجراءات مؤتمتة بالكامل؟، وغيرها الكثير من التساؤلات الكثيرة التي تسلط الضوء على مسائل غاية في الأهمية تجب مراعاتها في جميع مراحل بناء أي منظومة ذكاء اصطناعي مستقبلا.

الفقرة الأولى: مبدأ النزاهة والخصوصية والانسانية
أولا: النزاهة والإنصاف: هو المبدأ الأول في تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي والذي يلزم المطورين باتخاذ خطوات فعالة لمنع التحيز والتمييز، وضمان أن تكون الأنظمة عادلة وشاملة لجميع شرائح المجتمع. فعند استخدام البيانات الشخصية، يجب أن يكون الهدف واضحًا ومبررًا، مع الالتزام بحماية البيانات الشخصية وهي مسألة تجب مراعاتها في جميع مراحل بناء النظام الذكي انطلاقا من مرحلة التخطيط والتصميم، حيث يتم تحديد الأهداف والاحتياطات لمنع التحيز من البداية، من خلال تعاون بين الأعضاء الفنيين وغير الفنيين. ويعتبر تقييم نزاهة النظام خطوة أساسية، حيث يتم اختيار المقاييس بناءً على نوع الخوارزمية وتأثير القرار. يتم تحديد البيانات المتعلقة بالأشخاص المتأثرين بالنظام ووضع حدود للتقييم العادل .
مرورا بمرحلة تهيئة البيانات حيث يتم اتباع أفضل الممارسات في جمع وتصنيف وإدارة البيانات لضمان توافق النتائج مع أهداف النظام. مع ضرورة مراعات أن تكون كمية ونوعية البيانات و جودتها كافية ودقيقة لخدمة الغرض من النظام.
كما يجب تجنب إدراج البيانات الحساسة في خصائص النموذج لتجنب التحيز، إلا في حالات خاصة تتطلب مبررات واضحة.
وصولا إلى مرحلة التنفيذ، إذ يجب مراعاة النزاهة عند اختبار النظام، مع التأكد من أن الخيارات المتخذة لا تؤثر سلبًا على الفئات الضعيفة، فعند اختيار النموذج، يجب النظر في مقاييس النزاهة والإنصاف وتحديد منهجية التقييم بوضوح. بالإضافة إلى التأكد من صلاحية المنهجية المتبعة في اختيار خصائص النموذج والتحقق منها مع الأطراف المعنية. دون إغفال عملية وضع آليات لمنع أو الحد من النتائج السلبية عند استخدام الذكاء الاصطناعي في أتمتة أنظمة دعم القرار .

ثانيا: الخصوصية والأمن
تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي يتطلب كذلك مراعاة معايير الأمان والخصوصية لحماية البيانات الشخصية ومنع الوصول غير المشروع إليها. ابتداء من مرحلة التخطيط والتصميم، حيث يتم استخدام الحد الأدنى من البيانات اللازمة وتشغيل الأنظمة بموافقة المدير التنفيذي للبيانات أو وفقًا لقواعد السلوك المهني. حيث يتم اتباع أفضل الممارسات للتصدي للهجمات السيبرانية وتصنيف البيانات لتحديد مستويات الحماية اللازمة. مع الالتزام بالأطر النظامية المتعلقة بخصوصية البيانات و حصر الوصول إلى المعلومات على الأشخاص المصرح لهم. كما يجب أن يتمتع مطور النظام بالنزاهة والمعرفة لضمان حماية البيانات وتصنيفها بشكل مناسب.
و في مرحلة الاختبار، يتم التحقق من مدى حماية النظام من المخاطر المحتملة وضمان جاهزيته للاستخدام الآمن. من خلال وضع ضوابط حماية لضمان تقيّد الأنظمة بمتطلبات الخصوصية والأمن، واختبار النظام للتأكد من عدم انتهاك البيانات الشخصية.
بعد تشغيل النظام، يجب متابعته بشكل مستمرة لضمان الحفاظ على الخصوصية والأمان، مع إعادة تقييم الأثر وإدارة المخاطر بانتظام. مع العلم أن مسؤول النظام يبقى مسؤولاً عن حماية البيانات الشخصية طوال دورة حياة النظام، وتحديث عناصر النظام بناءً على تقارير المتابعة المستمرة.

ثالثا: الإنسانية
يؤكد هذا المبدأ على أهمية تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي بطريقة عادلة وأخلاقية تستند إلى حقوق الإنسان والقيم الثقافية الأساسية. يهدف هذا المبدأ إلى تحقيق تأثير إيجابي على المجتمعات المحلية والمساهمة في تحقيق الأهداف طويلة وقصيرة الأجل لصالح البشرية. و بالتالي يجب تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي بحيث لا تخدع أو تتلاعب، بل تعزز المهارات البشرية وتتيح اتخاذ القرارات لصالح الإنسان. وهو ما يتطلب تصميم نموذج يعتمد على مبادئ حقوق الإنسان والقيم الثقافية، و يتوافق معها كما تم تبنيها من طرف المملكة المغربية الشريفة. مما يستوجب إدارة البيانات بشكل أخلاقي لضمان احترام حقوق الإنسان، وتطوير الأنظمة باستخدام المعايير الأخلاقية. كما يجب إجراء تقييمات دورية لضمان عدم تعارض نتائج النظام مع حقوق الإنسان والقيم الثقافية، واتخاذ التدابير التصحيحية عند الحاجة.

الفقرة الثانية: الموثوقية والشافية والمساءلة
أولا: الموثوقية والسلامة
يهدف مبدأ الموثوقية والسلامة إلى ضمان أن نظام الذكاء الاصطناعي يلتزم بالمواصفات المحددة ويعمل بشكل كامل وفقًا لما قصده وصممه المطورون. تُعد الموثوقية مقياسًا لمصداقية واعتمادية النظام من الناحية التشغيلية، مع وظائفه المحددة والنتائج التي يسعى لتحقيقها.
و من ناحية أخرى، تُعد السلامة مقياسًا لكيفية عدم تشكيل نظام الذكاء الاصطناعي خطرًا على المجتمع والأفراد. فعلى سبيل المثال: يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي مثل المركبات ذاتية القيادة أن تشكل خطرًا على حياة الناس إذا لم تتعرف عليهم ككائنات حية أو لم تُدرب على بعض السيناريوهات أو في حالة تعطل النظام.
لذلك، يجب أن يكون النظام موثوقًا وآمنًا من خلال عدم تعريض المجتمع للخطر، ويجب أن تكون لديه آليات مدمجة لمنع وقوع الضرر. يرتبط إطار الحد من المخاطر ارتباطًا وثيقًا بهذا المبدأ، ويجب على مسؤول نظام الذكاء الاصطناعي العمل على تقليل المخاطر المحتملة والأضرار غير المقصودة إلى أدنى حد ممكن.

ثانيا: الشفافية والقابلية للتفسير
إن مسألة تعزيز ثقة المجتمع في أنظمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي، مرهون بضمان أن تكون هذه الأنظمة شفافة وقابلة للتفسير. وهو ما يتطلب بناء أنظمة ذكاء اصطناعي بوضوح عالٍ وقدرة على التتبع، خاصة في القرارات المؤتمتة التي قد تؤثر سلبًا على الأفراد إذ يجب أن تكون البيانات والخوارزميات والعمليات والأهداف واضحة ومفهومة للمتأثرين بها بشكل مباشر أو غير مباشر حيث تعتمد درجة الشفافية والتتبع والتدقيق على سياق النظام والغرض منه والنتائج المحتملة ، و يجب أن يكون مطورو أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرين على تبرير تصميماتهم وممارساتهم وعملياتهم وخوارزمياتهم وقراراتهم وسلوكياتهم بشكل أخلاقي وغير ضار للعامة.

ثالثا: المساءلة والمسؤولية
يحمل مبدأ المساءلة المسؤولية الأخلاقية، للمصممين والمطورين ومسؤولي ومقيمي أنظمة الذكاء الاصطناعي عن القرارات والإجراءات التي قد تؤدي إلى مخاطر محتملة وآثار سلبية على الأفراد والمجتمعات. إذ لا غنى عن الإشراف البشري والإدارة المناسبة خلال دورة حياة نظام الذكاء الاصطناعي بأكملها، لضمان وجود آليات مناسبة لتجنب الأضرار وإساءة استخدام هذه التقنية.
كما ينبغي ألا تؤدي أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى خداع الناس أو الإضرار بحريتهم في الاختيار دون مبرر، ويجب أن يكون المصممون والمطورون والأشخاص الذين ينفذون نظام الذكاء الاصطناعي معروفين ويمكن لأصحاب المصلحة التواصل معهم.

المبحث الثاني: تأثير الذكاء الاصطناعي على السلطة القضائية
لقد ترسخت في الممارسة القضائية مبادئ موضوعية و أخرى مسطرية تروم تليين التطبيق العادل للقانون و السهر على تنزيله على أرض الواقع بأعلى نسبة نجاعة و فعالية ممكنة، ولما لم يسلم أي مجال من التحديث بسبب قبوله التعاون مع أنظمة الذكاء الاصطناعي فإن مجال القضاء لا يخرج عن هذه المعادلة، اذ لا بد أن يؤثر اعتماد للذكاء الاصطناعي كمساعد في تسيير العمل القضائي على مبادئ بشكل أو بآخر، علما أن الذكاء الاصطناعي المقصود هنا ليس أي برنامج عادي بل هو برنامج منذ تأسيسه كان الهدف منه تقديم المساعدة في العمل القضائي و بالتالي لا بد أن يكون مستوفيا لشروط خاصة تتلاءم و خصوصيات مهنة القضاء وهاتان النقطتان ستكونان موضوع المطلبين أدناه.

المطلب الأول: تأثير الذكاء الاصطناعي على مبادئ العدالة وحدود تدخله في المهام القضائية
سبقت الإشارة الى أن اعتماد الذكاء الاصطناعي في أي مجال يستوجب اجراء تحديثات علة المستوى التشريعي والتنظيمي وحتى على مستوى الموارد البشرية، وهو الشيء الذي سيؤثر بشكل أو بآخر على مبادى وأس ذلك المجال.
وكما هو معلوم فالعمل القضائي مؤطر كذلك بعدة مبادئ لعل أبرزها هو مبدا المحاكم العادلة والذي يجد صداه الواسع في المادة الجنائية على وجه الخصوص إن كان يستحضر في جميع أنواع المحاكمات، والذي سيسلط عليه الضوء في الفقرة الأولى من هذا المطلب.
على أنه وإن كان يبدو أنه من الجائز السماح لبرامج الذكاء الاصطناعي بالتدخل بالمهام القضائية فإن ذلك يجب أن يكون ضمن حدود معينة لا تمس بأخلاقيات والغايات المنشودة للمهنة. وهو ما سيتم الوقوف عنده في الفقرة الثانية.

الفقرة الأولى: تأثير الذكاء الاصطناعي على مبادئ العدالة والانصاف
سبقت الإشارة إلى ما يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تلعبه من أدوار فعالة في مجال القضاء بدأ بالتنبؤ بمآل القضية بناء على الأدلة المتوفرة و البيانات المجمعة حول الأطراف و ما ذهب إليه العمل القضائي في ما شابه النازلة محل البت، مرورا بمساعدة القضاة في تحرير الأحكام في وقت وجيز ، غير أنه لا يجب الانقياد وراء هذه المزايا المغرية فقط بل يجب الانتباه إلى أن نظام الذكاء الاصطناعي مجرد خوارزميات برمجية خالية من الروح البشرية مما قد يكون وراء انتاجها لأجوبة و قرارات منافية لمبادئ العدالة و الانسانية و هو ما يثير التساؤل حول مدى احترام هذه البرامج لمبادئ العدالة و على الأقل لمبدأ المحاكمة العادلة. هذا المبدأ يعتبر من المبادئ الأساسية التي تنبني عليها دولة الحق والقانون، وهي من الأهداف الكبرى التي تسعى الدول الديمقراطية لتحقيقها وبلوغها، وذلك من خلال إعطائها مكانة هامة داخل السياسة العامة للدولة، حيث أصبح الحق في محاكمة عادلة من أعرق وأهم حقوق الإنسان على اعتبار أن هذا الحق بعد ضمانة أساسية في مواجهة مختلف التجاوزات والانتهاكات التي تتخذ صورا وأشكالا متعددة، لا سيما في القضايا ذات الطبيعة السياسية، وفي الأنظمة الديكتاتورية بالخصوص .
وإذا كان استقلال السلطة القضائية بدوره يسهم في تحقيق ضمانات المحاكمة العادلة، من خلال حياد القضاء تجاه الأطراف والخصوم في القضايا المعروضة أمامه ، فهذا التوجه سيعد بمثابة دعامة أساسية لتوطيد وترسيخ مفهوم استقلال القضاء، الذي سيحقق بشكل حتمي مبدأ المحاكمة العادلة التي تسعى المملكة لبلوغها. غير أن أنظمة الذكاء الاصطناعي المستندة إلى التعلم الآلي تواجه تحديات كبيرة في المساءلة، تتعلق أساسا بالشفافية والمساءلة، كما يتضح من خلال العديد من حالات لغلط التي تقع فيها فذة الأنظمة والمهولة الأسباب، حيث تثير هذه التكنولوجيا كما يصفها البعض ب”العدالة التنبؤية” تساؤلات حول تأثيرها على اتخاذ القرارات القضائية، خاصة في سياق استخدام الخوارزميات لتقييم مخاطر العودة إلى الإجرام في الولايات المتحدة مثلا.
وتظهر التحقيقات أن هذه الأنظمة قد تكون متحيزة، مما يبرز الحاجة إلى ضمان المساءلة والرقابة السليمة على التكنولوجيا المستخدمة في النظام القضائي. نظرا للتحديث المستمر الذي يلحق الخوارزميات بمرور الوقت بناءً على خبرتها الخاصة، مما يجعل من الصعب فهم كيفية عملها وأسباب اتخاذها لقرارات معينة. و لضمان المساءلة الصحيحة، يجب اعتماد مبدأ وقائي حتى يتم حل هذه المسائل تقنيًا ومؤسسيًا.
ويجب أن يتماشى هذا المبدأ مع الميثاق الأخلاقي لمجلس أوروبا بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي في النظم القضائية، والذي يركز على احترام الحقوق الأساسية ومراقبة المستخدمين. ومع ذلك، فإن تنفيذ هذه المبادئ ليس واضحًا بعد، ويتطلب مواجهة التحديات من خلال تجميع الكفاءات المتعددة ورصد أداء النظم ووضع معايير مرجعية .
بالإضافة على ذلك فمصطلح “العدالة التنبؤية” هو مصطلح مضلل، حيث أن هذه النظم تقدم تنبؤات إحصائية وليست قرارات قضائية. فالقرارات القضائية تتطلب تعليلا من الناحية القانونية والواقعية والقضائية لم لا من الناحية الفقهية، وهو ما لا توفره نظم الذكاء الاصطناعي بشكل كامل.

الفقرة الثانية: استعانة القاضي بأنظمة الذكاء الاصطناعي في المهام القضائية
في كل مرة قد تعرض فيها على القاضي نازلة لم يسبق له أن نظر في مثلها، تكون متضمنة لوقائع يستشكل عليه تكييفها أو فهمها فإنه لا بد له من استشارة غيره من أهل التخصص والعلم.
ومع التطور التقني المعاصر قد يكفيه الرجوع الى النظام الذكي لطلب المشورة، ليتزود بما يحتاج لأداء مهمته القضائية كما ينبغي. وهو ما يثير التساؤل حول: مدى جواز استعانة القاضي بأنظمة الذكاء الاصطناعي في أداء المهام القضائية؟
إن استشارة القاضي لغيره فيما ينظر فيه من قضايا من أهل العلم والخبرة لهو أمر واجب ومستحب وقد قرره الفقهاء رحمهم الله واستدلوا عليه بغير ما دليل واحد سواء من القرآن أو السنة.
فلنا في كتاب الله تعالى قوله عز وجل (و شاورهم في الأمر) ، ووجه الدلالة هنا أنه على الله عليه و سلم أمر بالمشورة ولو كان غنيا عنها ليس لشيء عدى لتقتدي به أمته بعد وفاته. و هناك أيضا ما جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم من استشارة بعضهم لبض في احكامهم القضائية، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه حين استشار عمر ابن الخطاب في دية الجنين.
وبالتالي يظهر لنا أنه من البديهي القول بجواز وصحة استعانة القاضي بأنظمة الذكاء الاصطناعي للوصول الى الحكم الأعدل بالنسبة له بشأن القضية التي ينظر في امرها شريطة أن يذكر ذلك تعليل الحكم. وفي ذلك تحقيق لمقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية في القضاء الا وهو التعجيل في القضاء بين الناس بالعدل .
زد على ذلك أن الرجوع للأنظمة الذكية طلبا للمشورة يكون أسهل على القاضي من طلبها من اهل العلم والخبرة، لأن ذلك سيتطلب تحري تفرغهم واستجابتهم له عكس الأنظمة الذكية المتاحة في كل حين. غير أن هذه الاستعانة لا بد فيها من ضوابط وشروط مستخرجة مما ذكره الفقهاء في باب استشارة القاضي لغيره من العلماء منها:
• أن ينحصر الرجوع للأنظمة الذكية فقط في حدود ما لم يتضح بشأنه رأي من المسائل أو بخصوص المسائل المستجدة.
• أن يكون مؤسس البرنامج الذكي و مدخل البيانات كلاهما من أهل العلم و الفتاوى، بحيث يشترط فيه العدالة المعتبرة وان يكون من اهل الاجتهاد في النوازل و الأحكام . أي أن يكون عالما بكتاب الله و سنة نبيه و علمه بالإجماع و الاختلاف و اقاويل الناس حتى يتسنى له اتباع الاجماع و الاجتهاد في المختلف…، مع ما يستلزمه ذلك من معرفة باللغة العربية في حدود ما تدعو اليه الحاجة من اعراب و لغة حتى يعرف التفريق بين الفاعل و المفعول و حكم الأوامر و النواهي و الندب و الارشاد، ولا ينسى معرفة الناس و فهم الواقع الذي يعيشون فيه .
• ألا يسلم القاضي بالحكم وفق ما تظهره له الأنظمة الذكية دون تدقيق أو دراسة، بل عليه أن يستنير بالنتائج المتوصل اليها و يأخذ بما يغلب ظنه أنه الحق .

المطلب الثاني: شروط النظام الذكي المتولي لمهام القضاء:
إن القول بجواز تولي النظام الذكي لبعض المهام القضائية مرهون بتوفر شروط موضوعية أقرها أهل الاختصاص سواء بالنسبة للنظام الذكي (الفقرة الأولى) في حد ذاته أو بالنسبة لمدخل المعلومات (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: شروط البرنامج:
• سلامة النظام و أداؤه لعمله بشكل سليم دون أعطاب، علما أن هذه البرامج لا يتم اطلاقها لتتاح للمستخدم النهائي الا بعد اختبارها و التأكد من صحة و جودة مخرجاتها ، بالإضافة إلى اختبارها من الناحية الأمنية تجنبا لأي اختراق قد يهدد سلامة البينات الشخصية للمستخدم.
و في المجال القضائي تبرز أهمية هذا الشرط بقوة، ذلك أن الخصوم يلجؤون للقضاء لطلب الفصل بينهم بالعدل و رفع الظلم عن مصالحهم و حقوقهم وهو الذي إذا ما تم بمساعدة نظام ذكاء اصطناعي مخترق و غير سليم يكون القضاء قد حاد عن هدفه و إن كان القاضي اعتمد النظام الذكي بشكل مساعد فقط و سبب ذلك بشكل غير متعمد ضررا للأطراف.
• أن يكون مزودا بكل ما يلزمه من ملحقات (أجهزة وبرامج مساعدة من قبيل الربط بالأنترنيت والطابعة ومنح الوصل للمنصة الرقمية للمحكمة وكذا البريد الالكتروني للقضاء لإعلامهم بما استجد في قضاياهم ….) تلزمه للعمل بشكل سليم واستغلال إمكانياته لأقصى درجة ممكنة.
• تحديث وتغذية قاعدة البيانات الخاصة بالنظام الذكي بشكل دوري حتى يقوم بهامه استنادا الى آخر الاحصائيات والمستجدات العلمية والتقنية والشريعة وحتى القضائية، فكما هو معلوم فالعمل القضائي ترد فيه توجيهات من جهات عليا قد تقتضي تغيير أو نقل اختصاص معين لجهة معينة أو اجراء تعديل على مسطرة معنية وغيرها، وكلها أمور واجب إدراجها في قاعدة البيانات الخاصة بالنظام الذكي فور دخولها حيز التنفيذ تفاديا لأي خطأ أو إضرار بالحقوق.
• التأكد من اكتمال البيانات المدخلة في النظام تفاديا لوقوع خطأ بسبب النقص.
• الشفافية و الوضوح في شرح و تفسير القرارات القضائية .
وتجدر الإشارة إلى ضرورة عدم إغفال الأسباب التي أسس عليها النظام الذكي جوابه لأن ذلك قد يسبب نتائج كارثية في حالة اعتماده على أسباب منافية للمنطق أو غير مشروعة، وأن كانت هذه المسألة تخالف توجه الشركات المطورة لمثل هذه البرامج والتي تقتضي إبقاء آلية العمل سرية لحماية ملكيتها الفكري أو أسرار تميزها.

الفقرة الثانية: شروط مدخل البيانات
إذا كان جائزا حسب ما سبق تولي الذكاء الاصطناعي لبعض مهام القضاء وفق شروط محددة، فإن مدخل المعلومات بدوره يجب ألا تنتفي فيه الصفات التالية:
• أي يكون من أهل العلم و الاجتهاد و الخبرة في العمل القضائي و ما جرى به العمل في محاكم المملكة كلها بشأن الموضوع الذي سيساعد فيه البرنامج الموجود قيد الكتابة و الإنشاء ، و إذا لم يكن كذلك فعليه الاستعانة بمن تتوفر فيهم هذه الشروط شريطة أن يكونوا متوافقين ومنتمين لنفس ثقافة المجتمع الذي سيعمل في نطاقه البرنامج الذكي.
• الحيادية عدم العنصرية : إذ لا خير من وراء استعمال نظام ذكي يقيم التمييز بين الناس أيا كان معياره ( سواء على أساس اللون أو اللغة أو المعتقد أو الجنس…). لذلك يكون من الواجب إقرار إطار قانوني و تنظيمي و تقني لهذا المجال ككل و إقرار أخلاقيات و مبادى تكون الموجهة للعموم أثناء استخدامهم لهذه البرامج و حتى تتحقق الاستفادة الفضلى للبشرية و التنمية المستدامة و التطور الإيجابي في مختلف مناحي الحياة.

خاتمة:
وفي الختام يتضح لنا أن الـــذكاء الاصطناعـــي لم يعد تقنيـــة مســـتقبلية التي نراها فقط في الأعمال السنيمائية، بل أصبـــح واقعا وجزئا أساســـياً في حياتنـــا اليومية ، ســـواء من خلال تقديم المشـــورة لاتخاذ القرارات أو إنجاز بعض المهام المعقدة أو الكبيرة نيابة عنا وغيرها… ، وفي واقـــع الأمر، يلامـــس الذكاء الاصطناعي حياتنا بشـــكل أكثــر مما نتخيل. وبالتـــالي، مـــن الضروري أن يكون كل شخص على قدر من النضج الفكري و الأخلاقي حتى لا يساهم في تفشي ثقافة لا تـــرى الـــذكاء الاصطناعـــي سوى كتهديـــد للوجود البشري، بـــل هو أداة للارتقـــاء بالتفكير البشـري واتخـــاذ القرارات بشـــكل أفضل وأسرع.

لائحة المراجع:

1. الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي SDAIA – مبادئ اخلاقيات الذكاء الاصطناعي – الإصدار الأول 2 سبتمبر 2023
2. ذ. اروى بنت عبد الرحمان بن عثمان الجلعود، احكام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القضاء، الطبعة الأولى 1444 هجرية، دار قضاء للنشر والتوزيع و طلبات النسخ
3. دليل تبني الذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية – الإمارات العربية المتحدة، وزارة شؤون مجلس الوزراء2 مكتب رئاسة الوزراء-
4. الحاوي الكبير- الماوردي
5. – سورة آل عمران-الآية 159.
6. – سنن ابن ماجة- أبواب الديات-باب دية الجنين- رقم 2641.(3/659).
7. – مقاصد الشريعة الإسلامية-ابن عاشور-(3/536).
8. – صابر الهدام-القانون في مواجهة الذكاء الاصطناعي – دراسة مقارنة – راسلة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص – جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس – كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية- السنة الجامعية 2021/2022.
9. الهيئة السعودية للبيانات و الذكاء الاصطناعي SDAIA – مبادئ اخلاقيات الذكاء الاصطناعي – الإصدار الأول 2 سبتمبر 2023-
10. الذكاء الاصطناعي والقانون، قطاع نموذجا – أشرف حامل الدين- مجلة فضاء الطالب- بتاريخ 18يونيو 2024- تاريخ الاطلاع 12شتنبر2024.
11. دليل تبني الذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية – الإمارات العربية المتحدة، وزارة شؤون مجلس ال وزراء2 مكتب رئاسة الوزراء-
12. -مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات و الجريمة (UNODC)- الذكاء الاصطناعي: حصان طروادة جديد من أجل تأثير لا مسوغ له على السلطة القضائية- فرانشيسكو كونتيني
13. https://www.unodc.org/dohadeclaration/ar/news/2019/06/artificial-intelligence_-a-new-trojan-horse-for-undue-influence-on-judiciaries.html
14. عدنان السباعي – المحاكمة العادلة على ضوء التشريع المغربي و الاتفاقيات الدولية- مجلة القانون و الأعمال الدولية https://www.droitetentreprise.com – تاريخ الاطلاع 08شتنبر2024.
15. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل القاضي في محكمته
16. ، https://www.worldgovernementsummit.org
17. – توصية بإدراج مساق الذكاء الاصطناعي ضمن المنهاج التدريبي للمعاهد القضائية، موقع صحيفة البيان الإماراتية : https://www.albayan.ae
18. حوكمة الذكاء الاصطناعي- إبراهيم المسلم- موقع نمذجيات : https://www.nmthdiat.com
19. الشفافية في الأتمتة و الروبوتات الذكية، مدونة فهد العييري- http://www.fahads.com
20. – هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل القاضي في محكمته ،
a. https://www.worldgovernementsummit.org
21. – توصية بإدراج مساق الذكاء الاصطناعي ضمن المنهاج التدريبي للمعاهد القضائية، موقع صحيفة البيان الإماراتية : https://www.albayan.ae
22. – مقال الهيئة السعودية للبيانات و الذكاء الاصطناعي(سدايا) في المنصة الموحدة : https://www.my.gov.sa

قائمة منابع العمل (النسخة الثانية):
كتب
1. الحاوي الكبير- الماوردي
2. سنن ابن ماجة- أبواب الديات-باب دية الجنين- رقم 2641.(3/659).
3. مقاصد الشريعة الإسلامية-ابن عاشور-(3/536).
رسائل وأطروحات
1. صابر الهدام-القانون في مواجهة الذكاء الاصطناعي – دراسة مقارنة – راسلة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص – جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس – كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية- السنة الجامعية 2021/2022.
2. ذ. اروى بنت عبد الرحمان بن عثمان الجلعود، احكام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القضاء، الطبعة الأولى 1444 هجرية، دار قضاء للنشر والتوزيع و طلبات النسخ
مقالات
1. الشفافية في الأتمتة و الروبوتات الذكية، مدونة فهد العييري- http://www.fahads.com
2. العدالة في الأتمتة و الروبوتات الذكية، مدونة فهد العييري- http://www.fahads.com
3. الذكاء الاصطناعي والقانون، قطاع نموذجا – أشرف حامل الدين- مجلة فضاء الطالب- بتاريخ 18يونيو2024- تاريخ الاطلاع 12شتنبر2024.
4. عدنان السباعي – المحاكمة العادلة على ضوء التشريع المغربي و الاتفاقيات الدولية- مجلة القانون و الأعمال الدولية https://www.droitetentreprise.com – تاريخ الاطلاع 08شتنبر2024.
5. مقال الهيئة السعودية للبيانات و الذكاء الاصطناعي(سدايا) في المنصة الموحدة : https://www.my.gov.sa
6. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل القاضي في محكمته ، https://www.worldgovernementsummit.org
7. توصية بإدراج مساق الذكاء الاصطناعي ضمن المنهاج التدريبي للمعاهد القضائية، موقع صحيفة البيان الإماراتية : https://www.albayan.ae
8. توصية بإدراج مساق الذكاء الاصطناعي ضمن المنهاج التدريبي للمعاهد القضائية، موقع صحيفة البيان الإماراتية : https://www.albayan.ae
9. https://www.unodc.org/dohadeclaration/ar/news/2019/06/artificial-intelligence_-a-new-trojan-horse-for-undue-influence-on-judiciaries.html
تقارير ودلائل
1. دليل تبني الذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية – الإمارات العربية المتحدة، وزارة شؤون مجلس الوزراء2 مكتب رئاسة الوزراء-
2. دليل تبني الذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية – الإمارات العربية المتحدة، وزارة شؤون مجلس ال وزراء2 مكتب رئاسة الوزراء-
3. الهيئة السعودية للبيانات و الذكاء الاصطناعي SDAIA – مبادئ اخلاقيات الذكاء الاصطناعي – الإصدار الأول 2 سبتمبر 2023-
4. الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي SDAIA – مبادئ اخلاقيات الذكاء الاصطناعي – الإصدار الأول 2 سبتمبر 2023
5. حوكمة الذكاء الاصطناعي- إبراهيم المسلم- موقع نمذجيات : https://www.nmthdiat.com
6. مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات و الجريمة (UNODC)- الذكاء الاصطناعي: حصان طروادة جديد من أجل تأثير لا مسوغ له على السلطة القضائية- فرانشيسكو كونتيني