اعداد : هيئة تحرير مجلة القانون و الأعمال
لم يلق الفقهاء اهتماما كبيرا بالواقعة القانونية مثلما اهتموا بالتصرف القانوني، فهذا الأخير هو عبارة عن إرادة محصنة متجهة إلى إحداث أثر قانوني، وقد لاقى التصرف القانوني، وخصوصا العقد- وهو صورته الرئيسية- اهتمام كبيرا من الفقه التقليدي الذي أولى عناية كبيرة بالنظر إلى الواقعة القانونية التي تلاشت أهميتها أمامه، ويبدو أن سبب هذه العناية يرجع إلى طغيان المذهب الفردي، والمغالاة فيما يتفرع عنه من مبدأ سلطان الإرادة مغالاة فائقة أدت إلى رد كل شيء إلى الإرادة العامة لأبناء المجتمع، أو من العقد الإجتماعي وأن الإرث هو عبارة عن وصية مفترضة، وأن المجرم يختار راضيا العقوبة التي توقعها به الجماعة، فإرادة العقاب هي أولا وقبل كل شيء إرادة المجرم لا إرادة المجتمع.
وتجدر الإشارة إلى أن الإهتمام البالغ الذي يعطيه الفقه الكلاسيكي للتصرف القانوني على حساب الواقعة القانونية لم يكن ينصب أصلا على التصرف القانوني ذاته، وإنما على صورته الرئيسية وهي العقد. فلم يلتفت هذا الفقه إلى تأصيل نظرية عامة للتصرف القانوني بحد ذاته، بل سلط الأضواء على العقد وهو منهج غير دقيق، حبذا لو عدل عنه، ووضع نظرية خاصة للتصرف القانوني تسلسل قواعده العامة وتبين أشكاله وصوره وحالاته، مخرجا بذلك التصرف القانوني من الدائرة المحدودة التي رسمها له الفقه الكلاسيكي، وهي دائرة العقد الذي هو شكل من أشكال التصرفات القانونية وليس الشكل الوحيد لها[1]. بيد أن العقد يعتبر أهم التصرفات القانونية في الحياة العملية، فهو أهم مصدر منشأ للإلتزام، بل إن المصادر الأخرى مجتمعة لا تتناسب معه بمفرده في الأهمية، فهو وحده ينشئ الأغلبية الساحقة من الالتزامات.
لم يعرف قانون الالتزامات والعقود المغربي العقد خلاف ما فعله القانون المدني الفرنسي في المادة 1101. التي جاءت تقضي بأن:"العقد اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو اكثر نحو شخص آخر أو اكثر بإعطاء أو بعمل أو بالامتناع عن عمل شيء". ويلاحظ أن عدم قيام المشرع المغربي في قانون الالتزام والعقود بتعريف العقد، يعتبر مسلكا سليما وقويما لأن التعريف مسألة فقهية يجب أن يترك أمرها للاجتهاد والتعريف ليس من مهمة المشرع، بل هو من مهمة الفقه، ويمكن تعريف العقد بأنه توافق إرادتين أو أكثر على إحداث قانوني سواء أكان هذا الأثر هو إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه[2]. ومثاله البيع والإيجار والشركة والوكالة والهبة. ومن خلال هذا التعريف يتضح أنه يلزم لقيام هذا العقد توافر أمرين أساسيين: الأول توافق إرادتين أو أكثر. الثاني أن يتجه هذا التوافق إلى إحداث أثر قانوني.
وجوهر العقد وأساسه هو توافق إرادتين أو أكثر فهو لا يقوم حيثما توجد إرادة شخص واحد حتى إذا اتجهت تلك الإرادة إلى إحداث أثر قانوني، كما إذا أوصى شخص بماله لآخر، ففي هذه الحالة يقوم تصرف قانوني ولكنه من جانب واحد، في حين أن العقد هو تصرف قانوني من جانبين على الأقل[3].
ويلتزم المتعاقد بتنفيذ العقد وفقا لمضمونه، وهو مقتضى القاعدة العامة التي تقول إن العقد شريعة المتعاقدين. فالفصل 230. من ق. ل. ع. ينص على أن:"الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون". إن القاعدة التي يتضمنها هذا الفصل هي أن العقد شريعة المتعاقدين كما سبق الذكر، أي أن الالتزام الناشئ من العقد يعادل في قوته الالتزام الناشئ من القانون. وكما أنه لا يجوز للشخص أن يتحلل من التزام فرضه القانون لا يسوغ للمتعاقد أن يتحلل من التزام أنشأه عقد كان هو طرف فيه، ويجب على المتعاقد أن ينفذ التزامه بحسن نية استنادا للفصل 231. من ق.ل.ع. الذي جاء فيه:"إن كل تعهد يجب تنفيذه بحسن نية" ويسأل المدين سيئ النية عن خطئه وتقصيره، بل الأكثر من ذلك يسأل عن القوة القاهرة أيضا، وذلك متى كان عدم تنفيذه للعقد راجعا إلى ارتكابه غشا أو خطأ جسيما. وإذا أخل المتعاقد عند تنفيذه لالتزامه بقاعدة حسن النية فإنه يقع تحت طائلة المسؤولية العقدية، بيد أن العقد قد ينعقد صحيحا من جميع الوجوه فهو منتج لآثاره ويجب على المدين أن ينفذ التزامه ولكن تقع حادثة قاهرة تجعل التزامه مستحيلا، ويترتب على استحالة تنفيذ الالتزام لسبب أجنبي براءة ذمة المدين، فالالتزام ينقضي باستحالة تنفيذه ويترتب على انقضائه انفساخ العقد الذي ولده "من تلقاء نفسه"[4].
ويعطي الفقه المصري لانفساخ العقد الحكم الذي قرره القانون لفسخه بحيث يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد، وإنما يؤدي التحليل إلى التفرقة في أثر الانفصال بين العقد الملزم لجانب واحد حين يكون انفساخه نتيجة لانقضاء الالتزام الذي ولده لاستحالة تنفيذه، بحيث يكون الانفساخ بمعنى الزوال، ويقتصر من ثم أثره على المستقبل، والعقد الملزم للجانبين الذي يترتب على انقضائه التزام ناشئ عنه انقضاء الالتزام الذي يقابله، نظرا للارتباط بين الالتزامات المتقابلة فيه، فيكون من ثم لانفساخه معنى الفسخ، بما له من أثر رجعي ولا يمكن في هذه الحالة الاعتراف بهذا الأثر في العقود المستمرة على نقيض ما قررناه في أثر الفسخ، لأن استحالة تنفيذ الالتزام المستمر لا يترتب عليها انقضاؤه إلا بالنسبة للمستقبل، فلا يكون انقضاء الالتزام الذي يقابله كذلك إلا بالنسبة للمستقبل، ولا يتحقق بطروء القوة القاهرة انفساخ العقد على الوجه المبين الذي سبق ذكره إلا إذا كانت الاستحالة الناشئة عنها نهائية، أما إذا كانت استحالة تنفيذ الالتزام مؤقتة فلا ينفسخ بها العقد بل يقف تنفيذه حتى تزول هذه الاستحالة[5].
وليس للتفرقة في أثر القوة القاهرة بين الاستحالة الدائمة والاستحالة العابرة سند في نصوص القانون وإنما يرجع الفضل في ابتداعها إلى القضاء الفرنسي- الذي حدته الرغبة في أن يوفر بكل الوسائل تنفيذ العقود بأمانة وإخلاص وأن يحقق تبعا لذلك الاستقرار اللازم للمعاملات وسلامة العلاقات الاجتماعية بين الناس- عندما رفض بمناسبة الحروب التي منعت أحد المتعاقدين عن وفاء التزامه دعوى الفسخ التي رفعها المتعاقد الآخر بعدما تبين له توقف الاستحالة وعدم تفويتها الغرض الذي قصده هذا الأخير من التعاقد، "فالقوة القاهرة لا تمنع تنفيذ الالتزام إلا إذا حالت بين المدين وبين إعطاء أو عمل ما هو ملزم بإعطائه أو عدمه، ومن تم لا يبرأ المدين إذا كان المانع مؤقتا بل يكون تنفيذ الالتزام موقوفا إلى حين زوال القوة القاهرة". وإذا كان أظهر تطبيقات نظرية الوقف تكمن في العقود المستمرة فإنها في الحقيقة شاملة لكل العقود طالما كان زمان تنفيذ الالتزام في اعتبار العاقدين ثانويا، أما إذا كان ميعاد الوفاء في تقديرهما أساسيا تعين على القاضي إذا رفع إليه أمره النطق بثبوت انفساخه على استحالة تنفيذ الالتزام لسبب أجنبي انقضاؤه.
ويترتب على انقضاء الالتزام في العقود الملزمة للجانبين انقضاء الالتزام الذي يقابله وانفساخ العقد"من تلقاء نفسه"[6]. وعلى ذلك تقع في هذه الحالة تبعة الاستحالة على عاتق المدين لأنه متى انقضى التزامه لسبب أجنبي لم يستطع مطالبة الدائن بتنفيذ الالتزام الذي يقابله، فإذا هلك المبيع قبل تسليمه إلى المشتري فإن البائع- وهو المدين في الالتزام بالتسليم- لا يستطيع مطالبة المشتري بالثمن المتفق عليه. ويتعين عليه رده إذا كان قد قبضه ويتحمل البائع من تم تبعة الهلاك وقد وردت هذه القاعدة في المادة 159. من .ق.م.المصري[7]. هذا عن موقف المشرع المصري أما عن موقف المشرع المغربي من تبعة الهلاك فالأصل أن تبعة الهلاك يتحملها المشتري طبقا للفصلين 491- 493 من ق.ل.ع. أما في العقد الملزم لجانب واحد إذا استحال على المدين تنفيذ التزامه لسبب أجنبي فإن الالتزام ينقضي كذلك ولكن يتحمل تبعة تلك الاستحالة الدائن. لأنه لا يستطيع أن يطالب المدين بتنفيذ التزامه تبعا لانقضائه، ولا أن يرجع عليه بالتعويض تبعا لأن استحالة تنفيذه كانت لسبب أجنبي لا يد له فيه وليس في ذمته التزام مقابل للالتزام الذي استحال تنفيذه، يتحلل منه. فيتحمل الخسارة وحده في النهاية، فإذا هلكت الوديعة مثلا عند المودع لديه لقوة قاهرة فاستحال عليه أن يردها للمودع تحمل هذا الأخير- وهو الدائن في الالتزام الذي استحال تنفيذه- تبعة هذا الهلاك[8].
إن نظرية أو فكرة القوة القاهرة فكرة قديمة قدم العلاقة الإنسانية ذاتها، فقد عرفت بوادرها كل الشرائع القديمة تقريبا، بل وقد حاول بعض الفقهاء الرومانيون في وقت من الأوقات وضع تعريف خاص بها يبرز معالمها ويحدد شروطها، وقد اخذ بها الفقه الإسلامي كما تمسكت بها القوانين الكنسية قبل أن تمتد إليها يد المشرع الوضعي. وعندما صدر القانون المدني الفرنسي لسنة 1804. وهو القانون الذي ينسب عادة إلى نابوليون، حرصت بعض نصوصه التشريعية على تأكيد ما للقوة القاهرة من آثار سلبية على مختلف الالتزامات القانونية على العموم والتعاقدية على وجه الخصوص. ومما جاء ذكره يمكن إثارة بعض الإشكالات المحورية التي سوف تكون أساس دراستنا للموضوع.
فما هو إذن المنظور القانوني للقوة القاهرة في التشريع المغربي مقارنة ببعض التشريعات المقارنة (كالفرنسي والمصري )؟ وما هي أهم الآثار المترتبة على القوة القاهرة، إذا ما طرأت على التصرف القانوني والواقعة القانونية؟ هل القوة القاهرة تجعل دائما تنفيذ التزام المدين مستحيلا؟ أم قد تجعله موقوف التنفيذ مؤقتا في بعض الأحيان؟.
فإذا ما كان المدين يتحلل من التزامه بسبب القوة القاهرة، فما هو مصير التزام المتعاقد الآخر، أيظل قائما أم يزول تبعا لزوال التزام المتعاقد الأول؟
ونظرا لما لهذا الموضوع من أهمية وما يطرحه من إشكالات بارزة قد لا تجد حلا لها لا في التشريع ولا حتى في الإجتهادات القضائية و الفقهية، سنحاول من خلاله فك بعض الاشكالات وإزالة الالتباس على أهم النقاط الغامضة التي يطرحها، بحيث سوف نعرض لماهية القوة القاهرة والتي في إطارها سنتطرق للمسؤولية المدنية وحالة انتفائها وكذا لمفهوم القوة القاهرة وشروط قيامها ليتم بعد ذلك الحديث عن آثار القوة القاهرة و تطبيقاتها العملية، والتي في إطارها سوف يتم التطرق لآثار القوة القاهرة وللاستثناءات التي ترد على القاعدة ( قيام المسؤولية رغم توافر حالة القوة القاهرة). لنخلص بعد ذلك إلى التطرق إلى التطبيقات العملية للقوة القاهرة.
وعليه سوف نعمد إلى تحليل هذا الموضوع وفق التصميم الأساسي التالي:
الفصل الأول: ماهية القوة القاهرة.
الفصل الثاني: آثار القوة القاهرة وتطبيقاتها العملية.
إذا كانت المسؤولية العقدية تقوم بتوافر أركانها(الخطأ والضرر، والعلاقة السببية) فإن هناك حالات تنتفي فيها المسؤولية نتيجة قطع العلاقة السببية بين الخطأ والضرر، وتنقطع هذه العلاقة السببية بكل سبب أجنبي كالقوة القاهرة، وبالتالي فحيثما انتفت العلاقة السببية فإن المسؤولية تنتفي تبعا لذلك، وهذا ما أكده المشرع في الفصل 268. من ق.ل. ع. المغربي حيث نص على أنه:"لا محل لأي تعويض إذا أثبت المدين أن عدم الوفاء بالالتزام أو التأخير فيه ناشئ عن سبب لا يمكن أن يعزى إليه كالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي أو مطل الدائن". وعليه فإنه لا يكفي المدين أن يثبت عدم ارتكابه الخطأ في عدم تنفيذه للالتزام بل لا ينجيه من المسؤولية العقدية إلا إذا أثبت السبب الأجنبي المانع من تنفيذ الالتزام.
وسنحاول في هذا الفصل الحديث عن المسؤولية المدنية بصورتيها( العقدية والتقصيرية) وحالة انتفائها في (المبحث الأول) لنعرض بعد ذلك في (المبحث الثاني)، لمفهوم القوة القاهرة، ثم نتعرض لشروطها في (المبحث الثالث).
نتناول في إطار هذا المبحث مفهوم المسؤولية العقدية وشروط قيامها(فقرة أولى) لنعرض لأركانها الخطأ والضرر وعلاقة السببية في (فقرة ثانية) على أن نختم دراسة هذا المبحث بـ(فقرة ثالثة) نتناول فيها الصورة الثانية للمسؤولية المدنية-المسؤولية التقصير-.
! الفقرة الأولى: مفهوم المسؤولية العقدية وشروط قيامها
تعددت التعاريف بشأن المسؤولية العقدية، فهناك من عرفها بأنها عدم قيام الشخص الذي يلتزم بالعقد بتنفيذ التزامه الناشئ عن هذا العقد[9]، وهناك من عرفها بأنها عدم مراعاة مدين الالتزام نشأ عن العقد.
فالمسؤولية العقدية إذن تنتج عن إخلال متعاقد بما التزم به بمقتضى عقد استجمع شروطه وأركانه، فعلى ضوء التعاريف المشار إليها أعلاه، يتضح أن المسؤولية العقدية لا تقوم إلا إذا توافرت مجموعة من الشروط وهي:
sالشرط الأول:
أن يكون هناك عقد. لأن العقد هو مناط المسؤولية العقدية. إذ بدونه لا يمكن تصور هذا الأخيرة. أو بعبارة أخرى إذا لم يكن هناك عقد انتفت المسؤولية العقدية وقامت مسؤولية من نوع آخر[10]. وهناك مجموعة من الاجتهادات تؤيد هذا الاتجاه فقد قضى المجلس الأعلى "أن الخطأ المرتكب في تنفيذ عقد تعاقدي اتجاه المتعاقد الذي يضر به وتقصيري اتجاه الأغيار الذين يتحملون عواقبه. إن هؤلاء الآخرين يمكنهم أن يطالبوا بتعويض مع اعتبار الفصلين 77 و 78 من ق.ل.ع".[11] وفي المرحلة التي تسبق قيام العقد، لا تكون المسؤولية عقدية بل تكون تقصيرية، كما إذا رفض شخص التعاقد بعد أن دعا إليه، مع استثناء حالات الإيجاب الملزم والتي يتحتم فيها على الموجب بأن يبقى على إيجابه إلى أن ينقضي الميعاد المعين فإن عدل عن إيجابه قبل ذلك، خضع لأحكام المسؤولية العقدية، كذلك نجد أن الفترة التي تأتي بعد انقضاء العقد، تكون المسؤولية فيها تقصيرية، كما إذا أفشى أجير أسرار مشغله السابق بعد التحاقه بمؤاجر آخر منافس للأول[12].
وعليه، فلكي تقوم المسؤولية العقدية يجب أن يكون هناك عقد بين الطرفين ومن ثم، فإن الوعد بالزواج والإخلال به لا يشكل مسؤولية عقدية لأنه مجرد وعد ولا يرقى إلى مستوى العقد[13].
s الشرط الثاني:
أن يكون هذا العقد صحيحا: لا يكفي لقيم المسؤولية العقدية أن يكون هناك عقد، بل لابد أن يكون هذا العقد صحيحا وغير قابل للإبطال أو البطلان. ففي حالة البطلان النسبي فإذا نشأ الضرر قبل الاعتراف ببطلان العقد فإن إصلاح هذا الضرر يتعلق بقواعد المسؤولية العقدية ولكن عندما يعلن عن بطلان العقد، لا يكون هناك عقد وبالتالي لا مجال للحديث عن المسؤولية العقدية.
بقي أن نشير إلى أن المسؤولية تكون عقدية بين طرفي العقد وتقصيرية بين هذه الأطراف والغير، كما إذا حال هذا الغير دون تنفيذ العقد، كما إذا حرض صاحب معمل، عامل يعمل في خدمة معمل آخر على ترك العمل قبل انتهاء العقد كي يلتحق للعمل معه.
s الشرط الثالث:
أن يكون الضرر ناتجا عن الإخلال بالالتزام العقدي: حتى نكون أما المسؤولية العقدية، فإن الضرر الذي يقع يجب أن يكون ناشئا عن خرق التزام ناتج عن العقد، وإلا فلن نكون أمام مسؤولية عقدية، كما هو الشأن في حالة ضحية حادثة سير، فهو يطالب حارس السيارة بتعويض تقصيري لعدم ارتباط الحادثة بوجود عقد بين الطرفين، في حين تحل شركة التأمين محل المؤمن له في أداء التعويض للمتضرر بناء على عقد التأمين الذي يربط بينهما، ويتعين لمعرفة ما إذا كان الضرر الذي أصاب الدائن قد وقع بسبب خرق التزام ناشئ عن العقد أم لا. يتعين تحديد الالتزامات التي ينشئها العقد حتى يعتبر الإخلال بها محققا للمسؤولية العقدية، وهذا ما يصل إليه القاضي من خلال تحديده لمضمون العقد، إلا أنه وفي بعض الأحيان يقع تداخل ما بين المسؤوليتين العقدية والتقصيرية، وبالأخص عندما توجد ما بين شخصين روابط مختلف، كما إذا قام الطبيب بعلاج مريض بواسطة آلات تسببت هذه الأخيرة في أضرار للزبون فهل يمكن التمسك بالافتراض المنصوص عليه في الفصل 88 من ق.ل.ع. بما أن الضرر ناشئ عن "شيء"؟ إن هذا غير ممكن نظرا للصلة الأساسية القائمة ما بين الطرفين ذات الصبغة التعاقدية حيث أن الآلات لم تكن سوى وسيلة للعلاج، وقع استعمالها في إطار الالتزام الذي أخذه الطبيب على عاتقه ببذل كل عناية لشفاء المريض (الضحية). إلا أنه لا يمكن عزل الآلات عن هذه المهمة التي تخضع في أساسها لمبادئ المسؤولية العقدية[14]. هذا ويجب أخيرا أن يكون المتضرر طرفا في العقد حتى تتحقق بذلك المسؤولية العقدية، أما إذا لم يكن طرفا في العقد وجب تطبيق قواعد المسؤولية التقصيرية[15].
فما هي إذن أركان المسؤولية العقدية؟ ومتى يتم انتفاؤها؟
! الفقرة الثانية: أركان المسؤولية العقدية:
تقوم المسؤولية العقدية على أركان ثلاثة وهي: الخطأ والضرر وعلاقة السببية، وسنعرض تباعا لهذه الأركان في النقاط الثلاثة التالية:
+أولا: الخطأ العقدي:
يتوافر الخطأ العقدي الذي تقوم على أساسه المسؤولية العقدية إذا لم يقم الشخص الذي يلتزم بالعقد بتنفيذ التزامه الناشئ عن هذا العقد، سواء أكان عدم التنفيذ بالامتناع أصلا عن القيام بما يوجبه العقد، أو كان بتنفيذ غير مطابق لما تم الاتفاق عليه أو غير محقق للهدف من العقد. وسواء أكان عدم التنفيذ قد حدث عمدا أو ترتب على إهمال دون أن يكون مقصودا[16]. وبرجوعنا إلى مقتضيات الفصل 78. من ق.ل.ع. نجد المشرع المغربي عرف الخطأ بقوله:"والخطأ هو ترك ما كان يجب فعله أو فعل ما كان يجب الامساك عنه، وذلك من غير قصد لإحداث الضرر". إلا أنه وعلى هذا الرغم من هذا التعريف الذي قام به المشرع، يبقى مفهوم الخطأ في ق.ل.ع. غير دقيق. وعليه، فإنه لتحديد الخطأ العقدي يلزم التمييز بين أنواع الالتزامات. ذلك أن هذه الأخيرة تقسم إلى التزامات سلبية وأخرى إيجابية، ومثال الأولى التزام بائع الأصل التجاري بعدم فتح محل مماثل خلال مدة معينة، بحيث أن قيام بائع المحل بفتح محل مماثل خلال المدة المتفق عليها يعد خطأ يوجب المسؤولية، وبالنسبة للالتزامات الإيجابية فإنها تقسم بحسب طبيعتها إلى التزام بتحقيق غاية أو نتيجة، كالتزام الناقل بتوصيل البضاعة، وإلى التزام ببذل عناية، كالتزام الطبيب ببذل كل عنايته وفق ما تفرض عليه أصول المهنة لشفاء المريض[17]. ويتضح مما تقدم أن الخطأ العقدي وهو عدم تنفيذ المدين لالتزامه الناشئ عن العقد إنما يتجلى:
– بعدم تحقيق النتيجة المطلوبة إذا كان الالتزام التزام بغاية.
– أو بعدم بذل المجهود المطلوب للوصول إلى غرض الالتزام في الالتزام بالعناية[18].
وفي هذا الصدد قضت ابتدائية مراكش …"وحيث أن هذا الموقف والسلوك يعتبر خطأ وإخلالا بالالتزام بعناية، وهو خطأ تولد عنه ضرر للمدعي"[19].
وفي نفس السياق قضت استئنافية الرباط في قرارها الصادر بتاريخ 15/12/1992 "حيث أن عدم إحضار المُبَنَّج في الوقت المناسب وبالتالي عدم إجراء العملية في ظروف وجيزة، أدى إلى وفاة الجنين، وبالتالي تكون المصحة مسؤولة عن إهمالها وتهاونها"[20].
+ ثانيا: الضرر:
الضرر ركن أساسي في المسؤولية العقدية، فإذا لم يصب الدائن بضرر من جراء إخلال المدين بالتزامه ما كان ثمة تعويض، وقد عرف الفصل 264 من ق.ل.ع. الضرر بأنه:"ما لحق الدائن من خسارة حقيقية وما فاته من كسب متى كانا ناتجين مباشرة عن عدم الوفاء بالالتزام….". وعليه يعتبر التعويض الذي يدفعه المدين للدائن بمثابة جبر للضرر الذي نشأ عن عدم التنفيذ. كما يجوز للمتعاقدين أن يدرجا في صلب العقد شروطا جزائية تترتب على الطرف الذي يخل بالتزامه، وهذه الشروط في الغالب تكون عبارة عن غرامات وفوائد، وقد كان هذه التعويض في السابق لا يناقش من طرف هيأة المحكمة، بحيث أنها في الغالب تحكم به. إلا أنه وبعد تعديل 6/9/1995. على الفصل 264 من .ق.ل.ع. أصبحت تتمتع المحكمة بسلطة تقديرية سواء في مناقشة التعويضات المنصوص عليها في صلب العقد والتي يعبر عنها بـ "الشرط الجزائي" أو تلك التي يتقدم بها الدائن بعد تحريك الدعوى للمطالبة بالتعويض. وهذا هو ما نص عليه الفصل 264 من ق.ل.ع. المعدل. لكن هل يسوغ أن يطالب المدين بالتعويضات المنصوص عليها في العقد أي الشروط الجزائية، وأن يطالب كذلك أما المحكمة بتعويض آخر عن الضرر الذي أصابه من جراء عدم تنفيذ العقد؟ فمنطق الأشياء أنه لا يصح أن يعوض الشخص عن الضرر الواحد مرتين، وهنا تجدر الإشارة إلى أن التعويض يستحق إما بسبب عدم الوفاء بالالتزام وإما بسبب التأخر في الوفاء حسب الفصل 263 من ق.ل.ع. وفي هذا الإطار قضت محكمة الاستئناف بالبيضاء في قرارها الصادر بتاريخ 2/3/1982(حيث ثبت للمحكمة أن المستأنف لم يؤد مبلغ الدين المترتب بذمته سوى بعد اضطرار المستأنف عليها لولوج الدعوى التي تمخض عنها الحكم المستأنف، رغم إنذاره من طرفها، وحيث أنه يكون من حق المستأنف عليها الحصول على تعويض وفق أحكام الفصل 263. من ق.ل.ع.)[21].
+ ثالثا: العلاقة السببية:
بينا سابقا أنه يلزم لاستحقاق التعويض على المدين أن يقصر في الوفاء بالتزامه، وأن ينجم ثمة ضرر للدائن. وفضلا عن هذين الركنين يلزم توفر ركن ثالث وأخير، وهو أن تقوم رابطة السببية بين تقصير المدين والضرر الناجم للدائن، بحيث يكون الأول هو السبب الذي أدى إلى حدوث الثاني. فإذا انتفت تلك الرابطة انعدمت مسؤولية المدين. وفي هذا الصدد قضى المجلس الأعلى في قراره الصادر في 9/2/1987(..حيث أن مسؤولية الإدارة عن الأضرار الناتجة عن الأشياء الخطيرة التي تستعملها، والتي تخضع لمقتضيات الفصل 79 في جزئه الذي يرتب هذه المسؤولية عليها ولو بدون خطأ ، بل يكفي إثبات وجود علاقة سببية بين الضرر الحاصل والأشياء المستعملة من طرف الإدارة)[22].
وجاء في حكم ابتدائية مراكش:( حيث أن د. لوزي أخل بالالتزام بعناية المفروض عليه، إذ أنه لم يتسم في سلوكه باليقظة والحذر اللازمين، وأن معارفه العلمية لم تستطع استيعاب أن تناول الأدوية التي وصفها من شأنها إحداث نزيف دموي لشبكة العين والأمعاء… وحيث أن هذا الموقف والسلوك يعتبر خطأ وإخلالا بالالتزام بعناية، وهو خطأ تولد عنه وفقا لعلاقة السببية حصول ضرر للمدعي…)[23].
ويقع على الدائن عبء إثبات السببية، كما هي القاعدة بالنسبة إلى أركان المسؤولية الأخرى. غير أن هذه السببية يفترض توفرها إذا أقام الدائن الدليل على الخطأ والضرر، وليس معنى ذلك أن الدائن معفى من إثبات السببية فهذا إثبات يقع عليه، وإنما المراد من هذا أن إثبات الخطأ والضرر يكفي لافتراض توافر السببية بينهما، وذلك طبقا للقواعد العامة في عبء الاثبات ومحل الاثبات. ذلك أن المدعي في الاثبات لا يتحتم عليه أن يقيم الدليل على جميع عناصر الواقعة التي يدعيها، وإنما حسبه أن يبرهن على قدر من هذه العناصر يكفي لافتراض ثبوت الباقي منها. ويقع على المدين عبء نفي هذه السببية إذا ادعى عدم قيامها، ولا يجوز له هذا إلا بإثبات أن عدم التنفيد يرجع إلى سبب أجنبي لا يد له فيه، وهذا السبب الأجنبي قد يكون قوة قاهرة أو حادثا فجائيا[24]. فإذا كان الاخلال بالالتزام العقدي يولد مسؤولية عقدية، فإن الإخلال بالتزام قانوني يولد مسؤولية تقصيرية، وعليه فسوف نعرض لأركان الصورة الثانية من المسؤولية المدنية (المسؤولية التقصيرية) محاولين بذلك تعريفها، سواء في التشريعات أو الفقه الإسلامي، ثم نعرض تبعا لذلك للأصل أو القاعدة التي تقضي بإعفاء المسؤول من التعويض في حالة توافر القوة القاهرة أو الحادث الفجائي. فما هي أركان المسؤولية التقصيرية؟
! الفقرة الثالثة: أركان المسؤولية التقصيرية:
من خلال ما تمت الإشارة إليه سابقا أن خرق التزام قانوني معين، أو خرق الالتزامات العامة المنصوص عليها في الفصل 77 من ق.ل.ع. المغربي، يولد مسؤولية تقصيرية. وإذا كانت كل من المسؤوليتين (العقدية والتقصيرية) تقوم على نفس الأركان، وهي الخطأ والضرر والعلاقة السببية، فإنه ثمة اختلافات بين الخطأ العقدي والخطأ التقصيري والضرر العقدي والضرر التقصيري. ونظرا لهذه الاعتبارات وغيرها، فإنه حري بنا أن نتعرض في هذه الفقرة لأركان المسؤولية التقصيرية.
+ أولا: الخطأ:
يقصد بالخطأ في المسؤولية التقصيرية "إخلال شخص بالتزام قانوني مع إدراكه لهذا الإخلال"[25]. وعرفته محكمة النقض السورية بأنه:"سلوك معيب لا يأتيه رجل متبصر وجد في ذات الظروف الخارجية التي أحاطت بالمسؤول"[26]. وعرفه الفصل 78 في فقرته الأخيرة:"والخطأ هو ترك ما كان يجب فعله أو فعل ما كان يجب الإمساك عنه، وذلك من غير قصد لإحداث الضرر". بمعنى أن الضرر إما أن يتمثل في عمل سلبي أي إحجام شخص عن القيام بعمل كان يتعين عليه القيام به، كترك السيارة واقفة ليلا في جانب الطريق دون إضاءة، وإما أن يتمثل الخطأ في عمل إيجابي كالقيام بعمل نتج عنه ضرر للغير كإصابة شخص بجروح من جراء اصطدام، واشترط الفصل 77 من ق.ل.ع. وجوب توفر المخطئ على الإدراك والتمييز. ولكي يتوافر الخطأ المنشئ للمسؤولية التقصيرية لابد من أن يقوم على عنصرين: عنصر مادي وهو التعدي والإخلال، وعنصر معنوي ويتجلى في إدراك الشخص أنه ارتكب فعلا محظورا عن بينة واختيار ودون أن يكون مجبرا عليه. وإذا كانت القاعدة أنه لا أهمية بالنسبة إلى مبدأ ثبوت المسؤولية بالنظر لدرجات الخطأ فسيكون من المجازفة القول أن ق.ل.ع. المغربي، لا يأخذ بنظرية تدرج الخطأ[27]. ذلك أننا نجده في بعض الحالات يهتم بدرجة جسامة الخطأ من ذلك مثلا الفص 79 من ق.ل.ع. وكذلك حالة قيام شخص بتقديم معلومات أو بيانات خاطئة لآخر، إذا كان مقدمها سيئ النية وارتكب في تقديمها خطا جسيما[28]. وكذا الحالة التي تقتضي بأن مجرد النصيحة والتوصية تشكل خطأ جسيما إذا كان مقدمها سيئ النية[29].
والدليل على أخذ المشرع المغربي بنظرية تدرج الخطأ، نستقيه كذلك من الفصل 98 من ق.ل.ع. في فقرته الثانية التي تقضي بأن المحكمة يلزمها أن تقدر الأضرار بكيفية مختلفة، حسبما تكون ناتجة عن خطأ المدين أو تدليسه. ويفهم من هذا النص أن المسؤولية تختلف بحسب درجات وجسامة الخطأ[30]. أما إذا ما حاولنا البحث عن مفهوم الخطأ في الفقه الإسلامي نجد أن هذا الفقه ينطلق من مبدأ الأخلاق في المعاملات، لينتهي مؤقتا إلى الماديات، أي على أسساس تجمل الفرد عواقب فعله، إذ أن (الغرم بالغنم). وهكذا فإن مفهوم الخطأ في الفقه الإسلامي يرتكز على مبدأ الضمان، فالخطأ من هذه الزاوية لا يعني عدم القصد بل يعني الخطيئة والذنب، ويندرج تحت القصد والتقصير وقلة الاحتراس. ومن القواعد الفقهية التي أقرها فقهاء الشريعة الإسلامية في هذا المجال"المباشر ضامن وعاف لم يتعمد والمتسبب لا يضمن إلا بالتعمد". ومعناه أنه يشترط وجود التعمد في الأضرار تسببا، ولا يشترط في المباشر. ومن أمثلة المباشر ضامن وإن لم يتعمد أنه إذا أتلف أحد مال غيره الذي في يده، أو في يد آمنة قصدا أو من غير قصد فهو ضامن، والنائم الذي ينقلب على مال غيره و يكسره أو يتلفه، فهو ضامن، ومن أمثلة المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد شاهد الزور الذي يسبب بشهادته ضررا للمحكوم عليه، فإنه يضمن ما أصاب المدعى عليه من ضرر[31].
+ ثانيا: الضرر:
لا يكفي لقيام المسؤولية التقصيرية وقوع خطأ، بل لابد وان يترتب عن هذا الخطأ ضرر وإلا انتفت مصلحة المدعي في ممارسة دعوى المسؤولية. والضرر هو الذي يصيب الشخص في حق من حقوقه أو مصلحة مشروعة له، وهذه المصلحة إما أن تكون مادية أو معنوية، ومن ثم فإن الضرر ليس نوعا واحدا. والضرر المادي هو الذي يصيب الشخص في ماله وهو ما عبر عنه المشرع المغربي في الفصل 98 من ق.ل.ع.[32] أما الضرر المعنوي أو الأدبي وهو الذي يصيب الشخص في جسمه أو في شرفه واعتباره، أو في عاطفته أو حنانه، من ذلك مثلا الألم الذي يحدث للشخص نتيجة قذفه، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يجوز التعويض عن الضرر المعنوي لأنه لا يقوم بمال. وإذا فرض تقويمه فلا يمكن تقديره ماديا تقديرا دقيقا. على أن الرأي الراجح فقها وقضاء أن الضرر سواء كان ماديا أو معنويا يجب التعويض عنه[33]. وهذا ما نص عليه المشرع المغربي في الفصلين 77- 78 من ق.ل.ع.[34] إذ أوجب على المسؤول تعويض المتضرر سواء كان الضرر الذي لحقه ماديا أو معنويا، وبذلك يكون القانون المغربي قد تجاوز الخلاف الذي ساد في أوساط الفقه والاجتهاد الفرنسيين عن مدى التعويض عن الضرر المعنوي أو عدم التعويض عنه. إلا أنه ليس معنى هذا أن كل ضرر يصلح التعويض عنه، وإنما يلزم أن تتوافر فيه الأمور التالية:
1- يجب أن يكون الضرر محققا. فلا يكفي أن يكون محتملا حتى ولو كان احتماله قويا مادام هو لم يقع بالفعل.
2- يجب أن يكون الضرر مباشرا.
وهذا ما أكدته محكمة النقض الفرنسية في قرارها الصادر بتاريخ 16 يونيو 1955. حينما قضت بأنه:"لا يجوز الاعتماد لتقدير التعويض المنصوص عليه في الفصل 77 من ظهير ع.ل. إلا على الضرر المباشر، والحال الحاصل قصد إصلاحه"[35]. ونفس الأمر أكدته إستئنافية الرباط في قرارها الصادر في 15 يونيو 1937. إذ رفضت التعويض عن ربح محتمل[36].
3- وأخيرا يجب أن يكون الضرر شخصيا وناشئا عن الإخلال بمصلحة مشروعة ومحمية من طرف القانون. ولقد سايرت التشريعات الوضعية الفقه الإسلامي في ضرورة وجود الضرر لوجود الضمان، ويتحقق الضرر في الأموال بالإتلاف، وهو إما أن يكون تاما ويسمى بالاستهلاك وحكمه إلزام المتلف بغرم المثل في المكيل والمحدود وإما أن يكون ناقصا ويسمى بالإفساد كقطع رجل دابة، وحكمه تخيير صاحبه بأن يأخذه ويأخذ قيمة ما نقصه من فساد أو يسلمه للمفسد ويأخذ بالمقابل قيمته كاملة، ويشترط أن يكون الشيء المتلف مالا مشروعا قابلا للتقييم. فلا ضمان على من أتلف الجيفة أو لحم الخنزير لأنها لا تعتبر مالا في الشرع الإسلامي، كما أنه لا ضمان في إتلاف الخمر إذا كان لمسلم لأنه لا قيمة له من حقه. وذلك بخلاف ما إذا كانت تلك الأشياء لغير مسلم[37].
+ ثالثا: علاقة السببية
لقيام المسؤولية التقصيرية يجب أن تتوافر علاقة سببية بين الخطأ الذي وقع من المسؤول، والضرر الذي أصاب المضرور أي أن الضرر ما كان ليقع لولا حدوث الخطأ بمعنى أن يكون الضرر هو النتيجة الطبيعية والمباشرة للخطأ، فإن لم تقم علاقة السببية بين الخطأ والضرر فلا مسؤولية، وفي هذا الصدد قضى المجلس الأعلى بأنه"يتوجب على المطالب بتعويض الضرر الحاصل له أن يثبت العلاقة السببية بين العمل غير المشروع الذي قام به المدعى عليه، وبين الضرر الذي أصابه[38]. وفي نفس السياق أيضا قضت استئنافية الرابط في قرارها الصادر بتاريخ 4 يناير 1940"أن المصاب بحادثة لا يلزم بأية مشاركة في الضرر الحاصل عندما يكون مؤكدا أن الخطأ الذي افترضه لم يساهم بالتسبب في الحادث"[39].
فالسببية إذن مستقلة عن الخطأ، ولكنها متصلة بالضرر، فالسببية إذا انفصلت عن الخطأ فهي تتصل بالضرر وحيث تنعدم السببية ينعدم أيضا الضرر، لأن خطأ الفاعل لا يكون قد نجم عنه أي ضرر، وعليه فإن الضرر والسببية متلازمين.
وإذا قام السبب الأجنبي فإن علاقة السببية لا تزول وحدها بل ينقضي الالتزام القانوني الذي يوجب عدم الاضرار بالغير، والذي يعتبر الاخلال به هو الخطأ أي أن الفعل الضار ينعدم. فالسبب الأجنبي كالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي، لا يعدم علاقة السببية وحدها بل يعدم معها الخطأ[40]، وهنا يطرح السؤال نفسه: ما المقصود بالقوة القاهرة؟
– تمثل القوة القاهرة وسيلة قانونية هامة، تسمح للمدين في التزام عقدي أصبح مستحيل التنفيذ طبقا لها، من التحليل من هذا الالتزام، إضافة إلى أنها وسيلة قانونية تسمح له بالتخلص من مسؤوليته المدنية عموما.
وعليه، سوف يتم الحديث عن القوة القاهرة وتعريفها في (فقرة أولى)، والأساس القانوني وإثباتها في (فقرة ثانية) لنختم هذا المبحث بالحديث عن طبيعتها في (فقرة ثالثة).
! الفقرة الأولى: تعريف القوة القاهرة:
– سنعرض في هذه الفقرة لتعريف القوة القاهرة من خلال التشريع المقارن(أول) ثم الفقه الإسلامي(ثانيا)، وفي نقطة (ثالثة) سنبحث تعريفها على ضوء التشريع المغربي.
+ أولا : القانون المقارن:
أ- النموذج الفرنسي:
– إن المشرع الفرنسي في حديثه عن القوة القاهرة والحادث الفجائي، قد بين آثارها، إلا انه لم يحدد مفهومها القانوني بكل دقة، ولم يبين شروطها، وهي أمور تكفل بها الاجتهاد القضائي الفرنسي إلى جانب الفقه الفرنسي على أحسن وجه.
فقد عرف الفقيه"ديفور مانطيل"[41] القوة القاهرة بأنها:"كل واقعة تنشأ باستقلال عن إرادة المدين، ولا يكون باستطاعته توقعها أو منعها، ويترتب عليها أن يستحيل عليه مطلقا الوفاء بالتزامه…"
وبالنسبة للفقيه "استارك"[42] فإن:" القوة القاهرة تتكون من كل واقعة غير متوقعة ومستحيلة الدفع وتتسم بعنصر خارجي".
ويعرف الفقيه"دوموك"[43] فكرة القوة القاهرة كالآتي:" إن فكرة القوة القاهرة وكما تستفاد من الاجتهاد القضائي جد بسيطة، فهي تعرف باستحالة التنفيذ الناتجة عن واقعة غير متوقعة الحدوث، لا يساهم فيها الخطأ من المدين…"
ويرى "الإخوة مازو"[44] وترادف لديهم القوة القاهرة الحادث الفجائي بأنها:"حدث غير متوقع ومستحيل الدفع".
ب- النموذج المصري:
إن المشرع المصري لم يعرف القوة القاهرة وإنما اكتفى بتبيان آثارها من خلال مقتضيات المادة 215 من ق.م. الصادر سنة 1948. وذلك لأن التعريف ليس من اختصاص المشرع بل الأمر متروك للاجتهاد القضائي والفقهي.
+ ثانيا: الفقه الإسلامي:
إذا رجعنا إلى الفقه الإسلامي نجده أيضا يعتد بالسبب الأجنبي، ففي مقابل القوة القاهرة نرى في نصوص الفقه الإسلامي اصطلاح الآفة السماوية أو الجائحة. وهي كل أمر لا يستطيع الإنسان دفعه مثل الرياح المرسلة التي تسقط بها الثمار والثلج[45]. وعليه فإذا اشترى شخص ثمرا فأصابته جائحة فإنه يوضع عنه من الثمن مقدار ما أصابته الجائحة، ولكن ذلك لا يتم إلا بشرطين: أولهما أن تكون الجائحة من غير فعل الإنسان كالقحط والصاعقة والجراد. وثانيهما أن تصيب الجائحة ثلث الثمر فأكثر، وفي ذلك يقول بن عاصم:
وكل ما لا يستطاع الدفع لــــــه A جائحة مثل الرياح المرســلة
والجيش معدودة من الجوائـــــح A كفتنة و كالعدو الكاشـــح
فإن يكن من عطش ما اتفقـــــا A فالوضـع للثمن فيه مطلــقا
وإن تكن من غيره ففي الـثـمـرA ما بلغ الثـلث فأغلى المعتبر
وبذلك نرى بأن الفقهاء المسلمين بالرغم من أن همهم لم يكن متجها إلى صياغة النظريات، وإنما كان متجها إلى النزول عند مقتضيات العدالة، على أن مفهوم الغدر والجائحة وفق ما تقدم قد فات في عدالته المفهوم القانوني الحديث للسبب الأجنبي، باعتبار أنها تؤدي إلى الحفاظ على جوهر التوازن في المراكز القانونية والاقتصادية بين الطرفين المتعاقدين وسند الفقهاء في ذلك مبدأ(دفع الضرر خير من جلب المصلحة) و(الضرر يزال). هذه المبادئ التي استطاع بها الفقهاء المسلمون تلمس الحلول العادلة لكل مسألة من المسائل.
+ ثالثا: التشريع المغربي:
لقد نظم المشرع المغربي القوة القاهرة في الفرع الثاني من القسم الرابع من ق.ل.ع. الذي خصص لآثار الالتزامات بوجه عام، وما يصل منها بتلك التي تجد مصدرها في العقد مباشرة، أو تلك التي تجد مصدرها في غيره من مصادر الالتزام الأخرى كالمسؤولية التقصيرية أو الإثراء بلا سبب على سبيل المثال. وهكذا فبعدما قرر المشرع المغربي من خلال مقتضيات الفصل 268 من ق.ل.ع. "أنه لا محل لأي تعويض مدني كلما استطاع المدين أن يثبت أن عدم تنفيذه الالتزام الذي يثقل كاهله أو التأخير في ذلك التنفيذ، قد نشأ بالأساس عن سبب أجنبي لا يمكن أن يعزى إليه كالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي أو مطل الدائن". وعرف من خلال مقتضيات الفصل 269 من ق.ل.ع. القوة القاهرة كالآتي:"القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية(الفيضانات، الجفاف، الحرائق، الجراد) وغارات العدو، وفعل الأمير، ويكون من شانه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا. ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه ما لم يقم المدين الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه، ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين".
والجديد في النص المغربي، وبالإضافة إلى أنه قد حاول أن يبين مفهوم القوة القاهرة وإعطاء أمثلة عنها، وتحديد مختلف شروطها، فهو قد استمد بعض المبادئ والأحكام المستفادة مباشرة من الفقه الإسلامي المالكي بالخصوص[46]. ويتضح جيدا من النص التشريعي المغربي أعلاه أن القوة القاهرة كواقعة مادية ومتى تحققت شروطها تعد سببا من الأسباب القانونية الكافية لوحدها والتي تجعل المدين عادة ينحل من تنفيذ التزاماته العقدية، دون أن يكون محلا لأية مسؤولية مدنية. ومن الملاحظ أن التعريف الذي جاء به المشرع المغربي في الفصل 269 من ق.ل.ع. أنه يختلف كثيرا عن تعريف الفقيه الروماني "البيان" الذي عرف القوة القاهرة بأنها:"كل ما لم يكن في وسع الآدمي أن يتوقعه وإذا أمكن توقعه فإنه لا يمكن مقاومته"[47]. وبالإضافة إلى ذلك فإن التعريف المتضمن في ق.ل.ع. يلتقي مع التعريفات التي قال بها بعض الفقهاء الفرنسيون، والتي تمت الإشارة إليها سابقا.
ونظرا لأهمية نظرية القوة القاهرة، فإن المشرع المغربي لم يكتف بتقرير مبادئها العامة من خلال مقتضيات الفصلين 268 و 269، وإنما قد أضاف إليها العديد من التطبيقات الخاصة الموزعة بين هذه النصوص وتلك. وبعد أن عرضنا لمفهوم القوة القاهرة، نتساءل الآن عن الأساس القانوني للقوة القاهرة؟ وكيف يتم إثباتها؟
الفقرة الثانية: الأساس القانوني للقوة القاهرة وإثباتها
كمبدإ عام إن من يتمسك بشيء يجب عليه إثباته، ومنه فإن من يتمسك بالقوة القاهرة يجب عليه أن يثبتها أمام القضاء طبقا للمبادئ العامة في الإثبات إذا ما أراد أن يستفيد من مختلف آثارها القانونية. ومن الناحية النظرية بالخصوص، ما هو الأساس القانوني الذي تنبني عليه نظرية القوة القاهرة: أ هو انعدام صدور خطأ من المدين؟ أم انعدام وجود رابطة السببية بين الخطأ والضرر الذي لحق بالدائن؟
وفي هذا السياق سيتم الحديث عن الأساس القانوني للقوة القاهرة(أولا)، ثم إثباتها من الناحية القانونية والعملية(ثانيا).
+ أولا: الأساس القانوني للقوة القاهرة:
نصت المادة 1147[48] من ق.م. الفرنسي على أن المدين يكون مسؤولا إلا إذا كان عدم تنفيذه لالتزامه راجعا إلى سبب خارجي ليس منسوبا إليه، ونصت المادة 1148[49] أن المدين لا يكون مسؤولا عن التعويض إذا لم يقم بتنفيذ التزامه بسبب قوة قاهرة أو حادث فجائي، وقد جاء هذا النص تخصيصا للفصل الأول. ولم يتضمن القانون المدني المصري مقابلا لهذه النصوص إلا أنه أشار إلى أن مسؤولية المدين لا تترتب إلا إذا وجد تقصير في جانبه، حيث نص في المادتين 119 و177 على أن المقتضيات المترتبة على عدم الوفاء بكل المتعهد به أو بجزئه، أو المترتبة على تأخير الوفاء لا تكون مستحقة زيادة على رد ما أخذه المتعهد إلا إذا كان الوفاء أو التأخير منسوبا لتقصير المتعهد المذكور، كما نص في المادتــــــين178و241على أنه إذا صار الوفاء غير ممكن بتقصير المدين أو حدث عدم الإمكان بعد تكليفه بالوفاء تكليفا رسميا ألزم بالتضمينات، ثم أشار في أماكن متفرقة إلى القوة القاهرة وإلى الحادث الفجائي في تطبيقات متنوعة مثال ذلك المواد:[50]
*392/479: "عدم تنقيص الأجرة ولو هلكت الزراعة بحادثة جبرية".
*393/380: "تنقيص الأجرة عند منع الحادثة الجبرية المستأجر من تهيئة الأرض للزراعة"
*311/502: "انقضاء عقد الاستصناع بالحادثة القهرية".
*417/509: "تلف المعدات التي أحضرها صاحب العمل بسبب قهري يتحمل هو تبعته".
*489/598: "هلاك الشيء المودع بسبب قوة قاهرة يكون على مالكه".
*544/666: "تلف الشيء المرهون رهن حيازة بسبب قهري يكون على مالكه".
*562/686: "هلاك العقار المرهون رهنا رسميا بحادثة قهرية يلزم المدين برهن عقار غيره أو يؤدي المدين".
وهناك أمثلة أخرى لم يذكر فيها المشرع المصري القوة القاهرة ولا الحادث الفجائي بل اقتصر على نفي التقصير من جانب المدين مثل:
*297/371: "هلاك المبيع دون تقصير البائع يكون عليه".
*399/487: "هلاك الحيوان دون تقصير المزارع لا يعوض إلا من النتاج فقط".
أما قانون الالتزامات السويسري[51] فهو كالقانون المصري بحيث قضى في المادة 97 بأنه إذا لم يحصل الدائن على تنفيذ الالتزام أو لم يحصل عليه إلا ناقصا. ألزم المدين بتعويض الضرر الذي ينشأ عن ذلك، إلا إذا أثبت أنه لا يوجد خطأ في جانبه، فلم يذكر القوة القاهرة والحادث الفجائي وإنما ذكر هذين اللفظين في تطبيقات متفرقة مثال ذلك المواد:(103- 299- 306- 420- 447- 474- 487- 470) وبالنسبة للقانون المدني الألماني فقد نص في المادة 275 بأن المدين تبرأ ذمته من الالتزام حين يصبح مستحيلا بسبب ظرف طرأ بعد نشوء علاقة الالتزام، لا يكون المدين مسؤولا عنه. وقد ذكر القوة القاهرة في تطبيقات متعددة منها مثلا المــــــــواد (203-212-215-701-1996) كما قضت المادة 96 من المشروع الفرنسي الإيطالي بأنه يقضي على المدين بدفع تعويض سواء بسبب عدم تنفيذه للالتزام أو بسبب تأخر في التنفيذ إذا لم يثبت أن عدم التنفيذ أو التأخير فيه نشا عن سبب أجنبي لا يمكن أن ينسب إليه. ولم يكن هناك أي سوء نية من جانبه، كما قضت المادة 97 بأن الالتزام بالمحافظة على الشيء أو بإدارته يجعل من وكل إليه ذلك ملزما ببذل عناية الرجل المعتاد، ولكن المشروع ذكر القوة القاهرة والحادث الفجائي في تطبيقات متفرقة من ذلك الــمواد: (448- 461- 462 –530- 626- 664- 667). أما بخصوص المشرع المغربي فقد نظم القوة القاهرة بشكل صريح في الفصل 268 من ق.ل.ع. حيث نص على أنه:"لا محل لأي تعويض إذا أثبت المدين أن عدم الوفاء بالالتزام ناشئ عن سبب لا يمكن أن يعزى إليه كالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي أو مطل الدائن". ومن ذلك فإن وجود السبب الأجنبي يؤدي إلى الحيلولة دون إسناد الخطأ للمدين نتيجة هدر العلاقة السببية بين عدم تنفيذه للالتزام وبين الضرر الحاصل للدائن بالالتزام[52]. وبرجوعنا إلى الفصل 269 من ق.ل.ع. فقد قام المشرع بتعريف القوة القاهرة وحدد بذلك شروطها وأورد عدة أمثلة خاصة بها، كما أن المشرع تحدث عن القوة القاهرة أو الحادث الفجائي في العديد من الفصـول(95- 102- 105- 448) من ق.ل.ع. وتحدث كذلك عن القوة القاهرة لوحدها مجردة عن عبارة الحادث الفجائي في الفصل 533. زيادة على أن المشرع المغربي تحدث عن القوة القاهرة ضمنا في إطار مجموعة من النصوص الأخرى مثل الفصل 90 من ق.ل.ع. حيث نص فيه على أنه:"يكون المدين في حالة مطل إذا تأخر عن تنفيذ التزامه كليا أو جزئيا من غير سبب مقبول"، وكذلك في الفصل 88:"..لا يمكن دفع المسؤولية إلا بإثبات أمرين اثنين: أن الحارس قد فعل ما كان ضروريا لمنع الضرر. وأن الضرر يرجع إلى قوة قاهرة أو حادث فجائي أو خطأ صادر من المتضرر". وفي الفصل 338 من ق.ل.ع. نص المشرع على أنه :"إذا كان عدم تنفيذ الالتزام راجع إلى سبب خارج عن إرادة المتعاقدين وبدون أن يكون المدين في حالة مطل، برأت ذمة هذا الأخير". كما تحدث الفصل 808 عن هلاك الوديعة نتيجة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي[53].
وعند قراءة متمعنة ل.ق.ل.ع. يتبين أن هناك فصولا كثيرة أشار فيها المشرع إلى القوة القاهرة. ومنه فإذا توافرت في واقعة مادية أو قانونية ما شروط معينة تطلبها القانون، تتمثل في عدم التوقع وفي استحالة الدفع وفي عدم صدور أي خطأ أو تدخل من المدين فيها، وترتب عمليا عن تلك الواقعة صيرورة الالتزام العقدي واستحالة التنفيذ، عدت هذه الواقعة قوة قاهرة خضعت لأحكام المادتين 268 و 269 من ق.ل.ع. وبالتالي الإعفاء من المسؤولية المدنية والالتزام العقدي. فما هو أساس هذا الإعفاء إذن؟
هناك اختلاف فقهي حيث أن هناك جانب من الفقه اعتبر أن الأساس يتمثل في عدم صدور خطأ من المدين بينما قرر جانب آخر من الفقه-وهو الغالب- أن ذلك الأساس يتمثل في هدم العلاقة السببية، وهي شرط من أهم الشروط التي ترتكز عليها المسؤولية المدنية عموما، بالإضافة إلى شرطي الخطأ والضرر[54].
* نظرية انتفاء الخطأ:
تنطلق هذه النظرية كقاعدة من الأركان الأساسية والتقليدية للمسؤولية المدنية المبنية على فعل شخصي واجب الإثبات وهي: الخطأ والضرر وعلاقة السببية بينهما. فتقف عند الخطأ وحده وتؤسس نظريتها بالتالي على كون المدين الذي أعفي من تنفيذ التزامه العقدي ومن مسؤوليته بسبب قوة قاهرة لا يمكن أن يفسر إعفاؤه هذا، إلا بكون أنه لم يرتكب أي خطأ خاصة متى تعامل مع الواقعة المكونة للقوة القاهرة تعامل الشخص الحريص على شؤون أسرته[55]. على حد تعبير بعض الفقه حيث يرى الفقيه الفرنسي الكبير"أسمان" أن القول بوجود قوة قاهرة ما هي إلا طريقة للتأكيد على انعدام صدور أي خطأ عن المدين،وقد انتقد جانب من الفقه هذا الاتجاه انتقادا لاذعا على أساس أنه لا تلازم في الحقيقة بين عنصر الخطأ من جهة، وعنصر القوة القاهرة من جهة أخرى، حيث قد يوجد أحدهما دون أن يوجد الآخر، إضافة إلى أن لكل منهما آثاره القانونية المستقلة والخاصة به. ويمثل بعض الفقه الفرنسي لذلك بدفع المسؤولية المدنية الناجمة عن حراسة الأشياء تطبيقا للفقرة الأولى من الفصل 1384 من القانون المدني الفرنسي. حيث لا يمكن مطلقا أن يدفع مسؤوليته على أساس أنه لم يرتكب أي خطأ ولكن يمكن أن يدفعها إذا ما أثبت أن الضرر الذي لحق بالمضرور كان نتيجة قوة قاهرة أو حادث فجائي[56].
ولعل ما يؤيد وجاهة هذا الانتقاد ويقوي مركز أصحابه أن القضاء الفرنسي في مجموعه قد أدار ظهره عن فكرة الخطأ كأساس للإعفاء من المسؤولية المدنية بسبب وجود قوة قاهرة أو حدث فجائي[57].
وإن انعدام التلازم بين فكرة انعدام الخطأ ونظرية القوة القاهرة يستفاد كذلك من موقف محكمة النقض المصرية التي قررت مرارا أن:"… مجرد عدم تنفيذ المدين لالتزامه التعاقدي يعتبر في ذاته خطأ موجب للمسؤولية التي يدرأها عنه إلا إثبات القوة القاهرة…"[58].
فمن خلال هذا القرار يتضح جيدا أن القوة القاهرة تأتي لاحقة، وبعد تحقق الخطأ، لكي تعفي من المسؤولية لا لكي تنفي الخطأ.
* نظرية انتفاء السببية:
هذا الاتجاه الفقهي الثاني ينطلق مثله في ذلك مثل الاتجاه الفقهي الأول من أركان المسؤولية المدنية، غير أنه عوض أن يقف عند ركن الخطأ يتجه نحو ركن السببية.
فالقوة القاهرة حسب هذا الاتجاه تتدخل في العلاقة القانونية بين الدائن والمدين، فتمنع هذا الأخير من تنفيذ التزامه، فتكون هي محدثة الضرر وليس الخطأ الصادر عن المدين[59].
إن القوة القاهرة وبكل بساطة تنفي وجود علاقة السببية بين الضرر الذي أصاب الدائن، وكل عمل مباشر صادر عن المدين فيتخلف بالتالي ركن من أركان المسؤولية المدنية عموما، وإن هذا الاتجاه الفقهي الأخير هو المعتمد أساسا لدى جمهور الفقه المصري في مجموعه، حيث يرى أن القوة القاهرة لا تنفي الخطأ ن وإنما تنفي علاقة السببية، فبالنسبة لهذا الفقه، فلكي تتحقق المسؤولية المدنية لابد من صدور خطأ يكون هو السبب المباشر في إحداث الضرر، فإذا ما ارتبط الضرر المباشر بسبب أجنبي، انعدمت رابطة السببية، وبالتالي نسبة المسؤولية إلى المدين[60].
وبالنسبة للمشرع فإن موقفه يظهر في تقنينه لفكرة بديهية ذات طبيعة أخلاقية ودينية مفادها أنه لا تكليف بمستحيل في مجال العلاقات القانونية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو كيف يتم إثبات القوة القاهرة؟
+ ثانيا: إثبات القوة القاهرة:
– القاعدة العامة أن البينة على المدعي، وان ما أثبته المدعي، يكون من حق المدعى عليه أن يهدره بالدليل المعاكس.
وعليه فإن المدين الذي تعذر عليه تنفيذ ما التزم به من خلال العقد الذي يربطه بالدائن، يمكنه أن يتخلص من ذلك التنفيذ نهائيا، بل ومن المسؤولية المدنية كذلك إذا ما أثبت أن المانع كان عبارة عن قوة قاهرة، واستطاع إثبات هذه القوة القاهرة فعلا.
لكن، كيف يتم إثبات الواقعة أو الوقائع المكونة للقوة القاهرة من الناحية العملية والقانونية؟ ومن يتحمل إثبات رابطة السببية؟ عادة ما يقال أن رابطة السببية مفترضة، ذلك أن الفصل 268 من ق.ل.ع. يقضي بانتفاء مسؤولية المدين لقيام السبب الأجنبي كالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي أو مطل الدائن، فمن باب القياس بمفهوم المخالفة، يكون المدين مسؤولا عند انتفاء السبب الأجنبي فالمدين مسؤول عن الأضرار اللاحقة بالدائن من جراء عدم التنفيذ ولا يستطيع التحلل من مسؤوليته إلا بإثبات السبب الأجنبي، أي انتفاء رابطة السببية. وهذا يعني أن رابطة السببية مفروضة وعلى المدين أن يثبت عكسها، أي عبء الإثبات على المدين لا على الدائن، والدائن لا يلزم بأن يثبت وجود رابطة السببية لأن هذه الرابطة مفروضة وبذلك يقع عبء الإثبات على المدين فهو الذي يثبت انتفاء رابطة السببية أي قيام السبب الأجنبي[61].
إذن، فإن الوقائع التي أشار إليها المشرع المغربي من خلال مقتضيات الفصل 269 من ق.ل.ع. والتي تتمثل بالخصوص في الظواهر الطبيعية من فيضانات وجفاف وعواصف وحرائق وجراد، وفي غارات العدو- أي الحرب- وفي فعل السلطة أو فعل الأمير، تعد، وبتكليف من المشرع نفسه، صورا من حالات القوة القاهرة، لا يمكن بعد إثباتها من طرف المدين في الالتزام التعاقدي، وبعد تحقق قاضي الموضوع من شروطها أن ينفيها أو يتنكر لترتيب آثارها القانونية، وإلا عرض حكمه للنقض. فهذه الوقائع تدخل في نظرنا في إطار ما اصطلح على تسميته بالتكييف التشريعي للوقائع، تطبيقا لنظرية الأفكار المعرفة.
غير أن التصنيف الذي أورده المشرع المغربي من خلال مقتضيات الفصل 269 من ق.ل.ع. وعلى ما يتضح من الصياغة الفنية لذلك النص التشريعي، ومن العمل القضائي نفسه، إنما هو تصنيف قد ورد على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، حيث يبقى من حق المدين في حالات أخرى غيرها أن يثبت وقائع جديدة تمثل بالنسبة إليه قوة قاهرة، طبقا للمبادئ الأصولية العامة التي تقتضي بأن البينة على المدعي والتي قننها المشرع المغربي من خلال مقتضيات الفصل 399 من ق.ل.ع. وفي هذه الحالة الأخيرة، تمثل الواقعة أو الوقائع التي يتمسك بها المدين ويدعي أنها تمثل بالنسبة إليه قوة قاهرة منعته من تنفيذ التزاماته العقدية مسألة من مسائل الواقع في الدعوى، والتي يستقل قاضي الموضوع بتقديرها، يأخذ بها إذا اطمأن إليها وتحقق من شروطها، ويستبعدها متى اتضح له خلاف ذلك، يكفيه أن يعلل الموقف الذي استقر عليه وسجله من خلال الحكم الذي أصدره بكيفية واضحة، ومن هنا يعتبر الاحتجاج بالقوة القاهرة من المسائل الموضوعية الراجح تقديرها لمحاكم الموضوع، ولذا يستطيع المدين بالالتزام أن يثبت قيام القوة القاهرة أو الحادث الفجائي بكافة الوسائل التي تؤدي إلى إقناع قاضي الموضوع بتوافر الشروط القانونية فيهما، من هذه الوسائل نذكر شهادة الشهود والقرائن القوية الخالية من اللبس[62].
ونظرا لخطورة الآثار التي تترتب عادة على التمسك بالقوة القاهرة، فإن محكمة النقض الفرنسية تتشدد عادة في مراقبة قاضي الموضوع أثناء إعماله لسلطته التقديرية، وخاصة عند تحققه من شروط القوة القاهرة[63].
ولكون حرب الخليج واقعة مادية كبيرة سارت بذكرها الركبان ودخلت التاريخ الإنساني من بابه الواسع، مثلها في ذلك مثل باقي الحروب الكبرى الأخرى، كالحربين العالميتين الأولى والثانية فإن المدين الذي يتمسك بها أو يتمسك بالظروف المحيطة بها لدرء المسؤولية العقدية عن هالكه، لا يحتاج عمليا إلى إثبات وقوعها أو إثبات تاريخ نشوبها أمام محاكم الموضوع، إذ من المفروض أن تكون هذه الأخيرة على علم تام بحقيقة قيامها، ومن ثم فهي من حيث العلم بها تنزل منزلة النص القانوني الذي لا يعذر القاضي بجهله، على الرغم من أن الأمر يتعلق بواقعة مادية فقط. وهو الذي اصطلح الفقه والقضاء في فرنسا على تسميته بالوقائع المشهورة "Les faits notoires" وقد نص الفصل 291 من قانون الإجراءات المدنية الألماني على ما يلي::"لا يمكن للمحكمة أن تفرض على المتقاضين إثبات الوقائع المشهورة والمعلومة من طرفها"[64].
وعلى الرغم من أن تكييف وقائع النزاع كمبدأ، يعد من مسائل القانون وليس من مسائل الواقع كقاعدة عامة- فقد سبق لمحكمة النقض المصرية أن قررت في أحد قراراتها أن تقدير ما إذا كانت الواقعة المدعى بها تعتبر من قبيل القوة القاهرة يستفيد من أحكامها المدين في الالتزام التعاقدي أم لا تعتبر كذلك، هو تقدير موضوعي تملكه محكمة الموضوع، مادامت قد أقامت قضاءها على أسباب مستساغة من الناحية المنطقية. وقد سبق لمحكمة النقض الفرنسية بدورها أن اتبعت نفس المنهج منذ بداية القرن 19 تقريبا، غير أنها سرعان ما تخلت عن ذلك الموقف فيما بعد، حيث استقرت في نهاية الأمر على أن تكييف القوة القاهرة يعد مسألة من مسائل القانون وليس من مسائل الواقع.
ومن البديهي أنه يبقى دائما من حق الدائن في الالتزام التعاقدي أن ينازع في وجود الواقعة أو الوقائع التي يتمسك بها المدين، ويحاول إثباتها بكافة وسائل الإثبات الممكنة، وإضفاء طابع القوة القاهرة عليها، كما يبقى من حقه في حالة إقرار أو اقتناع القاضي بوجوبها، أن ينازع في وجود شروطها أو في تحقق آثارها، لكي يقطع الطريق أمام المدين، حتى لا يستفيد من أحكام الفصل 268 من ق.ل.ع..
وفي النهاية، نستخلص مما سبق بيانه أن الإثبات قد ينصب مباشرة على الواقعة المكونة للقوة القاهرة، كحرب أو ظاهرة طبيعية أو قانونية مثلا، وقد ينصب إثباتا أو نفيا على عنصر ومن عناصرها كعدم التوقع مثلا، علما أنه قد سبق لمحكمة النقض الفرنسية أن قررت في العديد من قراراتها أنه لا يمكن التمسك بالقوة القاهرة لأول مرة أمامها لأنها وسيلة يختلط فيها الواقع بالقانون، ولأن الطرفين في النزاع- الدائن والمدين في الالتزام التعاقدي- قد يتساويان في الإثبات بحيث يثبت المدين حالة من حالات القوة القاهرة بينما ينفيها الدائن نفيا قطعا، فتبقى كلمة الفصل لقاضي الموضوع الذي له، في إطار سلطته التقديرية التي يتمتع بها في مجال تقييم الحج، أن يرجح الحجة التي يرى أنها أولى بالترجيح في النزاع[65]، مع إمكانية تطبيقه للقاعدة الأصولية التي تقضي بأن "المثبت مقدم على النافي"، حماية للمدين وهو الطرف الضعيف أو من المفروض أنه كذلك.
ومن هنا يتضح من مختلف النصوص القانونية في التشريعات الوضعية المختلفة[66]، ومن تعريف المشرع المغربي للقوة القاهرة، ومن تحديد القضاء لطبيعة القوة القاهرة والحادث الفجائي يتضح من كل ذلك الشروط التي يجب توافرها في الحادث ليعتبر بطبيعته: قوة قاهرة أو حادثا فجائيا.
فما هي إذن طبيعة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي؟
! الفقرة الثالثة: طبيعة القوة القاهرة
كثيرا ما يستعمل مصطلح"القوة القاهرة"، ويتلوه مصطلح"الحادث الفجائي" لكن، هل هناك ترادف من الناحية القانونية بين المصطلحين؟ أم أن لكل مصطلح مفهومه القانوني، كما أنه هناك مجموعة نقاط التقاء واختلاف بينها وبين "الظروف الطارئة".
ولمعرفة طبيعة القوة القاهرة سنقوم بمقارنة القوة القاهرة والسبب الأجنبي (أولا) على أن نتطرق في نقطة(ثانية) للقوة القاهرة والظروف الطارئة.
+ أولا: القوة القاهرة والسبب الأجنبي:
ترفع المسؤولية عن المدين الناشئة عن عدم قيامه بالتزامه، إذا كان راجعا لسبب أجنبي عنه، وهو براء منه، هذا السبب إما أن يكون فعل الدائن نفسه أو حادثا جبريا أو قوة قاهرة.
– فعل الدائن نفسه: إذا أهمل الدائن في المحافظة على الشيء عند استلامه له، فترتب على ذلك حصول بعض التلف له.
– الحادث الجبري والقوة القاهرة: يراد بالحادث الجبري والقوة القاهرة ما نصت عليه المادة 1148 من القانون المدني الفرنسي حيث قررت"لا يكون هناك محل للتعويض والفوائد إذا منع المدين من الإعطاء أو من القيام بما هو مكلف بعمله، أو من عمل ما هو محظور عليه، بفعل قوة قاهرة أو حادث جبري". ولم تذكرها المادة 119/177 من القانون المدني الفرنسي المقابل للتقنين القديم، بل اكتفت بقولها بأنه لا محل للتعويض إذا كان عدم الوفاء راجع لتقصير المتعهد، أي خطئه، أي أن ما كان خارجا عن خطئه عن عمله هو، فلا يسأل عنه مثل فعل الدائن نفسه، والحادث الجبري والقوة القاهرة.
ولقد أثارت عبارتا الحادث الفجائي والقوة القاهرة أقلام الكتاب[67]، ففريق، وهو الغالب فيهم، يرى في الحادث الفجائي والقوة القاهرة معنى واحدا، أي سببا خارجا عن إرادة المدين حال دون قيامه بالوفاء بتعهده الذي التزم بوفائه، ويستندون إلى أن الشارع يستعمل العبارتين في كثير من مواده بمعنى واحد، وفوق ذلك فإن النتيجة القانونية للعبارتين واحدة، وهي براءة الذمة أي ذمة المدين.
وقال فريق آخر بأن القوة القاهرة تفيد بان الحادث حال دون التنفيذ يرجع لقوة أجنبية عن المدين وأما الحالة الجبرية ترجع لسبب داخلي أي راجع لحالة العمل الذي يقوم به المدين ولظروفه أي لسبب يرجع للشخص ذاته كحصول حادثة للآلة البخارية أو تقصير من العامل.
وفريق يرى في الحادث الجبري استحالة تبعية في التنفيذ، أي أن الحادث الذي منع المدين من الوفاء بتعهده، إما بالرجوع إلى اعتباراته الخاصة، أو الرجوع إلى مقارنته برب الأسرة العادي، بمعنى أنه لو كان على إرادة صحيحة ومتينة لكان تغلب على ما يعتريه من الحوادث وقت التنفيذ، وهذا هو ما يمسه الألمان بعجز المدين[68]، وأما القوة القاهرة فهي الاستحالة المطلقة كما يقول الألمان، أي أن الاستحالة الناشئة عن حادث لا يمكن مقاومته ولم يكن في الاستطاعة التنبؤ بوقوعه من قبل، كالعاصفة والزوبعة وزلزلة الأرض والحرب، والأوامر الصادرة عن السلطة العامة أو ما يعرف بفعل الأمير.
والملاحظ من كل ما تقدم أن القوة القاهرة والحادثة الجبرية يعفيان المدين من التعويض ويبرئان ذمته أمام الدائن، وعلى ذلك يقول البعض بأن التفرقة بين الإثنين تفرقة لا مبرر لها من حيث النتائج القانونية، وفي عدم التفرقة مطابقة للعدالة، لأنه لا يمكن مطالبة الرجل بأكثر مما يطالب به الرجل العادي من الكفاءة العادية.
على أنه توجد أحوال نص فيها القانون الفرنسي على فائدة التفرقة بين الاثنين منها حالة براءة ذمة المدين بالقوة القهرية، وعدم براءة ذمته بالحالة الجبرية، ذلك أن قانون حوادث العمل الصادر بفرنسا في 9 أبريل 1898 قرر التزام رب العمل أمام العامل عند وقوع حادث خاص بالعمل، أي إذا وقع الحادث بسبب خلل في الآلات كانفجار المرجل أو تطاير قطعة من الحديد أو أي حركة للعامل تصدر منه على غير إرادته.
وأما إذا وقع الحادث بسبب فعل قهري، أي سبب راجع للطبيعة، كعاصفة أو غرق أو زلزال فلا يصبح رب العمل ملتزما بشيء.
ونفس الأمر بالنسبة للمتعهدين بالنقل فإنهم يسألون في حالة الحوادث الجبرية لا في الحالات القهرية، وذلك يرجع لسبب الاحتكار الذي ينفردون به دون غيرهم وترجع هذه القاعدة في أصلها إلى القانون الروماني.
وعلى كل حال يجب على المدين الذي يقول بعدم مسؤوليته عند الحادث الجبري أو القوة القاهرة، أن يراعي ذكر شروط تحققها، وسيتم التطرق لشروط القوة القاهرة المبحث الثالث من هذا الفصل.
أما في التشريع المغربي فقد نص الفصل 268 من ق.ل.ع. على أنه"لا محل لأي تعويض إذا أثبت المدين أن عدم الوفاء بالالتزام ناشئ عن سبب لا يمكن أن يعزى إليه كالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي أو مطل الدائن"، فقد يستفاد من هذه المقتضيات مجرد أن حالة القوة القاهرة هي غير حالة الحادث الفجائي، غير أن المشرع ومن خلال مقتضيات الفصل 269 من ق.ل.ع. قد عرف القوة القاهرة وحدد شروطها وأورد عدة أمثلة خاصة بها، الشيء الذي يوحي من جانب آخر أن المشرع المغربي ربما قد أخذ بوحدة المصطلحين لا بازدواجيتهما. ولعل مما يزيد في قوة هذا الموقف الأخير أن محكمة التعقيب التونسية. والحال أن التشريع المدني التونسي مصدر التشريع المغربي ومطابق له في هذه المسألة- قد قررت:"الأمر الطارئ مشبه بالقوة القاهرة في درء المسؤولية فكلاهما ينتج نتائج قانونية واحدة بدون ميز أو تفرقة..[69]"
والمحاكم المغربية تكتفي عادة بالعبارة التقليدية"القوة القاهرة و الحادث الفجائي". وإسوة بالمشرع المغربي نفسه تكتفي أحيانا بالإشارة إلى أحد المصطلحين دون الآخر في أحكامها وقراراتها.
هذا بالنسبة للقوة القاهرة والحادث الفجائي، فما هو الاختلاف الواقع بين القوة القاهرة والظروف الطارئة يا ترى؟
+ ثانيا: القوة القاهرة والظروف الطارئة:
إن ظهور نظرية الظروف الطارئة راجع إلى الفقه الكنسي، حيث كان فقهاء الكنيسة يحرمون الغبن في العقود باعتباره نوعا من الربا المحرم، وكانوا يسوون في هذا الصدد بين الغبن الطارئ الذي يستجد عند تنفيذ العقد، وبين الغبن الذي يوجد عند انعقاده.
والظروف الطارئة هي حوادث استثنائية عامة، لم يكن في الوسع توقعها، ويترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلا، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعا للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع كل اتفاق مخالف لذلك في البطلان، ومن خلال هذا التعريف الموجز للظروف الطارئة يظهر جوهر الاختلاف بينها وبين القوة القاهرة المتضمنة للتحلل الكلي من تنفيذ الالتزام عكس الأولى التي تكون الاستحالة فيها نسبية، والتحلل يكون جزئي بالنسبة للالتزام الناتج عن العقد.
وللمزيد من الإيضاح سنعرض للظروف الطارئة في كل من التشريع الفرنسي والمصري ثم التشريع المغربي.
– التشريع الفرنسي:
نشأت نظرية الظروف الطارئة أثناء الحرب العظمى في فرنسا سنة 1916، فقررها القضاء الإداري لأول مرة في حكم مجلس الدولة الصادر في 30 مارس 1916[70]، وقد هدم هذا الحكم الخطير أحكام القانون الخاص في فرنسا، وأقام على أنقاضها نظرية الظروف الطارئة، لأن المتفق عليه إجماعا فقها وقضاء في فرنسا أن القانون لا يقضي بزوال التعهدات بالفسخ، إلا إذا أصبح الوفاء مستحيلا استحالة مطلقة بسبب قاهر خارج عن إرادة المدين. أما إذا تعذر الوفاء أي استحالة نسبية، فلا محل للفسخ ويلزم المدين بالوفاء أو بجبر الضرر الناشئ عن عدم الوفاء. لذلك نجد القضاء الفرنسي يحارب هذه النظرية إلى يومنا هذا.
– التشريع المصري:
إن محكمة النقض المصرية انتهت في ظل القانون المدني القديم إلى أنه ليس في أحكام القانون المدني ما يسوغ للقاضي نقض الالتزامات التي يرتبها العقد بل إن هذا مناف للأصل العام القائل بأن العقد شريعة المتعاقدين.
أما في نطاق القانون الإداري حيث يتولى القاضي الإداري بنفس صياغة مبادئه، دون أن يكون مقيدا بنصوص الشريعة، فقد أمكن الأخذ بهذه النظرية مراعاة لضرورة ضمان سير المرافق العامة، ذلك أن إلزام من يتولى تسيير المرفق بتنفيذ التزاماته كاملة دون تعديل، رغم الظروف الاستثنائية الطارئة التي تجعل هذا التنفيذ مرهقا له إلى الحد الذي يهدده بخسارة فادحة من شأنه أن يعرضه للإفلاس، وأن يؤدي في النهاية إلى تعطيل المرفق العام الذي يتولى إدارته.
– التشريع المغربي:
لم ينظم المشرع المغربي نظرية الظروف الطارئة لا في قانون الالتزامات والعقود ولا في القانون التجاري، ولا في القانون الاجتماعي[71]، بنص تشريعي عام وصريح بحكم مختلف العلاقات التعاقدية من مدنية وتجارية وعمالية وغيرها، كما فضلت بعض التشريعات العربية الحديثة، ومن بينها التشريع المصري والسوري والليبي والجزائري، وإنما هناك بعض التطبيقات التشريعية المتفرقة بين هذه النصوص الخاصة وتلك، أما بالنسبة للقانون الإداري فقد أخذها بها وهذه مسالة طبيعية باعتبارها أنه قانون قضائي بالدرجة الأولى،يستطيع أن يستمد بعض أحكامه عن طريق اجتهاد المحاكم الإدارية، دون الاستناد إلى نصوص تشريعية صريحة.
وعلى ضوء ما سبق، يتضح أن القوة القاهرة حادثة غير متوقعة، ولا يمكن التغلب عليها، وهي بهذا المفهوم، هي ذاتها الحادث الفجائي، كما أن الفقه والعمل القضائي المغربي لا يفرقان بينهما لأن لهما نفس الآثار[72]، وقد عرف الاجتهاد القضائي المغربي القوة القاهرة بأنها"الأحداث التي تجعل الالتزام مستحيلا وليست الأحداث التي تجعله أكثر صعوبة"، وهذا موقف صائب لأن الأحداث التي تجعل تنفيذ الالتزام أكثر صعوبة هي الظروف الطارئة، وهذه الأخيرة تختلف عن القوة القاهرة- كما سبق القول- لأنها تجعل الالتزام مرهقا فقط وليس مستحيلا كالقوة القاهرة، علاوة على ذلك نجد أن جزاء الظرف الطارئ هو رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول ليسود التوازن بين طرفي العقد، في حين نجد أن جزاء القوة القاهرة إذا توافرت، شروطها هو الفسخ، ولا يمكن للطرف الآخر (الدائن) أن يتمسك بحقه المكتسب في العقد.
فما هي إذن الشروط الواجب توفرها، للقول بالقوة القاهرة؟
يتضح جيدا من النص التشريعي المغربي 269 من ق.ل.ع. أن القوة القاهرة كواقعة مادية، ومتى تحققت شروط تطبيقها تعد سببا من الأسباب القانونية الكافية لوحدها، والتي تجعل المدين يتحلل عادة من تنفيذ التزاماته العقدية دون أن يكون محلا لأية مسؤولية مدنية.
وتتوزع الشروط التي عددها الفصل أعلاه بين ثلاثة: أولها أن يكون الحدث غير ممكن بالوجه العادي توقعه أو ترقبه، وثانيها أن يكون مستحيلا دفعه أو التغلب عليه، وثالثها أن لا يكون للمدين دخل في إثارة الحدث.
وهذه الشروط مفروضة معا لتحقق القوة القاهرة بها مجتمعة، فإن تخلف شرط منها فإن القوة القاهرة تكون غير محققة.
والشروط ذاتها تستوجب إفراد بحث لكل منها توضيحا له، وتبديدا لإشكالات قد تثور بشأنه.
! الفقرة الأولى: شرط عدم إمكان التوقع
+ أولا: مفهوم عدم التوقع:
يقصد به أن الفعل ينطوي على عنصر المفاجأة والمباغثة، بحيث لا يترك فرصة لمجابهة الأمر، أما إذا كان في الإمكان توقع حصوله فلا يعتبر من قبيل القوة القاهرة[73]، وذلك تأكيدا لما استقر عليه القضاء الفرنسي، وتطبيقا لما نص عليه المشرع صراحة من خلال مقتضيات الفصل 269 من ق.ل.ع. عندما قرر أن:"القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه… ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا".
فالمقصود بالأمر في مضمون النص هو الحادث وقد أعطى له المشرع أمثلة في الفيضانات، والجفاف والعواصف، والحرائق، والجراد وغارات العدو وفعل السلطة، واشترط فيه أن يكون غير متوقعا، ويؤدي إلى استحالة في التنفيذ.
وتطبيقا لهذا الفصل فقد قضى المجلس في أحد القرارات"أن الأمطار لا تشكل حدث القوة القاهرة التي من شانها أن تحلل المدين من المسؤولية إلا إذا أثبت أنها كانت بأهمية ولمدة غير اعتيادية"[74]. وفي نفس السياق دائما قضت استئنافية الرباط في قرارها الصادر في 27/ 07/ 1920 بأنه"لا تعتبر حالة قوة قاهرة كما يعرفها الفصل 269 من ق.ل.ع. صعوبات تنفيذ عقد البيع الناتجة عن منع التصدير عن دولة أجنبية أو عن حرب غواصات… صعوبات معروفة أثناء تكوين العقد"[75].
كما قضت نفس المحكمة في قرارها الصادر في 21/11/1930 بأنه "لا تعتبر قوة قاهرة توقف مؤقت لشاحنة مستعملة لنقل الأثاث… إن الحادث كان من الممكن توقعه، إذ يتوجب على الشركة المالكة، العناية لتجنب هذه الحوادث، إن الخلل وعدم كفاية وسائل النقل لا تكفي لإعفاء هذه الشركة من المسؤولية"[76].
وفي نفس الاتجاه قضت نفس المحكمة، دائما في قرارها الصادر بتاريخ 17 ديسمبر 1929 بأنه" لا يمكن اعتبار قوة قاهرة تهاطل الأمطار في ديسمبر فعلا فإن هذا الحدث الذي أقر الخبير بوقوعه مرارا في المغرب يمكن توقعه وأخذ الإحتياطات منه"[77].
+ ثانيا: طبيعة ومعيار عدم التوقع:
أ- طبيعة عدم التوقع:
إن مسالة التوقع أو عدم التوقع ترتبط أساسا بشخص المتعاقد وبتصوره الذهني، فالقول أحيانا إن حادثا ما غير متوقع معناه أنه لم تكن هناك أسباب أخرى توحي بأنه سيقع، فقد لا يكون الحادث متى نظر إليه بكيفية مجردة متوقعا، لكن توجد عناصر جدية أخرى ترتبط بالزمان والمكان أو بشخص المتعاقد أو بنشاطه المهني توحي بتوقعه، مما يستفاد أن عدم التوقع مسألة واقعية صرفة[78].
فاستخلاص شرط عدم توقع الفعل أو الواقعة المكونة للقوة القاهرة مسألة من مسائل الموضوع التي تدخل ضمن السلطة التقديرية لقاضي الموضوع، علما أنه يجب على هذا الأخير أن يعلل ما استخلصه بكيفية مقبولة من الناحية المنطقية، وإلا عرض حكمه للنقض بسبب انعدام التعليل أو قصوره.
ب- معيار عدم التوقع:
يقدر عدم التوقع تقديرا مجردا لا شخصيا، وعلى هذا فلا يكفي أن يكون المدين أو المدعى عليه لم يتوقع الحادث بل يجب ألا يتوقعه الرجل العادي إذا وضع في نفس الظروف، وعلى هذا فإن عدم إمكان التوقع يقدر بطريقة مطلقة وليس بطريقة نسبية، فلا نأخذ في الاعتبار الظروف الشخصية للفرد المسؤول، وإنما بالظروف العامة والخارجية[79]. ولكن الاندفاع في هذا الشرط إلى نهايته من شأنه أن يصبح أي حادث من الممكن توقعه غير تلك الحوادث التي تقع لأول مرة، ولهذا فإن الفقه يكتفي في هذا المجال بالقول بأنه ليس من الضروري أن تكون الواقعة من المستحيل توقعها وإنما يكتفي أن لا يكون هناك أي سبب خاص للاعتقاد بأن الحادث قد يقع.
ويمكن القول بأن عادية الواقعة هي التي تسمح بالتمييز بين الحوادث الممكن توقعها والغير ممكن توقعها، فالمألوف أن نتوقع الأمور العادية ومن غير الممكن توقع الأمور الاستثنائية.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو ما المغزى من هذا الشرط؟ ولماذا يسأل المدين إذا كان من الممكن توقع الحادث ولم يقم بما يلزم لتفادي آثاره؟
لقد ذهب الفقهاء في تبرير ذلك أن إمكانية التوقع إذا توافرت فإن المدين يكون في إمكانه أن يتخذ الاحتياطات لتفادي وقوع الحادث، فإذا لم يفعل يكون قد ارتكب خطأ.
والعبرة في تقدير عدم إمكان التوقع هي بوقت إبرام العقد فإذا كان من الممكن توقع الأمر الذي أدى إلى استحالة التنفيذ وقت التعاقد فإن المدين لا يمكنه في هذه الحالة أن يحتج بالقوة القاهرة، ولكن إذا كانت إمكانية التوقع لم تظهر إلا أثناء تنفيذ العقد فإن المدين يمكنه في هذه الحالة أن يتمسك بالقوة القاهرة[80].
وقد وجه الأستاذ "تانك Tanc" انتقادات إلى شرط عدم إمكان التوقع، وقال بأننا إذا قلنا بأن القوة القاهرة يلزم أن تتوافر فيها الشروط التقليدية، وهي عدم إمكان التوقع وعدم استطاعة الدفع فإن معنى ذلك أننا نطلب من المدين يقظة تفوق كل تصور وتفوق ما اشترطه القانون في هذا الشأن، فليس من الممكن أن نطلب من المدين أن يأخذ كل الاحتياطات الممكنة ضد جميع الأخطار المتوقعة، فالاحتياطات التي يلزم المدين اتخاذها ضد الأخطار ستكون لانهائية.
وقال بأن فكرة عدم إمكان التوقع فكرة غير محددة، وتضل غير ملائمة لحل مشاكل المسؤولية العقدية.
لكن ما هو الحل الذي قدمه "تانك Tanc"؟ لقد رأى أن فكرة الاحتمال هي التي يجب أن تحل محل فكرة إمكان التوقع لأن الأمر يتعلق دائما بتحديد ما يجب أن يفعله المدين أو بتحديد العناية التي يلزمه بذلها نحو أموال أو شؤون الغير، وباختصار فإن فكرة الاحتمال أو الترجيح للحادث ليست إلا أحد العوامل التي تسمح بتقدير أهمية الخطر[81].
ولكن القضاء الفرنسي يشترط توافر شرط عدم إمكان التوقع في القوة القاهرة وهو يتمسك بهذا الشرط بشدة، وعلى الخصوص في مجال المسؤولية التعاقدية، وفقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية في هذا الشأن، إلى أن المدين لا يكون معفيا من تنفيذ التزامه إلا إذا كان الحادث الذي منع التنفيذ غير متوقع عند إبرام العقد[82]، ويمكن القول بأن القضاء الفرنسي بصفة عامة في مجال المسؤولية التعاقدية كان في الغالب يشترط تواجد صفة عدم إمكان التوقع، ومن تم فلم يجد رأي الأستاذ "تانك Tanc" أي حظ من التطبيق في هذا المجال[83].
وأما في مجال المسؤولية التقصيرية فإن القوة القاهرة تمتد أيضا لكي تعفي المسؤول، وعلى الخصوص في مجال المسؤولية المفترضة، حيث يكون إثبات السبب الأجنبي معفيا للحارس، ويلزم توافر الخصائص التقليدية أيضا في هذه الحالة، حيث يجب أن تكون القوة القاهرة غير ممكن توقعها ولا دفعها وغير منسوبة إلى المسؤول.
ولكن القضاء الفرنسي يدخل بعض التخفيف في تقدير عدم التوقع، حيث أن الأحكام الحديثة تدخل في هذا التقدير عنصر العادية، وخاصة في مجال مسؤولية الحارس حيث لا تتطلب المحاكم وجود عنصر عدم إمكان التوقع، فعندما يتعلق الأمر مثلا باستعمال أشياء مثل السيارة فإن المحاكم تكتفي بأن يثبت الحرس بأنه كان أمام حالة استحالة في أن يتجنب الضرر على إثر سبب أجنبي لا ينسب إليه وما كان يمكنه عادة أن يتوقعه[84].
وبعض الأحكام الأخرى ذهبت إلى إعفاء الحارس عندما لا يمكن للتوقع المعقول أن يقدر وقوع الحادث[85].
! الفقرة الثانية: شرط عدم إمكانية الدفع:
+ أولا: مدلول هذا الشرط:
يلزم من أجل اعتبار الحادث قوة قاهرة أن يكون غير ممكن دفعه، بحيث يجر المدين أمام استحالة في التنفيذ. وهذا الشرط يجمع عليه الفقهاء، وكذلك لا تختلف فيه الأحكام، فإذا ثبت أن بعض الاحتياطات السابقة أو اللاحقة على الحادث كانت كافية لدفع آثاره، فإن المدين لا يكون أمام حالة قوة قاهرة. وفي نطاق هذا المعيار، نرى تفسير ما ورد في الفقرة الثانية من الفصل 269 من ق.ل.ع. المغربي، حيث قرر المشرع المغربي فيها أنه"لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه، ما لم يقم المدين الدليل على انه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه".
ويلزم في هذا الإطار أن نفرق بين الاستحالة والصعوبة، فالمدين التعاقدي لا يكون حرا من تنفيذ التزامه لمجرد أنه قد أصبح بالنسبة إليه صعبا عن الوضع الذي كان يتوقعه، وعلى الخصوص أنه أصبح أكثر تكلفة له، وإنما يلزم وجودا استحالة مطلقة[86]، فطالما أن المدين لديه الوسائل التي تمكنه من تنفيذ التزامه وأيا كانت التضحيات التي سيتحملها من أجل ذلك، فإنه يظل ملتزما بالتنفيذ، لأن العلاقة السببية لا تنقطع بين عدم تنفيذ الالتزام والضرر اللاحق بالدائن، بل يبقى الضرر ناشئا من عدم تنفيذ المدين لالتزامه، أي من خطأ المدين، طالما أن الخطأ العقدي إنما يتبلور في عدم تنفيذ الالتزام، فما ينشأ عن الحرب من صعاب في إنتاج أحد المعامل نتيجة الارتفاع في سعر المواد الأولية أو نتيجة ندرة اليد العاملة تبقى في نطاق الاستحالة النسبية الخاصة بالمدين المنتج ولا تعفيه من المسؤولية، وإنما يعتبر هذا الوضع الجديد بالنسبة إليه من الظروف الطارئة التي تجيز للقاضي تعديل العقد.
وليس من الضروري وجود استحالة مادية أمام المدين في القيام بتنفيذ التزامه، بل يكفي أن تكون الاستحالة معنوية مثل موت شخص عزيز على المدين منعه من القيام بالغناء في حفلة مثلا، أو جعل القيام بإجراء عملية دقيقة أمرا مستحيلا[87]. وقد قبل القضاء الفرنسي في بعض الحوادث وجود الاستحالة المعنوية، وكان ذلك بخصوص الدعاوي التي رفعت من الفنانين على أصحاب دور الملاهي نظرا لعدم قيامهم بتنفيذ التزامهم على إثر نشوب الحرب[88].
وحتى يمكن الحكم على المدعى عليه بالتعويض نظرا لعدم وجود استحالة في التنفيذ، يلزم أولا أن نتأكد من نوع الالتزام الذي قد تعهد به، وقد عرضت هذه المشكلة بخصوص نقل البضائع عن طريق القطار حيث كان الجو قارس البرودة فتجمدت السلع، فهل يعتبر التجمد هنا من حوادث القوة القاهرة التي تعفي الشركة من تنفيذ التزاماتها؟ قد يتبادر إلى الذهن بأن الحادث لا يكون قوة قاهرة لأن الشركة المسؤولة يمكنها أن تصنع تدفئة في القطار، ولكن قبل هذا يلزم التعرف أولا على نوع الالتزام الذي تعهدت به الشركة، فهل كانت ملتزمة بنقل البضائع فقط، أو أن التزامها أيضا يشمل نقل وحفظ البضائع، فإذا ثبت أن الشركة قد تعهدت بالنقل فقط فإنها لا تكون مسؤولة عن التعويض لا بسبب وجود قوة قاهرة وإنما بسبب عدم وجود التزام تسأل الشركة عن عدم تنفيذه[89].
بقي أن نشير إلى أنه إذا كانت الاستحالة في مجال المسؤولية التعاقدية تعني استحالة قيام المدين بتنفيذ التزامه، فإنها في مجال المسؤولية التقصيرية تعني استحالة قيام المدعى عليه بالفعل على نحو أو آخر.
وإذا كان قد سبق لنا القول بأن المدين يجب أن يكون أمام حالة استحالة في التنفيذ، فإن السؤال المطروح هو هل يكتفي بالاستحالة النسبية وهي الاستحالة التي توجد بالنسبة للمدين وحده؟ أم أن الأمر يستلزم الاستحالة المطلقة وهي التي تتحقق بالنسبة لكل الأشخاص الآخرين لو وجدوا في ظروف المدين. وهو ما سنتناوله في النقطة الموالية.
+ ثانيا: طبيعة ومعيار استحالة الدفع:
أ- طبيعة استحالة الدفع:
استحالة الدفع كشرط من الشروط الرئيسية لتحقق القوة القاهرة، وهو من مسائل الواقع التي يستقل قاضي الموضوع بتقديرها ولا رقابة عليه في ذلك من طرف المجلس الأعلى إلا من حيث تسبب ذلك التقدير الموضوعي مثله في ذلك مثل عدم التوقع. وفي هذا الإطار فقد ذهب "رادوان Radouant" إلى أنه يجب التمييز بين عدم إمكان مقاومة الحادث واستحالة الوفاء، فقد يكون الحادث غير ممكن المقاومة، ولكن يبقى تنفيذ الالتزام ممكنا على الرغم من ذلك.
وأما استحالة الوفاء فإنها تجعل التنفيذ أمرا غير ممكن، وقد ضرب مثالا بذلك بأن استيلاء السلطة على المحاصيل التي كان يعدها المدين لتسليمها وفاء بما عليه من التزامات، هو أمر لا يمكن مقاومته، ومع ذلك فإن تنفيذ الالتزام يبقى ممكنا، في حين أن انقطاع السكة الحديدية بسبب الفيضانات يجعل النقل مستحيلا[90]. وقد تعرض هذا الرأي للنقد حيث أنه لا يمثل إلا إفراطا في الدقة والتمييز ويؤدي إلى خلق نوع من الغموض على الاستحالة.
ب- معيار استحالة الدفع:
من حيث المعيار الذي يجب أن يتبع بصدد تقصي استحالة أو عدم القدرة على الدفع من جانب القضاء بالخصوص، فقد ثار خلاف بوسط الساحة الفقهية المهتمة بالموضوع، وقد اتضح بكيفية جلية أن المعيارين الموضوعي والشخصي، ليسا لوحدهما قادرين على وضع حل ثابت في هذه المسألة، فتقدير درجة الاستحالة طبقا للمعيار الموضوعي يترتب عليه عمليا إسقاط جميع الظروف الشخصية الذاتية للمدين، وفي هذا ظلم جد بين، كما أن تقدير هذه الحالة بالاعتماد على المعيار الشخصي وحده يؤدي عمليا إلى تعدد الحلول لاختلاف الظروف الذاتية من مدين لآخر، ولهذا السبب فقد نادى بعض الفقهاء بتطبيق معيار وسط وهو معيار الشخص العادي[91].
ومن هنا يرى الأستاذ "خالد عبد الله عيد" أن الاستحالة أمر نسبي يقتصر على شخص المدين، حيث اشترط المشرع المغربي أن يقيم المدين الدليل على انه بذل"كل العناية" لدرء الحادث عن نفسه إذا ما كان الحادث أمرا يمكن دفعه، وهو اشتراط يفيد إثبات بذل العناية التي تتلاءم مع الشخص المعتاد أو العادي من نفس الفئة من الناس التي ينتمي إليها المدين، ويفسر ذلك التعبير "كل العناية" الوارد في الفصل 269 من ق.ل.ع. المغربي عن تحفظ المشرع مما يعني بالضرورة عدم الاقتصار على شخص المدين، وبالتالي يصبح معيار بذل العناية معيارا موضوعيا لا معيارا ذاتيا[92].
! الفقرة الثالثة: شرط عدم وجود خطأ من جانب المدين
+ أولا: مدلول هذا الشرط:
يجب أخيرا ألا يسبق أو يواكب القوة القاهرة خطأ من جانب المدين، وهذا ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من الفصل 269 من ق.ل.ع. المغربي:"…لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي نتج عن خطأ سابق للمدين".
وهذا منطقي إلا يمكن للمدين الاستفادة من الإعفاء الكامل للالتزام الملقى على عاتقه علاوة على التعويض الذي يمكن أن يطالبه به الدائن بسبب تدخل السبب الأجنبي المتمثل في القوة القاهرة، في حين سبق هذه الأخيرة أو واكبها خطا من جانب المدين، وفي هذا الصدد قضت استئنافية البيضاء في قرارها الصادر في 23/ 10 / 1984،"وحيث جاء في أوجه الاستئناف أنه يتعين رفض مطالب الضحية لأن ما حدث له وهو في الحافلة يعتبر من تصرفات الغير وهو تصرف شخص مجهول قذف بالحجارة ولاذ بالفرار، الأمر الذي جعل ما أصيب به المتضرر ناتج عن قوة قاهرة لم يكن في وسع سائق الحافلة أن ينبأ به ولا أن يقاومه… وحيث إنه ليس بملف النازلة ما يفيد أن سائق حافلة المكتب المستقل قام بالاحتياط اللازم فيما يخص إغلاق نوافذ الحافلة يعتبر أثناء استعمالها لنقل الراكبين وأن ما حدث للمتضرر وهو يركب الحافلة يمكن دخوله فيما يمكن توقعه وليس بحادث فجائي ولا بقوة قاهرة سيما وان الحافلة لم يكن سيرها عاديا"[93].
+ ثانيا: طبيعة ومعيار هذا الشرط:
أ- طبيعته:
يدخل هذا الشرط في نطاق واجب التعاون في تنفيذ الالتزامات الناشئة من العقد ومبدأ "حسن النية"، ولذا يجب على المدين أن يقوم بكل ما في وسعه لتحاشي ما يمكن أن ينشأ من ضرر قد يحدث للدائن بالالتزام حتى من حادث يرقى بطبيعته إلى مرتبة القوة القاهرة.
وهذا الشرط عبر عنه المشرع الفرنسي في المادة 1147 كما تكلم عنه المشرع المصري في المادة 165 حيث يقول"إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة أو خطأ من الغير كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر ما لم يوجد نص أو اتفاق على غير ذلك".
ونلاحظ أن المشرع المصري قد عبر عن هذا الشرط بقوله"سبب أجنبي لا يد له فيه" أما المشرع الفرنسي فقد عبر عن هذا الشرط بقوله"سبب أجنبي لا يمكن أن ينسب إلى المدين". المادة 1146.
وقد أثار هذا الشرط بعض الخلافات في المجال التعاقدي، وذهب "تانك ومازو" إلى أنه لا يعد شرطا للقوة القاهرة وأن خاصية السبب الأجنبي التي يجب توافرها في الحادث المتمسك به تختلط مع الشرط السابق.
وذهب "رادوان Radouant" إلى أن هذا الشرط يمكن الاستغناء عنه لأن الخصائص الأخرى للقوة القاهرة يمكن أن تحجب هذا الشرط، فالمدعى عليه يجب أن يكون أما حالة استحالة مطلقة في التنفيذ واستحالة في أن يتوقع الحادث وبدون شك فإن هذين الشرطين ينعدمان إذا ما كان المدين نفسه هو الذي قد سبب وقوع الحادث نتيجة لخطئه.
ب- المعيار المعتمد في هذا الشرط:
لقد انقسم الفقه الفرنسي أمام المادة 1147، حيث ذهب بعض الفقهاء إلى أن الحادث المكون للقوة القاهرة يجب أن يكون غير منسوب إلى المدين وأن يكون خارجيا عن مشروع المدين، وعلى هذا فإن الأمر الذي يتصل بالمدين أو بمشروعه يعتبر سببا داخليا ولا يمكن للمدين أن يحتج به فلا يستطيع المدين مثلا أن يحتج لقصور الأشياء أو الأشخاص الذين يستعين بهم في تنفيذ التزامه.
وقد ذهب "تانك Tanc" إلى أن خارجية السبب بالنسبة للشيء تكون المعيار الحقيقي الوحيد للقوة القاهرة[94].
وقد عبر الأستاذ "Besson"عن الخارجية بمعنى آخر حيث ذهب إلى أن الخارجية أمر لابد منه لا باعتبارها كشرط للقوة القاهرة، وإنما لأن السبب الداخلي في الشيء يكون من الأفعال التي يسأل عنها الحارس.
فالقرينة التي نصت عليها المادة 1384/1 هي التي تبرر هذا المعيار لأننا لو قبلنا بجعل السبب الداخلي في الشيء معفيا للحارس طالما أنه غير متوقع وغير ممكن مقاومته فإن معنى ذلك الرجوع إلى الخلف وقلب النظام المنطقي للأشياء[95].
وقد تعرض هذا الرأي للنقد من جانب فريق آخر من الفقهاء، حيث ذهبوا إلى أن هذا المعيار لا يمكن تطبيقه إلا حالة المدين المتعاقد الذي يمتلك مشروعا، ومن ثم فلا يمكن تطبيقه بالنسبة لجمهور كبير من المدينين وهم الذين لا يملكون مشروعا.
وبخصوص موقف القضاء الفرنسي من هذا الموضوع يرى"أكيلا Aguila" أن القضاء في المجال التعاقدي يشير إلى السبب الأجنبي ويشترط أحيانا الخارجية عن المدين ولكن الأمر لا يتعلق هنا بخارجية مادية في كل الأحوال.
وبعد هذا العرض وما أظهره لفظ الخارجية من اختلافات نرى أن العبرة هي بالمعنى الذي قصده المشرع الفرنسي، و بدون شك فإن جل الفقهاء متفقون على أنه يقصد بأن تكون القوة القاهرة غير منسوبة إلى المدين على نحو أو آخر، فاشتراط الخارجية يضع قيدا لا مبرر له، فطالما قد اطمأن القاضي إلى أن المدعى عليه ليست له أدنى صلة بالحادث الذي لا يمكن مقاومته ولا توقعه فإنه يلزمه الحكم بالإعفاء من المسؤولية في هذه الحالة.
تلك إذن هي الشروط التي إذا ما توافرت في الحادث، وكان هذا الحادث هو السبب الوحيد الذي يرجع إليه عدم تنفيذ الالتزام العقدي اعتبر قوة قاهرة أو حادثا فجائيا، بحسب الظروف المحيطة بالالتزام وأدى بالتالي إلى قطع العلاقة السببية بين الخطأ وعدم التنفيذ.
وهذا ما يدفعنا بالتالي إلى ضرورة البحث في فصل ثان لأهم آثار القوة القاهرة وتطبيقاتها على بعض العقود.
! الفقرة الأولى: آثار القوة القاهرة على الالتزام العقدي
يجدر التوضيح، أن القوة القاهرة أو الحادث الفجائي، كما قد تؤدي إلى استحالة الوفاء بالالتزام استحالة كلية ومطلقة (أولا)، قد تؤدي إلى استحالة جزئية وأخرى مؤقتة (ثانيا).
+ أولا: الاستحالة المطلقة:
الأصل في تنفيذ العقود، أن يقوم المدين بتنفيذ ما التزم به بموجب العقد، وحتى يكون هذا الوفاء صحيحا مبرئا للذمة، يجب أن يتم بذات الشيء المستحق دون غيره، سواء كان محل الالتزام شيئا معينا بذاته، أو شيئا معينا بنوعه، أو مبلغا من النقود، أو أن يكون عملا أو امتناعا عن عمل، ولذا فإن المدين لا تبرأ ذمته إلا بالوفاء بمحل الالتزام، أو بإثبات أن ما عاقه عن الوفاء راجع إلى قوة قاهرة أو حادث فجائي.
إذ في هذه الحالة الأخيرة لا تنقضي الالتزامات العقدية فحسب، بل يعفى كذلك المدين من المسؤولية العقدية، ذلك أن عدم تنفيذ الالتزام يعطي للدائن الحق في المطالبة بالتعويض، إلا أن هذا الأخير يصبح لا محل له إذا كان عدم التنفيذ راجع لقوة قاهرة أو حادث فجائي[96]، وذلك تطبيقا لمقتضيات الفصل 268 من ق.ل.ع. السابق ذكره.
ويشترط الفقه والقضاء عموما في الاستحالة أن تكون مطلقة، ويستفاد من ذلك معنيان، كلاهما لازم لتطبيق أحكام القوة القاهرة، فيجب أن تكون الاستحالة تامة، ومعنى ذلك أن يكون قد استحال على المدين أن يتصرف بخلاف ما فعل عامة، كما يتحتم أن تكون الاستحالة عامة، إذ لا تعتبر مبدئيا الاستحالة مطلقة إذا كانت خاصة بشخص المدين وحده[97].
وهكذا، فإنه في حالة هلاك شيء معين بذاته بسبب قوة قاهرة، ليس للدائن مطلقا أن يجبر المدين على تقديم غيره حتى ولو كان ذلك في إمكانه، وليس للمكتري في حالة هلاك العين المؤجرة أن يطالب المكري بإعادة بنائها ولا أن يعيد المكتري بناءها على مصاريف المكري، لأن العقد ينفسخ من تلقاء نفسه، ولو كان المالك قد عوض عن هلاك العين من طرف إحدى شركات التأمين مثلا، كما لا يجوز للمكري أن يجبر المكتري على الاستمرار في الانتفاع بالعين بعد إعادة تشييدها من جديد[98].
وأخيرا نشير في نهاية هذه الفقرة إلى أنه تترتب من الناحية القانونية على استحالة تنفيذ الالتزام العقدي بسبب القوة القاهرة أو الحادث الفجائي آثار تابعة لتلك الاستحالة يتحتم الإشارة إليها.
أ- الالتزام الأصلي والالتزام التابع:
يترتب من الناحية القانونية على انقضاء الالتزام العقدي بسبب قوة قاهرة أو حادث فجائي، انقضاء باقي الالتزامات الأخرى التابعة له، والتي لا يقوم في الواقع وجود لها إلا بوجوده، وعليه فإذا كان الالتزام العقدي مضمون بكفالة شخصية أو عينية انقضت الكفالة تبعا لانقضاء الالتزام الأصلي وبرئت ذمة الكفيل، وإذا كان ثمة رهن حيازي أو رسمي فإن الرهن ينقضي ويجب رد الشيء المرهون إلى الراهن، أو شطب قيد الرهن الرسمي في السجل العقاري[99].
ب- حقوق ودعاوى المدين:
إذا استحال تنفيذ الالتزام العقدي بسبب قوة قاهرة أو حادث فجائي ثم انقضى تطبيقا لأحكام الفصل 368 من ق.ل.ع. ، فإن على المدين في هذا الالتزام أن يتنازل لدائنه عن كل ما يترتب له من حقوق ودعاوى من قبل الأغيار، وعليه، فلو استحال مثلا تسليم الشيء للدائن بسبب هلاكه وكان هذا الشيء مؤمنا عليه لدى شركة التامين، أو كان هلاك الشيء بفعل الغير وترتب على هذا الغير تعويض الضرر الناجم عن الهلاك، فإن على المدين أن يتنازل عن حقه في التامين والتعويض[100].
ويستفاد هذا الحكم صراحة من مقتضيات الفصل 337 من ق.ل.ع. والتي تقضي بأنه"إذا انقضى الالتزام لاستحالة تنفيذه بغير خطأ المدين، فإن الحقوق والدعاوى المتعلقة بالشيء المستحق والعائدة للمدين تنتقل منه للدائن".
ج- تطبيق قواعد الإثراء بلا سبب مشروع:
على الرغم من أن هذه القاعدة مما يندرج في إطار المبادئ العامة الواجبة التطبيق ولو بدون نص قانوني، فقد ارتأى المشرع أن يقررها من خلال أحكام الفصل 338 من ق.ل.ع. والذي ينص على أنه"إذا كان عدم تنفيذ الالتزام راجعا إلى سبب خارج عن إرادة المتعاقدين وبدون أن يكون المدين في حالة مطل، برئت ذمة هذا الأخير، ولكن لا يكون له الحق في أن يطلب ما كان مستحقا على الطرف الآخر.
فإذا كان الطرف الآخر قد أدى فعلا التزامه، كان له الحق في استرداد ما أداه كلا أو جزءا بحسب الأحوال، باعتبار أنه غير مستحق"[101].
+ ثانيا: الاستحالة الجزئية والاستحالة المؤقتة:
أ- الاستحالة الجزئية:
إذا كانت القوة القاهرة قد أدت إلى استحالة الوفاء بالالتزام جزئيا، فلا ينقضي الالتزام ولا تبرأ ذمة المدين من التزامه جميعا، وإنما يلزم بالوفاء بما يكون صالحا لذلك، ويبقى على قدرها ما يقابلها من التزامات الدائن، وذلك إذا اختار الدائن الوفاء بالجزء الذي يمكن القيام به، إذ قد يرى أن الوفاء بهذا الجزء لا يتحقق به ما كان مقصودا من التعاقد أو أن لا نفع له فيه، على أن الأمر في هذا متروك لقاضي الموضوع، فيما يراه مما إذا كانت استحالة الوفاء بجزء من الالتزام تبرر انقضاء الالتزام كله، فيقضي بفسخ العقد جميعا إذا كان هذا العقد غير قابل للتجزئة، أو كان ما استحال الوفاء به هو الجزء الأهم في الالتزام[102]، أو يقضي بتنفيذ العقد في جزئه القابل للوفاء، إن رأى فيه نفعا للدائن، وهذا مع مراعاة نوع الالتزام من اعتباره أصليا أو تبعيا، وما يكون لأي منهما في كيان العقد، وحسبما يراه القاضي في كل حالة بذاتها، وفيما يحقق إرادة المتعاقدين التي تتضح من العقد أو تبين من تفسيره الصحيح بغير إهدار لتلك الإرادة.
غير انه إذا قام المدين بالوفاء بجزء من الالتزام، فإن للدائن أن ينقص ما يقابل الجزء الذي لم ينفذ، كما عليه أن يعوض المدين بقدر ما عاد عليه من الوفاء الجزئي[103].
وقد تنبه المشرع المغربي إلى هذه الحالة فنظمها من خلال مقتضيات الفصل 336 من ق.ل.ع. والتي تقضي"إذا كانت الاستحالة جزئية لم ينقض الالتزام إلا جزئيا، فإذا كان من طبيعة هذا الالتزام أن لا يقبل إلانقسام إلا مع ضرر للدائن، كان له الخيار بين أن يقبل الوفاء الجزئي وبين أن يفسخ الالتزام في مجموعه…".
ومن أهم التطبيقات الخاصة بالاستحالة الجزئية في التشريع المغربي نشير إلى حالة تتصل بنقل الأشياء، وهكذا فبعدما قرر المشرع في الفصل 451 من القانون التجاري أنه متى كان عدم تنفيذ عقد النقل أو التأخير فيه يرجع إلى قوة قاهرة أو حادث فجائي لا يد لأحد الطرفين فيه، أمكن للمرسل طلب فسخ العقد… نص في الفصل 454 من نفس القانون على ما يلي:" إذا توقف النقل بسبب حادث فجائي أو قوة قاهرة لا تنسب إلى أحد الأطراف، فلا يستحق الناقل الثمن إلا بالنسبة للمسافة المقطوعة إضافة لما قدمه من مصاريف وتسبيقات ضرورية".
وقد عاد المشرع المغربي ثانية، فطبق نفس الحكم بصدد نقل الأشخاص عندما قرر من خلال مقتضيات البند الثالث من الفصل 478 من القانون التجاري أنه:"إذا توقف السفر بسبب حادث فجائي أو قوة قاهرة تتعلق بوسيلة النقل أو بشخص المسافر، فلا يستحق ثمن النقل إلا بمقدار المسافة المقطوعة ودون تعويض من أي طرف"[104].
ب- الاستحالة المؤقتة:
يتبين مما سبق ذكره أن القوة القاهرة لا تحول دون الوفاء بالالتزام إلا إذا استحال على المدين إطلاقا القيام بما التزم به نهائيا، كما في هلاك الشيء محل الالتزام، وفي موت العامل.
ولكن قد تؤدي القوة القاهرة في الحيلولة دون الوفاء بالالتزام لمدة من الزمن سواء كانت طويلة أو قصيرة، وهذه هي الاستحالة المؤقتة، إذ لا يعفى فيها المدين من الوفاء بالتزامه وإنما يتراخى الوفاء حتى ينقضي أثرها[105].
ولكن قد يصدق هذا القول على كل حالات القوة القاهرة، إذ بوقوعها يستحيل تنفيذ الالتزام في غضون مدة من الزمن مهما طالت، فإنه بعد انقضائها يمكن تنفيذه، وإنما الأمر في هذا يرجع إلى نية المتعاقدين وما كان يهدف إليه الدائن من تنفيذ الالتزام، فإذا كان المتعاقدان قد قصدا إلى اعتبار العقد منقضيا بطول مدة استحالة الوفاء، فإن القوة القاهرة تعتبر نهائية، أما إذا كان شأن التأخير في الوفاء ثانويا، فلا ينقضي الالتزام.
والقوة القاهرة الوقتية وإن كانت تمنع من التنفيذ الفوري للالتزامات، إلا أنها تبقي على الرابطة العقدية بين المتعاقدين حتى يحل الأجل الذي يصبح فيه الوفاء ممكنا، كالإضراب الذي يعوق دون تسلم بضاعة، لا يضر تأخير هذا التسليم حتى زوال العائق، وكالحرب، فقد لا تعتبر حائلا مستديما دون الوفاء بالالتزام،
La guerre n’est un cas de force majeure que si elle répond aux indiquées, c’est-à-dire si elle a été imprévisible et si elle apporte un obstacle définitif et insurmontable à l’exécution de l’obligation[106].
وإنما يجب لاعتبار القوة القاهرة وقتية، أن لا تكون مستمرة بطبيعتها بل أن تكون ذات تأثير محدود كما في حالات التغييرات الجوية أو الطوارئ من فيضان، أو زلزال، فهي إذ تعوق التنفيذ مدة محددة فإنه يتعذر التثبت من أمدها الموقوت، فإذا فات الوقت دون الوفاء بسبب القوة القاهرة حتى أصبح الوفاء غير مجد في اعتبار الدائن، فلا تعتبر القوة القاهرة مؤقتة، كشراء سلعة لعرضها في معرض عام، أو إبان فترة محددة كموسم معين أو في حفل بذاته.
وللدائن الخيار بين الوفاء اللاحق بعد زوال القوة القاهرة، أو فسخ العقد، كما تبقى للقاضي سلطة تقدير ظروف الدعوى ومعرفة الجدوى من التنفيذ اللاحق، كما أن للمدين أن يطلب فسخ العقد إذا أثبت أنه كان يعول عند التعاقد على الفترة المحددة لوفائه بالتزامه، ويمكن للقاضي أن يجيب المدين إلى ما يطلبه من فسخ العقد على اعتبار أن القوة القاهرة نهائية.
وإذا اعتبرت القوة القاهرة مؤقتة، فإن المدين يقوم بما يلزم حسبما كان متفقا عليه، لأن تراخي التنفيذ لا يتناول العقد بأي تغيير فيما تضمنه من التزامات، فيجب أن يجري الوفاء به بحالته، مع ما يدخل في الاعتبار من تقدير مقتضيات الظروف الطارئة، وما يكون المدين قد تكلفه في سبيل الوفاء بالتزامه، وتدخل في هذا العداد المصاريف الإضافية التي اقتضاها العود إلى التنفيذ بعد وقفه، وفي هذا أيضا مقابل ما يكون المدين قد بذله من عناية تفوق المفروضة عليه، كإصلاح بعض الأشياء مما لحق بها من عطب بسبب التقلبات الجوية حتى لا يتأثر به باقيها، وهنا تطبق قواعد الفضالة[107].
وفي وضع آخر يقوم إلزام الدائن بمقابل التكاليف الإضافية على اعتبار أنه من واجبه أن يتخذ في تنفيذ الالتزام ما من شأنه تخفيف آثار القوة القاهرة، فيسترد المدين ما أنفقه، مادام ليس من خطأ في جانبه.
! الفقرة الثانية: واجبات كل من الدائن والمدين عند وقوع القوة القاهرة
+ أولا: واجبات المدين عند وقوع القوة القاهرة:
إذا استحال على المدين تنفيذ التزامه، فإنه يجب عليه لكي يعفى من المسؤولية كلية، أن يقوم من جانبه بما يقتضيه حسن النية في تنفيذ الالتزامات في العقود الملزمة للجانبين ومن هذا:
أ- إخطار الدائن:
فعلى المدين المبادرة بإخطار المتعاقد معه باستحالة التنفيذ، كي يستطيع هذا المتعاقد أن يحتاط لنفسه، واتخاذما يمكن من الوسائل للتخفيف من آثار القوة القاهرة وما يقع به من خسائر بسبب عدم تنفيذ الالتزام، وإذا لم يقم المدين بذلك، يكون مقصرا في هذا الالتزام الذي يفرضه القانون من وجوب تنفيذ العقد بطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية، فإذا كان قد اتفق مثلا رب العمل مع عامل يقيم في بلد بعيد على الحضور لاستيلام عمله ثم وقع لرب العمل بما لا يد له فيه ما يمنع من استخدامه، فعلى رب العمل أن يبادر بإخطاره وإلا ألزم بتعويضه كما يكون قد ألحقه من أضرار السفر ومصاريفه[108].
ب- العناية:
ومن موجبات التعاون في تنفيذ العقد، قيام المدين بكل ما في وسعه لتحاشي ضرر ما حدث من قوة قاهرة، أو لتخفيفه إلى أدنى حد. ففي الوديعة بغير أجر، يجب على المودع عنده أن يبذل من العناية في حفظ الشيء ما يبذله في حفظ ماله، وهذا ما يستنتج من خلال الفصل 791 من ق.ل.ع. ففي حالة حدوث حريق لا يعفى المودع عنده من المسؤولية، إلا إذا أثبت أنه رغم ما بذله من عناية لمنع خطر الحريق عن الشيء المودع، فإنه استحال عليه إنقاذه.
والشريك في المواشي يكون مسؤولا عما يصيب الماشية، إذا أهمل فيما كان يجب فعله لإخراجها من الحضيرة التي كانت فيها عند حدوث الحريق بها بسبب لا يد له فيه[109].
على أن ما يطالب به المدين من عناية في هذا الصدد، لا تعدو عناية الرجل المعتاد، فلا يكلف باتخاذ احتياطات استثنائية، ولا أكثر مما يقتضي إجرائها عادة، فإذا تعطل الطريق بقوة قاهرة، فلا تلزم مصلحة السكك الحديدية بأن تقوم ببيع البضائع لتجنب صاحبها ما قد يتعرض له من أضرار، وليس للعناية معيار معين، وإنما يختلف قدر العناية تبعا لظروف كل حالة على حدة، فإذا كانت تغطية العربات المكشوفة يستلزمها نوع البضائع، وتدعو إليه حالة الجو، كان ذلك مما يجب على الناقل من عناية، والأمر في هذا يخضع في تقديره لسلطة قاضي الموضوع بما يرى من ظروف الحال وطريقة التنفيذ، وإنه يكفي المدين أن يقيم الدليل على ما بذله من عناية الشخص المعتاد، وذلك إذا لم يكن المعيار في بذل العناية بنحو خاص وبقدر معين أراده المتعاقدان أو اقتضاه القانون[110].
ويتضمن واجب العناية من جانب المدين قيامه بما يحقق الغرض من التعاقد، فإذا كانت ثمة وسيلة أخرى لتنفيذ الالتزام وحتى ولو كانت هذه الوسائل ثانوية في أداء المطلوب، فإن على المدين أن لا يتوانى في اتخاذها، مادامت الظروف توجب ذلك، ويمكن أن تؤدي إلى المقصود وإنما يحد من هذا التصرف أن يكون متفقا على وسيلة بعينها، للوفاء بالالتزام.
على أن الأمر في هذا يخضع لما لقاضي الموضوع من سلطة تفسير العقود، وما له من حق في تعيين ما يجب اتباعه في الوفاء بالالتزام، وما إذا كان الإتفاق يشمل طريقة بعينها أو يحرم أخرى[111].
+ ثانيا: أثر القوة القاهرة بالنسبة إلى الدائن:
إذا كان المدين يتحلل من التزامه بسبب قيام القوة القاهرة فما هو مصير التزام المتعاقد الآخر، أيظل أم يزول؟
إن استحالة تنفيذ التزام المدين بفعل القوة القاهرة تعفيه من التزامه ويسقط تبعا لذلك التزام الدائن، فلا يؤدي للمدين شيئا في مقابل الالتزام الزائل، وإن كان قد دفع فله استرداد ما دفع وتكون تبعه الهلاك على المدين الذي استحال تنفيذ التزامه بسبب القوة القاهرة، وهذا ما عبر عنه الفصل 338 من ق.ل.ع. الذي ذكر أنه"إذا كان عدم تنفيذ الالتزام راجعا إلى سبب خارج عن إرادة المتعاقدين، وبدون أن يكون المدين في حالة مطل، برئت ذمة هذا الأخير، ولكن لا يكون له الحق في أن يطلب أداء ما كان مستحقا على الطرف الآخر.
فإذا كان الطرف الآخر قد أدى فعلا التزامه، كان له الحق في استرداد ما أداه كلا أو جزء بحسب الأحوال باعتبار أنه غير مستحق".
ويترتب على سقوط الالتزام المستحيل والالتزام المقابل له أن ينفسخ العقد من تلقاء نفسه أي بقوة القانون، لذا سنتناول اتباعا تبعة الهلاك ثم الفسخ كأثرين هامين على نشوء حالة القوة القاهرة.
أ- تبعة الهلاك يتحملها المدين:
إن هذه القاعدة تستند على نظرية السبب بالمفهوم التقليدي، فالسبب، هو عنصر في نشوء الالتزام وعنصر في نفاذه، فإذا تخلف وقت نشوء الالتزام كان الجزاء هو البطلان، وإن تخلف وقت تنفيذه كان الجزاء هو الفسخ، ففي العقد التبادلي يكون تنفيذ كل من الالتزامين المتقابلين هو تنفيذ الالتزام الآخر، فإذا كان المكتري في عقد الكراء قد التزم بدفع السومة فذلك ابتغاء أن ينفذ المكري التزامه بمنح الانتفاع من العين المكراة، فلو هلكت العين بقوة قاهرة، واستحال بذلك على المكري أن ينفذ التزامه فإنه يبرأ من التزامه، وبما أن تنفيذ المكري لالتزامه هو سبب لالتزام المكتري، فإنه يترتب على إعفاء المكري من التزامه للقوة القاهرة، أن يبرأ المكتري من التزامه لتخلف سبب الالتزام، فإذا انقضى عقد الكراء للإستحالة فإن المكتري لا يعود ملتزما بدفع وجيبة الكراء لأن التزامه ينشأ من العقد ويبقى ببقائه، فإذا انفسخ العقد يزول التزام المكتري، وعلى ذلك يكون الهلاك على المكري، وهو هنا المدين الذي استحال تنفيذ التزامه بقوة قاهرة.
وفي عقد البيع يبرأ البائع من التزامه بالتسليم بسبب الهلاك بقوة قاهرة، أما المشتري فلا يلزم بدفع الثمن، وإن كان قد دفعه فله أن يسترده، وبذلك يكون الهلاك على البائع[112].
ولكن لا يبرأ المتعاقد من التزامه رغم سقوط الالتزام المقابل له بسبب القوة القاهرة، وذلك إذا كان في حالة مطل أي إذا رفض دون سبب معتبرا قانونا، تنفيذ التزامه واستيفاء الأداء المعروض عليه حسب الفصل 270 من ق.ل.ع. ثم هلك الشيء فعندها تقع على الدائـن تبعة الهلاك لأنه يكون مقصرا وهذا ما عبر عنه الفصل 268 من ق.ل.ع. الذي نص على أنه"لا محل لأي تعويض إذا ثبت المدين أن عدم الوفاء بالالتزام أو التأخير فيه ناشئ عن سبب لا يمكن أن يعزى إليه كالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي أو مطل الدائن".
ب- فسخ العقد بقوة القانون: De Plein droit
ينص الفصل 335 على أنه"ينقضي الالتزام إذا نشأ ثم أصبح محله مستحيلا استحالة طبيعية أو قانونية بغير فعل المدين أو خطئه وقبل أن يصير في حالة مطل".
فالاستحالة تقضي على الالتزام سواء كانت طبيعة أو قانونية وينفسخ العقد من تلقاء نفسه، دون تدخل من طرف القاضي، ويعتبر العقد كان لم يكن، وبعاد المتعاقدان إلى ما كانا عليه قبل التعاقد، وإذا استحال ذلك جاز الحكم بالتعويض على من يثبت خطأ في جانبه وهذا فيما عدا ما يتعلق بحق الغير، فإنه يبقى دون أن يتأثر بالفسخ[113].
ولكن القانون يمنح الدائن الخيار بين فسخ العقد في مجموعة أو قبول الوفاء الجزئي إذا كان أثر القوة القاهرة جزئيا وكان الالتزام لا يقبل الانقسام إلا مع إلحاق ضرر للدائن، وهذا ما عبر عنه الفصل 336 ق.ل.ع. السابق ذكره.
وينبغي تدخل القاضي إذا كانت القوة القاهرة مؤقتة كما لو منع المرض العامل عن القيام بعمله ففي هذه الحالة يتوقف تنفيذ الالتزام دون أن ينفسخ العقد ويعود العامل إلى عمله بعهد تماثله للشفاء.
ومسألة تقدير ما إذا كان هذا التوقف يسمح أو يجيز لرب العمل إنهاء العقد وتسريح العامل فهذا الأمر يخضع للسلطة التقديرية للقاضي الذي عليه تحديد وقف العقد أو فسخه نهائيا[114].
! الفقرة الثالثة: أثر القوة القاهرة على المسؤولية التقصيرية
لا يكفي لقيام المسؤولية التقصيرية، أن يكون هنالك خطأ من جهة، وضرر من جهة أخرى، بل، لابد من أن يكون الخطأ هو الذي أدى إلى وقوع الضرر، أو بعبارة أخرى، لابد من قيام الرابطة السببية بين الخطأ والضرر.
على أن الخطأ، يعتبر بلا ريب، أهم الأركان الثلاثة التي تقوم عليها المسؤولية التقصيرية في التشريع الحديث، إذ، بالرغم مما ثار حوله من خلاف فقهي بين النزعة الذاتية المناصرة له، وبين النزعة المادية الموضوعية المناصرة لنظرية تحمل تبعة المخاطر Théorie des risques نرى أن النصوص القانونية المختلفة تجعل الخطأ أساسا للمسؤولية المدنية.
ويترتب على ما تقدم، أن المسؤولية التقصيرية إذا كانت تتوافر في نطاق العمل الشخصي، باستجماعها الأركان الثلاثة: الخطأ، والضرر، والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر، كان معنى ذلك أنها تنتفي بانتفاء الرابطة السببية بين الخطأ والضرر نتيجة قيام السبب الأجنبي، كالقوة القاهرة[115].
وهذا ما نص عليه المشرع المغربي من خلال الفصل 95:"لا محل للمسؤولية المدنية في حالة الدفاع الشرعي، أو إذا كان الضرر قد نتج عن حدث فجائي أو قوة قاهرة لم يسبقها أو يصطحبها فعل يؤاخذ به المدعى عليه…".
ومن الواضح أن البحث في أثر القوة القاهرة يطرح من المسائل ما يستوجب التفريق بين أوضاع أربعة جلاء لها:
– إذا كانت القوة القاهرة هي وحدها المصدر المنتج للحادث، وكانت عناصرها كلها قد تكاملت، فإنها تستغرق كل سبب للضرر ولا تترك مجالا لأي عامل غيرها يرتبط به فتعفي بالتالي من كل المسؤولية[116].
– إذا كان عامل القوة القاهرة قد وقع، فأدى وقوعه إلى تقويض شيء أو إسقاطه، فامتد أثره الضار إلى الغير بفعل الشيء الذي أسقطه أو قوضه، ولم يكن لهذه الواقعة الضارة أن تحصل لولا عيب في الشيء تركه صاحبه فيه فجعل به ذلك العامل يحدث أثره، فإنه لا يبقى من محل لاعتماد القوة القاهرة سببا لإعفاء من التبعة عن فعل الشيء ذاته[117]، أو تكون واقعة القوة القاهرة قد حصلت، ويكون المدعى عليه من جانبه قد أتى قبلها خطأ جعلها تحدث الضرر لزاما، أو وفر لها فرصة إحداثه حتما، ففي هذا الوضع الخاص لا يمكن تجاهل خطأ المدعى عليه عند تحديد أسباب الحادث الضار.
– كما أنه إذا كان عامل القوة القاهرة قد حصل، وأنزل بشيء للمدعى عليه ضررا، كان محددا بمداه، وكان من المقدر أن يمتد إلى الغير إذا لم يمنع المدعى عليه امتداده بمبادرة منه كانت متيسرة من غير مخاطر فلم يفعل، ولم يكن للشخص العاقل أن يعتمد هذا الموقف السلبي في الظروف ذاتها، فيكون من المبرر للقاضي أن يدخل في الحساب هذا السلوك فيرد إليه النتائج التي تزيد عن المدى الذي كان من المتصور أن يتوقف عنده الضرر لو سارع المدعى عليه إلى المبادرة التي تجب، فإن حصل حريق في شيء للمدعى عليه بفعل قوة قاهرة وكان أثره محدودا وقت حصوله، وكان من المتحسب أن يتجاوز دائرة الشيء إلى ملك الغير إذا لم يسارع المدعى عليه إلى التدبير الذي يحول دون تجاوزه هذه الدائرة، وكان قادرا على التدبير وحصر الحريق، فأحجم عنه وهو على بينة منه، وتمادى موقفه السلبي هذا حتى اتسع الضرر شاملا الغير، فإنه لا يكون للمدعى عليه في هذه الحالة أن يحتج بحالة القوة القاهرة[118].
وأخيرا إذا وقع عامل طبيعي لم يكن بالإمكان توقعه ولا تفاديه، ولم يكن للمدعى عليه دخل في وقوعه أو تتابع حلقاته، ولكنه من جانبه قد ارتكب خطأ التقى مع ذلك العامل في الظرف ذاته، وكان لكل منهما تأثيره السببي في الحادث الذي حصل، فإن حصوله بفعل ذاك الالتقاء بينها، فإنه لا يصح واقعا اعتبار العامل الطبيعي السبب الوحيد للحادث، ولا عد خطأ المدعى عليه السبب المنفرد المولد له، فكان الحديث حصيلة الخطأ والعامل الطبيعي اللذين اجتمعا معا بالصورة التي جعلت الحادث يحصل، وقد كان لكل منهما كيانه المستقل وأثره من غير أن يستغرق أحدهما الآخر، فإن هذا الوضع يقود إلى نتيجة لازمة هي: أنه لا يمكن إعفاء المدعى عليه من كل التبعة بعد الخطأ الذي ثبت عليه، وإنما المسألة التي تبقى مطروحة هي معرفة ما إذا كان منه المبرر قانونا إعفاء المدعى عليه ذاته من بعض التبعة بعد الذي ثبت من عامل طبيعي كان بدوره مساهما في إحداث الضرر[119].
وقد اتخذ الاجتهاد الفرنسي من هذه المسألة وجهة لم يستمر عليها، وهي الوجهة القائلة بالإعفاء الجزئي تبعا للسببية المجزأة، وقد عدلت محكمة النقض الفرنسية، عن هذه الوجهة، معتمدة مبدأ الالتزام بالتعويض كله، وما ينطوي عليه من هاجس توفير الضمانة للمتضرر بتحميل المدعى عليه عبء الضرر كله، وإن كان الفعل الذي يسأل عنه قد شارك مع عامل غيره في الحادث، ولم يكن له وحده أن يحدثه، فكان الحرص على المبدأ في الاجتهاد الذي تبناه قد جعل نظرية "السببية المجزأة" تنحصر في هذا الاجتهاد.
والواقع هو أنه إذا كان الضرر قد حصل بحكم اجتماع فعل المدعى عليه مع عامل القوة القاهرة، وكان لكل منهما أثره في حصوله من غير أن يغطي أحدهما الآخر، فإن استخراج النتيجة التي يفترضها هذا الوضع الخاص يستلزم تجاهل مبدأ"الالتزام بالكل" على ما أشار إليه البعض[120].
ومع تجاهل هذا المبدأ المكرس اجتهادا، ليس من غير المعقول أن تؤدي النتيجة المستخرجة إلى توزيع للمسؤولية وبالأحرى إلى التخفيف من الأعباء عن المدعى عليه[121].
وبهذا الصدد يقتضي التوقف عند قرار أصدرته الغرفة التجارية لمحكمة النقض الفرنسية بتاريخ 14/02/73، وأقرت فيه مبدأ التخفيف من التبعة لعلة أن عاصفة طرأت فساهمت جزئيا في الحادث إلى جانب تصرف خاطئ من المدعى عليه، فيكون ما أقرته منطويا على قبول بفكرة "السببية المجزأة"، وعلى إعفاء جزئي من المسؤولية، والقضية الصادر فيها القرار تتعلق بزورق انقطعت حباله بفعل الأهواء التي هبت فاندفع مصطدما بمركب وملحقا الضرر به.
فأوضحت المحكمة العليا أنه يصح الاعتداد بالعاصفة سببا للتخفيف من المسؤولية، وأنه يمكن أن تشارك هذه العاصفة في الحادث جزئيا، دون أن تكون متصفة بالقوة القاهرة[122].
ويجب التوضيح بأن المحكمة لم تثبت على وجه التصريح أن تلك الأهواء كانت مظهرا لقوة قاهرة، تكاملت شروطها، وإنما اعتبرتها عاملا مشاركا في التسبب بالحادث بالوجه الذي يستتبع التخفيف من العبء عن حارس الناقلة البحرية.
وفي قضايا السير وحوادثه اتخذ الاجتهاد بعض الوجهات في إبراز خصائص القوة القاهرة، فكان فيما اتخذه، ما يوحي بأن التحديد الدقيق المتوازن لكل هذه الخصائص ليس يسيرا في التطبيق كل مرة[123].
ويرى "تانك Tanc" أن حوادث السير تستوجب معالجة خاصة، وأنه لا محل لإعفاء الحارس من التبعة لعلة السبب الأجنبي[124]، وستارك (Stark) يذهب من ناحيته إلى الوجهة ذاتها مدافعا عنها، فيلاحظ أن في سير السيارات ومقتضياته ما يجعل الحوادث متصلة بنشاط السائق، فلا يمكن اعتبارها معفية من التبعة، شأن القوة القاهرة، لأن مخاطر الطريق ليست بمصدرها خارجية، لو تحققت، فحركة السير تفترض سائقا يتولى المركبة، وسيارة تسير، وطريقا تكون محلا للسير، وبالتالي لا يكون الحادث الذي يقع في نطاق هذه الحركة على الطريق التي تحصل فيها، مما يجري عليه معيار القوة القاهرة، لأنه ليس بذاته عاملا خارجيا، لا بالنسبة للسيارة، وإن ظهر فيها عيب لم يكن متوقعا، حتى بالنسبة إلى السائق، وإن أصابه عارض مرضي أو عصبي، ولا بالنسبة إلى الطريق، وإن كان فيها خلل يتبدى من عوارض السير[125].
والذي يثير الانتباه هو أن محكمة النقض الفرنسية ردت إلى القوة القاهرة حادث انزلاق سيارة بفعل تناثر بقع الزيت على الطريق في وقت لم يكن تناثرها متوقعا[126]، ثم عادت المحكمة ذاتها تنفي عن انتشار مثل هذه البقع على الطريق صفة القوة القاهرة[127].
يظهر أن أنصار مبدأ "الالتزام بالكل"، يرون في هذا المبدأ الحجة التي تبعث على استبعاد نظرية"السببية المجزأة"، بالرغم من أن استبعادها يفضي إلى نتيجة غير عادلة تتجلى، بتحميل المدعى عليه كل أعباء الحادث من غير أن يكون له أن يرجع على أحد ببعضها، بعد أن ألزم بها، رغم أنه لم ينفرد في التسبب بها، وقد شارك العامل الطبيعي في الواقعة الضارة التي أحدثت.
في حين أن التحليل المنطقي للرابطة السببية يوفر التفسير المعقول للوجهة القائلة"بالسببية المجرأة"، وفيما تجيزه من توزيع للتبعة، فالشخص لا يسأل عن الضرر إلا بمعدل ما ساهم به في إحداثه، فإن كان مرد الضرر إلى فعله، وإلى عامل طبيعي التقى معه من غير أن يستغرق أحدهما الآخر، وكان لكل منهما مظهره المستقل، وأثره، فإن النتيجة اللازمة هي في توزيع المسؤولية، فلا تكون على المدعى عليه كاملة، ولا يكون إعفاؤه منها شاملا، مما يجيز الانتقاص من التعويض[128].
أما في المغرب، فالرأي الراجح، يتمثل في أن التعويض لا يستحق إلا عن الضرر المباشر فقط، وهذا الرأي هو الذي سار عليه المشرع المغري وعبر عنه في الفصول 77 و78 و98 من ق.ل.ع. المتعلق بالمسؤولية، وأكده في الفصل 264 من ق.ل.ع. المتعلق بآثار الالتزام[129].
وإذا رجعنا إلى الفقه الإسلامي نجده أيضا يشترط لإصلاح الضرر، أن يكون هذا الأخير ناتجا عن الجرم أي يشترط وجود علاقة سببية مباشرة بين الخطأ والضرر، فيسأل الفاعل عن الأضرار المباشرة نتيجة خطئه[130].
يتبين من خلال ما سبق ذكره، أن قيام المسؤولية التقصيرية يتطلب توافر الأركان الثلاثة التي تقوم عليها المسؤولية المدنية بصفة عامة وهي: الخطأ، والضرر، والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر. فإذا أثبت المدعي أن الضرر الذي أصابه يرجع لخطأ المدعى عليه (المسؤول) قامت مسؤولية هذا الأخير، إلا أن المسؤولية تنتفي إذا أثبت المدعى عليه أن الضرر الذي حدث للمدعي لا يعزى إليه، بل يعزى إلى سبب آخر أجنبي عنه كالقوة القاهرة.
هذه هي القاعدة العامة، إلا أنه وفي بعض الحالات الاستثنائية ارتأى المشرع تحميل المدعى عليه المسؤولية حتى ولو أثبت وجود قوة قاهرة كانت السبب فيما حصل للمدعى من ضرر، وهذا ما يشكل استثناء لهذه القاعدة، وهو ما سنتعرض إليه في المبحث الثاني من هذا الفصل.
– كقاعدة عامة تنتفي المسؤولية إذا كان الضرر راجعا لقوة قاهرة أو حادث فجائي، كان السبب في قطع العلاقة السببية تطبيقا للفصلين 95 و268 من ق.ل.ع. المغربي، لكن هذا الأصل أو هذه القاعدة العامة تعرف مجموعة من الاستثناءات تقضي بعدم تحلل المدعى عليه من المسؤولية، رغم إثباته أن الضرر كان بفعل قوة قاهرة، وتتمثل أهم هذه الستثناءات في مسؤولية حارس الشيء، (الفقرة الأولى) ومسؤولية المؤاجر عن حوادث الشغل التي تصيب أجراءه (الفقرة الثانية).
! الفقرة الأولى: مسؤولية حارس الشيء:
– تعني المسؤولية عن الأشياء، أن الضرر الذي أصاب الضحية يعزى إلى تدخل شيء ما، سواء كان تدخلا مباشرا بفعل الشيء أم بتوسط إنسان، وسواء وصف الشيء بأنه من الأشياء الخطيرة أم لم يوصف[131]، ويقصد بالأشياء المواد الجامدة غير الحية شريطة ألا يكون قد ورد بشأنها نص خاص (مسؤولية حارس البناء)، أما حراسة الشيء فتعني السيطرة الفعلية في رقابة الشيء وتوجيهه والتصرف فيه[132]، ومعنى ذلك أن حارس الشيء هو الشخص الذي له على الشيء سلطة وسيطرة فعلية والأصل أن مالك الشيء هو حارسه ولا يعتبر التابع مبدئيا حارسا للشيء.
وأساس هذه المسؤولية خطأ مفترض أمثلته الحاجات الاجتماعية الملحة التي خلفها التطور الاقتصادي وتزايد استعمال الآلات وما صاحب ذلك من تزايد الأخطار والأضرار، كان يصعب على المضرور في أغلبها إقامة الدليل على خطأ الحارس ومن تم الحصول على التعويض، وهذا ما يبرز خاصة في حوادث السير، حيث يصعب على المضرور إثبات خطأ السائق، فقد كان المضرور في الماضي وإلى أواخر القرن 19، لا يستحق تعويضا إلا بإثباته خطأ حارس الشيء، الأمر الذي يعني في خضم عصر الآلة الذي نعيشه ضياع حقوقه وعدم استحقاقه لأي تعويض لصعوبة إثبات خطأ الحرس[133]، وهذا الوضع هو الذي دفع بالفقه الفرنسي خلال القرن 19 إلى محاولة تخفيف عبء الإثبات عن المضرور، وذلك من خلال توسعه في تفسير الفصل 1384 من القانون المدني الفرنسي، واستغنائه عن تطبيق الفصل 1382 من نفس القانون، فقد كان القانون المدني الفرنسي يشترط لحصول المضرور على التعويض أن يثبت خطأ الحارس، كما كان يقيم تمييزا بين فعل الإنسان وفعل الشيء، ولا يحمل الحارس المسؤولية إلا إذا كان الضرر ناتجا عن فعل الإنسان، إلا أنه وعلى ضوء التفسير الفقهي الجديد للفصل 1384 من القانون المدني الفرنسي ثم من خلاله الاستغناء عن تطبيق الفصل 1382 من نفس القانون. ذلك أن التمييز بين فعل الشيء وفعل الإنسان لم يعد قائما أمام محكمة النقض لأن الإنسان في إطار هذه المسؤولية لا يمكن أن يحدث ضررا بدون شيء مادي[134]، بل الأكثر من هذا يرى بعض الفقه أمثال "سافاتييه"[135]، أنه بالإمكان إقامة مسؤولية سائق السيارة حتى بالاستغناء عن الفصل 1384 الذي يتطلب لإقامة مسؤولية السائق صدور خطأ عنه، ذلك أن مجرد الإهمال وعدم الاحتياط يقيم مسؤولية عن الأضرار الحاصلة بفعل إهماله وعدم احتياطه.
ودائما في سياق التفسير الجديد للفصل 1384 من القانون المدني الفرنسي، فقد تم استبعاد التمييز بين الأشياء الخطيرة التي تستلزم حراسة أشد، والأشياء الضارة التي تستلزم مجرد حراسة بسيطة، فهذا التمييز لم يعد مقبولا من الناحية الواقعية، فالدراجة تعتبر خطيرة جدا إذا كانت تسير بسرعة في منحدر وغير ملتزمة ليمينها، ولا تعتبر خطيرة إذا كانت تسير بسرعة منضبطة وملتزمة ليمينها، وبذلك يكون التفسير الجديد قد ألقى بنظرية تحمل المخاطر جانبا، وأقام المسؤولية على عدم الحيطة، والذي يؤول قاضي الموضوع حسب الظروف المحيطة بكل قضية وملابساتها، وتبعا لهذا التفسير الجديد يمكن مساءلة صاحب المقهى عن إسفنج به مواد سامة متفجرة، وضع فوق طاولة في المقهى، عن الأضرار التي حدثت نتيجة انفجار هذا الاسفنج وتسرب المواد السامة[136].
نخلص من كل ما سبق إلى القول بأن الفقه الفرنسي قد توسع في تفسير الفصل 1384 من القانون المدني الفرنسي المطابق للفصل 88 من ق.ل.ع. المغربي عندما اعتبر أن الفقرة الأولى من النص التي تنص على أنه"يسأل الشخص كذلك عن الأشياء التي في حراسته"، قرينة عامة على خطأ كل شخص يحرس شيئا واعتبرها بالتالي أساسا للمسؤولية عن فعل الأشياء غير الحية، ومن ثم اعتبر الفقه أن النص المذكور يعفي المضرور من إثبات خطأ حارس الشيء الذي أحدث الضرر باعتبار أن مسؤولية الحارس تقوم على خطأ مفترض من جانبه في رقابة الشيء، وقد تكرس هذا الاتجاه من خلال تبني القضاء الفرنسي له[137].
بل إن القضاء الفرنسي زاد من حماية المضرور عندما اعتبر أن الخطأ المفترض من جانب حارس الشيء هو خطأ مفترض لا يقبل إثبات العكس، بحيث لا يجوز للحارس أن يدفع عنه المسؤولية إلا بإثبات أن الضرر يرجع لسبب أجنبي وأن ينفي عنه الخطأ وبالرجوع إلى القانون المغربي نجد أن الفصل 88 من ق.ل.ع. ينص على أن كل شخص يسأل عن الضرر الحاصل من الأشياء التي في حراسته إذا تبين أن هذه الأشياء هي السبب المباشر للضرر، وذاك ما لم يثبت:
– أنه فعل ما كان ضروريا لمنع الضرر.
– وأن الضرر راجع لحادث فجائي أو قوة قاهرة أو لخطأ المتضرر.
بداية نشير إلى أن المشرع المغربي لم يورد أساسا لهذه المسؤولية تاركا هذه المهمة للفقه، وقد استقر هذا الأخير على تعريف أساس المسؤولية بأنه:"السبب الذي من أجله وضع المشرع عبء تعويض الضرر الحاصل للمتضرر على عاتق شخص معين"[138]. وقد اختلف الفقه في تحديد أساس المسؤولية عن الأشياء، فردها البعض إلى نظرية تحمل التبعية في حين ردها البعض الآخر إلى نظرية الخطأ المفترض، وبالرجوع إلى الاجتهاد القضائي المغربي نجده يتأرجح بين النظريتين، وهكذا قضى المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 31/12/1975 "وحيث أنه طبقا لمقتضيات الفصل 88 فإن المسؤولية الناتجة عن الأشياء غير الحية تنشأ عن خطا مفترض في حراسة الشيء الذي تسبب في حدوث الضرر"[139].
وفي قرار آخر صدر عن المجلس الأعلى بتاريخ 15/6/1966 جاء فيه:"لا يمكن اعتبار ما يصدر عن المصاب بالجنون والقاصر في سن الطفولة خطأ بمعنى الفصلين 78 و 88 من ق.ل.ع. لكونهما في حالة لا يصح معها التكليف، فالضرر الحاصل لهما من الشيء المجعول في حراسة الغير يجب أن يتحمله الحارس من جملة المخاطر التي يكون مسؤولا عنها طبقا للفصل 88 من ق.ل.ع"[140].
يتبين أنه ينبغي لقيام مسؤولية حارس الشيء توافر ثلاث عناصر وهي: الشيء، والحراسة، وتسبب الشيء في الضرر. والملاحظ أن المشرع المغربي لم يعط تعريفا للشيء مما كان له انعكاس سلبي على اجتهادات المحاكم، فهناك من الاجتهادات القضائية من اعتبرت بأن عبارة- الشيء- تشمل الأشياء المنقولة وغير المنقولة، ومن هذه الاجتهادات قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 1/7 / 1952 الذي جاء فيه:"حيث أن الفصل 88 من ق.ل.ع. نص على أن كل حارس مسؤول عن الأضرار الحاصلة من الأشياء الموجودة في حراسته، فإن النص المذكور ينطبق على العقار والمنقول"[141]. ومنها من اعتبر أن عبارة الشيء تقتصر على المنقول دون العقار، وهكذا قضت استئنافية الرباط في قرارها الصادر بتاريـــــخ 12/11/1936:"إن مسؤولية عمل الأشياء المرتكزة على قرينة الخطأ لمن له الحراسة لا تتعلق إلا بالأشياء المنقولة، ولا يمكن أن تمتد إلى العقارات"[142].
وبالرجوع إلى الفقه نجده قد عرف الشيء الوارد في الفصل 88 من ق.ل.ع. أنه:"كل شيء مادي غير حي، شرط ألا يكون قد ورد بشأنه نص خاص"[143]. أما الحراسة فقد عرفها الاجتهاد القضائي المغربي بأن حارس الشيء"هو الشخص الذي له على الشيء سلطات الاستعمال والإدارة والمراقبة"[144]. والأصل أن تكون الحراسة للمالك وبالتالي يكون مسؤولا عن الأضرار التي تسبب فيها الشيء الذي في ملكيته وحراسته، إلا إذا أثبت انتقال هذه الحراسة للغير أو إذا فقد حراسته للشيء بسبب سرقته مثلا، وذلك لتخلف عنصر الحراسة، وفي هذا الصدد قرر المجلس الأعلى مسؤولية مالك السيارة الذي تسبب في إحدى الحوادث لوجوده وقت الحادثة مع تابعه الذي يقود السيارة واعتبره مسؤولا كحارس الشيء باعتبار أن هذا الشيء يظل خاضعا لسلطته في الرقابة والتوجيه[145].
ولابد كذلك من توافر علاقة سببية بين خطأ الحارس والضرر الذي لحق المضرور، وهذا ما يقتضي أن يكون هذا الشيء قد تدخل تدخلا إيجابيا فتسبب في إحداث الضرر، والتدخل الإيجابي لا يعني أن يكون هذا الشيء في حركة فقد يكون الشيء ساكنا، ومع ذلك يتسبب في الضرر، وذلك كالسيارة التي يوقفها صاحبها ليلا في مكان معيب ودون إنارة الأضواء ليتمكن الغير من رؤيتها فيحدث أن يرتطم بها أحد المارة فيصاب بجروح، كما أن التدخل الإيجابي لا يتطلب بالضرورة حصول احتكاك بين الشيء والمضرور، وفي هذا الصدد قضى المجلس الأعلى في إحدى قراراته الصادرة بتاريـــــــــخ 19/3/1991:"حيث أن الضحية كانت تسير فوق دابتها ملتزمة الجانب الأيمن من الرصيف وأنها سقطت أرضا بسبب فزع الدابة من السيارة التي كانت آتية من جهة الخلف، وبالتالي فإن الضحية لم ترتكب ما يمكن أن يعزى إليها من خطأ"[146]. وفي نفس الاتجاه قضت ابتدائية الرباط في 22/6/1956أنه:"إذا كان الفصل 88 من ق.ل.ع. لم يشترط مادية الاتصال لكنه يوجب أن يكون الشيء قد أسهم في إحداث الضرر، أي أن تكون العلاقة السببية بين الأفعال المدعى بها والضرر النهائي قد كانت الشرط الأساسي"[147]. كما قضت ابتدائية البيضاء في حكمها الصادر في 20/11/1961 على أنه:"ليس على المتضرر من الشيء إلا أن يقيم الدليل على العلاقة السببية بين الفعل والضرر المدعى به"[148]. ونتساءل الآن عن كيفية تفسير القضاء لشروط دفع المسؤولية عن حارس الشيء؟
ينص الفصل 88 من ق.ل.ع. في فقرته الثانية على أن:"الحارس لدفع المسؤولية عنه يجب أن يثبت أنه فعل ما كان ضروريا لمنع الضرر وأن الضرر يرجع إما لحادث فجائي أو لقوة قاهرة أو لخطأ المتضرر". فهل الحارس ملزم بإثبات الأمرين معا لدفع المسؤولية عنه أم أن أحد الشرطين يكفي لدفع المسؤولية؟ فعلى الصعيد الفقهي نجد بعض الفقه أمــــــثال "د.سليمان مرقس"يرى أن المشرع عندما عرض لأسباب دفع المسؤولية إنما ترك الحرية للحارس كي يختار أحد الأمرين لدفع المسؤولية عنه، إما السبب الأول أو الثاني مستدلا على ذلك بأن حرف العطف"ET" وضع بدل حرف "OU" في بداية الفقرة الثاني نتيجة خطأ مادي غير مقصود (أي أن حرف الواو وضع بدل حرف أو) وأن المقصود هو الاكتفاء بأحد الأمرين لدفع المسؤولية:إثبات فعل ما كان ضروريا لمنع الضرر، أو إثبات السبب الأجنبي، فيكون القانون المغربي- في رأيه- متماشيا مع زمرة التشريعات التي تقيم المسؤولية عن الأشياء على قرينة الخطأ القابلة لإثبات العكس[149]. في حين يرى بعض الفقهاء[150] بأن ما يقوله "د.سليمان مرقس" يبدو محل نظر، ذلك أن صيغة المادة 88 سبق أن تضمنها حرفيا القانون التونسي(المادة 96 من قانون 1906) ثم أعيدت في ق.ل.ع. لمنطقة طنجة سابقا (المادة 1362) فمن المستبعد أن يتكرر هذا الخطأ المادي في ثلاث تشريعات متلاحقة دون أن يثير انتباه القضاء وفضول الفقه.
وعلى الصعيد القضائي يمكن التمييز في هذا الإطار بين مرحلتين:
أ-مرحلة ما قبل تأسيس المجلس الأعلى:
في هذه المرحلة كان الاجتهاد القضائي المغربي يعفي الحارس من المسؤولية بمجرد إثباته أنه قام بما يلزم لتفادي الضرر أو أن الضرر يرجع إلى قوة قاهرة أو لحادث فجائي أو لخطأ المتضرر، بمعنى أنه كان يعفي حارس الشيء من المسؤولية بمجرد إثبات هذا الأخير لأحد الأمرين المنصوص عليهما في الفصل 88 من ق.ل.ع. لدفع المسؤولية وهكذا فإن محكمة الاستئناف بالرباط قضت"بأن الحكم الجنحي القاضي ببراءة سائق الشاحنة من تهمة الجروح غير العمدية يثبت أنه فعل ما كان ضروريا لتفادي الضرر"[151]. كما أن نفس المحكمة قضت في نازلة أخرى وقع فيها الحكم جنحيا ببراءة المتهم من القتل الخطأ وعدم السيطرة على القيادة بإدانته من أجل السرعة المفرطة لكون السبب الوحيد في حدوث الضرر هو إهمال الضحية وأن الإفراط في السرعة، رغم ثبوته، ليست له علاقة سببية بالحادث، وانطلاقا من هذا الحكم الجنحي عللت المحكمة المدنية حكمها بما يلي:"حيث أن الخطأ المستغرق الصادر من الضحية وانتفاء خطأ حارس السيارة قد ثبت قانونيا فإن القاضي المدني يعلل البحث بعد ذلك عما إذا كانت قرينة المسؤولية المقررة في الفصل 88 من ق.ل.ع. ليجعلها على الحارس لأن تحقيقات القاضي الجنائي النهائية التي أثبتت أن الضرر مصدره سبب أجنبي لا يعزى للحارس تعفي من القرينة القانونية للمسؤولية"[152].
كما قضت استئنافية الرباط بأن قرينة الخطأ المنصوص عليها في الفصل 88 من ق.ل.ع. لا يمكن التمسك بها إزاء حارس السيارة بسبب أشخاص طلبوا منه نقلهم فيها بصورة مجانية لأن هؤلاء الأشخاص يعتبرون أنهم قد ارتضوا التعرض للمخاطر التي يمكن أن ترافق اشتاركهم في استعمال السيارة، ولا يستطيعون مطالبة الحارس بالتعويض عما يصيبهم من أضرار إلا إذا أثبتوا أنه ارتكب خطأ يسأل عنه وفقا للفصلين 77 و78 من ق.ل.ع."[153]. ودائما في نفس السياق قضت استئنافية البيضاء:"بأن قرينة المسؤولية المنصوص عليها في الفصل 88 من ق.ل.ع. تتعلق بالأشياء المنقولة وغير المنقولة التي تقع تحت الحراسة، وعندما يكون الحريق الذي نشب في طاحونة الشعير قد امتد بفعل الهواء إلى آلة حاصدة أو- دراسة- يلتزم حارس الطاحونة بإصلاح الضرر الحاصل ولا يسعه التحلل منها إلا بإثباته حالة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي، ولكن حريق الطاحونة لا يشكل أيا من هاتين الحالتين"[154]. والملاحظ هنا أن المحكمة المذكورة لم تعتبر الرياح من ضمن حالات القوة القاهرة رغم أنها في الواقع تشكل قوة قاهرة.
ب- مرحلة ما بعد تأسيس المجلس الأعلى:
استلزم المجلس الأعلى لدفع المسؤولية عن الحارس ضرورة توافر الشرطين المنصوص عليهما في الفصل 88 من ق.ل.ع. كما خول للمصاب المنقول بالمجان حق الاستفادة من الفصل 88 حيث قضى المجلس الأعلى في هذا المجال بأنه:"سواء كان النقل مجانا أو بعوض، فإن صاحب السيارة يبقى مسؤولا طبقا للفصل 88 من ق.ل.ع. مادام لم يثبت إعفاءه من المسؤولية"[155].
وعلاوة على هذا كله، أصبح المجلس الأعلى يلزم الحارس الذي يريد التحلل من المسؤولية أن يثبت أمرين اثنين، أولهما: أن يثبت أن الضرر راجع لقوة قاهرة أو حادث فجائي أو خطا الضحية، وثانيهما: أن يثبت أنه فعل ما كان ضروريا لتفادي الضرر. وفي هذا الصدد توجد أحكام متعددة سنقتصر على أهمها، فقد قضى المجلس الأعلى بأن:"حارس الشيء يعفى من قرينة المسؤولية عندما يقيم دليلا مزدوجا بأن الضرر متأت عن خطأ المتضرر أو القوة القاهرة أو الحادث الفجائي وبأنه عمل ما هو ضروري لمنع الضرر"[156]. وفي حكم آخر صدر عن المجلس الأعلى قضى فيه بأن:"حارس السيارة يبقى مسؤولا عن الأضرار التي تسببت فيها سيارته إلى أن يثبت إعفاءه أولا بأنه فعل ما كان ضروريا لمنع الضرر وثانيا بأن الضرر يرجع إما لحادث فجائي أو لقوة قاهرة أو لخطا المتضرر"[157].
وفي قرار آخر صدر عن المجلس الأعلى صدر فيه:"وحيث أن حارس السيارة أثبت أنه كان يستحيل عليه القيام بأية محاولة وأن خطأ خصمه كان غير متوقع ولا يمكن تجنبه فإن ذلك كان للقول بأنه فعل كل ما في استطاعته لتجنب الضرر وان الشرطين اللذين يشترطهما الفصل 88 من ق.ل.ع. متوفران لدرء المسؤولية المرتكزة على هذا الفصل"[158]. وهنا تطرح مجموعة من الملاحظات بخصوص اتجاه المجلس الأعلى في تطبيق الفصل 88 من ق.ل.ع.
الملاحظة الأولى: ذهب المجلس الأعلى إلى أن الحكم الجنحي القاضي ببراءة حارس الشيء لا يحول دون نسبة إهمال أو تقصير تستخلصه المحكمة المدنية لتحميل الحارس المسؤولية، وهذا موقف صائب لأن الأدلة المقدمة أمام المحكمة الزجرية قد لا تكون كافية لإدانة الحارس، ولكنها كافية لتستخلص منها المحكمة المدنية إهمال أو تقصير يكون كافيا لتحميل الحارس المسؤولية. وفي هذا الصدد ذهب المجلس الأعلى في قراره الصادر في 12 أبريل 1969"براءة الحارس جنائيا يجب عليه في المدني إثبات أنه قام بكل ما عليه من احتياطات لتفادي الضرر"[159]. وفي قرار آخر صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 11 مارس 1970"تكون محكمة الاستئناف لم تركز حكمها على أساس قانوني، ولم تعلل ما صرحت به من توفر شروط الإعفاء المنصوص عليها في الفصل 88 من ظهير العقود والالتزامات عندما ارتكزت على حكم بالبراءة للقول بأن المسؤول عن حادثة سير، فعل كل ما في استطاعته لتجنب الضرر في حين أن الحكم بالبراءة يثبت فقط انعدام الخطأ"[160]. فالإهمال أو التقصير يتجلى من خلال الاجتهادات السابقة أن الحارس لم يعمل كل ما في استطاعته لتجنب الضرر وهذا بطبيعة الحال لا يتعارض مع قاعدة"حجية الأحكام الزجرية على المدنية".
الملاحظة الثانية: هي أن المجلس الأعلى قد اهتم اهتماما كبيرا بعبارة فعل كل ما هو ضروري لتجنب الضرر، وقد أدى به هذا الاهتمام إلى الغلو في بعض الحالات ذلك أنه عندما يقوم الحارس بعمل لتجنب الضرر يطالبه بعمل آخر، ففي قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 26 مارس 1969 والذي جاء فيه:"إن محكمة الاستئناف بعدما صرحت أن ما قام به صاحب الدراجة أحمد بن الحبيب غير متوقع، وأن صاحب الدراجة النارية أفيزو لم يثبت أن ما قام به كان مضطرا إليه اضطرارا مطلقا، وأن أفيزو لم يثبت عدم إمكانية القيام بعملية إنقاذ أخرى… وهكذا فإن المحكمة لم تستخلص النتيجة الطبيعية وهي أن أفيزو بقي مسؤولا طبقا للفصل 88 من ق.ل.ع"[161].
كما أن عبارة "فعل كل ما كان ضروريا لمنع الضرر"مفهوم عام وفضفاض يستحيل على الحارس إثباته بهذا الغموض والاجمال، وتفاديا لهذا الوضع ومراعاة لحقوق الطرفين، فإنه يحسن الاقتداء بمعيار الإنسان العادي المتوسط الذكاء، وذلك لوضع حد لمغالاة القضاء والقول تبعا لذلك، كما ذهب إلى ذلك بعض الفقه[162] أن عبارة فعل كل ما كان ضروريا لمنع الضرر تتحقق بنفي الخطأ مع الاقتداء بمعيار الرجل المعتاد، ذلك أنه إذا أثبت الحارس القوة القاهرة ونفي عند الخطأ تعذر بعد ذلك إيجاد أساس قانوني لمسؤوليته والقول بغير ذلك فيه تعارض مع الفصل 95 من ق.ل.ع. وفيه تعارض كذلك مع القواعد العامة للمسؤولية، أضف إلى ذلك أن من صفات القوة القاهرة أو الحادث الفجائي هو عدم إمكانية التوقع واستحالة الدفع، فكيف يطلب من الحارس القيام بكل ما هو ضروري لتفادي الضرر فإذا كان بإمكان الحارس القيام بما هو ضروري لم تتحقق للفعل صفة القوة القاهرة، وأنه طبقا للفصل 95 من ق.ل.ع. فإنه لا يعتد بالقوة القاهرة إذا سبقها أو واكبها خطا من جانب الحارس.
ومن أجل ما ذكر فإن ما قاله أحمد الخمليشي في أن القضاء، هو الذي يعول عليه لسد الثغرات التي تعتري الفصل 88 من ق.ل.ع. المغربي.
ويستنتج مما سبق أن أثر القوة القاهرة في نطاق المسؤولية المفترضة بجانب الشيء إنما يتجلى كما هو عليه الأمر في نطاق الحالات الأخرى من المسؤولية التقصيرية لقطع العلاقة السببية بين الخطأ المفروض بجانب الحارس، وبين الضرر اللاحق بالمضرور بفعل الشيء، مما يؤدي إلى حتمية انتفاء المسؤولية عن الحارس كنتيجة منطقية، على أن المشرع المغربي كما تقدم، نص على ضرورة مراعاة الشرط المتعلق بفعل كل ما هو ضروري، ولعل هذا ما يدفع للقول أن المشرع المغربي قد جعل من مسؤولية حارس الشيء مسؤولية موضوعية لا يمكن نفيها بالقوة القاهرة فقط، وذلك عكس حارس الحيوان الذي أجاز له المشرع دفع المسؤولية بنفي الخطأ فقط، ولا نعلم ما هو السبب في هذه النظرة المغايرة لكل من المسؤوليتين رغم ورود كلا المسؤوليتين بنفس الصياغة تقريبا[163]. وكل ما قاله الفقه تبريرا لذلك هو أن المشرع ارتأى أن يتشدد في مسؤولية حارس الأشياء، ووقف إلى جانب المضرور نظرا لما تخلفه الأشياء عامة وحوادث السير خاصة من أضرار مادية ومعنوية[164]. ونظرا كذلك إلى أن الحيوانات لم تعد مقصورة إلا على بعض المناطق القروية على الخصوص بخلاف المشاكل الناجمة عن الأشياء، والتي غزت كل المناطق، وتنوعت الأضرار التي تتسبب فيها.
إلا أنه إذا كان المشرع قد تشدد في مسؤولية حارس الشيء، وأن القضاء قد استساغ هذا التشدد بغية توفير حماية اكثر للمضرور نسجل ملاحظة مهمة، وهي أنه على ضوء صدور ظهير 2 أكتوبر 1984 المتعلق بتعويض المصابين في حوادث تسببت فيها عربات ذرية ذات محرك، سلب القاضي السلطة التقديرية الواسعة التي كان يتمتع بها في تقدير تعويضات المصابين بحوادث السير، إذ أصبح هذا التعويض بمقتضى الظهير المشار إليه يخضع لجداول وأرقام محددة بطريقة أوتوماتيكية تمنع القاضي من إعمال سلطته التقديرية لإعطاء تقدير عادل للضحية.
وإذا رجعنا إلى الفقه الإسلامي نجده قد أوجب على المتسبب في الضرر بإصلاحه، كما أشار كذلك إلى مسؤولية الشخص عن الأضرار التي تحدثها الأشياء التي في حراسته من ذلك ما روي في الأصول عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله r:p من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا، ومعه نبل فليمسك على نصالها بكفه أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيءi، ومعناه أن كل خطر من الجمادات مما شابه النبال يحتاج إلى عناية خاصة[165].
! الفقرة الثانية: مسؤولية المؤاجر عن حوادث الشغل:
إن مسؤولية المؤاجر عن حوادث الشغل التي يتعرض لها الأجير الموجود تحت رقابة وسلطة المؤاجر أثناء القيام بالعمل أو بمناسبته، تختلف بكثير عن القواعد العامة للمسؤولية المدنية، لأن هذه المسؤولية لا تقوم على أساس الخطأ سواء المفترض أو الواجب الإثبات وإنما على أساس المخاطر المهنية الموضوعة على عاتق المؤاجر، وعليه فإن عنصر الخطأ، باعتباره أحد العناصر الأساسية في المفهوم التقليدي للمسؤولية قد اختفى من مسؤولية المؤاجر عن حوادث الشغل، فلم يعد الأجير المطالب بالتعويض عن الحادثة التي تعرض لها ملزما بإثبات خطأ المؤاجر، ولم يعد بإمكان هذا الأخير أن يتنصل من هذه المسؤولية بدعوى أنه لم يرتكب أي خطأ، أو أن الضرر يرجع لحادث فجائي أو قوة قاهرة[166].
والجدير بالذكر هو أن المشرع المغربي قد تعرض لهذه المسؤولية قبل ظهير 25 يونيو 1927 في الفصول 749 إلى 752. ومن خلال قراءة هذه النصوص يتبين لنا أن مسؤولية المؤاجر عن حوادث الشغل تقوم إما بسبب مخالفة أو عدم مراعاة المؤاجر للضوابط الخاصة لصناعته، أو فنه طبقا للفصل 750 من ق.ل.ع. أو لسبب ارتكابه خطأ من جانبه إلا أن الاجتهاد القضائي المغربي لم يعتمد في تقريره لمسؤولية المؤاجر هذا التحليل، لأن المحاكم العصرية نحت منحا آخر في تفسيرها للفصل 749 من ق.ل.ع.، جاعلة من مسؤولية المؤاجر مسؤولية مفترضة، وفي هذا الصدد قضت ابتدائية الرباط في حكمها الصادر بتاريخ 17 أبريل 1918 بقلب عبء الإثبات وجعله على عاتق المؤاجر، وألزمته إن هو أراد أن يتحلل من مسؤوليته أن يثبت بأن الحادثة وقعت للأجير بسبب قوة قاهرة، أو بسبب خطإه، وقد سارت المحاكم المغربية في هذا الاتجاه في كثير من أحكامها[167]، ويعتبر هذا بمثابة قفزة نوعية إلا أنه ورغم ذلك لم يكن في استطاعة العامل المصاب بحادثة شغل أن يحصل على تعويض عن الأضرار التي تعرض لها في كافة الأحوال بسبب النصوص المتعلقة بهذا التعويض في التشريع المغربي[168]، مما كان له تأثير سلبي على اجتهاد المحاكم حيث قررت هذه الأخيرة[169] عدم تعويض الأجير أو ذوي حقوقه في حالة وفاته إذا ارتكب خطأ من جانبه كيفما كان وصفه جسيما أو تافها، وإذا وقعت الحادثة بسبب قوة قاهرة أو حادث فجائي يفقدون حقهم في التعويض. وفي هذا الصدد قضت استئنافية الرباط في حكمها الصادر بتاريخ 25 يوليوز 1921 برفض دعوى أرملة الأجير المتوفى نتيجة حادثة شغل وقعت بسبب قوة قاهرة، وقررت تبعا لذلك عدم مسؤولية المؤاجر[170].
وبما أن التشريع المغربي المتعلق بحوادث الشغل كان ضعيفا جدا، كما أن العامل المصاب لم يكن بوسعه أن ينال تعويضا عن الضرر الذي لحقه، إلا إذا أثبت أن المؤاجر ارتكب خطأ جسيما يمكن اعتباره سببا لوقوع الحادث، وهذا الإثبات جد صعب وأحيانا غير ممكن إما لأن المؤاجر لم يرتكب أي خطأ، وإما لأن الأجير لا يملك وسيلة إثبات[171].
لأجل ما ذكر، نادى بعض الفقهاء بوجوب تطبيق قانون 9 أبريل 1898 الفرنسي الخاص بحوادث الشغل على الرعايا الفرنسيين المقيمين بالمغرب، والذين يعملون بالمؤسسات الموجودة به، لأنه أكثر حماية للأجير المصاب مادام التعويض الذي ينص عليه هذا القانون جزافيا، إلا أن الاجتهاد القضائي المغربي رفض هذا المقترح وظل وفيا للمقتضيات المنصوص عليها في قانون الالتزامات والعقود (الفصول 745 إلى 752). في كل ما يتعلق بقضايا حوادث الشغل، وعلى إثر هذا الرفض أصبح الفقهاء يطالبون بوجوب سن قانون مغربي مشابه لأحكام 9 أبريل 1898 الفرنسي خصوصا وان الظروف الاقتصادية والاجتماعية قد عرفت قفزة نوعية على إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى[172]، وفعلا تمت الاستجابة لنداء هؤلاء الفقهاء ثم وضع ظهير 25 يونيو 1927 بشأن التعويض عن حوادث الشغل والذي اعتبر مكسبا مهما في ميدان حوادث الشغل وسد الفراغ التشريعي الكبير الذي كان يعتري هذه المسؤولية، وتقرر لأول مرة، وابتداء من فاتح أبريل 1928 وهو تاريخ دخول مقتضيات هذا الظهير حيز التنفيذ، أن مسؤولية المؤاجر قائمة دون ما اعتداد بعنصر الخطأ وأن التعويض عن الأضرار التي قد تسببها حوادث الشغل جزافي، وقد اعتبر هذا من المكاسب المهمة لما يتضمنه من مكاسب عديدة للأجير وباعتباره كذلك استثناء من القواعد العامة للمسؤولية فإذا كانت هذه الأخيرة تقتضي وجوب إثبات خطأ من جانب المؤاجر لكي يحصل الأجير المتضرر من حادثة شغل على تعويض أو ترخيص بإمكانية افتراض مسؤولية المؤاجر، وذلك بقلب عبء الإثبات، وجعله على عاتقه مع تمكينه من دفع المسؤولية عنه نظرا لخطأ المصاب أو لوقوع الحادثة بسبب قوة قاهرة أو حادث فجائي[173]، فإن القواعد التي تضمنها ظهير 25 يونيو 1927 أصبحت تخول للأجير الحق في الحصول على تعويض دون حاجة إلى إثبات خطا في جانب المؤاجر، ودونما اعتداد بخطأ الأجير، وبالمقابل لم يعد بإمكان المؤاجر أن يتحلل من مسؤوليته بدعوى عدم ارتكابه أي خطأ أو بدعوى أن الحادثة راجعة لقوة قاهرة أو حادث فجائي، وهذا ما أكده المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 11 يونيو 1969حينما قضى على أن الجروح التي أصيب بها حارس الليل لفندق في أكادير لدى وقوع الهزة الأرضية وفي مكان العمل وبمناسبته تشكل حادثة شغل رغم كونها ناتجة عن قوة قاهرة[174]، وفي نفس السياق قضى المجلس الأعلى في قراره الصادر في 18 مارس 1970:"تكون المحكمة قد صادفت الصواب عندما اعتبرت أن الحادث الذي وقع للعامل وهو في مهمة يعتبر قد وقع بمناسبة العمل، إذ ورد في الحكم المطعون فيه، أن عمله يقضى ضروريا بالإقامة في الفندق الذي سقط بأكادير، وبالتالي فإن اضطراره إلى قضاء الليل بأكادير يجعله لا زال تحت سلطة رب العمل"[175]، وهذا المقتضى نص عليه صراحة الفصل الثالث من ظهير 6 فبراير 1963 بشأن التعويض عن حوادث الشغل، المغير من حيث الشكل لظهير 25 يونيو 1927 والذي جاء فيه:"…الحادثة كيفما كان سببها التي تصيب من جراء الشغل أو عند القيام به، كل شخص كان أجيرا أو يعمل بأية صفة كانت، وفي أي محل كان، إما لحساب مؤاجر واحد أو عدة مؤاجرين، أو لحساب رؤساء المقاولات (…) وذلك حتى ولو كانت هاته الحادثة ناجمة عن قوة قاهرة أو تسببت أحوال الشغل في مفعول القوة الطبيعية…"[176].كما لم يعد بإمكان المؤاجر دفع المسؤولية عنه نظرا لوقوع الحادثة بخطأ من العامل المصاب، فالأجير يعوض حتى في هذه الحالة لكن شريطة كون خطأ العامل المصاب خفيفا ومقبولا حسب قواعد الفن المهني، ويستثنى من حالات الخطأ التي يرتكبها العامل وتبقى مع ذلك مسؤولية المؤاجر قائمة حالة ما إذا تعمد العامل ارتكاب الخطأ. فإذا كان الخطأ الذي ارتكبه العامل مقصودا فإنه يحول دون حصوله على أي تعويض، وهذا ما نص عليه الفصل 309 من ظهير 6 فبراير 1963"لا يمنح العامل المصاب الذي تسبب عن قصد في الحادث لا هو ولا ورثته أي تعويض أو أية نفقة"، أما إذا كان الحادث ناجما عن الخطأ العمدي لرب العمل فهنا يجب عليه تعويض كافة الأضرار التي تلحق العامل من جراء ذلك تطبيقا للفصل 300 من الظهير المذكور.
لكن إذا كان الخطأ المتعمد الذي ارتكبه العامل لا يخول له الحق في الحصول على تعويض فإن الخطأ الذي لا يغتفر يخول مع ذلك الأجير المصاب جزء من التعويض، كما ينص على ذلك الفصل 311، وإذا صدر الخطأ الذي لا يغتفر من المؤاجر أو القائمون مقامه في تسيير الإدارة ترتب عليه رفع قيمة التعويض طبقا للفصل 312 من الظهير.
والجدير بالملاحظة أن المشرع المغربي لم يعرف الخطأ الذي لا يغتفر، وقد أحسن صنعا لأن التعريف هو من عمل الفقه، والاجتهاد القضائي وليس من عمل المشرع، وبالرجوع إلى الاجتهاد القضائي وعلى الخصوص الفرنسي نجده قد وضع قاعدة يعتمد عليها لحل هذا الإشكال، وهكذا قررت محكمة النقض الفرنسية تكييف الخطأ الذي لا يغتفر، وأصدرت بغرفها مجتمعة حكمها الشهير في 16 يوليوز 1941 وعرفته بأنه:"يبلغ حدا استثنائيا من الجسامة فيتكون من فعل أو ترك في ظروف توجب على الفاعل توقع الضرر نتيجة لهذا الفعل أو الترك، وهو يتميز عن الخطأ العمدي بانعدام قصد الإضرار المطلوب في الخطأ العمد"[177]، ونفس هذا التعريف كرسه القضاء المغربي في قرار استئنافية الرباط في 7 ديسمبر 1954[178].
ويستنتج من تعريف الخطأ الذي لا يعذر عنه في إطار حوادث الشغل، أنه يقع في منطقة وسط بين الخطأ العمدي والخطأ الجسيم[179]، وبالتالي يمكن القول أن التعريف المذكور يعطي للخطأ الذي لا يعذر عنه أربع ميزات أساسية هي:
1) أنه خطأ يتميز بخطورة استثنائية.
2) انعدام القصد في إحداث الضرر.
3) أن يكون الفاعل متوقعا خطورة الفعل أو الترك.
4) غياب كل عذر مبرر للعمل أو الامتناع.
ونتساءل الآن عن مفهوم الخطأ العمدي والخطأ الجسيم.
فالخطأ العمد هو الإخلال بواجب قانوني مقترن بقصد الإضرار بالغير[180]، ويكون قصد الإضرار بالغير متوافرا عندما تتجه إرادة الفاعل إلى إحداث الضرر، وعليه فإن الخطأ العمد يعرف بكونه الخطأ الذي ارتكب إراديا وعن طواعية واختيار قصد إحداث حادثة لإنشاء حق لفائدة مرتكب الخطأ العمد تقديرا شخصيا أو واقعيا، لا تقديرا موضوعيا مجردا، غير أن البحث في دخيلة نفس الفاعل ليس بالأمر الهين، ولا يملك القاضي إلا أن يعود فيه على بعض المظاهر الخارجية التي يستدل بها على النية، ولكن الغالب في هذه المظاهر ألا تكون قاطعة الدلالة في إثبات نية الإضرار بل تحتمل أيضا الدلالة على وقوع خطأ جسيم لا أثر فيه للعمد ولذلك جرى الفقه والقضاء على إلحاق الخطأ الجسيم بالخطأ العمد، ما لم يثبت المدعى عليه انتفاء قصد الإضرار عنده، وفي ذلك يقول الأستاذ "لوجرييل"[181] :"إن الخطأ المقصود يتميز عن الخطأ الذي لا يعذر عنه من حيث كونه يشترط ثبوت كون الفاعل قد تعمد إحداث الإصابة".
أما الخطأ الجسيم فهو الخطأ الذي يبلغ حدا يسمح بافتراض سوء نية الفاعل، حيث لا يتوفر الدليل عليها، إنه الخطأ الذي يقع من شخص قليل الذكاء والعناية، بحيث لا يتصور وقوعه إلا من شخص غبي عديم الاكتراث، ذلك أنه إذا كان يشترط في الخطأ العمدي اتجاه إرادة الفاعل نحو إحداث الإضرار، وفي الخطأ الذي لا يعذر عنه أن تكون إرادة الفاعل واعية فقط بخطورة الفعل دون قصد الإضرار، فإنه في الخطأ الجسيم غالبا ما يكون الفاعل أثناء وقوع الضرر غير واع بما يفعل لقلة ذكائه، والمعيار في كل ما ذكر معيار موضوعي.
وعلى ضوء ما سبق يمكن القول إن مسؤولية المؤاجر بدون خطا تعني أن عنصر الخطأ قد انمحى نهائيا من ميدان هذه المسؤولية، بل أصبحت هذه القاعدة تفيد بمقتضى ظهير 25-06-1927 أنه لا يلزم الأجير من أجل الحصول على التعويض أن يثبت خطأ من جانب مؤاجره كما لا ينفع المؤاجر من أجل التحلل من المسؤولية أن يثبت أنه لم يرتكب أي خطأ، ولا يستطيع كذلك المؤاجر دفع المسؤولية لوقوع الحادثة بسبب خطأ الأجير باستثناء حالة الخطأ العمد[182].
وبهذا يكون ظهير 25 يونيو قد خرج عن القواعد العامة للمسؤولية التقصيرية التي تفرض على المسؤول الذي ثبت خطأه أداء تعويض للمتضرر الذي أثبت العلاقة السببية بين الضرر الذي يدعيه، والخطأ الذي ارتكبه المسؤول(أي القاعدة العامة)، والتي تعفي هذا الأخير من المسؤولية إذا أثبت أنه لم يرتكب أي خطأ، أو أنه اتخذ جميع الاحتياطات اللازمة لمنع الضرر، أو أن الضرر راجع لقوة قاهرة في حين أن الظهير المذكور يقيم مسؤولية المؤاجر عن حادثة الشغل التي تعرض الأجير أثناء قيامه بعمله أو بمناسبة قيامه به قائمة، ولو أن السبب في وقوع الحادثة، راجع لقوة قاهرة. لكن هل يعوض الأجير حتى في حالة القوة القاهرة التي يسبقها خطأ الأجير والذي ليس جسيما؟
وعليه فإن من شروط الإعتداد بالقوة القاهرة كعنصر يؤدي إلى قطع العلاقة السببية بين الخطأ والضرر المدعى به ألا يكون قد سبقها خطأ من جانب المتضرر، وذلك بصريح الفصل 95 من ق.ل.ع. الذي نص:"لا محل للمسؤولية المدنية… إذا كان الضرر قد نتج عن حادث فجائي أو قوة قاهرة لم يسبقها أو يصطحبها فعل يؤاخذ به المدعى عليه"، وقد سبق القول بأن مسؤولية المؤاجر تقوم حتى مع ثبوت القوة القاهرة، إلا أنه إذا سبق القوة القاهرة خطأ من جانب الأجير فيجب النظر إلى نوع الخطأ، فإذا كان مقصودا فإن الأجير لا يستفيد من حقه في التعويض.
وإلى جانب هذه المزية التي جاء بها ظهير 25 يونيو 1927 والذي جعل من مسؤولية المؤاجر عن حوادث الشغل مسؤولية بدون خطأ، جعل الظهير كذلك التعويض في هذه المسؤولية جزافيا، يكون فيها عبارة عن مبلغ مقطوع من المال يعرف مسبقا بالاستناد إلى الأجر وإلى درجة العجز التي خلفها الحادث للأجير المصاب، وهذا يدل على الطابع الاستثنائي لهذه المسؤولية التي لا يكون فيها التعويض كليا كما هو الأمر في المسؤولية التقصيرية حيث يرجع تحديده للسلطة التقديرية للقاضي، وإنما يكون التعويض محددا مسبقا من قبل المشرع مع ضرورة تأديته من طرف المؤاجر المسؤول في شكل إيراد للعامل المصاب أو لذوي حقوقه في حالة وفاته، والذي يكون غير قابل للحجز أو الحوالة[183]، كما قضى الظهير باعتبار كل الاتفاقيات المخالفة لمقتضياته والرامية إلى استبعاد مسؤولية المؤاجر أو التقليل منها باطلة بقوة القانون، ويعد هذا الإجراء استثناء من القواعد العامة للمسؤولية المدنية والتي كما سبقت الإشارة إلى ذلك للأطراف حق تعديل شروط المسؤولية، بحيث يمكن أن يكون هذا التعديل كليا أو جزئيا، إلا أنه وبالرغم من هذه المزايا التي جاء بها ظهير 25 يونيو 1927 إلا أن مقتضياته كانت طويلة ومكتوبة مما حدا المشرع إلى تغييرها من حيث الشكل بظهير 6 فبراير 1963.
وبهذا تكون مسؤولية المؤاجر وفق ظهير 6 فبراير 1963 منوطة بحادثة الشغل التي يجب أن تتوافر على شروط أساسية هي وقوع الفعل الضار وحدوث الضرر، والعلاقة بين الشغل والحادثة وعلاقة السببية بين الحادث والضرر طبقا للفصل 3 من الظهير المذكور وبحادثة الطريق الواجب توافرها على نفس الشروط السابقة بالإضافة إلى تنقل المصاب ضمن إحدى المواقع المحددة في الفصل السادس من الظهير.
ومن خلال ما سبق، فإن مسؤولية المؤاجر في إطار حوادث الشغل تعد استثناء مهما من القواعد العامة للمسؤولية التقصيرية سواء من حيث الأركان أو الأشخاص أو الإثبات، أو دفع المسؤولية، ذلك أنه من المعلوم أن المسؤولية تنتفي كقاعدة عامة كلما ثبت أن الضرر راجع لسبب أجنبي كالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي[184]، إلا أن مسؤولية المؤاجر تبقى قائمة، ولو أن سبب الحادث الذي حصل للأجير يرجع لقوة قاهرة لا يد للمؤاجر فيها.
وفي ذلك لم يكن غرض المشرع من ذلك سوى الوقوف بجانب الطرف الضعيف في عقد الشغل، والذي هو العامل وهذا ما يشكل امتيازا قلَّ نظيره في التشريعات المقارنة.
والسؤال المطروح هو، ما هي التطبيقات العملية للقوة القاهرة؟
مما تجدر ملاحظته بعد دراستنا للمحاور السابقة، أن القاعدة القانونية التي تنظم آثار القوة القاهرة والحادث الفجائي وإعفاء المدين من التزاماته إعفاء كليا أو جزئيا أو مؤقتا بسبب تحقق شروطها، تعتبر قاعدة قانونية تفسيرية لا قاعدة قانونية آمرة.
ومن هنا لا تعتبر القوة القاهرة من متعلقات النظام العام في نطاق المسؤولية العقدية، بل يمكن للطرفين المتعاقدين الإتفاق على ما يخالف أحكام ومقتضيات القاعدة القانونية، وعلى هذا الأساس يجوز لهما أن يتفقا على أن القوة القاهرة أو الحادث الفجائي لا يخلي المدين من التزاماته، كما يمكن أن يتفقا على إخلاء المدين من التزاماته حتى عند توافر حادث معين لا يرقى في خصائصه وشروطه إلى ما يتطلبه القانون من شروط لابد من توافرها لاعتباره قوة قاهرة أو حادثا فجائيا[185].
وعلى ضوء ما سبق، سنقسم هذا المبحث إلى فقرتين (الفقرة الأولى) سنحاول من خلالها تناول مجموعة من حالات القوة القاهرة وتطبيقاتها، وفي (الفقرة الثانية) سندعم موضوعنا بمجموعة من العقود كنماذج لفهم القوة القاهرة في واقعها التطبيقي.
! الفقرة الأولى: القوة القاهرة بين النص والتطبيق:
– يمكن أن يعتبر قوة قاهرة كل ما يصدر من إجراء تشريعي كالمصادرة والاستيلاء الذي تقوم به السلطة على الشيء المبيع، فتنتفي مسؤولية البائع عن استحالة تسليمه الشيء المبيع بسبب ما صدر من أمر إداري أو تشريع يحظر التعامل فيه، ولا مسؤولية على المؤجر الذي استحال عليه تمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة للاستيلاء عليها، أو لرفض إخلائها من سلطة تشغلها[186]، ولا على المودع لديه لاستحالة رده الوديعة بسبب وضعها تحت الحراسة بأمر من السلطة العامة[187]، وكذلك يعفى المالك من المسؤولية بما صدر من الإدارة بحظر إعادة بناء عقاره[188].
ولا مسؤولية أيضا عما أحدثته النيران من أضرار بسبب ما أصدرته السلطات الحربية من تكليف لشركة الطيران بإشعال النار في الطائرات عند اقتراب العدو[189].
ويجب في كل هذه الحالات أن يكون الأمر صادرا من جهة لها سلطان شرعي، وتملك إصداره وتجب إطاعتها، وإذا كان الأمر الصادر من السلطة ينطوي على ما يجعله غير مشروع، فإن إطاعته تعتبر قوة قاهرة، إذا لم يكن من وسيلة لمفاداة تنفيذه، كما لو كان سيتم نفاذه عنوة إذا تراجع من صدر إليه في التنفيذ، إذ أنه في هذه الحالة يدخل في عداد ما لا يمكن مقاومته، أما إذا كان الأمر يمكن التخلص من نفاذه بوسيلة أو بأخرى، فلا يعتبر قوة قاهرة[190]، فالأمر الصادر ممن يمثل السلطة العامة بمسلك معين لقائد سيارة يمكن أن يعتبر قوة قاهرة إذا لم يكن بد من إطاعته[191]، وينتفي خطأ ربان السفينة فيما أجراه من تحركات خطيرة إبان مروره في هويس، وكان ذلك من طاعة حتمية لما أمر به ممثل مصلحة الطرق[192]، ولكن يتوافر الخطأ، وبالتالي تقوم مسؤولية ربان الباخرة، إذا كان مع ما يقدره من خطر أطاع موظف الملاحة فيما أصدر من تعليمات، وكان لم يكن ثمة ما يجبر هذا الربان على الإصغاء[193].
ولا تصلح الأوامر النقابية سببا معفيا من المسؤولية بحال من الأحوال[194]، ولا يعتبر قوة قاهرة ما وقع من عدوان على موظف البريد ولو كانت سنه متقدمة، وكان العدوان ليلا في طريق مهول إلا إذا أثبتت مصلحة البريد اتخاذها وسائل كافية لمنع حصول هذا الحادث[195].
ولكن يعتبر قوة قاهرة ما حدث من سطو على قطار السكة الحديدية، فحال دون أن يرد أحد البنوك الودائع التي دعت الظروف إلى نقلها في القطار[196]، ولا مسؤولية على صاحب المحل الذي يعرض سلع على المصانع، وقد سلبت بنحو لم يكن في إمكانه توقيه[197].
ولا يعتبر قوة قاهرة سقوط أحد المسافرين عند ركوبه الترام، إذا كان يمكن مفاداة الحادث بالحد من زحمة الركاب[198].
ولا تكون الريح قوة قاهرة، إذا أمكن التغلب على نتائجها، وإنما تكون كذلك إذا ثبت أنها بلغت من الشدة ما جعلها عاصفة، ولا يمكن تفادي أضرارها بأية وسيلة ملائمة[199].
ولكن العاصفة لا تعد قوة قاهرة فيما تسقط من أسلاك مكهربة ما لا يعفي شركة الكهرباء من المسؤولية كما يحدث من أضرار[200]، كما أنها ليست كذلك بالنسبة لسائق السيارة، الذي لم يبذل ما كان عليه من مضاعفة اليقظة والانتباه إزاء عصف الريح، وإنما استرخى في مكانه بالسيارة غير واع بما يحدث خارجها[201]، ولا بالنسبة لصاحب الشجرة التي تقتلعها العاصفة، لما يبين من جوفها المنخور أو مع ما كانت عليه من ارتفاع شاهق، أو من جفاف غصونها أو تقشر أطرافها، أو لعيب خفي فيها[202] أو لأن الشجرة المقلوعة لم تكن على مسافة تقتضيها اللوائح أو العرف من المباني التي أحدثت بها ضررا[203]، ولا يعتبر قوة قاهرة سقوط مثل هذه الشجرة على سلك كهربائي انقطع فصعق حيوانا[204].
أما إذا كانت الشجرة سليمة صحيحة فإن اقتلاع العاصفة لها يعد قوة قاهرة[205]، وقد ذهبت بعض الأحكام إلى اعتبار العاصفة سببا مخففا من المسؤولية الناشئة عن الأشياء[206].
ويستقر القضاء في فرنسا على تغليب أن انزلاق السيارة في أرض زلجة أو رطبة مما يمكن توقعه ولا يعتبر قوة قاهرة[207]. على انه ليس من المستطاع وضع قاعدة عامة للقياس عليها، فقد يكون الانزلاق قوة قاهرة إذا لم يكن في الوسع توقعه ولا تفاديه، كما لو أراد سائق أن يتجنب مصادمة سيارة قادمة في مواجهته ليلا، فلما انحرف بسيارته وكانت الأرض زلجة وقع الحادث ولا يعد قوة قاهرة خروج الحيوان فجأة من بين القطيع السائر بقرب الطريق العام[208]، ولا قفز الحصان في السباق عند شريط الابتداء[209]، ويذهب أغلب القضاء الفرنسي إلى أن ما تحدثه القطارات أو عربات الترام من ضجة لا يمكن اعتبارها قوة قاهرة أو حادثا فجائيا فيما يحدثه الحيوان من ضرر، وبالتالي يوجب مسؤولية حارسه الذي عليه أن يتخذ الاحتياطات اللازمة لتجنب ما يقع من حوادث بهذا السبب[210].
وكذلك لا يعتبر قوة قاهرة ذعر الحيوان من مسير سيارة أو عدة سيارات بكيف عادي، ويكون الحارس مخطئا في تركه هذا الحيوان غير المدرب يسير في طريق السيارات وبالتالي يكون مسؤولا عما يقع بسبب ذلك من حادث.
وإن ما يصاب به الكلب من مرض لا يعتبر قوة قاهرة ولا حادثا مفاجئا فيما يحدث هذا الحيوان من ضرر بسببه، إذ أن هذا الداء يصحب بأعراض تلفت نظر صاحب الحيوان لتوجب عليه الاحتياط في هذا الشأن ما إذا لم يثبت أنه لم يفطن لتلك الأعراض لجهله إياها[211]. وإذا ارتدت رصاصة أطلقها صياد بعدم اصطدامها بالهدف فأصابت صيادا آخر فإن ذلك يدخل في عداد القوة القاهرة، مادام يثبت أن إطلاق الرصاصة كان على نحو يطابق فعل الصيد العادي، وأن المصاب لم يكن في خط الهدف بل في ناحية لا يمكن توقع ارتداد الرصاصة إليها[212]. وإنما يخرج من اعتبار الحادث قوة قاهرة إذا كان الصياد قد جانب الحيطة بنحو ما سواء كان باستعمال رشات غليظة لا يقتضيها صيد الأرنب[213]، أو إطلاق الرصاصة على جسم صلب أو قائمة يمكن أن تسبب ارتدادها[214].
ولا يعتبر الإضراب في حد ذاته قوة قاهرة ولا حادثا مفاجئا مادام كان من الممكن توقعه أو كان من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام صعبا أو مبهضا[215]. وإنما يعد الإضراب قوة قاهرة أو حادثا مفاجئا لو حصل فجأة وبغير أن يكون للمدين دخل فيه[216]. وليس بلازم أن يكون عاما أو بنحو يتعذر فيه على المدين استبدال المضربين. ويتبين مما تقدم أنه لا يمكن وضع قاعدة عامة لاعتبار الحادث قوة قاهرة وإنما يرجع هذا الشأن إلى ظروف كل حالة بذاتها، فقد يعتبر قوة قاهرة، ما يصاب به سائق الترام أو الأوتوبيس من نزيف في المخ أو من إغماء حسب ما يتضح من ملابسات الحالة، فإذا كان ما أصاب السائق من إغماء قد حدث نتيجة لإفراطه في شرب الخمر أو كما لو ثبت سبق حدوث مثل هذا الإغماء لذلك السائق، أو ثبت سبق إصابته بأمراض تفضي إليه، أو كان رب العمل قد أغفل توقيع الكشف الطبي على السائق لاستكشاف ما هو عرضة له من مضاعفات خطيرة، ففي هذه الأحوال ليس من محل لاعتبار الحادث قوة قاهرة[217]، ولا يعد كذلك قوة قاهرة نوم الحارس الذي سهل وقوع السرقة[218]. وإن ما يستولي على المصاب من خوف أو فزع لا تنتفي به المسؤولية إذا كان المسؤول هو الذي تسبب في ذلك فترتب عليه وقوع الضرر، فإذا كان سائق سيارة يتحكك في مسيره عند محاولته التقدم على سيارة أخرى مما أفزع سائقها ودفعه إلى التخلص مما خشيه من هذا فإن ذلك السائق يكون مسؤولا عن النتائج التي نجمت عما سببه من فزع ولو لم يكن اصطدم فعلا بالسيارة الأخرى[219]. أما الانحراف بالسيارة الذي يجهل الداعي إليه فلا يعفي من المسؤولية[220].
ولقد اختلفت المحاكم في شأن ما تنثره عجلة السيارة من زلط أو حصى في الأرض فيحدث ضررا، فقضى بعضها بأن ذلك لا يعد قوة قاهرة ولا حادثا مفاجئا فيسأل عنه قائد السيارة[221]. كما قضى بتوزيع المسؤولية[222]، وكذلك قضى بأن ما في الأرض من زلط وحصى ليس من الأشياء التي في حراسة قائد السيارة[223]. وإنما هي في حراسة مصلحة التنظيم التي عليها صيانة الطرق[224]. .
ولقد استقر القضاء على أن فرقعة كواتش السيارة لا يعد قوة قاهرة ولا حادثا مفاجئا، إذ أن ذلك يحدث كثيرا ويمكن توقعه عادة مع إمكان توقيه بل وجوب الحيطة له بشيء من الخبرة[225]. وتعفى شركة الأوتوبيس من المسؤولية عما يحدث من ضرر لأحد الركاب بسبب اندفاع السيارة أو الوقوف بها فجأة، ما حتمه تفادي مداهمة راكب دراجة[226].
! الفقرة الثانية: نماذج من العقود
سنتناول من خلال هذه الفقرة بعض العقود الملزمة للجانبين حتى يتسنى لنا استجلاء الصورة أكثر لنظرية القوة القاهرة وذلك من خلال عقد نقل الأشخاص(أولا) عقد النقل البحري(ثانيا) وعقد الوكالة وعقد الوديعة (ثالثا) وعقد كراء الأراضي الزراعية (رابعا).
أولا: عقد نقل الأشخاص:
إن موضوع بحث الالتزام بضمان السلامة يعتبر من أكثر موضوعات القانون المدني إثارة للنقاش وتباينا واختلافا في وجهات النظر، غير أن اختيار هذا الموضوع ليس مبررا لأهمية هذا الالتزام بقدر ما هو مبرر بدوافع ودواعي راهنة تتمثل في المكانة الجوهرية التي يحتلها نقل الأشخاص في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وفي الجدل الفقهي والقضائي الذي ثار حول المسؤولية الناتجة عنه، وحول طبيعته القانونية لذلك كان النقل وما زال يعد من الموضوعات التي تتسم دراستها بأهمية كبرى تتجسد في مقام أول في ما يمثله النقل بصفة عامة ونقل الأشخاص بصفة خاصة من أهمية اقتصادية واجتماعية. فالنقل هو العمود الفقري في اقتصاديات الدول التي أصبح تقدمها يقاس اليوم بمدى تطور وسائل النقل فيها[227]. كما أن دوره الاجتماعي يتمثل في كونه وسيلة لتقارب الشعوب وتفاعل الثقافات والحضارات. وبالتالي يعد أحد العناصر الرئيسية للمدنية منذ الوقت الذي تجاوز فيها الإنسان حدوده الإقليمية لكي يقايض على منتجاته الزراعية والصناعية والفكرية، لذلك فإن تقدم الأمم لا ينفصل عن تقدم النقل فيها الذي تضاعفت أهميته باختراع السيارة، ولم تعد هذه الأخيرة مجرد وسيلة كمالية للترفيه والتسلية فحسب، بل أصبحت اليوم من الأدوات الضرورية للحياة الاقتصادية شأنها شأن السفن والطائرات، لكن إذا كانت هذه الأهمية الاقتصادية والاجتماعية للنقل تعرف ارتفاعا كبيرا فإن التطور السريع الذي عرفه هذا الميدان ظهرت معه متاعب ومشاكل لا تحصى، تتجسد في كثرة الحوادث وازدياد عدد الضحايا الشيء الذي لا يمكن إغفاله مقارنة مع الخدمات التي قدمها النقل للبشرية.
أمام هذا الوضع حاولت تشريعات مختلفة في جل البلدان أن تتدخل لتنظيم هذا القطاع- النقل- وتضع لوائح وضوابط من أجل التحكم في هذا الميدان الاقتصادي المهم، والتقليل من الأضرار التي يتعرض لها الأشخاص المتعاملين مع وسائل النقل المختلفة، ومن هذه التشريعات نجد التشريع المغربي الذي أصدر عدة ظهائر منها ظهير 22 فبراير 1955 المنشئ لصندوق الضمان لفائدة المصابين بحوادث السير[228]. وظهير 28 أبريل 1961 الخاص بالنقل في السكك الحديدية وكيفية استعمال هذا القطاع والاستفادة منه[229]. وكذلك المرسوم الملكي 4 غشت 1967 الخاص بإحداث اللجنة الوطنية للنقل وتحديد مهامها واختصاصاتها[230]. بالإضافة إلى ظهائر متعددة ومختلفة تخص هذا المجال وهي محاولات من جانب التشريعات تهدف إلى التقليل من حوادث النقل. أما بالنسبة للقضاء فالأمر بقي كما كان عليه، حيث كانت مسؤولية الناقل عن حوادث النقل تدور في فلك المسؤولية التقصيرية التي تتطلب من الضحية إثبات وقوع خطأ من جانب الناقل وإثبات الضرر والعلاقة السببية بين الضرر والخطأ، لكن هذا العبء في الإثبات غالبا ما يصعب على المصاب ويضيع تبعا لذلك حقه في التعويض لصعوبة تحديد أسباب حوادث النقل، بل في الكثير من الحالات ينتهي الأمر إلى نسبة الخطأ إلى المصاب بوسائل مختلفة. وظل القضاء، خاصة في فرنسا على هذه الوثيرة إلى أن عدلت محكمة النقض الفرنسية عن هذا الموقف تحت تأثير ما وجه إلى قضائها في ميدان نقل الأشخاص من انتقادات أمام صمت المشرع عن وضع تنظيم قانوني لمسؤولية ناقلي الأشخاص، بالإضافة إلى شعورها بضرورة تطوير المسؤولية التقصيرية سواء في أسسها أو في مجال تطبيقها، ليصبح قضاؤها مسايرا للتطورات الكبيرة التي حصلت في ميدان النقل، وتوفير أكبر قدر من الحماية للمسافرين تحقيقا للمصلحة العامة.
أما بالنسبة للقضاء المغربي فقد ساير هذا الاتجاه وذلك فيما صدر عن المجلس الأعلى من قرارات نحت هذا المنحى نذكر منها على سبيل المثال القرار الصادر بتاريخ 4 يوليوز 1987 تحت عدد 132 إذ جاء في معرض القرار:"إن مسؤولية الناقل مسؤولية عقدية تبعا للفصل 106 من القانون التجاري الذي يلزم الناقل بضمان سلامة المسافر" وعلى منواله دأبت محاكم الموضوع في هذا الاتجاه[231].
لكن السؤال المطروح وذلك في إطار التزام الناقل بضمان السلامة هو كيف يمكن للناقل التحلل من مسؤوليته؟
كما سبقت الإشارة إلى ذلك فإن القوة القاهرة تعتبر من أسباب دفع المسؤولية المدنية عن المدين وبالتالي تنفي الحق في التعويض للمتضرر. لكن لا مكان لنعت الحادث بأنه قوة قاهرة أو حادث فجائي إلا بتوافر الشروط القانونية فيه، وقد سبق الإشارة إليها[232]. وليس لأي واقعة وصف القوة القاهرة على الدوام بل العبرة بالظروف التي أحاطت بالحادث، إذ أن وصف القوة القاهرة يثبت أو ينتفي بحسب ما إذا كان توقعها أو تجنب آثارها في تلك الظروف مستحيلا أو ممكنا، ذلك أنه قد يوصف الحادث بأنه قوة قاهرة في ظروف معينة ولا يثبت له في ظروف أخرى مغايرة، وإن كان الحادث من نفس النوع[233].
وفي إطار الالتزام بضمان السلامة يمكن للمدين أن يدفع المسؤولية عنه وبالتالي التخلص من هذا الالتزام، وإثبات حالة القوة القاهرة بشروطها القانونية وبأنها السبب الوحيد في وقع الضرر،التي يبقى استخلاص شروطها من الواقعة المكونة للقوة القاهرة، وهي من المسائل التي تدخل ضمن السلطة التقديرية لقاضي الموضوع طالما أن هذا الأخير يتوجب عليه أن يعلل ما استخلصه بكيفية مقبولة من الناحية المنطقية وإلا عرض حكمه للنقض بسبب انعدام التعليل أو قصوره.
لكن نجد كلا من القضاء الفرنسي ونظيره المغربي قد تشددا بالنسبة لهذا الالتزام في تقديره للشروط المتطلبة لقيام حالة القوة القاهرة، وبالتالي التقليص من إمكانية استعمالها لدفع المسؤولية عن المدين، ولعل هذا التشدد جاء نتيجة لرغبة القضاء في الزيادة في أهمية هذا الالتزام في تحقيق أكبر قدر ممكن من الحماية لجمهور المسافرين، ويظهر ذلك بشكل واضح من خلال مجموعة من الأحكام والقرارات التي صدرت في هذا الشأن، بحيث نجده يضفي صفة القوة القاهرة على الحادثة في ظروف معينة ويقضي بالعكس في حادثة مشابهة ولكن بظروف ووقائع مادية مختلفة وذلك راجع لما للقضاء من سلطة تقديرية واسعة في هذا المجال دون رقابة عليه في ذلك. حيث نجد القضاء الفرنسي اعتبر أن الفيضانات الشديدة التي أدت إلى حدوث أضرار بالقناطر التي تمر عليها السكك الحديدية يدخل ضمن القوة القاهرة، وذلك لشدة الفيضانات وفجائيتها، وأعفى شركة السكك الحديدية من المسؤولية عن الحادثة التي وقعت لإحدى قطاراتها وما نجم عنها من أضرار للمسافرين[234]. وفي نفس الاتجاه قررت محكمة النقض الفرنسية في قضية سابقة أن خروج القطار عن السكة الحديدية، نتيجة فعل تخريبي وما نجم عنه من أضرار بليغة بالمسافرين يشكل قوة قاهرة[235]. وعلى العكس من ذلك في قضية تمثلت وقائعها في سقوط صخور على شريط السكك الحديدية وجنوح إحدى القطارات عن سكتها وما ترتب عن ذلك من وقوع أضرار متفاوتة لركاب هذا القطار، فإن القضاء الفرنسي أنكر وصف القوة القاهرة معللا ذلك أنه كان في الإمكان توقع سقوط هذه الصخور[236]. وهو نفس الاتجاه الذي سارت عليه محكمة فرنسية بالنسبة لسقوط صخرة على حافلة لنقل الركاب أدت إلى تحطيمها، وذلك تأسيسا على أن وضعية المكان المرتفع الذي سقطت منه الصخرة، ووجود إشارات التنبيه الموضوعة على الطريق لتحذير المارة بشأن خطورة المنطقة، تجعل من الحادث أمرا متوقعا[237].
أما بالنسبة للعمل القضائي المغربي المتجسد في مجموعة من الأحكام والقرارات الصارة عنه في هذا المجال فقد تشدد بخصوص هذا الالتزام- التزام الناقل بضمان السلامة- عند تقديره للشروط المتطلبة لقيام حالة القوة القاهرة طبقا لمقتضيات الفصل 269 من ق.ل.ع. ذلك أنه في حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء سنة 1920 الذي قضى أنه لا يمكن أن تعتبر بمثابة قوة قاهرة سوى الأفعال التي تجعل تنفيذ العقد مستحيلا، وذلك دون الأحداث التي جعلت تنفيذه أصعب[238]. وكذلك الشأن في قرار آخر بتاريخ 22/3/1957 صدر عن محكمة الاستئناف بالرباط أقرت قرارا مبدئيا اعتبرت فيه أنه إذا كان الفصل 269 من ق.ل.ع. ينص على أنه لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة بسبب الضرر الذي كان يمكن تفاديه يجب أن يكون توقع هذا السبب ممكنا حتى يتمكن من يعزى إليهم ذلك تعاقديا في اتخاذ كل الاحتياطات المفيدة[239]. وعليه، لكي يعفى المدين من مسؤوليته عن الحوادث التي تقع للمسافرين والتحلل من التزامه بسبب وقوع قوة قاهرة طبقا للفصل 485 من القانون التجاري المغربي الذي يلزم توفر الشروط الثلاثة الآنفة الذكر. ولقد صدرت عدة قرارات واجتهادات عن المجلس الأعلى طبقت هذه القاعدة، نذكر من بينها قرار صادر عن الغرفة الإدارية تحت عدد 132 بتاريخ 4 يونيو 1987 الذي قرر أن مسؤولية المكتب الوطني للسكك الحديدية بوصفه ناقلا للمسافرين مسؤولية عقدية طبقا للفصل 485 من القانون التجاري المغربي لذي يلزم الناقل بضمان سلامة المسافرين، وأن هذا الأخير الذي جرح في عربة القطار التي شب فيها الحريق، وكان متوفرا على تذكرة سفر صحيحة، وجرح من طرف مسافرين آخرين مشوا فوقه محاولين الهروب من ألسنة النيران التي كانت تشتعل في العربة، وأن الناقل أمام عدم إثباته أن الحادث ناتج عن قوة قاهرة أو خطأ الضحية يكون الناقل ملزما بتعويض الضرر اللاحق من جراء ذلك[240]. ومن خلال ما سبق ذكره هناك من يرى[241] أن القضاء متشدد في تقييده للواقعة المكونة للقوة القاهرة إثباتا أو نفيا لعنصر أو عناصرها كعدم التوقع واستحالة الدفع وعدم صدور خطأ أو تدخل للمدين فيها، بحيث يثبت المدين حالة من هذه الحالات وينفيها الدائن نفيا قاطعا، إذ تبقى كلمة الفصل لقاضي الموضوع الذي له في إطار سلطته التقديرية التي يتمتع بها في مجال تقييم الحجج أن يرجح الحجة التي يرى أنها مناسبة في النزاع حماية للمدين، وهو الطرف الضعيف في العقد وبالتالي يبقى نوع من الحماية للالتزام بضمان السلامة الذي يعتبر من نتائج اجتهاداته.
+ ثانيا: عقد النقل البحري
لم يحرص التقنين البحري على تنظيم مسؤولية الناقل تنظيما كافيا يتلاءم وأهمية هذا الموضوع وكثرة ما يثيره من مشاكل في العمل القضائي. ولذلك كان الأصل هو الرجوع إلى القواعد العامة عند غياب النصوص الخاصة التي تنظم هذا العقد.
ومسؤولية الناقل البحري كمسؤولية الناقل البري هي مسؤولية عقدية أساسها الإخلال بالتزامه العقدي الناشئ عن عقد النقل وهو نقل البضاعة إلى ميناء الوصول سليمة و في الميعاد، ولا تكون مسؤولية الناقل تقصيرية إلا عن العمل غير المشروع من جانب الناقل أو تابعيه، وتثور المسؤولية العقدية للناقل البحري طبقا للقواعد العامة في حالات ثلاث وهي: هلاك البضاعة وتلفها، والتأخير في تسليمها في الميعاد المحدد لها، فالناقل البحري يكون مسؤولا عن هلاك البضاعة سواء كان الهلاك كليا كالضياع أو الفقد أو كان جزئيا كالعجز في الكمية أو النقص في العدد مما هو مبين في سند الشحن، ومع ذلك فقد جرى العرف البحري على التسامح في نسبة من العجز أو النقص الطفيف الذي يمكن أن يصيب البضاعة بسبب طبيعتها أو بسبب أعمال الشحن والتفريغ، كالحبوب التي تشحن(حبا) والسوائل التي تفرغ فلا يكون الناقل مسؤولا عن هذا النقص الطفيف[242]. والناقل يبقى مسؤولا عن التلف أو العوار الذي يصيب البضاعة أو جزء منها إذ يفترض أن الناقل قد تسلم البضاعة من الشاحن بحالة سليمة ما لم تكن حالتها الحقيقية مبينة في سند الشحن[243]. كما يظل الناقل مسؤولا عن التأخير في التسليم في الميعاد المحدد في العقد أو المألوف عادة. وعبء إثبات الهلاك أو التلف أو التأخير هو الأصل على المضرور رافع دعوى المسؤولية الشاحن أو المرسل إليه ولكنه لا يكلف بإثبات السبب الذي أدى إلى هذا الهلاك أو التلف أو التأخير سواء أكان الخطأ راجع إلى الناقل أو راجع إلى تابعيه لأن الناقل في العقد ملتزم بنتيجة هي وصول البضاعة سليمة في الميعاد، ومن تم يكون مسؤولا عن عدم تحقق هذه النتيجة ولو ظل السبب في ذلك مجهولا، ويجب على رافع دعوى المسؤولية أن يثبت أن الهلاك أو التلف قد حدث أثناء عملية النقل في الفترة التي تكون فيها البضاعة في عهدة الناقل وإثبات ذلك جائز بكافة الطرق وهو من مسائل الواقع التي تخضع لسلطة القاضي التقديرية. كما يبقى للناقل دفعا للمسؤولية أن يثبت حصول الضرر قبل النقل أو بعد تسليم البضاعة إلى المرسل إليه، ولما كان التزام الناقل بنقل البضاعة سليمة في الميعاد هو التزام بتحقيق نتيجة، لا ببذل عناية فإنه لا يستطيع أن يدفع مسؤوليته عن الهلاك أو التلف أو التأخير طبقا للقواعد العامة إلا بإثبات السبب الأجنبي الذي يرجع إليه الضرر كالقوة القاهرة. ومنه يجوز للناقل البحري أن يعفي نفسه من المسؤولية إذا أثبت أن سبب هلاك البضاعة أو عوارها أو التأخير في وصولها راجع إلى قوة قاهرة استنادا إلى مقتضيات الفصل 221 من القانون التجاري، الذي ينص على أنه:"يبقى مؤجر السفينة مسؤولا عن كل هلاك أو عوار يصيب البضائع مادامت تحت حراسته وما لم يثبت وجود قوة قاهرة". وحيث أن تعريف القوة القاهرة في المادة البحرية حددته اجتهادات المحاكم التي استقرت على اعتبار أن الدفع بالقوة القاهرة لا يكون له أساس إلا إذا أثبت الناقل أن الحادث غير متوقع ولا يمكن التغلب عليه، وهذا ما أكدته استئنافية البيضاء بالنسبة لمخاطر البحر في قرارها الصدر بتاريخ 5/4/1988[244] في الحيثية التالية:"حيث يدفع الناقل البحري بالقوة القاهرة وبالتالي انعدام مسؤوليته نظرا لقوة العاصفة التي تعرضت لها الباخرة خلال السفرة البحرية التي تمت خلال شهر فبراير 1978، غير أنه كان على الربان أن يتوقع حدوث مثل هذه العاصفة في هاته الآونة واتخاذ الاحتياطات اللازمة لتلافيها، وبالتالي فلا مجال للتمسك بمقتضيات الفصل 269 من ق.ل.ع. الذي يعتبر القوة القاهرة كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه في حين أن حدوث مثل هذه العواصف خلال تلك الفترة من الأمور التي يمكن توقعها في فصل الشتاء الذي تكثر فيه العواصف…"
ويسير الاجتهاد القضائي الفرنسي في نفس هذا الاتجاه فقد قرر بأن العاصفة التي حدثت خلال شهر أبريل 1981 بالبحر الأبيض المتوسط بالرغم من أن قوتها وصلت ما بين 9 و10 درجات، فإنها لا تشكل قوة قاهرة لأنه بالإمكان توقع مثل هذه العاصفة خلال نفس الوقت من كل سنة[245]. كما قضى بأن الزوابع المفاجأة غير المتوقعة لا تعفي الناقل من المسؤولية متى كان في مقدور الربان بذل ما في وسعه لإنقاذ البضاعة[246]. وقد ذهب جانب من الفقه إلى اعتبار مخاطر البحر في حد ذاتها سببا للإعفاء من المسؤولية ولو لم تتوافر فيها شروط القوة القاهرة، فالعاصفة التي تهب على السفينة وهي في البحر فتعرضها لاهتزازات ينشأ عنها تلف البضاعة تعتبر بذاتها سببا للإعفاء، بغض النظر عن توقعها أو إمكان رد آثارها[247].
ويعد هذا الرأي الفقهي مطابقا لأحكام نص المادة الخامسة من اتفاقية هامبورغ لسنة 1978، فهي، وإن لم تحدد حالات الإعفاء من المسؤولية، فإنها قد وضعت نصا عاما يكفي الناقل البحري من خلاله إثبات أنه اتخذ هو وتابعوه الاحتياطات المعقولة والكافية لتجنب وقوع الحادث، أو إثبات انتفاء خطئه أو إهماله أو خطأ تابعيه دون حاجة إلى إثبات عناصر ومقومات القوة القاهرة للقول بإعفائه من المسؤولية وهو نفس ما صار عليه التشريع الأنجلوساكسوني[248].
ويدخل ضمن حالات القوة القاهرة كذلك، الحريق، وقد نصت اتفاقية هامبورغ على إعفاء الناقل البحري من المسؤولية عند إثباته أن الضرر الحاصل للبضاعة يرجع سببه إلى الحريق ويبقى على عاتق الشاحن عبء إثبات خطأ الناقل أو إهماله للقول بمسؤوليته[249].
إلا أنه عمليا يصعب على الشاحن إثبات ما ذكر بسبب عدم درايته ومعرفته بتقنيات الملاحة سواء الإدارية منها أو التجارية.
وفي ظل التشريع المغربي فإنه يبقى على عاتق الناقل البحري عبء إثبات أن الضرر الحاصل للبضاعة ناتج عن حريق لم يكن بالإمكان توقعه وكذا التغلب عليه،أي بإثبات عناصر ومقومات القوة القاهرة طبقا للفصل 269 من ق.ل.ع. ويعتبر من قبيل القوة القاهرة كذلك حوادث الحرب والإكراه الصادر من السلطة العمومية أو قيود الحجز الصحي، والإضراب عن العمل والتوقف عنه[250]. وقد أشار المشروع المغربي لسنة 1984 إلى هذه الحالات في الفصل 360 منه إذ يكفي الناقل البحري إثبات أن الضرر الحاصل للبضاعة راجع إلى إحدى هذه الحالات للقول بإعفائه من المسؤولية دون ما حاجة لإثبات عناصر ومقومات القوة القاهرة كما هو عليه الأمر بالنسبة للتشريع الحالي.
ثالثا: عقد الوكالة وعقد الوديعة
أ- عقد الوكالة
إن الوكيل في عقد الوكالة، لا يكون مسؤولا إذا كان الضرر الذي أصاب الموكل من جراء تنفيذ الوكالة، راجعا إلى قوة قاهرة أو حادث فجائي، وتطبيقا لذلك، لا يكون الوكيل مسؤولا إذا وكل في شراء منزل، أو بيعه، وقبل تنفيذ الوكالة احترق المنزل بقوة قاهرة أو انهدم في غارة جوية، فأصبح تنفيذ الوكالة مستحيلا نتيجة القوة القاهرة، وهذا ما نص عليه المشرع المغربي من خلال الفقرة الرابعة من الفصل 905 من ق.ل.ع. التي تقضي بعدم استحقاق الوكيل للأجر المتفق عليه، إذا منع بقوة قاهرة من مباشرة تنفيذ الوكالة، إذا اقتضى تنفيذها الانتقال من مكان لآخر فانقطعت الموصلات، لفتن أو حروب، ونفس الأمر في حالة ما إذا وكل في التعاقد مع شخص معين لاعتبارات شخصية فمات هذا الشخص قبل أن يتعاقد معه، إذ يكون عدم تنفيذ الوكالة راجع إلى قوة قاهرة[251].
ففي غير هذه الحالات، يكون الوكيل مسؤولا إذا سبق خطأه قوة قاهرة، هذا بالنسبة للوكيل في عقد الوكالة، فما هو الحال للمودع عنده في عقد الوديعة؟
ب- عقد الوديعة:
نفس الأمر يمكن قوله بالنسبة لعقد الوديعة، فالمودع عنده ولو كان مأجورا في إطار الوديعة بأجر لا يكون مسؤولا عن السبب الأجنبي ومن ضمنه القوة القاهرة، تطبيقا للفصل 208 من ق.ل.ع. الذي يقضي بعدم ضمان المودع عنده للوديعة إذا هلكت بفعل قوة قاهرة أو حادث فجائي شريطة عدم مطله، وأن لا تكون القوة القاهرة قد تسببت بخطئه أو بخطأ الأشخاص الذين يسأل عنهم، وفي هذا السياق، قضت استئنافية الرابط في قرارها الصادر بتاريخ 27 نونبر 1954:"إن المودع عنده بندقية والذي اضطر لهجر مؤسسته في وقت مضطرب تاركا المواد والبضائع الموجودة فيها، والتي اختفت بعد ذهابه يتحلل اتجاه المودع من التزامه بالرد، فالظروف الحاصلة تتضمن بالفعل صفات عدم التوقع، وعدم إمكان التجاوز، الأمر الذي يشكل قوة قاهرة"[252]. وعبء إثبات القوة القاهرة يقع على المودع عنده[253]، سواء كانت الوديعة بأجر أم لا، ورغبة من المشرع في توفير حماية أفضل للمودع عنده الحسن النيةّ، فقد نص على بطلان كل اتفاق من شأنه أن يحمل المودع عنده تبعة الهلاك نتيجة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي وذلك طبقا للفصل 809 من ق.ل.ع.
وعلى العكس من ذلك، يتحمل المودع عنده المسؤولية إذا استعمل هذا الأخير، الوديعة أو تصرف فيها دون إذن من المودع بل ويضمن أيضا القوة القاهرة إذا هلك الشيء بفعل خطئه، كما إذا تاجر في المال المودع[254]، لأنه تجاوز حدود صلاحيته، ألا وهي حفظ الشيء ورده بعينه[255].
+ رابعا: كراء الأراضي الزراعية
تبرز أهمية القوة القاهرة أيضا بكيفية جلية في عقود كراء الأراضي الزراعية، إذ بقيامها يعفى المكتري من التزاماته، كما إذا منع هذا الأخير من حرث أرضه بسبب فيضان لم يكن في الإمكان دفعه ولا توقعه، ولم تثبت لهذا الفيضان صفة أو صبغة دورية، ففي هذه الحالة يحق له الإعفاء من الكراء أو استرداده، إذا كان قد دفعه للمكري، وذلك تطبيقا للفصل 709 من ق.ل.ع. الذي ينص:"إذا منع المكتري من حرث الأرض أو زرعها بسبب حادث فجائي أو قوة قاهرة، كان له حق الإعفاء من الكراء أو استرداده من المكري، إذا كان قد سبقه له".
وفي هذا السياق قضت استئنافية فاس في قرارها الصادر بتاريخ 12/02/1947 "بأن للمكتري الحق في الإعفاء، أو في استرداد الثمن إذا كان بعد أن زرع فقد كليا منتوجه بسبب حادث فجائي أو قوة قاهرة لا تعزى لخطئه"[256].
أما إذا كان هلاك الزرع أو المحصول جزئيا، لم يكن هناك محل لتخفيض الكراء أو الاسترداد، بما يتناسب مع الجزء الهالك إلا إذا تجاوز الجزء الهالك النصف تطبيقا للفقرة الثانية من الفصل 710 من ق.ل.ع. وهذا ما أكدته محكمة الاستئناف بفاس في نفس القرار أعلاه حينما قضت"… وإذا كان الهلاك جزئيا لا يمكن التخفيض أو الاسترداد المناسب للثمن، ما لم تكن الخسارة تفوق النصف". وفي نفس الصدد قضى المجلس الأعلى (غرفته الإدارية) بتاريخ 14 يوليوز 1972"… حيث أن الحكم المطعون فيه اعتبر النقصان الواقع في المحصول الفلاحي راجع إلى حالة الجفاف التي أصابت السنة الفلاحية، وأن هذا السبب الأجنبي الذي لم يكن في الوسع دفعه، ولا توقعه يكون القوة القاهرة التي تعفي من تنفيذ الالتزام بتمامه كان في واقعه معللا تعليلا كافيا ومطبقا تطبيقا سليما لمقتضيات الفصل 710 المحتج بمخالفته وتكون الوسيلة بالتالي غير مرتكزة على أساس.
وحيث أنه، خلافا لما في الوسيلة فإن الفقرة المحتج بمخالفتها الفصل 710 تنص على أنه إذا كان هلاك الزرع جزئيا، لم يكن هناك محل لتخفيض الكراء أو لاسترداده، بما يتناسب مع الجزء الهالك، إلا إذا تجاوز هذا الجزء النصف، وخفض الكراء نتيجة لذلك مراعيا الجزء الهالك، كان مطبقا تطبيقا سليما للفصل المحتج به وكانت الوسيلة بالتالي غير مرتكزة على أساس…"[257].
نص المشرع المغربي في الفصل 269 من ق.ل.ع. السابق ذكره على حالات القوة القاهرة، والملاحظ أن هذا التنصيص جاء على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، وهو بذلك أعطى للقاضي سلطة تقديرية في تحديد الحالات التي تدخل ضمن إطار القوة القاهرة.
غير أن التساؤل الذي يطرح بهذا الصدد، هو: هل هذه السلطة المعطاة للقاضي، تعد قيدا على مبدأ "سلطان الإرادة" الذي مفاده أن لإرادة الأفراد الحق في إنشاء ما شاءت من التزامات، وترتيب ما شاءت من آثار دون تدخل من القانون الذي ليس عليه إلا تقرير ما جاء في العقد؟
أو بعبارة أخرى هل المشرع المغربي من خلال إقراره للفصلين 268 و269 من ق.ل.ع. المنظمان لظاهرة القوة القاهرة وآثارها، عمد إلى الحد من "مبدأ سلطان الإرادة" الذي بني عليه الالتزام عامة؟
الواقع أن المشرع، حرص على تكريس مبدأ سلطان الإرادة من خلال الفصل 230 من ق.ل.ع. وجعل الالتزامات المنشأة على وجه صحيح بين إرادة أطراف ترتقي إلى مصاف القانون، فمن ثم لا يجوز للقاضي عند تفسيره للعقد أن يعتمد اجتهاده الشخصي، ويعدل ما شاء من شروط العقد، أو يلغي ما شاء من التزامات، وإنما هو ملزم بالبحث عن الإرادة الحقيقية للأفراد، وما يمليه قانون العقد.
غير أن المشرع وخروجا منه على هذا المبدأ- سلطان الإرادة- راعى في بعض الحالات الاستثنائية على إيجاد بعض النصوص المتفرقة في قانون الالتزامات والعقود، حماية منه للطرف الضعيف في العقد، وسعيا منه كذلك على خلق نوع من التوازن بين أطراف العلاقة التعاقدية، وبهذا يكون إقراره لنظرية"القوة القاهرة" ينحو في هذا المنحى، وتدخله جاء ليخدم مصلحة المدين الذي وجد أمام استحالة في التنفيذ ناتجة عن صعوبات وعوائق لا دخل له فيها. ووعيا منه لسوء نية بعض المدينين في التدرع بالقوة القاهرة والدفع بآثارها للتهرب من المسؤولية، عمد من خلال الفصل 269 من ق.ل.ع. على استظهار أهم شروطها، وحتى لا يعطي بذلك للقاضي سلطة مطلقة في التوسع في استجلاء الحالات المعتبرة قوة قاهرة، وإنما هي سلطة ضيقة ونسبية في حدود مراعاة مدى تحقق الشروط القانونية بصددها.
وإذا كان مفهوم القوة القاهرة بهذا المعنى الذي تم التطرق إليه، أي أنها تؤدي إلى الإعفاء من الالتزام العقدي ومن تبعات المسؤولية التقصيرية بحسب الأحوال، فلماذا يلاحظ على المشرع من خلال صياغته للمادة 88 من ق.ل.ع. إلزامه لحارس الشيء إثبات فعل كل ما ضروري لتفادي الضرر بالإضافة إلى إثبات السبب الأجنبي[258].
فالإشكالية التي تثور في هذا الإطار هي كيف يعترف بوجود القوة القاهرة مع إلزام الحارس القيام بعمل إيجابي أو بمحاولة لتجنب الضرر؟ لأنه إذا كان في الإمكان تجنب الضرر لم يتحقق الحادث الفجائي أو القوة القاهرة لأن استحالة الدفع تعتبر من أهم عناصرها.
[1]– زيد قادري الترجمان: الموجز في القانون المدني نظرية الإلتزام.ح. I. مصادر الالتزام/ شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع الرباط. 1992. ص. 21.
[2]– عرف القانون المدني العراقي في المادة 72 العقد بأنه:"ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه".
[3]– إدريس العلوي العبدلاوي: شرح القانون المدني النظرية العامة للالتزام نظرية العقد/ مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء سنة 1996. ص. 109 – 110.
[4]– عبد الحكم فودة: آثار الظروف الطارئة والقوة القاهرة على الأعمال القانونية. ط1. يونيو 1999. منشآة المعارف. ص. 11.
[7]– الفصل 159. من القانون المدني المصري:(في العقود الملزمة للجانبين إذا انقضى التزام بسبب استحالة تنفيذه انقضت الالتزامات المقابلة له وينفسخ العقد من تلقاء نفسه).
[9]– د. إدريس العلوي العبدلاوي (شرح القانون المدني: النظرية العامة للالتزام. نظرية العقد). مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء. ط 1 / 1416هـ/1996م. ص 641.
[10]– قد تكون هذه المسؤولية جنائية كما إذا كان الخطأ متعمدا أو تقصيرية إذا كان الخطأ نتيجة إهمال كما قد تكون تأديبية إذا أخل شخص بواجباته الوظيفية.
[14]– قرار استئنافية الرباط الصادر في 29 / 1 / 1946. منشور بمجموعة المحاكم المغربية 10 مايو 1946. ص. 76.
[15] – Francoise mouger. Reflection sur les notions de faute délictuelle et contractuelle dans d.o.c. revue Marocain de droit et d’économie du développements. 1984. P N7.153.
[16] – د. إدريس العلوي العبدلاوي (شرح القانون المدني: النظرية العامة للالتزام. نظرية العقد). ص. 633.
[21]– قرار استئنافية البيضاء الصادر بتاريخ 2/3/1982. منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 47. سنة 1987. ص. 69.
[26] – د. بلهاشمي محمد: خطأ القاصر في نطاق المسؤولية التقصيرية مجلة القضاء والقانون. عدد 123. ص. 67.
[27] – Francoise mouger. Reflection sur les notions de faute délictuelle et contractuelle dans d.o.c. revue Marocain de droit et d’économie du développements. 1984. P N7.159.
[30] – – Francoise mouger. Reflection sur les notions de faute délictuelle et contractuelle dans d.o.c. revue Marocain de droit et d’économie du développements. 1984. P N7.161
[32]– الفصل 98 :"الخسارة التي لحقت المدعي فعلا والمصروفات الضرورية التي اضطر أو سيضطر لأنفاقها لإصلاح نتائج الفعل الذي ارتكب أضرار به وكذلك ما حرم من نفع في دائرة الحدود العادية لنتائج هذا الفعل".
[34]– ينص الفصل 77 على أن "كل فعل ارتكبه الإنسان فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير التزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر". وينص الفصل 78 على "أن كل شخص مسؤول عن الضرر المادي والمعنوي الذي أحدثه".
[38]–المجلس الأعلى قرار رقم 108/60 بتاريخ 28/11/1960 قضاء المجلس الأعلى في المادة المدنية مجلة القضاء والقانون. ص. 47
[40]– زيد قدري الترجمان (الموجز في القانون المدني: نظرية الالتزام. ج 1. مصادر الالتزام) سنة 1992. ص. 369.
[41] – Difour Mantelle « La force majeure dans les contrats civils ou comerciaux et dans les marchés administratifs ». Paris 1920. P :12.
[42] – B.Stark « Essai d’une théorie générale de la responsabilité civils considérée dans sa double fonction de gantie et de peine ». Thése . Paris 1947. n 243.
[45]– أحكام الأحكام على تحفة الحكام للعلامة ابن عاصم الأندلسي. شرح وتعليق مأمون بن محيي الدين الجنان. دار الكتب العلمية/ بيروت لبنان. ص. 142- 143.
[46]– هناك مصادر مادية أخرى استمد منها نص الفصل 269 من ق.ل.ع. بجانب القانون الروماني Diget تحفة بن عاصم الغرناطي. والبهجة في التحفة للتسولي. ومختصر الشيخ خليل والتاودي والحماوي وبن نجيم وهما من فقهاء الأحناف.
[47]– ديفور مانتيل روجي: القوة القاهرة في العقود المدنية أو التجارية في المقاولات الإدارية. 1920. ص. 11.
[48]– يكون المدين مسؤولا عن التعويض إذا كان له محل إما بسبب عدم تنفيذ الالتزام أو بسبب التأخير فيه وذلك في جميع الأحوال ما لم يثبت أن عدم التنفيذ قد نشأ بسبب أجنبي لا يد له فيه ولم يكن ثمة سوء نية من طرف المدين.
[49]– لا محل للتعويض إذا منع المدين بفعل القوة القاهرة أو الحادث الفجائي من إعطاء أو عمل ما التزم به.
[50]– عبد الرزاق السنهوري: شرح القانون المدني النظرية العامة للالتزامات. نظرية العقد. دار إحياء التراث العربي بيروت. ص. 962
[55]– في هذا الصدد يرى الفقيه الفرنسي الكبير" أسمان" أن القول بوجود قوة قاهرة ما هي إلا طريقة للتاكيد على انعدام صدور أي خطأ عن المدين.
[56]– يتعلق الأمر بالقرار المدئي الشهير الصادر عن غرفة محكمة النقض الفرنسية مجتمعة بتاريخ 13 فبراير 1930.
[61] – د. زيد قدري الترجمان: الموجز في القانون المدني نظرية الالتزام. ج 1. مصادر الالتزام. ص. 193- 194.
[63]– محمد الكشبرو، الأطروحة. مرجع سابق. ج 1. ص. 298. ذلك أنه يجب على المدين أن يثبت القوة القاهرة على سبيل اليقين لا الشك أو الاحتمال، فالسبب الأجنبي عموما لا يصلح لكي يكون سببا للإعفاء من المسؤولية إلا إذا كان واضحا وعلى ذلك لا يجوز إعفاء مالك السفينة أو الربان على أساس أن غرقها يبدو Paraît أنه يعود إلى عدة أسباب تتصل إما بالعاصفة أو بحالة الحرب مثلا.
[64]– أشارت الفقرة الثانية من الفصل 115 من قانون الإجراءات المدنية الإيطالي على نفس القاعدة لقولها:
« Le juge pent, en l’absence de toute présence, fonder sur décision sur des notions de fait qui appartiennent à la commune expérience… ».
[67]– قررت محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 26 مارس 1934 أن كلا من القوة القاهرة والحادث الفجائي يعتبران اصطلاحين مترادفين في نظر القضاء بالرغم من محاولة بعض الفقهاء التمييز فيما بينهما في بعض الأحيان. راجع:1934 Gasette dupdlais.
[69] – قرار تعقيبي صادر في 19 أبريل 1971- القرار منشور بمجلة القضاء والتشريع التونسية. العدد 7. ص. 32.
[70]– عبد الحكم فوده"آثار الظروف الطارئة والقوة القاهرة على الأعمال القانونية". ط 1. يونيو 1999: منشأة المعارف. ص. 19.
[73] – ذ. نورالدين الشمانتي الهواري،ذ. عبد العزيز بوكلاطة،ذ. عبد الإله الآزمي"أثر القوة القاهرة على المسؤولية المدنية". ص. 15.
[79] – V. Radouant : optic, P : 150 / Mazeaud ; op. cit T,11, édt. N°1576. Courteaud : Majeure en matiére de responsabilité conttractuelle et délictuelle, thése, Grenoble, 1935,P :16.
[81] – V. tanc, Force majeure et absence de faute en matiére contractuelle, Rev, trim, dr, civ, 1945,N° 13.
[83] – V. Paris, 11 fev. 1963. D. 1964, som.7, j.C.P,1963,11,N° 13306.
CIV,21 Mai 1957, G.P.1957,2,164,Bourdeaux, 26 Nov.1940,G.P, 1941,1,29
CIV,22 Mars 1960,J.C.P.1960, 11,1770 N°.Rodiére.
[84] – V. CIV. 18 Oct 1956, G.P 1956,2,365.
CIV.9Nov, 1955, J.C.P 1955, edt. G.TV, 174.
CIV.14 Juin 1957. G.P 1957,2,210.
[87] – Mazaaud ; op.cit. t. 116. déc. 1968. Marty et Raynaud : op cit T 11, vol ,1. N 487 aguilon : op cit 487 etc…Wigny : art cit, rev : trim dr, civ N 1935, P73. Radouant : op .cit P17. et etc…
[90] – V. Rodouant ; OP.cit P.137 ets..
1- مجلة القانون والاقتصاد، العدد 3و4، بقلم الدكتور الرشيد مؤمون- دار النهضة العربية. ص. 104.
[93]– قرار استئنافية البيضاء بتاريخ 23/10/1984 منشور بالمجلة المغربية للقانون عدد 4. 1986. ص. 1327. تعليق فرانسوا بول بلاص. ص. 228
[94] – Tanc ; Force Majeur et absence de faute en matière délictuelle, Rev. Trim. Dn. Civ 1946. Pv.19.
[95] – Besson ; Cas fortuit et force majeur dans les accidents d’automobiles. Rev. Gen. Des. As terr 1931. T, 2 P. 272 ets.
[96]– ذ. نورالدين الشمانتي الهواري، ذ. عبد العزيز بوكلاطة، ذ. عبد الإله الآزمي"أثر القوة القاهرة على المسؤولية المدنية". ص. 22.
[97]– سليمان مرقس"الوافي في شرح القانون المدني" المجلد 2. "الفعل الضار والمسؤولية المدنية". القاهرة 1988.ص. 481.
[105]– محكمة النقض الفرنسية في 8 دجنبر سنة 1926 سيري 1967-1-77 وفي 15 نونبر 1925 سيري 1926-1-37 وفي 12 دجنبر سنة 1922 سيري 1923 –1-100 وفي 10 دجنير سنة 1921- يوليوز 1922-1-111.
[106]– محكمة النقض الفرنسية في 20 أبريل سنة 1948-1-285، وفي 2 مايو سنة 1941 سيري 1941. Chr 92 وفي 15 نونبر سنة 1932 يوليوز 1922-1-14 وفي 24 أكتوبر سنة 1922 يوليوز 1924-1-8- وفي 12 نونبر سنة 1953 VI . civ. Bull. ص: 101.
[116] – ذ. عاطف النقيب"النظرية العامة للمسؤولية الناشئة عن فعل الأشياء في مبادئها القانونية وأوجهها العملية. ص: 313.
[117] – ذ. عاطف النقيب"النظرية العامة للمسؤولية الناشئة عن فعل الأشياء في مبادئها القانونية وأوجهها العملية". ص:314
[124]– يراجع تعليق تانك (Tanc) على قرار محكمة غرانوبل 6/12/1974،الأسبـــــوع القانوني 1975،2،17070، وتراجعه ملاحــظات ديـــــري(Durry) في المجلة الفصلية للقانون المدنبي 1975. ص. 717.
[125]– ستارك (Stark) "Droit civil, obligations" رقم 538 و539. ص. 204 و205. وفي مقاله في المجلة الفصلية للقانون المدني 1966.ص. : 644.
[131]– إبراهيم طه الفياض" محاولة في تحديد معالم الأساس القانوني للمسؤولية عن الأشياء في قضاء مجلس الدولة الفرنسي والفقه والقضاء المدني" مجلة الحقوق والشريعة (الكويت) العدد 1 سنة 5 فبراير 1981. ص: 35.
[134] – Savatier : La nouvelle interprétation judiciaire de l’article 1384. « La responsabilité du conducteur d’automobile » J.c, P1927. P431-433.
[138]– د. عبد الواحد العلمي"الأساس القانوني للمسؤولية عنالأشياء ووسيلة دفعها في القانون المغربي". بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا سنة 1982. ص: 45.
[146]– قرار المجلس الأعلى (الغرفة الجنائية) بتاريخ 19 يناير 1993. قضاء المجلس الأعلى عدد 45. نونير 1991. ص: 195.
[147]– المجلة المغربية للقانون. فاتح أكتوبر 1956. ص: 364. ويراجع في نفس المعنى حكم ابتدائية الرباط في 1/12/1939. غازيت المحاكم المغربية عدد 301. في 26/1/1928.
[149]– قارن لمادة 178 من القانون المدني المصري والقانون المدني السوري المادة 170 والقانون اللبناني المادة 131.
[150]– د. أحمد الخمليشي في مقاله المنشور بالمجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد تحت عنوان"دفع المسؤولية عن الأشياء". عدد 3. ص: 11.
[151]– قرار استئنافية الرباط الصادر بتاريخ 18/3/1955. مجموعة قرارات محاكم الاستئناف 151- 152. ص: 476
[153]-محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 18/10/1963. منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية 1966- 1982.ص:623.
[155]– المجلس الأعلى. قرار مدني عدد 278 في 11 يونيو 1969. منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية 1966-1982. ص:623.
[158]– قرار المجلس الأعلى بتاريخ 4 يونيو 1969. منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية 1966-1982. ص: 620.
[159]– قرار المجلس الأعلى الصادر في 12/4/1969. مجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية. 1966-1982. ص: 637.
[160]– قرار المجلس الأعلى الصادر في 11/03/1970. مجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية 1966-1982. ص: 637.
[161]– قرار المجلس الأعلى الصادر في 26/03/1969 مجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية 1966-1982. ص: 611.
[162]– ذ. أحمد الخمليشي مقاله المنشور بالمجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد كلية الرباط تحت عنوان"دفع المسؤولية عن الأشياء". عدد 3. ص: 11-12.
[163]– ذ. نزيه محمد الصادق المهدي "وجهة نظر في اتخاذ الخطأ أساسا للمسؤولية التقصيرية غير الشخصية مقارنة بين القانونين المصري والمغربي". المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد. عدد 2. ص: 106.
[165]– د. سيد أمين محمد "المسؤولية التقصيرية مقارنة بين القوانين الوضعية والفقه الإسلامي". مكتبة كلية الرباط. ص: 136-137.
[166]– ذ. أمال جلال "مسؤولية المؤاجر عن حوادث الشغل والأمراض المهنية في التشريع المغربي". سلسلة منشورات كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط. ط 1977. ص" 8-9.
[167]– هذا الحكم منشور في مجموعة التشريع والاجتهاد القضائي المغربيين. 1919. ص: 8. وفي نفس السياق راجع قرار محكمة الاستئناف بالرباط في 2 أبريل 1921.
[169]– حكم محكمة الاستئناف بالرباط في 31 يوليوز 1926 والمنشور بمجلة المحاكم المغربي عدد 241. ص: 604.
[174]– قرار المجلس الأعلى الصادر في 11 يونيو 1969 منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية 1966-1982. ص: 439.
[175]– قرار المجلس الأعلى الصادر في 18/03/1970 منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية 1966-1982. ص:360-361.
[176]– أنظر القرار رقم 283 الصادر بتاريخ 11 يونيو 1969 المنشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 10 بتاريخ 10/10/1969. ص: 36. الذي اعتبر أن محكمة الموضوع قد طبقت مقتضيات الفصل 3 من ظهير 216/1963 تطبيقا صحيحا عندما قررت أن الجروح التي اعتبر أصيب بها حارس يالليل بفندق بأكادير لدى وقوع الهزة الأرضية وفي مكان العمل وبمناسبة تشكل حادثة شغل رغم كونها ناتجة عن حالة قوة قاهرة/ احمد المحدوبي"النصوص القانونية المتعلقة بحوادث الشغل والأمراض المهنية والضمان الاجتماعي" ط 1. 1991. مطبعة عباد- الرباط. ص: 19. هامش رقم 1.
[177]– عادل سيد فهيم"القانون الاجتماعي في ضوء تشريع العمل المقارن ومستويات العمل الدولية والعربية" ط 1978-1979. ص: 195
[179] – Ahmed Mikou : Les particularités de la responsabilité civil en matier d’accident du travail.
[181] – Le Griel : L’employeur est-il civilement responsale de la faute intentionnelle d’une des ces salaries. Droit ouvrier 1952. P : 426-427.
[183]– د. أمال جلال"مسؤولية المؤاجر عن حوادث الشغل والأمراض المهنية في التشريع المغربي" سلسلة منشورات كلية العلوم الاقتصادية والاجتماعية بالرباط، طبعة 1977. ص: 100- 102.
[187]– مازو: الجزء الأول بند 496 تعليق حكم محكمة الصلح Neuf-chatel- en Brag في 14 أبريل 1951. داللوز 195- 255.
[198]– محكمة باريس في 23 مارس 1951 جازيت تريبينو 28/6/1951 وفي 20 ديسمبر 1948 داللوز 1948- 207. ومحكمة السين 15 يونيو 1943 جازيت دي باليه 19 نوفمبر 1943.
[199]– محكمة النقض الفرنسية في 23/6/1935 داللوز الأسبوعية 1935- 540 وهنري لالو في داللوز 192- 22- 50 ولقد قضى بأنه إذا ثبت من تقارير مصلحة الأرصاد الجوية أن العاصفة التي تجاوزت سرعتها بشيء يسير 17 متر في الثانية هي من العواصف الكثيرة الوقوع في المنطقة الواقع دائرتها النزاع، فإنها لا تعد من قبيل ما لا يمكن توقعه ولا التغلب عليه.
[202]– محكمة Redon في 13/5/1952 T.C.P 1952-2-7229 ومحكمة كولمار في 21 ينويو 1932 داللوز الأسبوعية 1932- 482 ومحكمة باريس في 19/2/1931 جازيت تريبينو 1931-2-305.
[207]– محكمة النقض الفرنسية 5 ماي 1942 سيري 1942-1- 125 وتعليق مازو، محكمة السين في 11 ماي 1946 جازيت دي باليه 2 ينويو 1946 ومحكمة Folcar quier في 19 يناير 1934 جازيت دي باليه 29 مارس 1943 ومحكمة السين في 30 نوفمبر 1931 داللوز الأسبوعية 1932-63 ومحكمة باريس في 14 مارس 1930 داللوز الأسبوعية 1930-2-115. وتعليق Bsson.
[210]– محكمة النقض الفرنسية في 16/5/1887- 1-73 ومحكمة السين في 21 ماي 1901 جازيت دي باليه 1901-2-119 ومحكمة كان في 23 يناير داللوز 1988-5-29.
[212]– محكمة النقض الفرنسية 9 ديسمبر 1940 داللوز الأسبوعية 1941-J– 23 وبهذا المعنى محكمة أورليونس في 17 يناير 1951 داللوز 1951-298 والمجلة الفصلية 1951 صحيفة 379.
[214]– محكمة chartes 18 يونيو 1941 داللوز 1942-J– 13 وفي هذا المعنى محكمة ليون 11 فبراير 1954 داللوز 1954-359.
[217]– محكمة النقض الفرنسية 28/4/1947 داللوز 1947-329 ومحكمة ديجون في 19/6/1945 جازيت دي باليه 30 أكتوبر 1945.
[219]– محكمة النقض الفرنسية 22/1/1940 داللوز الأسبوعية 1940-997 محكمة باريس في 26/1/1935 جازيت دي باليه 25/3/1935.
[220]– محكمة باريس بتاريخ 8/2/1958 داللوز 1952 وتعليق هنري لالو أورده حسن عامر وعبد الرحيم عامر في كتاب"المسؤولية المدنية التقصيرية والعقدية" ط 2. 1979. دار المعارف .ص:" 403 وما يليها.
[221]– محكمة Agen في 30/6/1932 جازيت دي باليه 21نوفمبر 1932 ومحكمة السين في 27/10/1926 جازيت دي باليه 2 فبراير 1927 أو رده حسن أبو عامر وعبد الرحيم عامر .ص:407.
[225]– محكمة باريس 18/7/1930 جازيت دي باليه 17 نوفمبر 1930 ومحكمة Montluçon في 24 ديسمبر 1929 جازيت دي باليه 1 مارس 1930 ومحكمة لوين في 30 ديسمبر 1926 داللوز الأسبوعية 1927-177.
[226]– بهذا المعنى محكمة النقض الفرنسية في 30 سبتمبر 1940 داللوز الأسبوعية 1940-165 في 11 مارس 1940 جازيت دي تريبينو 25/10/1940 بأن ما يطرأ من تعطيل للفرامل عند الاستعمال لا يعد قوة قاهرة.
[228]– قضاء المجلس الأعلى العدد 30. ص: 131 وما بعدها. أورده المالكي حسين التزام الناقل بضمان السلامة في عقد نقل الأشخاص. مرجع سابق. ص:2.
[231]– قرار عدد 132 بتاريخ 4 يونيو 1987 المجلس الأعلى (الغرفة الإدارية) منشور في المجلة المغربية للقانون عدد 16. سنة 1988. ص: 57
[233]– مشكلات المسؤولية المدنية- محمود جمال الدين زكي. ص: 262. أورده المالكي حسين. مرجع سابق. ص: 49. هامش 2.
[235]– قرار محكمة النقض الفرنسية (الغرفة المدنية) الصادر بتاريخ 8/6/1953 عدد 210 مجموعة قرارات الغرفة لمدنية رقم 3.
[238]– حكم ابتدائية الدار البيضاء بتاريخ 1920 المنشور بمجلة التشريع والعمل القضائي المغربي لسنة 1921 ص:146.
[239]– قرار محكمة الاستئناف بالرباط الصادر بتاريخ 22/3/1957 منشور بمجموعة قرارات محكمة الاستئناف بالرباط. الجزء 19. ص: 204.
[240]– المجلس الأعلى (الغرفة الإدارية) قرار عدد 172 بتاريخ 4 يونيو 1987 منشور بالمجلة المغربية للقانون عدد 16 سنة 1986. ص:57. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه سبق لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء أن أصدرت قرارا في نفس الاتجاه بتاريخ 23/10/1984. منشور بالمجلة المغربية للقانون عدد 4. سنة 1986. ص: 227.
[242]– يطلق على هذا النقص بعجز الطريق وتختلف نسبة العجز المتسامح فيها حسب نوع البضاعة ويرجع تحديدها إلى العادة المتبعة في ميناء الوصول.
[243]– يونس بنونة "مسؤولية الناقل البحري على ضوء القانون المغربي" دراسة مقارنة مع اتفاقية هامبورغ لسنة 1978 المطبعة السريعة. ص: 88
[244]– استئنافية البيضاء رقم 706 ملف تجاري عدد 2346/84 ثم القرار الصادر في 29/12/1988 رقم 2516 ملف تجاري عدد 139/86 غير منشور.
[245]– محكمة باريس 13/10/1986 منشور D.M.E 1988. ص: 101. ثم محكمة إينكس بروفانس 27/6/1986 نفس المرجع ص: 243. ثم قرار محكمة باريس 3/3/1986 D.M.E 1986. ص: 239.
[247]-د. يونس بنونة "مسؤولية الناقل البحري على ضوء القانون المغربي دراسة مقارنة مع اتفاقية هامبورغ لسنة 1978". ص: 87.
[257]– قرار المجلس الأعلى ( الغرفة الإداري) 1971- 1972 ط 1. سنة 1983. طبع كتابة الدولة في الشؤون الإدارية.
[258]– ينص الفصل 88 من ق.ل.ع:"كل شخص يسأل عن الضرر الحاصل من الأشياء التي في حراسته، إذا تبين أن هذه الأشياء هي السبب المباشر للضر، وذلك ما لم يثبت:
أولا: أنه فعل ما كان ضروريا لمنع الضرر.
ثانيا" وان الضرر يرجع إما لحدث فجائي أ لقوة قاهرة، أو لخطأ المتضرر.