القيمة الثبوتية لدليل الطب الشرعي في مراحل الدعوى (البحث التمهيدي، المتابعة ، التحقيق الإعدادي) – الباحث : ياسين رشاد
القيمة الثبوتية لدليل الطب الشرعي في مراحل الدعوى
(البحث التمهيدي، المتابعة ، التحقيق الإعدادي)
تقديم:
ان كان دليل الطب الشرعي من الأدلة التي بات الاعتماد عليها في مجال الاثبات الجنائي واضحاً خصوصاً في الآونة الأخيرة ، وذلك بالنظر لدقة وقطعية النتائج التي يتوصل اليها ، إلا أن هاته النتائج والأدلة تطرح مجموعة من الإشكالات التي ترتبط بالأساس حول القيمة الثبوتية لهذا الدليل امام أجهزة العدالة الجنائية ، الامر الذي ينعكس على قيمته القانونية كدليل اثبات في المادة الجنائية مقارنة بغيره من طرق الاثبات الأخرى ،ذلك ان الاعتراف بقيمته الثبوتية يتجلى على مجموعة من المراحل ، وهو ما سوف نحاول بيانه من خلال التطرق للقيمة الثبوتية لدليل الطب الشرعي في مراحل البحث والمتابعة والتحقيق.
ومن المعلوم ان الدعوى تمر بمجموعة من المراحل الأساسية حيث تختلف وتتفاوت قيمة الدليل فيها ، وهو ما سنحاول معالجته عبر الحديث عن مرحلة البحث التمهيدي (الفقرة الأولى ) ، ثم الانتقال للحديث عن مرحلة المتابعة (الفقرة الثانية )على ان نعالج في الأخير مرحلة التحقيق الاعدادي (الفقرة الثالثة) .
الفقرة الأولى: مرحلة البحث التمهيدي .
تعتبر مرحلة البحث التمهيدي أولى مراحل الدعوى العمومية التي تسبق المحاكمة ، وهاته هي المرحلة التي تلي وقوع الجريمة ، حيث يناط بضباط الشرطة القضائية مهمة جمع الأدلة والبحث عن مرتكبيها وتقديمهم امام أجهزة العدالة ، حسب القواعد المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية .
ويكتسي دليل الطب الشرعي في هذه المرحلة أهمية بالغة ، لما يوفره من ادلة تثبت وقوع الجريمة من عدمها ، وظروف وملابسات ارتكابها ، بالإضافة الى نسبتها الى شخص او نفيها عنها ، وتحديد هوية الضحية[1].
حيث يمكن لضباط الشرطة القضائية ضمن هذه المرحلة الاستعانة بالأدلة الطبية الشرعية قصد الوقوف على ظروف ارتكاب الجرائم وتحديد مقترفها ، وذلك بتعزيز ابحاثهم وتحرياتهم بأدلة طبية [2].
وبالرجوع للمادة 64 من قانون المسطرة الجنائية نجدها تنص على أنه : اذا تعين القيام بمعاينات لا تقبل التأخير فلضباط الشرطة القضائية أن يستعين بأي شخص مؤهل لذلك على ان يعطي رايه بما يميله عليه شرفه وضميره ..
وهو نفس الأمر بالنسبة للمادة 77 من نفس القانون التي تنص : يتعين على ضابط الشرطة القضائية ، الذي اشعر بالعثور على جثة شخص مات بسبب عنف أو غيره ، وظل سبب موته غير معروف أو يحيط به شك ، أن يخبر بذلك فوراً النيابة العامة ، أول ينتقل في الحال الى مكان العثور على على الجثة ويجري المعاينات الأولى.
يجوز لممثل النيابة العامة أيضا أن ينتدب أهل الخبرة للكشف عن أسباب الوفاة، هذه المادة عرفت تعديلات بمقتضى مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية والتي أشار فيها المشرع، ولأول مرة، إلى مصطلح الطبيب الشرعي، والتي جاء فيها: ((يمكن لضابط الشرطة القضائية، بعد موافقة النيابة العامة، انتداب طبيب شرعي من أجل الانتقال إلى مكان الجريمة والقيام بالمعاينات وأخذ العينات الضرورية)).[3]
هذا المقتضى تطرقت له المادة 14 من مشروع القانون 17.77، حيث خول للسلطات القضائية المختصة انتداب طبيب ممارس للطب الشرعي من أجل الانتقال إلى مكان الجريمة والقيام بالمعاينات الضرورية وأخذ العينات.
كما يمكن لضباط الشرطة القضائية، بعد موافقة النيابة العامة أو قاضي التحقيق، الاستعانة بطبيب ممارس للطب الشرعي من أجل الانتقال إلى مكان الجريمة إذا تعلق الأمر بحالة التلبس، أو إذا كانت حالة الاستعجال تقتضي ذلك.
نفس الأمر نصت عليه المادة 77 من مشروع ق.م.ج في فقرتها الأخيرة، بأنه ((يمكن لممثل النيابة العامة أيضا انتداب طبيب شرعي لأخذ العينات والكشف عن أسباب الوفاة وملابساتها)).
ويتعين على الطبيب الممارس لمهام الطب الشرعي الاستجابة لأوامر الانتداب ولطلبات الاستعانة الموجهة إليه حسب الحالة، من طرف السلطات القضائية المختصة أو ضباط الشرطة القضائية، وهذا المقتضى يجد سنده في المادة 15 من م.ق 17.77 .
وتتجلى القيمة الحقيقية لدليل الطب الشرعي في هذه المرحلة فيما يوفره من براهين تؤكد أو تنفي التهمة عن الأشخاص المشتبه فيهم ، التي تعتبر منطقية من الناحية القانونية بمعنى يقبل القانون والقضاء الركون اليها والاستناد عليها[4] ، أضف الى ما يساهم فيه الطب الشرعي في مسرح الجريمة من التحقق من وقوع الوفاة ومعرفة الحالة المناخية والبيئة المحيطة بها حيث أن هاته العوامل تساعد ضباط الشرطة القضائية في توجيه أبحاثهم وتحرياتهم في الاتجاه المعقول[5].
فتحديد سبب الوفاة في هذه المرحلة يمكن ضباط الشرطة القضائية من معرفة نوع السلاح المستخدم ووقت وقوع الوفاة وجميع الاثار والعناصر المرتبطة بها[6] .
وعليه فإن القيمة الثبوتية لدليل الطب الشرعي في هاته المرحلة تعتبر من الأهمية بمكان وذلك راجع لما يوفره دليل الطب الشرعي من توجيه لمسار تحقيق ضباط الشرطة القضائية ، حيث يساهم في جمع العناصر والأدلة اللازمة لتحريك المتابعة في الدعوى العمومية.
الفقرة الثانية: مرحلة المتابعة :
لما كان عبء الإثبات يقع على عاتق النيابة العامة باعتبارها سلطة اتهام، فإنها كثيرا ما تجتهد في البحث عن الأدلة الجنائية التي من شأنها إقامة الدليل على حدوث الجريمة و إسنادها للمتهم، ومع ذلك فإنها وقبل أن تبحث عن الطريقة الفعالة التي يمكنها بواسطتها التأثير في الاقتناع الشخصي لجهات التحقيق و الحكم و بالتالي إفادتها والتقدم بالتماساتها، فمن الأولى أنها تبدأ أولا بتكوين اقتناعها هي حتى تتمكن من اتخاذ الإجراء المناسب بشأن تحريك الدعوى العمومية، و في سبيل ذلك فإنها قد تلجأ إلى استخدام كل الطرق القانونية التي خولها لها المشرع الجنائي في هذا الصدد ، و التي من بينها تسخير الخبراء من الأطباء الشرعيين في المسائل الطبية البحتة، و هو الإجراء الذي كثيرا ما يتحكم في سير الدعوى العمومية، إذ غالبا ما تجد النيابة نفسها في وضع المنتظر للتقرير الطبي الشرعي قبل اتخاذ أي إجراء بشأن مصير هذه الدعوى.
فإذا كانت المتابعة تقوم على مبدئين[7]، أولهما قانونية المتابعة، والثاني ملائمة المتابعة، فإن تقرير الطبيب الشرعي قد يكون حاسما في الحالة الثانية لدرجة أنه يتحكم في تكييف الجريمة، كما هو الشأن مثلا في الحالة التي يخلص فيها من تقرير الطبيب الشرعي في جرائم الضرب و الجرح العمديين، إلى انعدام العجز وعدم توافر أي ظرف مشدد آخر، إذ تجد النيابة العامة نفسها هنا مضطرة لإحالة الملف على المحكمة و ليس لها من وسيلة تناقش بها ما تضمنه التقرير إلا بواسطة تقرير طبي آخر، و عليه فهي تجد نفسها عمليا ملزمة بالتكييف الذي فرضه عليها التقرير الطبي الشرعي، طالما أن هذا التكييف مرتبط بما يتضمنه هذا التقرير من مدة عجز، كما قد يستفاد من تقرير طب الشرعي في نفس الجريمة، أن الآثار المحدثة على جسد الضحية و إن كانت لم تسبب لها عجزا كبيرا، إلا أنه و بالنظر إلى شكلها قد أحدثت بواسطة سلاح حاد مثلا، و من ثمة و اعتمادا على هذا التقرير و فقط، يتم تكييف الجريمة إلى جنحة طالما أن استعمال السلاح أو حتى حمله كاف بذاته لأن يرقى بوصف الجريمة أو أنكر الجاني استعماله[8].
و إذا كان التقرير الطبي الشرعي يلعب دورا مهما في التأثير على سلطة الاتهام لدرجة أنه يتحكم في تكييف الجريمة، فإن هذا التأثير يزداد حدة في بعض الحالات، إذ قد يصل إلى إقناع النيابة العامة باتخاذ إجراء الحفظ، و بالتالي وضع حد للمتابعة كما هو الشأن في الجرائم الجنسية خصوصا جريمة الاغتصاب (هتك العرض) التي يتطلب القانون لقيامها إقامة الدليل على حصول الإيلاج في المكان الطبيعي للوطء، وزيادة على ذلك أن يكون الفعل قد تم في غياب رضا الضحية[9]، وهنا إذا أنكر المتهم التهمة المنسوبة اليه أو لم يتم ضبطه متلبسا فإنه يستحيل إثبات هذه الوقائع ما لم يلجأ إلى خبرة طبية شرعية، هذه الأخيرة التي قد تتحكم في سير الدعوى العمومية تحريكا أو حفظا، فإذا فرضنا مثلا أن نتائج الخبرة جاءت مؤكدة أنه لا وجود لآثار الإيلاج أصلا و لا أثر لعلامات العنف أو الإكراه، فهنا النيابة دون شك ستبادر استنادا لما جاء في التقرير الطبي الشرعي إلى حفظ الملف، و إن حدث و أن أحالته على جهة من جهة التحقيق الاعدادي أو الحكم فإن أثر الخبرة الطبية الشرعية يمتد ليشمل هذه الأخيرة، و بالتالي فإن الملف سيعرف نفس المصير، بمعنى أنه سينتهي إما بإصدار أمر بتوجيه المتابعة أو حكم بالبراءة.
وعليه تتجلى القيمة الثبوتية لدليل الطب الشرعي في مرحلة المتابعة فيما يمكن من إقامة الدليل على تحريك المتابعة وذلك لما يوفره من أدلة وبراهين تمكن النيابة العامة من تكييف الوقائع واسنادها وبذلك اعمال سلطتها في الملاءمة إما المتابعة أو الحفظ .
و مع ذلك، فإنه و إن كان التقرير الطبي الشرعي يلعب دورا مهما في تكوين قناعة جهة الاتهام لاتخاذ الإجراء المناسب بشأن المتابعة، فإن هذا الدور يبقى محدودا إذا ما قارناه بالدور الذي يلعبه الدليل الطبي مرحلة التحقيق الاعدادي .
الفقرة الثالثة : مرحلة التحقيق الاعدادي
كما أشرنا في السابق على أن إجراءات البحث التمهيدي يقوم بها ضباط الشرطة القضائية وإجراءات المتابعة تقوم بها النيابة العامة، فإن إجراءات التحقيق الإعدادي يقوم بها قاضي التحقيق الذي منحه القانون صلاحيات واسعة وعديدة في التحقيق وذلك لكشف الجريمة ومن بين ذلك الاستعانة بالطب الشرعي .
فحينما يتولى قاضي التحقيق عمله فإنه في بعض الأحيان يصعب عليه كرجل قانون البث في بعض المسائل الفنية إذ ذاك يجوز له انتداب أهل الخبرة حتى يكتسي التحقيق صورة موضوعية وصادقة،[10] وذلك كتحديد أسباب الوفاة وزمانها ومكانها .
تبرز القيمة الثبوتية لدليل الطب الشرعي أمام هيئة التحقيق فيما يوفره من إجابة عن كل الاستفسارات والتساؤلات التي تهم قاضي التحقيق وهو يقوم بالتحري عن أدلة الاتهام وأدلة النفي، حيث أن الدليل الطبي في هذه المرحلة يخضع إلى مبدأ المواجهة بين الأطراف بالأدلة والسماح لهم بتقديم دفاعهم وملاحظتهم بخصوص هذه الأدلة ، لذلك فإن هذا الدليل من حيث قيمته بين الأدلة فإنه يخضع إلى مبدأ حرية الإثبات فلا يتقيد قاضي التحقيق بوسيلة وحيدة سواء تعلق الأمر بإثبات أو نفي الجريمة [11]، وعليه فإن الاستعانة بدليل الطب الشرعي يعتبر إما محركا للدعوى العمومية أو محفظا لها حسب رأي جهات التحقيق والنيابة العامة [12].
إذا ومن خلال ما سبق يظهر أن دليل الطب الشرعي يلعب دورا مهم في كافة مراحل الدعوى التي سبق الإشارة إليها، عن طريق إقامة دليل على قيام الجريمة بأركانها القانونية وكذلك إسنادها إلى المتهم .
[1] شيكوش حمينة فاطمة، دور الطب الشرعي في الكشف عن الجريمة ، مذكرة لنيل شهادة الماستر ،كلية الحقوق مسيلة ، السنة 2017/2016 ، ص51 .
[2] مصطفى بوعمامة، الطب الشرعي ودوره في اثبات الجريمة، مذكرة لنيل شهادة الماستر ، جامعة غرادية، كلية الحقوق والعلوم السياسية ، السنة 2022/2021 ، ص60 .
[3] مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية صيغة أكتوبر 2022 ، منشور بموقع وزارة العدل .
[4] مصطفى بوعمامة ، مرجع سابق، ص60 .
[5] رجاء محمد عبد المعبود، مبادئ علم الطب الشرعي والسموم لرجال الأمن والقانون، الطبعة 1، دون دار النشر، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2012م ، ص14 .
[6] فيصل محمد حسنين حماد ، اثر الاثبات بوسائل التقنية الحديثة على حقوق الانسان ،مذكرة لنيل شهادة الماستر ، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية ، كلية الدراسات العليا ،2007 ،ص113 .
[7] مداخلة من إلقاء لعزيزي محمد ،النائب العام لمجلس قضاء بجاية ألقيت بمناسبة الملتقى الوطني حول الطب الشرعي ودوره في اصلاح العدالة ، بتاريخ 25/26 ماي 2006 .
[8] بلال تمار دور الطب الشرعي في تحقيق العدالة الجنائية ، مذكرة لنيل شهادة الماستر، كلية الحقوق والعلوم السياسية ، جامعة محمد بوضياف-المسيلة، السنة 2019/2018،ص54 .
[9] فيصل محمد حسنين حماد ، مرجع سابق ، ص117 .
[10] شيكوش حمينة فاطمة، مرجع سابق، ص 73، بتصرف.
[11] الملتقى الوطني حول الطب الشرعي القضائي، الديوان الوطني للأشغال التربوية، 2006 ص 46
[12] نادية الشورى، دور الطب الشرعي في تكوين عقيدة القاضي الجنائي، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص، كلية الحقوق بفاس، السنة الجامعية 2011/2012 ص 44