بحوث قانونية

مبدأ الانفراد بالتشريع

cao

الباحثة:كيلالي زهرة

 -متحصلة على شهادة الماجستير في الحقوق : تخصص “قانون عام” من جامعة تلمسان،2012-2013.

-مسجلة في السنة ثانية دكتوراه علوم

-أستاذة مدرسة بالمركز الجامعي غليزان.

مقدمة

تقوم دراسات القانون الدستوري في مجملها على النظرية العامة للدولة ثم النظرية العامة للدساتير ، يتناول الباب الأخير ماهية الدساتير و ضمانات سموها(مبدأ الفصل بين السلطات) وأخيرا الرقابة على دستورية القوانين؟ .والدارس لمبدأ الفصل بين السلطات يعتمد على مضمون المبدأ من خلال عملية توزيع الاختصاصات، حيث تمارس السلطة التشريعية مهمة التشريع والسلطة التنفيذية مهمة تنفيذ القوانين والسلطة القضائية مهمة تطبيق القانون عن طريق الفصل في المنازعات، ما يمكن القول عنه أنه المفهوم الكلاسيكي لمبدأ الفصل بين السلطات و مايقتضيه من ضرورة احترام كل سلطة لاختصاصاتها الدستورية، نحاول في هذه الدراسة التعمق في توزيع هذه الاختصاصات و انفراد كل سلطة بوظيفتها الدستورية،و نفرد دراستنا حول انفراد السلطة التشريعية بممارسة الوظيفة التشريعية من خلال التعمق في مضمون هذه الفكرة طبقا لما أطلق عليه الفقه الدستوري “مبدأ الانفراد بالتشريع”.من خلال الإجابة على النقطتين التاليتين:ما هو مضمون مبدأ الانفراد التشريعي و ما هي آثره على المشرع؟

المبحث الأول:مفهوم مبدأ الانفراد بالتشريع

تقوم نظرية الفصل بين السلطات التي صاغها الفيلسوف الانكليزي Jean Locke          والفيلسوف Jean-Jacques Rousseau التمييز بين ثلاث وظائف للدولة، الوظيفة التشريعية والوظيفة التنفيذية والوظيفة القضائية ([1])، أكدها فيمابعد الفيلسوف  Montesquieuفي كتابه “روح القوانين”-وقد ارتبطت به- بقوله أنه: ( لا يمكن إسناد كل وظائف الدولة إلى سلطة واحدة، بمعنى لا تركز السلطات الثلاث في يد سلطة واحدة وإلا كان ذلك مدعاة للتعسف والديكتاتورية، لذلك يجب أن توكل مهمة التشريع إلى السلطة التشريعية، ومهمة التنفيذ إلى السلطة التنفيذية، ومهمة القضاء إلى السلطة القضائية )([2]).

وقد صاغت دساتير العالم المعاصر هذه الأفكار الفلسفية إما صراحة كما ذهب اليه الدستور العراقي، أو ضمنا بتبني مضمون المبدأ كما هو الحال في الدستور الجزائري الذي أكده في  قرارات مجلسه الدستوري ، حيث أصبح هذا المبدأ من موجبات دولة القانون، وبناء عليه تم توزيع الاختصاصات الثلاث بين ثلاث سلطات، تنفرد كل سلطة باختصاصاتها المحددة في الوثيقة الدستورية، وما يعنينا في هذه الدراسة انفراد السلطة التشريعية بوظيفة التشريع(مبدأ الانفراد بالتشريع كما سماه الفقه)، من خلال توضيح مضمونه وأساسه الفلسفي(المطلب الأول) و تدرج مفهومه بسبب التطورات التي عرفتها البرلمانات(المطلب الثاني).

المطلب الأول :تعريف مبدأ الانفراد بالتشريع وأساسه الفلسفي

  يعرف الأستاذ عيد أحمد الغفلول مبدأ الانفراد بالتشريع La réserve de loi  بقوله:” انفراد البرلمان بالوظيفة التشريعية …”([3]) بمعنى أن البرلمان هو صاحب الاختصاص الأصيل بممارسة الوظيفة التشريعية دون غيره، و هو اختصاص دستوري.

   والمقصود بالوظيفة التشريعية عملية إعداد النصوص القانونية، وذلك بدراستها داخل اللجان المختصة ،و مناقشتها مع الحكومة ،و إعداد تقرير حولها يعرض على النواب للتصويت عليها فإن حصلت على النصاب القانوني المطلوب أرسلت إلى رئيس الدولة لإصدارها ونشرها و السهر على تنفيذها ([4])،و هي على الأغلب الإجراءات التي تمر بها العملية التشريعية.

ومن الواضح أن هذا المبدأ الفقهي له مبرراته انطلاقا من البنية التركيبية لهذه السلطة(البرلمان)، باعتبارها مكونة من ممثلي الشعب وهي الأقدر على صياغة أحكام القانون بما يراعى فيه حقوق وحريات من انتخبها ووضع ثقته فيها ، لذلك ليس من الغريب أن تذهب جميع الدساتير في بداية الأمر إلى التنصيص و التأكيد على انفراد البرلمانات بالوظيفة التشريعية دون أن تشاركها في ذلك أي سلطة أخرى، لاسيما السلطة التنفيذية التي لابد أن تنحصر مهمتها في تنفيذ القوانين ما عدا الحالات التي يسمح لها الدستور بإصدار اللوائح المستقلة، كما تكتفي السلطة القضائية بمهمة تطبيق القانون والفصل بأحكامه في المنازعات.

أما عن الأساس الفلسفي لهذا المبدأ، فقد ربطه الفقيه الفرنسي Raymond carré de malberg بإفرازات الثورة الفرنسية 1789، التي من أهم ما جسدته هو عملية توزيع الاختصاص بين السلطتين التشريعية والتنفيذية واضمحلال قوة وسلطة الملك (السلطة التنفيذية) وظهور قوة البرلمانات المنتخبة المعبرة عن السيادة الشعبية، وبالتالي لم يعد القانون الصادر عن هذه المجالس محدد المجال، بل توسع ليطال مجالات واسعة ليتراجع بذلك دور السلطة التنفيذية ويصبح تدخلها مرهونا بالقانون الذي يضعه البرلمان ([5]).

كما دعم هذا معيار تحديد مفهوم القانون الذي يعرف على أنه: العمل الذي يتم التصويت عليه بواسطة الجهاز المختص بالتشريع أي البرلمان وفقا للإجراءات التشريعية المعمول بها ويتم إصداره بواسطة رئيس الدولة. وعلى هذا الأساس كان البرلمان -الذي يمثل المشرع هيكليا وتنظيميا السلطة التشريعية – يتمتع باختصاص غير محدود وحرية وسلطة مطلقة في مجال التشريع، وسلطة تقديرية في التدخل  لتسوية أية مسألة أو معالجة أي موضوع  بالصيغة والوقت اللذين يراهما مناسبين ويحققان الغرض الذي ابتغاه من سنه ([6]).

وتماشى هذا المبدأ أيضا مع الأفكار الفلسفية الأخرى المنتشرة آنذاك، ويتعلق الأمر خاصة بمبدأ الفصل بين السلطات الذي نادى به شراحه ومؤيدوه حينذاك( Jean Locke،Jean-Jacques Rousseau، Montesquieu  ) وتمييزهم للسلطات الثلاث في الدولة وانفراد كل سلطة بالوظيفة المحدد لها، وهكذا ظهر نوع من التأثير بين المبدأين أدى في الأخير إلى تبني الدساتير ” مبدأ الانفراد بالتشريع” وأصبح مبدأ دستوريا تفرضه دولة القانون ، بعدما تبناه الفقه والقضاء الدستوريين. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ عيد أحمد الغفلول: ” أن هذه الفكرة ليست فكرة جديدة في القانون العام، وأن كل ما في الأمر أنها تحولت على يد الفقه الدستوري المعاصر وقضاء المحكمة الدستورية إلى مبدأ دستوري يفرض على البرلمان ضرورة التدخل لممارسة اختصاصاته التشريعية المحددة بمقتضى الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية  وإلا وقع في حومة الامتناع التشريعي([7])”([8]).

كما توسع في هذه الفكرة الفقيهان Otto Mayer و Paul laband ، حيث يرى الأستاذ Paul laband  عند تعريفه للقانون ( التشريع ) بالمعنى الضيق على أنه: ( النص الصادر عن البرلمان، أما اللائحة فهي النص الصادر عن جهة الإدارة وبالتالي فالقانون من وجهة النظر المادية يحتوي على قاعدة قانونية بينما تحتوي اللائحة فقط على قاعدة إدارية، فهي بمثابة عمل مجرد من أية صفة قانونية لأنها تنصب فقط على التنظيم الإداري) ، بمعنى أن ينفرد البرلمان بوضع القاعدة القانونية دون أن يكون للسلطة التنفيذية أي دور، ولكن هذا الانفراد لا يعني منع البرلمان تفويض السلطة التنفيذية إصدار لوائح تحمل قواعد قانونية ولكن ليس بصورة مبدئية([9]) .

وظلت أفكار laband سائدة إلى غاية القرن العشرين، لتظهر صياغة جديدة لنظرية الانفراد التشريعي- تتماشى مع ما أصاب القانون العام من تطور- على يد الأستاذ Otto Mayer ولكن بأساس آخر وهو” الحرية والملكية مجتمعتين “، وانتهى إلا أن اجتماع  أعضاء المجتمع (ممثلين في البرلمان) تكمن في ضرورة حماية ” الحرية ” و”الملكية “، بمعنى أن البرلمان هو وحده المؤهل لتنظيم المسائل المتعلقة بالحرية والملكية عن طريق التشريعات التي يسنها بمعنى: أن هناك علاقة بين الانفراد التشريعي والحقوق الأساسية وأن هذا المبدأ في الحقيقة كرس لحماية الحقوق والحريات([10]) .

وقد سار الفقه المعاصر على هذه الفكرة ، حيث يعبر الأستاذ أحمد فتحي سرور في هذا الشأن بقوله: “مبدأ انفراد بالتشريع يهدف إلى أن يكون تنظيم ممارسة الحقوق والحريات ورسم حدودها بواسطة ممثلي الشعب و الحيلولة دون تدخل السلطة التنفيذية في المساس بهذه الحقوق و الحريات دون موافقة السلطة التشريعية الممثلة للشعب سلفا “، ويعرف هذا المبدأ بقوله: ” يقصد به اختصاص المشرع وحده بمعالجة المسائل التي تدخل في اختصاصه “. ([11])

كما تبنت الدول هذا المبدأ من خلال التعبير عنه في مواثيقها الدستورية نستدل بأحكام المادة 98 من الدستور الجزائري لسنة1996 ([12]) التي تنص على أنه” يمارس السلطة التشريعية برلمان يتكون من غرفتين، و هما المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة .

وله السيادة في إعداد القانون و التصويت عليه” إلا أن هذه المادة لا تعبر عن الانفراد المطلق بالتشريع حيث سمح نفس الدستور للسلطة التنفيذية لممارسة هذا الاختصاص وهو ما سوف يتم توضيحه في فقرات الموالية من هذه الدراسة.

ويتسع هذا المبدأ ليشمل كل الحقوق والحريات المتعلقة بالحرية والملكية، ويظهر هذا جليا في المجالات التي نصت عليها الدساتير وحجزتها للبرلمان، ومثال ذلك المسائل التي نصت عليها المادة 34 من الدستور الفرنسي 1958، والمادة 122 و المادة 123 من الدستور الجزائري لسنة 1996، مثل إنشاء جرائم والعقوبات ، والملكية الخاصة، وحرية التنقل وحرية الصناعة والتجارة وغيرها … ، حيث تُظهر هذه الأخيرة حرص المؤسس الدستوري على حماية الحقوق والحريات الدستورية وجعلها من المسائل المحجوزة لاختصاص المشرع دون غيره، وهذا إن كان لسبب فهو يعود للتركيبة الهيكلية للبرلمان، الذي يضم ممثلي الشعب، الأمر الذي يجعل هذا القانون صورة تعكس طموحات من يخضعون لسلطته .

وما نتج عن مبدأ الانفراد التشريعي هو سيادة البرلمانات التي ظلت كذلك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد كان من بين أهم خصائصها احتفاظها بسلطات كاملة وغير محدودة في كل ما يتعلق بتنظيم الحقوق والحريات وممارستها. لكن هذه الحالة لم تستمر طويلا بل تراجع هذا الدور للبرلمانات، بعدما تم الاعتراف بدور معتبر للسلطة التنفيذية وأصبحت هذه الأخيرة منافسة للبرلمان في العملية التشريعية، الأمر الذي أدى إلى التخفيف من حدة مبدأ انفراد البرلمان بسن القانون، وظهور مفهوم آخر له صاغ هذه التطورات كان الهدف منه التخفيف من هذا المبدأ من خلال ظهور مفهوم حديث لمبدأ الانفراد بالتشريع يعطي للسلطة التنفيذية هامش من سلطة التشريع و ذلك من خلال التفريق بين الانفراد التشريعي المطلق و الانفراد التشريعي النسبي و آخر ينظر لحرية المشرع في حد ذاته عند ممارسته الوظيفة التشريعية سواء كان انفراد مطلقا أو نسبيا من خلال التمييز بين الانفراد التشريعي البسيط و المدعم وهو موضوع الجزئية الموالية.

المطلب الثاني: تدرج مبدأ الانفراد بالتشريع

     الواقع أن أحدا من أصحاب الصياغة المبدئية لفكرة الإنفراد التشريعي أو ممن ساهموا في إجلاء هذه الفكرة في تواريخ لاحقة، لم يدِّع أن من شأن الانفراد التشريعي للبرلمان إبعاد السلطة التنفيذية تماما عن المساهمة في العمل التشريعي، لأن هذا الانفراد هو في نهاية الأمر حث البرلمان على التدخل لممارسة اختصاصاته التشريعية ومنع السلطة التنفيذية من الحلول محله في ممارسة هذه الوظيفة، خاصة فيما يتعلق ببعض المسائل الهامة التي لا يمكن إخراجها من مجال عمل ممثلي الشعب ([13])، وفيما عدا ذلك من المسائل يمكن للسلطة التنفيذية أن تتدخل بناء على تفويض من البرلمان، أو لوضع ما أصدره من تشريعات موضع التنفيذ عن طريق ما يمكن أن تتخذه من تدابير قانونية، ويتعلق الأمر بالتنظيمات أو اللوائح التنفيذية أو اللوائح المستقلة.

ولذلك فإن حجم التزام المشرع بممارسة اختصاصه التشريعي سوف يختلف بحسب نوع المسألة  الداخلة في اختصاصه، وحسب أسلوب إسناد المسألة إليه بواسطة النص الدستوري، فإذا نص الدستور على ضرورة تسوية المسألة “بقانون” كان التزام البرلمان كاملا بضرورة تسويتها كاملة بنفسه، أما إذا نص الدستور على إمكانية تسوية المسألة “بناء على قانون” فإن درجة هذا الالتزام تقل، بحيث يمكن للمشرع أن يكتفي بوضع الخطوط العريضة للمسألة تاركا أمر تفصيلها للسلطة التنفيذية ([14]).

ومن هنا ميز الفقه بين الإنفراد التشريعي المطلق la réserver absolue عند وجوب تسوية المسألة” بقانون ” والانفراد التشريعي النسبي la réserver relative  عند إمكانية تسويتها ” بناء القانون “، أما بشأن وجود ضوابط دستورية تحدد أسلوب تدخل البرلمان لممارسة اختصاصه التشريعي، فإن الفقه قد ميز بين الانفراد التشريعي العادي la réserver ordinaire  في حالة عدم وجود هذه الضوابط أو قلتها والانفراد التشريعي المدعم la réserver renforcée  في حالة وجود هذه الضوابط، وكان الفقه هو أول من نادى بهذا التمييز، لتجسده و تؤكده بعض الدساتير إما بصفة صريحة أو ضمنية.

أولا- التمييز بين الانفراد التشريعي المطلق و الانفراد التشريعي النسبي

يقصد بالانفراد التشريعي المطلق التزام البرلمان دون غيره بالتنظيم التشريعي المتكامل للمسائل التي تدخل في اختصاصه دون أن يكون للسلطة التنفيذية أي دور يذكر، ويقصد بالتدخل هنا التدخل المباشر والمبتدأ في المسائل التي ينفرد بها المشرع انفرادا مطلقا، لكن هذا لا يمنع من تدخلها بصفة غير مباشرة عن طريق إصدار اللوائح التنفيذية لهذه القوانين دون أن تزاحمه في اختصاصه، فلا يجوز لها أن تتخطى الحدود التي رسمها التشريع أو أن تتدخل في تنظيم ممارسة حق أو حرية ([15]).

أما الانفراد التشريعي النسبي فيكون عندما ينظم المشرع العناصر الأساسية للمسألة التي تدخل في اختصاصه، ويقتصر على وضع القواعد العامة والأسس الرئيسية لها تاركا للسلطة التنفيذية مهمة معالجة نقاط محددة في هذا الشأن أي المسائل الجزئية والتفصيلية([16]).

ومن أمثلة المسائل التي تدخل ضمن الإنفراد التشريعي المطلق، موضوع الحقوق والحريات     وهو ما قضى به مجلس الدولة المصري في حكم شهير له ” بأن الحريات العامة في مصر، إن أجاز الدستور تقييدها ، فإنها لا تقيد إلا بتشريع ” ([17]). وما نصت عليه المادة 70 من الدستور المصري اختصاص المشرع بتحديد أحوال إقامة الدعوى الجنائية بغير أمر صادر عن الجهة القضائية. وكذلك موضوع تحديد الجرائم والعقوبات، وهو ما أقرته المادة46 من الدستور الجزائري ” لا إدانة إلا بمقتضى قانون صادر قبل ارتكاب الجرم”، وما نصت عليه المادة 30 من أن الجنسية تنظم بقانون.

أما المسائل التي تدخل ضمن الإنفراد التشريعي النسبي فنذكر مثلا ما تنص عليه المادة 122 من الدستور الجزائري فيما يخص المسائل المتعلقة بوضعية الأجانب، والمسائل المتعلقة بالتعليم والبحث العلمي .

والتمييز بين الانفراد التشريعي المطلق والنسبي بحسب رأي الأستاذ أحمد فتحي سرور أساسه العلاقة بين القانون واللائحة في ضوء مدى التزام المشرع وحده بتنظيم المسائل التي تدخل في اختصاصه ومدى قدرته في أن يعهد بجزء منها إلى السلطة التنفيذية، ويكون الإنفراد التشريعي مطلقا إذا كان التنظيم الكامل للمسألة من اختصاص المشرع وحده دون تدخل السلطة التنفيذية،  ويكون التشريع في هذه الحالة المصدر الوحيد لتنظيم هذه المسألة، أما الإنفراد النسبي فيتشارك البرلمان والحكومة في تنظيم الحالة، حيث يكتفي البرلمان بوضع القواعد والمبادئ الأساسية تاركا مسألة التفصيل الجزئي لمهمة اللائحة.

وما تجب الإشارة إليه في هذا الصدد ، أن الدساتير تستعمل عدة صيغ للدلالة على الانفراد التشريعي المطلق والنسبي، وتعتبر عبارة ” قانون” و”بناء على قانون” التي تستخدمها معظم الدساتير أبلغ الدلالة على تحديد درجة تدخل السلطة اللائحية في تنظيم المسألة أو استئثار البرلمان بالتنظيم ([18])، و نسجل هنا ملاحظة هامة هي أن الدستور البرتغالي لعام 1976 يعتبر الدستور الوحيد الذي يميز صراحة بين المسائل الداخلة في نطاق انفراد التشريعي المطلق للبرلمان ( المجلس الجمهوري)، ونطاق الانفراد التشريعي النسبي وهو ما عبرت عنه المادتان 164،165، حيث تحمل المادة 164 عنوان: ( الانفراد التشريعي المطلق) والمادة 165 عنوان :( الانفراد النسبي بالاختصاص التشريعي) ([19]). فكيف صاغ المؤسس الدستوري الجزائري مبدأ الانفراد التشريعي  المطلق و مبدأ الانفراد التشريعي  النسبي ؟

عند استقراء المادة 98، والمادتين 122، 123 ومواد أخرى، نجد أن المؤسس الدستور الجزائري استعمل في المادة 98 عبارة ” السيادة المطلقة للبرلمان في سن القانون” (مبدأ الانفراد التشريعي )، ثم خول في المادة 125 لرئيس الجمهورية ممارسة السلطة التنظيمية المستقلة في المجالات غير المخصصة للقانون، ثم استعمل في المادة 124 من نفس الدستور أسلوب التشريع بالأوامر لرئيس الجمهورية في حالة شغور المجلس الشعبي الوطني وبين دورتي البرلمان،إضافة إلى الحالة الاستثنائية. واستعمل في المادة 122عدة مصطلحات ( القواعد العامة ، التشريع الأساسي – الشروط الضمانات )، واستعمل في مواد أخرى مثل المادة 18 من أن الأملاك الوطنية يحددها القانون ويتم تسييرها طبقا للقانون، وفي المادة 30 من أن الجنسية الجزائرية معرفة بالقانون . وبإسقاط مفهوم الانفراد التشريعي المطلق ومبدأ الانفراد التشريعي النسبي على هذه المواد، نجد أن عبارة  ” القاعدة العامة …” تتعلق باشتراك السلطة التنفيذية في تنظيم المسألة، حيث يكتفي البرلمان بوضع الخطوط العريضة ويترك التفاصيل إلى السلطة  التنفيذية، معنى ذلك أن المسألة تدخل ضمن الانفراد التشريعي النسبي للمشرع، وعندما لا يذكر هذه العبارة  أو يذكر عبارة ” قانون ” فإن المسألة  تكون من المسائل التي تدخل في انفراده المطلق .

ثانيا- الانفراد التشريعي العادي والإنفراد التشريعي المدعم

وعليه، فإذا كان التمييز بين الانفراد التشريعي المطلق والانفراد التشريعي النسبي هو درجة انفراد المشرع في ممارسة اختصاصاته التشريعية بحيث يُمنع عليه من حيث المبدأ إشراك السلطة التنفيذية في ذلك بالنسبة لانفراده المطلق، مع إمكانية السماح لها بمشاركته في العملية التشريعية  بالنسبة لانفراده النسبي، فإن التمييز بين الانفراد التشريعي العادي والانفراد التشريعي المدعم، يكون على أساس هامش الحرية التي يتمتع بها البرلمان في ممارسة اختصاصاته التشريعية استنادا إلى مبدأ انفراده المطلق أو النسبي، بحيث يتسع هامش حرية المشرع وتقل الضوابط الدستورية  المفروضة عليه كما قد تنعدم إذا كان الانفراد التشريعي عاديا، وتضيق هذه الحرية وتزداد كذلك الضوابط الدستورية التي يفرضها الدستور على المشرع عند تسوية المسألة إذا كان انفراده بالتشريع مدعما([20]) .

وعبّر الأستاذ أحمد فتحي سرور عن التمييز بين الانفراد التشريعي العادي والمدعم بقوله : ” في حالة الانفراد العادي يعهد الدستور إلى المشرع بتنظيم المسألة دون ضوابط محددة فينطلق بذلك نطاق السلطة التقديرية للمشرع، بخلاف الحال في حالة الانفراد المدعم فإن المشرع في مزاولته لاختصاصه لا يراعي فقط النظام العام الذي حددته القواعد الدستورية في مجموعها وإنما عليه أيضا مراعاة القواعد والضوابط التي وضعها الدستور خصيصا لتحديد انفراده بالتشريع في مسألة معينة” ([21]).

وكمثال عن المسائل التي تدخل ضمن الانفراد التشريعي المدعم، ما تنص عليه المادة 41 من الدستور المصري لعام 1971 من أنه:” لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد يمنعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع”، وما نصت عليه المادة 16 من الدستور الايطالي ( يجوز لكل مواطن أن يتنقل وأن يقيم بحرية في كل أنحاء من الإقليم، فيما عدا القيود التي يفرضها القانون بصورة عامة لأسباب تتعلق بالصحة والأمن )، وما تنص عليه المادة 40/2،3 من الدستور الجزائري 1996″ فلا تفتيش إلا بمقتضى القانون، وفي إطار احترامه.

ولا تفتيش إلا بأمر مكتوب صادر من السلطة القضائية المختصة “، والمادة 48 من أنه:”يخضع التوقيف للنظر في مجال التحريات الجزائية للرقابة القضائية ولا يمكن أن يتجاوز مدة ثمان

وأربعين(48) ساعة.

يملك الشخص الذي يوقف للنظر حق الاتصال فورا بأسرته .

ولا يمكن تمديد مدة التوقيف للنظر، إلا استثناء، ووفقا للشروط المحددة بالقانون .

ولدى انتهاء مدة التوقيف للنظر، يجب أن يجرى فحص طبي على الشخص الموقوف، إذا طلب ذلك، على أن يعلم بهذه الإمكانية ”

وقد تظهر هذه الضوابط والتشديد من جانب المؤسس الدستوري في التشريع نفسه، كما قد يتعلق التشديد أيضا بإجراءات إقرار التشريع([22])، ومثال ذلك الإجراءات التي تمر بها القوانين العضوية[23] أو الأساسيةles lois organiques  من ضرورة حصولها على مصادقة الأغلبية المطلقة للنواب وبأغلبية 3/4 أعضاء مجلس الأمة، إضافة إلى عرضها للرقابة القبلية على المجلس الدستوري،وهو ما نصت عليه المادة 123 من الدستور الجزائري ” تتم المصادقة على القانون العضوي، بالأغلبية المطلقة للنواب وبأغلبية ثلاثة أرباع (3/4) أعضاء مجلس الأمة.
يخضع القانون العضوي لمراقبة مطابقة النص مع الدستور من طرف المجلس الدستوري قبل صدوره “، وكذلك ما نصت المادة 46 من الدستور الفرنسي 1958 التي ضبطتها بمجموعة من الإجراءات.

المبحث الثاني: نتائج مبدأ الانفراد التشريعي

إذا كان مضمون مبدأ الانفراد التشريعي الذي صاغه الفقه والقضاء الدستوريين و حتى المؤسس الدستوري يقتضي تولي البرلمان الولاية العامة والاختصاص الأصيل بوضع القواعد القانونية العامة، بل والتفصيلية المنظمة للعلاقات الاجتماعية في المجتمع والتصرفات القانونية لأفراده لأنه هو الأصل وما تدخل السلطة التنفيذية في العملية التشريعية إلا على سبيل الاستثناء،فإنه من أهم نتائج هذا المبدأ على المشرع ذاته هو الالتزام بالتشريع الذي يقصد به: وضع القاعدة القانونية لتفعيل أحكام الدستور، وهو التزام ٌدستوري قانوني يشبه دور فيه المشرع دور السلطة التنفيذية عندما تقوم بتنفيذ القوانين بواسطة اللوائح التنفيذية، وهي الفكرة التي صاغها الفقيه Ribes الذي ذهب الى أن المشرع يتلقى مجموعة من الالتزامات من الدستور هي التزامات ايجابية يجب عليه الوفاء بها ([24]) ،وإلا كان بسلوكه السلبي مخالفا للدستور من جهة ومتنصلا من التزاماته الدستورية من جهة أخرى، وهذا الالتزام هو الالتزام بالتشريع.

إلا أن هذا الالتزام (الالتزام بالتشريع) يختلف من وجهة نظر الفقه بحسب أحكام ونصوص الدستور ذاتها ونوعيتها وصيغتها الآمرة -بالرغم أن قواعد الدستور ذات طبيعة آمرة كأصل عام-بمعنى نوعية الخطاب الذي يوجهه المؤسس الدستوري للمشرع ، وبناء عليه تختلف طبيعة هذا الالتزام بحسب أحكام الدستور، فهناك من النصوص ما لا توجه خطابا للمشرع وبالتالي لا تفرض عليه التزاما، وأخرى توجه له خطابا ولا يتأتى تفعيلها إلا بسلوك إيجابي منه  ([25]).

 

المطلب الأول:النصوص الدستورية التي لا توجه خطابا للمشرع

وهذه الفئة تضم نوعين من النصوص : نصوص دستورية نافذة بذاتها وأخرى تتضمن رخصة للمشرع ([26]):

اولا:نصوص دستورية نافذة بذاتها

الأصل أنه لا يمكن القول أن جميع نصوص الدستور تحتاج دائما إلى تدخل المشرع لتفعيلها، فهذا النوع من النصوص هي أحكام نافذة بذاتها، بمعنى أنها لا تحتاج إلى تشريع برلماني يسنه المشرع لكي تصبح ذات فعالية ومنتجة لآثارها القانونية والسياسية في المجتمع، بل هي نصوص تطبق نفسها بنفسها، فتكون هذه النصوص من العمومية بحيث قد يفهم منها توجيهها بالخطاب إلى جميع مؤسسات الدولة دون تحديد، بل وحتى للمواطنين، فقد تخاطب البرلمان باعتباره أحد السلطات العامة، كما قد تخاطب رئيس الدولة، كما قد تخاطب الدولة كمؤسسة رسمية في المجتمع، كما قد تخاطب المجتمع ككل ([27]). وهذه النصوص لا تكون محل رقابة الدستورية لأن المشرع العادي ليس له أي سلطة بصدد هذه النصوص الدستورية ([28])، وما يميزها أنها تعبر عن مجموعة من القيم الدينية أو الأخلاقية أو الاجتماعية التي تحكم المجتمع ([29])، كما تتميز هذه المواد بقلتها في الوثيقة الدستورية .

وكمثال عن هذه المواد ما تنص عليه المادة 2 من الدستور الفرنسي أن شعار الدولة هو العلم ثلاثي الألوان الأبيض، الأحمر والأزرق، وما تنص عليه المادة 79 من الدستور المصري المتعلقة بأداء رئيس الجمهورية اليمين قبل أن يمارس مهامه، وما تنص عليه المادة 102 على أنه يدعو رئيس الجمهورية مجلس الشعب لاجتماع غير عادي، وذلك في حالة الضرورة، أو بناء على طلب بذلك موقع من أغلبية أعضاء مجلس الشعب، والمادة 126التي تنص على مسؤولية الوزراء أمام مجلس الشعب، ومثال هذه المواد في الدستور الجزائري ما تنص عليه المادة الأولى من دستور 1996 على أن” الجزائر جمهورية جزائرية ديمقراطية شعبية “، والمادة  3 التي تنص على أن” اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية “، والمادة 4 على أن “عاصمة الجمهورية الجزائر العاصمة “.

ثانيا- نصوص دستورية تتضمن رخصة للمشرع

هذه النصوص الدستورية لا تلزم المشرع بضرورة التدخل الفوري أو الدوري للتشريع ، بل تترك له مساحة كبيرة من الحرية للتدخل من عدمه، فهي تمنح للمشرع سلطة تقديرية واسعة وشبه مطلقة في التخيير بين ضرورة التدخل لتنظيم مسألة ما أو امتناعه عن ذلك ، كما تظهر السلطة التقديرية في مدى ملاءمة هذا التدخل التشريعي من عدمه باختيار وقت التدخل وصيغته و نوعية القوانين التي يسنها ([30]).

وما تجب الإشارة إليه هو أن ما يميز هذه النصوص أنها غالبا ما تعبر عن برامج وأهداف تسمو لتحقيقها الدولة، ولا توجه خطاب معين للمشرع أو تلزمه بالتزام معين يتعين عليه تحقيقه من خلال التشريع ([31]).

ومثال هذه النصوص في الدستور المصري، النصوص التي تعبر عن البرامج السياسية        والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، منها نص المادة الأولى من الدستور المصري التي تنص على أن “جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة.

والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة ”

والمادة 9 منه على أن ” الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين الأخلاق الوطنية، وتحرص الدولة على الحفاظ على الطابع الأصيل للأسرة المصرية وما يتمثل فيه من قيم وتقاليد مع تأكيد هذا الطابع وتنميته في العلاقات داخل المجتمع المصري “.

ومن أمثلة ذلك أيضا في الدستور الفرنسي المادة 34 على أنه ( يمكن تكملة الأحكام الواردة في هذه المادة وتحديدها بموجب قانون أساسي (نظامي))([32]).

« Les disposition du présent article paurrant être précisées et complétées

par une loi organique »

فهذه المادة لم توجه التزاما وجوبيا للمشرع وإنما بقيت في حدود الإمكانية بمعنى أنها أبقت مجال التدخل من عدمه للسلطة التقديرية للمشرع ،كما تركت له سلطة تقدير ملاءمة التوسع والإضافة من عدمها.

ومثال عن هذه النصوص في الدستور الجزائري ما تنص عليه المادة 60 من “أنه لا يعذر أحد بجهل القانون”، على أنه يقع على السلطة الإدارية واجب نشر القوانين قبل تطبيقها، إذ لا تسري في حق الأفراد قبل نشرها لتأكد العلم بها أولا، وما نصت عليه المادة 64/1 من أنه “كل المواطنين متساوون في أداء الضريبة “، وأنه ” لا يجوز أن تحدث أية ضريبة إلا بمقتضى القانون” وكذلك بالنسبة لإحداث الجبايات والرسوم والحقوق المختلفة وتحديد أساسها ونسبتها  122/13 “…إحداث الضرائب والجبايات والرسوم والحقوق المختلفة، وتحديد أساسها و نسبتها…” ، فقد لا يرى ضرورة إحداث ضرائب وجبايات ورسوم جديدة، بينما يرى ضرورة الإعفاء الجزئي أو الكلي من إحداثها لأسباب اقتصادية ومالية ولتشجيع الاستثمار في مجالات وأماكن معينة وفي ظروف معينة ولأغراض معينة، كما هي الحال بالنسبة لتشجيع المؤسسات التي تستعمل معدات وطرق إنتاج تحافظ على نظافة المحيط وحماية البيئة، كما قضت المادة 122/10 على أن التقسيم الإقليمي للبلاد من الاختصاص التشريعي للبرلمان، فهو يعمل فيه سلطته التقديرية، كما الحال بالنسبة لإنشاء فئات المؤسسات([33]) .

من الواضح أن هذه النصوص لا توجه خطابا مباشرا للمشرع بالتشريع، فالترخيص في هذه الحالة يتضمن مفهومين إما التدخل بالتشريع أو عدم التدخل وهنا تظهر السلطة التقديرية للمشرع بجلاء.

وإذا كانت هذه النصوص قابلة للتنفيذ الفوري والمباشر، أو أنها لا توجه خطابا للمشرع، فإن هناك نصوص لا تكون نافذة وذات فعالية بدون تدخل المشرع مثل موضوع الحقوق والحريات الأساسية نبينه في الفقرة الموالية.

ثانيا: النصوص الدستورية التي توجه خطابا صريحا للمشرع

ما يميز هذه الفئة عن سابقتها أنها توجه خطابا مباشرا للمشرع بضرورة التدخل للتشريع وتنظيم الموضوعات التي تتضمنها، وأخرى تتعلق بالحقوق والحريات الأساسية التي تتضمنها النصوص الدستورية وهي عبارة عن مجموعة من القيم والمبادئ والأخلاقيات التي تسعى الدساتير لتحقيقها، ولا يتأتى ذلك إلا بموجب تدخل المشرع لتنظيمها وحمايتها من تعسف السلطات العامة ([34]).

ويصنف الفقه هذه النصوص إلى نصوص دستورية توجب تدخلا تشريعيا، و أخرى تتعلق بالحقوق و الحريات نوضحها فيما يلي:

1- نصوص دستورية تفرض تدخلا تشريعيا

يطلق الفقه على هذه النصوص النصوص الملزمة أو الآمرة للسلطة التشريعية – وإن كان الفقه يعترف بالصفة الآمرة للنصوص الدستورية كلها دون تمييز بينها – وما يميز هذه النصوص عن غيرها أنها غير تنفيذية إذا لم يتدخل المشرع لجعلها أمرا واقعيا ملموسا، ويكون دور القانون أو التشريع في هذه الحالة أداة تنفيذية للدستور شأنه في ذلك شأن التشريع الذي يكون في حاجة إلى لائحة تنفيذية له ([35]). وبالنظر إلى نصوص الوثيقة الدستورية نجدها تحتوي على أحكام قانونية آمرة يتوجب على المشرع أن لا يبقيها حبيسة الوثيقة الدستورية لذلك يجب عليه التدخل لتفعيلها عن طريق قانون ملموس.

وتتميز هذه النصوص بخصائص ثلاث هي([36]):

أنها لا تنفذ بذاتها، بل يحتاج  تفعيلها إلى التدخل المباشر من المشرع، والتشريع الذي يسنه  في هذه الحالة يمثل الأداة التنفيذية للدستور.

أنها تتعلق بموضوعات محجوزة للمشرع ولا يجوز تنظيمها بغير أداة القانون، بمعنى التشريع الذي يضعه المشرع، فبدون تدخله يحدث فراغ تشريعي في النظام القانوني في الدولة وتتعطل الحياة العامة التي يجب أن يحكمها القانون والنظام .

وأخيرا فهي توجه أمرا مباشرا للمشرع بالتدخل، ويترتب على سكوته وموقفه السلبي مخالفة دستورية تتعلق بتوزيع الاختصاص الدستوري بين السلطات الدستورية في الدولة القانونية، وهو مسلك يندرج ضمن الإغفال التشريعي الذي يصم عمل المشرع السلبي بعيب عدم الدستورية، وهو ما ذهبت إليه المحكمة الدستورية الألمانية بقولها: ( أنه لا يوجد ما يمنع المحكمة من مد رقابتها على حالات امتناع المشرع عن التدخل لممارسة بعض المهام التشريعية المسندة إليه بواسطة الدستور). ([37])

ومن أمثلة هذه المواد انطلاقا من هذه الخصائص، ما تقضي به المادة 25 من الدستور الفرنسي على أن القانون الأساسي يحدد مدة الفصل التشريعي للجمعية الوطنية و مجلس الشيوخ    وعدد أعضائهما وحصانتهم و كيفية انتخابهم.

ومن الدستور المصري ما تقضي به المادة 117 على أن القانون يحدد أحكام موازنات المؤسسات و الهيئات العامة وحساباتها.

أما في الدستور الجزائري،  فنذكر إضافة إلى نصي المادتين 122 و123 المحددة لمجالات التي يشرع فيها البرلمان ما تنص عليه المادة 71/3 من دستور 1996″ ويحدد القانون الكيفيات الأخرى للانتخابات الرئاسية “، وما تنص عليه المادة 18/2 أن ” الأملاك الوطنية يحددها القانون” وفي فقرتها الثالثة “ويتم تسيير الأملاك الوطنية طبقا للقانون “، وما تقضي به المادة 20 على أن نزع الملكية الخاصة يكون لأغراض المنفعة العامة ويكون في إطار القانون ومقابل تعويض قبلي عادل و منصف .

2-  نصوص دستورية تتعلق بالحقوق والحريات تفرض على المشرع التزاما ايجابيا بالحماية

تعد حماية الحقوق والحريات الأساسية من أساسيات وأهداف رقابة الدستورية، فالدستور يتضمن مجموعة من الحقوق والحريات الأساسية التي تفرض على المشرع العادي التزاما بالتدخل لحمايتها حتى لا تكون حبيسة الوثيقة الدستورية ([38])، فالمواطن لا يحس بوجود هذا الحق أو الحرية المضمونة دستوريا إلا بتنظيمها، ولا يكون ذلك إلا بموجب سلوك ايجابي من المشرع باعتباره المعبر عن الإرادة العامة، فهو لا شك أنه سيقوم بتنظيمها وفقا لما تسمو إليه الجماعة ، خاصة وأن هذا التنظيم هو الطريق المجدي لحمايتها من أي خطر، فلا يكون الموقف السلبي أو ابتعاد الدولة عن ما كان مطلوبا منها تجاه هذه الحقوق والحريات طريقا للحماية، لذلك يرى الفقه أنه يتعين على المشرع أن يتدخل لتنظيم الحقوق والحريات التي بدون هذا التنظيم لا يمكن ممارستها، فهي تضع على المشرع التزاما بالتشريع أو بأداء تشريعي([39])، خاصة أن موضوع الحقوق والحريات من المواضيع المحجوزة لاختصاص المشرع . فكثيرا ما تقتصر الأنظمة الدستورية على الإعلان الشكلي عن وجود حقوق وحريات فردية للمواطن، مما يقتضي أن تتولى التشريعات تنفيذ هذا الإقرار الدستوري لكفالتها، حيث تكتفي النصوص الدستورية بإرساء مبادئ الحقوق والحريات الفردية وتقررها على نحو يكفل تمتع الأفراد بها في دولة القانون، لتهتم النصوص التشريعية بتنفيذ النصوص الدستورية وتتطابق معها في مضمونها، والأصل ألا يخرج دورها عن الدور المنفذ لإرادة السلطة القائمة بوضع الدستور وهو ما يتبدى في تكملة النصوص الدستورية بوضع بعض الإجراءات المنظمة لممارسة الأفراد لحقوقهم وحرياتهم في المجتمع مع كفالة هذه الحريات في حدودها المقررة دستوريا([40]).

وفي هذا الصدد يميز الأستاذ نبيل صقر بين نوعين من الحريات ([41]):

النوع الأول : يشمل ما نظمه الدستور تنظيما نهائيا لا يقبل التدخل التشريعي .

النوع الثاني : يشمل ما أحال الدستور في شأنه الى المشرع للقيام بتنظيمه .

واعتبر النوع الأول لا يثار بشأنها انحراف تشريعي لأنه لا يتصور فيها تدخل للمشرع ،        وتكون هذه الحريات منصوصا عليها بصفة تقريرية في نصوص الدستور دون أن يكون للمشرع أي دور يذكر، ومثال ذلك نص المادة 151من الدستور والمتعلقة بحق المواطن الجزائري في التمسك بحق الدفاع أمام القضاء، وما تقضي به المادة 34 على عدم جواز انتهاك حرمته والمساس بكرامته ، فهذه الحقوق والحريات في نظره لم يقرنها المؤسس الدستوري بعبارة في “حدود القانون” أو “وفقا للقانون” وبالتالي تم ترسيخها من طرف المؤسس الدستوري بصفة نهائية ولا تتطلب بالضرورة التدخل التشريعي ([42])، كما أنه لم يوجه الخطاب للمشرع وقد اهتم بتنظيمها هو بشكل يجعل إحجام المشرع عن تنظيمها أمرا لا يشكل إغفالا تشريعيا .

أما الطائفة الثانية : فتتعلق بالحريات التي أحال الدستور إلى التشريع لينظمه، و هي عكس الطائفة الأولى فلا يكون تنظيمها إلا بناء على عمل تشريعي صادر من السلطة التشريعية و ذلك استنادا إلى عبارة ” في حدود القانون ” أو” وفقا للنصوص ” التي ترد في النصوص الدستورية ([43]).

ومن أمثلة هذه الحقوق في الدستور الجزائري حق الانتخاب الذي نظمته المادة 50 بقولها: ” لكل مواطن تتوافر فيه الشروط القانونية أن يَنتخب ويُنتخب”،وكذلك المادة 48 و المتعلقة بمدة التوقيف للنظر في مجال التحريات الجزائية للرقابة القضائية والمقدرة ب:48 ساعة و لا يجوز تمديدها إلا بالأحوال التي يبينها القانون، وبالتالي فإن هذه الحقوق والحريات لا يمكن الاستفادة منها إلا بموجب تدخل من المشرع بموجب تشريع ملموس وبالتالي فإحجامه عن هذا التدخل يعد اهدارا لهذه الحقوق والحريات.

إن الأخذ بالتصنيف السابق للنصوص الدستورية من شأنه أن يشكك في القيمة الإلزامية        والآمرة لنصوص الدستور، فيما أن هذه الصفة قد رافقتها منذ نشأتها الأولى ولا مجال للجدال فيه، كما أن هذا التصنيف قد يشل حركة المشرع ويجعله في حالة جمود، بحيث يكتفي بالتدخل بالتشريع في حالة توجيه الخطاب له من المؤسس الدستوري على أن يبقى ساكنا في حالة غيابه، وهذا يتنافى مع دور المشرع الذي يكون دائما في حالة نشاط ليستطيع تنظيم كل المسائل المستجدة سواء بالتشريع أول مرة أو عن طريق التعديلات، وهو مبدأ تفرضه النصوص الدستورية ذاتها، ومثال ذلك ما نصت عليه المادة 100 من الدستور الجزائري أنه” واجب البرلمان، في إطار اختصاصاته الدستورية، أن يبقى وفيا لثقة الشعب، ويظل يتحسس تطلعاته”، و هذا ما سيفسح المجال للسلطة التنفيذية لممارسة اختصاصه خاصة أنها أصبحت تزاحمه فيه.

خاتمة

في الأخير نشير إلى أن مبدأ الانفراد التشريعي لم يعد مطبقا على إطلاقه والسبب في ذلك حسب الفقه أن مفهوم كل من الحرية والملكية قد تغير، كما أن مبدأ الفصل بين السلطات تراجع هو الآخر وأصبح لا يطبق على إطلاقه، وذلك بسبب التطبيق المرن له، حيث ظهر نوع من التعاون بين السلطات لاسيما بين التشريعية والتنفيذية، وظهور قوة هذه الأخيرة من جديد مما جعل الدساتير تتجه نحو حجز موضوعات معينة للاختصاص التشريعي للبرلمانات مع إطلاق يد الحكومة واتساع دورها عن طريق التنظيم باللوائح المستقلة نظرا لما تملكه من سرعة في التدخل.

وفي مقابل هذه التطورات ظهر دور القاضي الدستوري كحام للحقوق والحريات من جهة،    وحامي للدستور من جهة أخرى، عن طريق ابتداع وسائل من شأنها منع المشرع من امتناعه عن ممارسة اختصاصه التشريعي بصورة كلية أو جزئية وإلزام هذا الأخير بممارسة اختصاصه تقيدا بفكرة الانفراد التشريعي وتأثرا، بل وإقتداء بإدانة القاضي الإداري لسكوت الإدارة وعدم ممارستها لاختصاصها.

قائمة المراجع:

أولا:الكتب:

1-أحمد فتحي سرور:

  • الحماية الدستورية للحقوق و الحريات ،دار الشروق ،طبعة 1999
  • القانون الجنائي الدستوري، دار الشروق ،ط 2 ، القاهرة، ، 2002 .

2- سعيد بوشعير،القانون الدستوري و النظم السياسية المقارنة ،دراسة مقارنة،ج 2، ط4، ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر،بدون سنة نشر.

3- عبد الحفيظ علي الشيمي، رقابة الاغفال التشريعي في قضاء المحكمة الدستورية العليا، رقابة الاغفال التشريعي في قضاء المحكمة الدستورية العليا -دراسة مقارنة- دار النهضة العربية، طبعة2003.

4- عزاوي عبد الرحمن:

  • ضوابط توزيع الاختصاص بين السلطتين التشريعية والتنفيذية – دراسة مقارنة في تحديد مجال القانون واللائحة –  الجزء الأول، دار الغرب للنشر والتوزيع ، 2009.
  • ضوابط توزيع الاختصاص بين السلطتين التشريعية والتنفيذية – دراسة مقارنة- في تحديد مجال القانون و اللائحة – الجزء الثاني، دار الغرب للنشر والتوزيع ، 2011.

5- عيد أحمد الغفلول ، فكرة عدم الاختصاص السلبي للمشرع،دار الفكر العربي، 2001.

6-كيلالي زهرة، الاغفال التشريعي و الرقابة الدستورية عليه،دراسة مقارنة،مذكرة ماجستير،تخصص قانون عام ،جامعة أبي بكر بلقايد ،تلمسان،2012-2013.

7- ميلود ذبيح ، الفصل بين السلطات قي التجربة الجزائرية، دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع ، الجزائر .

6- نبيل صقر، مقالة بعنوان:قراءة نقدية في دستورية التشريعات المقيدة للحريات في النظامين الدستوري الجزائري والفرنسي، مجلة النائب ،لسنة 2003.

ثانيا:المقالات :

-عزاوي عبد الرحمن ،مقالة بعنوان: فئة القوانين الجديد، القوانين العضوية النظامية وفقا للدستور الجزائري المعدل سنة 1996، المجلة القانونية التونسية، مركز النشر الجامعي، سنة 2002.

ثالثا:القوانين:

1-الدستور الجزائري الصادر في8 ديسمبر 1996 المعدل بالقانون رقم08-19 المؤرخ في 15 نوفمبر2008 يتضمن التعديل الدستوري الجريدة الرسمية العدد 63.

2-الدستور الفرنسي الصادر في 4 أكتوبر 1958http : // www.conseil constitutionnel .fr                                                                  .

 

[1] أنظر ميلود ذبيح ، الفصل بين السلطات قي التجربة الجزائرية، دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع ، الجزائر ،ص14 ما بعدها .

 سعيد بوشعير،القانون الدستوري و النظم السياسية المقارنة ،دراسة مقارنة،ج 2، ط4، ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر، ص166. [2]

عيد أحمد الغفلول ، فكرة عدم الاختصاص السلبي للمشرع،دار الفكر العربي، 2001،ص37. [3]

 سعيد بوشعير،،القانون الدستوري و النظم السياسية المقارنة ،دراسة مقارنة،ج 1، ط4، ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر، ص 23. [4]

 عيد أحمد الغفلول ، المرجع السابق ، ص55.[5]

[6] أنظر عزاوي عبد الرحمن ، ضوابط توزيع الاختصاص بين السلطتين التشريعية و التنفيذية ، ج1، دار الغرب للنشر والتوزيع ، 2009، ص155.

[7] لتفصيل أكثر حول فكرة الامتناع أو الاغفال التشريعي راجع مذكرتنا:الاغفال التشريعي و الرقابة الدستورية عليه، دراسة مقارنة، ماجستير تخصص قانون عام،جامعة ابي بكر بلقايد ،تلمسان، 2012-2013

 عيد أحمد الغفلول ،المرجع سابق ، ص 50.[8]

 عيد أحمد الغفلول ،المرجع سابق ،ص 56.[9]

 نفس المرجع،ص58.[10]

أنظر أحمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري ، دار الشروق ،ط 2 ، القاهرة، ، 2002 ، ،ص40.  [11]

[12] الدستور الجزائري الصادر في8 ديسمبر 1996 المعدل بالقانون رقم08-19 المؤرخ في 15 نوفمبر2008 يتضمن التعديل الدستوري الجريدة الرسمية العدد 63.

 عيد أحمد الغفلول ،المرجع السابق، ص77.  [13]

 عيد أحمد الغفلول ،المرجع سابق 78.   [14]

 نفس المرجع ، ص80.  [15]

 انظر أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق و الحريات ،دار الشروق ،طبعة 1999، ص375. [16]

أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق و الحريات ،المرجع السابق، ص403.[17]

أنظر عيد احمد الغفلول ، المرجع السابق، ص82. [18]

عيد احمد الغفلول ، المرجع السابق ، ص 83. [19]

 نفس المرجع ، ص 101[20]

 أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق و الحريات ، المرجع السابق ، ص374.[21]

  عيد أحمد الغفلول ، فكرة عدم الاختصاص السلبي للمشرع، مرجع سابق ، ص103.  [22]

[23] لتفصيل حول القوانين العضوية،راجع عزاوي عبد الرحمن ،مقالة بعنوان: فئة القوانين الجديد، القوانين العضوية النظامية وفقا للدستور الجزائري المعدل سنة 1996، المجلة القانونية التونسية، مركز النشر الجامعي، سنة 2002.

[24] عبد الحفيظ علي الشيمي، رقابة الاغفال التشريعي في قضاء المحكمة الدستورية العليا، رقابة الاغفال التشريعي في قضاء المحكمة الدستورية العليا -دراسة مقارنة- دار النهضة العربية، طبعة 2003 ، ص83.

 نفس المرجع ص 83.[25]

 عبد الحفيظ علي الشيمي، المرجع السابق، ص 83.[26]

[27] أنظر عزاوي عبد الرحمن، ضوابط توزيع الاختصاص بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ج 1 ،المرجع السابق ،ص 175.

 عبد الحفيظ علي الشيمي ، المرجع السابق ،ص84.[28]

[29] عزاوي عبد الرحمن، ضوابط توزيع الاختصاص بين السلطتين التشريعية و التنفيذية، ج 1، المرجع السابق، ص 175.

[30] عزاوي عبد الرحمن، ضوابط توزيع الاختصاص بين السلطتين التشريعية و التنفيذية، ج 1، المرجع السابق ، ص  176.

عبد الحفيظ علي الشيمي، المرجع السابق، ص  86 .[31]

[32]الدستور الفرنسي الصادر في 4 أكتوبر 1958http : // www.conseil constitutionnel .fr                                                                  .

 

[33] أشار إليها عزاوي عبد الرحمن، ضوابط توزيع الاختصاص بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ج 1، المرجع السابق، ص178.

 عبد الحفيظ علي الشيمي المرجع السابق،ص89.[34]

نفس المرجع ، ص 89.[35]

 عزاوي عبد الرحمن، ضوابط توزيع الاختصاص بين السلطتين التشريعية و التنفيذية، المرجع السابق ،ج 1،ص179.[36]

  أورده عيد أحمد الغفلول المرجع السابق، ص 147.[37]

 عبد الحفيظ علي الشيمي، المرجع السابق،ص 94.[38]

 نفس المرجع ،ص 95.[39]

[40] نبيل صقر، مقالة بعنوان:قراءة نقدية في دستورية التشريعات المقيدة للحريات في النظامين الدستوري الجزائري والفرنسي، مجلة النائب ،لسنة 2003،ص140.

 نفس المرجع ،ص 140.[41]

[42] نفس المرجع،ص 144.

 نفس المرجع، ص 146.  [43]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى