في الواجهةمقالات قانونية

مسطرة الإهمال الأسري بين القانون الجنائي ومدونة الأسرة الدكتور : الشرقي حراث

 

مسطرة الإهمال الأسري بين القانون الجنائي ومدونة الأسرة
The Procedure of Family Neglect Between Criminal Law and the Family Code
الدكتور : الشرقي حراث
أستاذ محاضر بجامعة شعيب الدكالي
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالجديدة

ملخص
تبقى العلاقات الأسرية جزء من العلاقات الإنسانية ،صلاحها من صلاح المجتمع، وتفككها عامل من عوامل تدهور المجتمع، فهي بمثابة معيار ومقياس تقدم أو تأخر المجتمعات. وقد سعى المشرع ومعه القضاء إلى حل المنازعات الأسرية بكيفية تصالحية قبل عرضها على المحكمة وإصدار حكم بشأنها قد يكون سببا لتعميق الهوة بين الزوجين، وتشريد الأبناء الأمر الذي سيؤثر لا محالة على نفسيتهم ومردوديتهم في التحصيل.
وقد حاولت في هذا المقال توضيح مدى فعالية ونجاعة المساطرالإجرائية للإهمال الأسري ؟ وهل وفق المشرع في إضفاء حماية لضحايا الأسرة؟ومن له الأولوية في التطبيق هل القانون الشكلي أم القانون الموضوعي؟. وتوصلنا إلى أنه بالرغم من كل المجهودات المبذولة ،فإن الواقع العملي أثبت ضعف نجاعة وفعالية تدخل القانون الجنائي في المادة الأسرية،فالمطلوب توفير بدائل وحلول ملائمة لأوضاع الأسرة بدل الإقتصار على العقوبات الزجرية.

Summary
Family relationships are an integral part of human connections; their stability reflects societal well-being, while their disintegration becomes a contributing factor to societal deterioration. They serve as a standard and a measure of societal progress or decline. The legislator, along with the judiciary, has endeavored to resolve family disputes in a reconciliatory manner before bringing them to court and issuing a ruling, which could potentially deepen the rift between spouses and lead to the displacement of children. Such outcomes inevitably affect their psychological well-being and academic performance.
In this article, I aimed to clarify the extent of the effectiveness and efficiency of procedural mechanisms for addressing family neglect. Have legislators succeeded in providing protection for victims within the family? Which takes precedence in application: procedural law or substantive law? . We concluded that, despite all efforts, practical reality has demonstrated the limited effectiveness of criminal law intervention in family matters. Thus, there is a need to provide alternatives and suitable solutions for family situations instead of relying solely on punitive measures.

 

مقدمة
ظلت مدونة الأسرة منذ زمن بعيد ، محط اهتمام الباحثين والدارسين بمختلف مشاربهم الفكرية والعلمية ، على اعتبار أنها اللبنة الأساسية والركيزة القوية لبناء المجتمع . فالعلاقات الأسرية هي جزء من العلاقات الإنسانية ، يبقى صلاحها من صلاح المجتمع، وتفككها عامل من عوامل تدهور المجتمع، فهي بمثابة معيار ومقياس تقدم أو تأخر المجتمعات.
وقد حظيت الأسرة باهتمام الشريعة الإسلامية وباقي الشرائع السماوية الأخرى، كما حظيت باهتمام القانون الوضعي قبل الحماية وأثناء الحماية وبعد استقلال المغرب ، من خلال تنظيمها في قانون الأحوال الشخصية، ثم بعد ذلك في مدونة الأسرة .
وهذه المكانة المتميزة لمدونة الأسرة في التشريع المغربي ، جعلت المشرع يحرص باستمرار على إسباغ و إضفاء الحماية الجنائية على مختلف مظاهر قضايا الأسرة خاصة جريمة إهمال الأسرة.
وقد عنونت هذا المقال الذي هو عبارة عن مداخلة ساهمت بها في الندوة الدولية المنعقدة بكلية الحقوق بالجديدة ب: مسطرة الإهمال الأسري بين القانون الجنائي ومدونة الأسرة.
وهو موضوع يطرح إشكالية : المقاربة الزجرية في المادة الأسرية.
إلى أي حد استطاع المشرع إضفاء حماية جنائية على قضايا الأسرة؟.
أين تتجلى مظاهر الحماية الجنائية في المادة الأسرية ؟.
مع الإشارة أن هذه المداخلة هي إجرائية بالدرجة الأولى تطرح إشكالية الأولوية في التطبيق عند تقاطع النصوص. باعتبار أن هناك نصوص تتقاطع مع مدونة الأسرة نجدها في كل من قانون المسطرة المدنية ،وظهير الالتزامات والعقود ، ومدونة الشغل ،وقانون المسطرة الجنائية ،ومجموعة القانون الجنائي.
وخلصنا إلى أن مراجعة مدونة الأسرة رهين بمراجعة القانون الجنائي.
فإذا كانت مدونة الأسرة قد مضى على صدورها حوالي عشرين (20) سنة. فإن القانون الجنائي قد مضى على صدوره حوالي 61 سنة.
وبالرغم من أن هذا الأخير تم تعديله حوالي 32 مرة ، إلا أن هذه التعديلات لم تفي بالمطلوب وبقيت قاصرة ومحدودة.
وبالتالي هي دعوة للمشرع لإعادة النظر في مراجعة مجموعة القانون الجنائي وباقي القوانين المتقاطعة الأخرى ، حتى يواكب كل هذه الحركية الأسرية، وكل هذه المستجدات في مختلف المجالات.
وسنحاول الإجابة على الإشكالية المشار إليها أعلاه من خلال تقسيمنا لهذا الموضوع إلى فقرتين:
سنتحدث في (الفقرة الأولى) عن الخصوصيات المسطرية لجريمة إهمال الأسرة في المادة المدنية ، وفي (الفقرة الثانية) سنتناول الخصوصيات المسطرية لجريمة إهمال الأسرة في المادة الزجرية.
الفقرة الأولى : الخصوصيات المسطرية لإهمال الأسرة في المادة المدنية
من أجل استمرار مؤسسة الأسرة وحمايتها، حرص المشرع على تقديم ضمانات : قانونية في المجال المدني ، و ضمانات دستورية.
– ضمانات قانونية من خلال العديد من المقتضيات الواردة في مدونة الأسرة ،والمسطرة المدنية ،و ظهير الالتزامات والعقود .
– وضمانات دستورية من خلال مضمون الفصل 32 من دستور2011 .
أولا : الخصوصيات الواردة في مدونة الأسرة
أورد المشرع هذه الخصوصيات في المادة 102 من مدونة الأسرة التي تنص على أنه : ” للزوجة طلب التطليق بسبب إخلال الزوج بالنفقة الحالة الواجبة عليه ، وفق الحالات والأحكام الآتية :
1- إذا كان للزوج مال يمكن أخذ النفقة منه ، قررت المحكمة طريقة تنفيذ نفقة الزوجة عليه ولا تستجيب لطلب التطليق.
2- في حالة ثبوت العجز ، تحدد المحكمة حسب الظروف ، أجلا للزوج لا يتعدى ثلاثين يوما لينفق خلاله وإلا طلقت عليه ،إلا في حالة ظرف قاهر أو استثنائي .
3- تطلق المحكمة الزوجة حالا ،إذا امتنع الزوج عن الإنفاق ولم يثبت العجز).
كما أوردها في المادة 202 من نفس المدونة التي تنص على أنه : ” كل توقف ممن تجب عليه نفقة الأولاد عن الأداء لمدة أقصاها شهر دون عذر مقبول ، تطبق عليه أحكام إهمال الأسرة “.
تشير هذه المادة الأخيرة إلى أن التوقف عن دفع النفقة للأولاد مدة أقصاها شهر دون عذر مقبول يعتبر سببا لتطبيق أحكام إهمال الأسرة .
مع العلم أن الزوج لا يعتبر وحده المكلف بأداء النفقة على الأولاد. فالأم هي الأخرى إذا كانت موسرة وكان الأب معسرا تبقى ملزمة بأداء النفقة طبقا للمادة 199 من المدونة .
كما تتجلى أيضا هذه الخصوصيات في أن دعوى النفقة :
يتعين البت فيها في أجل أقصاه شهر: وإن كان هذا الإجراء لا يتم تفعيله من حيث الواقع العملي : فتقديم المقال وفتح ملف القضية ،وتعيين القاضي المقرر ،وتعيين الجلسة الأولى .. كلها إجراءات تستغرق أكثر من شهر فضلا عن إشكال تبليغ المعني بالأمر.
لذلك فلا بد من احترام هذا الأجل من خلال المراقبة اليومية للملفات المسجلة عبر تطبيقية خاصة بقسم قضاء الأسرة.
وهي دعوى مشمولة بالتنفيذ المعجل لطبيعتها المعيشية.
وللمحكمة صلاحية تحديد وسائل تنفيذ الحكم كالتنفيذ من منبع الأجرة ،وإن كان من حيث الواقع العملي لا يتم الإشارة في منطوق الحكم إلى هذا المقتضى بحجة أن المدعية ينبغي إثارته وتقديم طلب بشأنه مرفق بالوثائق التي تفيد بأنه موظف عمومي أو الإدلاء بالرقم المالي . معنى ذلك أن المحكمة لا يمكن أن تتيره من تلقاء نفسها. ذلك أنه عند إغفال الإشارة إليه في منطوق الحكم ففي هذه الحالة يستوجب على الزوجة تقديم مقال آخر (أمام غرفة الأحوال الشخصية والميرات وليس أمام غرفة الطلاق). من أجل تضمين هذا الإجراء بمنطوق الحكم . وهذا من طبيعة الحال يتطلب وقتا وجهدا أكبر .
وهي دعوة للجهات الوصية على القضاء من أجل تذكير القضاة بالتنصيص في منطوق الأحكام بخصم مبلغ النفقة من منبع الأجر تلقائيا بمجرد توفر ما يفيد ذلك بملف القضية.
وللمحكمة أن تتخذ التدابير المؤقتة التي تراها مناسبة بالنسبة للزوجة والأطفال تلقائيا أو بناء على طلب في حالة ما إذا عرض النزاع بين الزوجين على القضاء ، وتعذر المساكنة بينهما ، وذلك في انتظار صدور الحكم في الموضوع ،بما فيها اختيار السكن مع أحد أقاربها ،أو أقارب الزوج ،وتنفذ تلك التدابير فورا على الأصل عن طريق النيابة العامة .
وإن كان هذا الإجراء هو الآخر يجد صعوبة في التنفيذ لأنه يتوقف على مؤسسات أخرى . كمؤسسات الإيواء التي لا تتواجد في العديد من المدن المغربية من أجل احتضان الأطفال في وضعية صعبة وإيوائهم..
فضلا على أن النيابة العامة في قضايا الأسرة أصبحت طرفا أصليا تتدخل تلقائيا في الدعاوى المتعلقة بتطبيق أحكام مدونة الأسرة . وإن كان هذا المقتضى أيضا يطرح إشكالية الأولية في التطبيق . ذلك أن النيابة العامة في قانون المسطرة المدنية تعتبر طرفا منظما ،والنيابة العامة في مدونة الأسرة تعتبر طرفا أصليا .
فهل ينبغي تطبيق قانون المسطرة المدنية باعتباره قانون اجرائي ،أم تطبيق مدونة الأسرة باعتبارها قانون موضوعي ؟ وإن كان أغلب الباحثين يعتبرونها قانون موضوعي وإجرائي في نفس الوقت بحكم أنها تتضمن العديد من المساطر الشكلية والموضوعية.
ثانيا : الخصوصيات الإجرائية الواردة في قانون المسطرة المدنية
تتجلى هذه الخصوصيات : في أن دعوى النفقة :
– ينبغي البث فيها باستعجال، وتنفذ رغم كل طعن. (فالطعن في أحكام النفقة لا يوقف التنفيذ).
– ويجوز للقاضي أن يحكم بنفقة مؤقتة في ظرف شهر من تاريخ طلبها . وإن كان هذا الإجراء يتقاطع مع مقتضيات المادة 190 من مدونة الأسرة. التي تقضي بأنه:” يبت في دعوى النفقة في أجل اقصاه شهر”. مع الإشارة أن هذه الدعوى يبت فيها قضاء الموضوع.
أما دعوى النفقة المؤقتة فيبت فيها قاضي الأمور المستعجلة الذي يبقى له الإختصاص. وإن كنا نقترح تخفيض أجل شهر تماشيا مع عنصر الإستعجال.
– ومن الخصوصيات أيضا أنه يجوز أن ينفذ هذا الحكم قبل التسجيل وبمجرد الإدلاء بنسخه منه . وإن كنا نقترح إضافة عبارة ( تنفيذية ) أي بمجرد الإدلاء بنسخة تنفيذية منه، على اعتبار أن النسخة التنفيذية هي السند التنفيذي للأحكام.
– ومن الخصوصيات أيضا :
– أن دين النفقة لا يقبل التحويل ولا يقبل الحجز لدى الغير .
– وأن دعوى النفقة معفاة من أداء الرسوم القضائية (طبقا لمقتضيات ظهير 1984 المتعلق بالمصاريف القضائية في الميدان المدني ) . وإن كانت غير معفاة من أتعاب المفوضين القضائيين.
– وأن الزوجة معفاة من الإستعانة بمحام على اعتبار أن المسطرة المتبعة هي مسطرة شفوية طبقا للفصل 45 من ق م م .
– وأن المدعية تستفيد من المساعدة القضائية بقوة القانون أمام المحاكم الإبتدائية وأمام محاكم الإستئناف وأمام محكمة النقض .
وأن أجل الطعن بالإستئناف يقدم داخل 15 يوما من تاريخ التبليغ .
– وأن الملف المستأنف يرفع إلى كتابة الضبط بمحكمة الإستئناف خلال أجل 15 يوما من تاريخ الإستئناف .وإن كان هذا المقتضى أيضا غير معمول به في الواقع العملي حيث في الغالب يستغرق أكثر من شهر لأسباب متعددة ترجع إلى التأخر في تحرير الأحكام وتوقيعها ، وبعد المسافة بين بعض المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف ،وعدم التوفر على الوسائل اللوجستيكية التي تسهل عملية نقل الملفات من المحاكم الابتدائية الى محاكم الاستئناف .وغيرها من الإكراهات.
– وأن الإختصاص في دعاوى النفقة ينعقد أمام محكمة موطن أو محل إقامة المدعى عليه أو موطن أو محل إقامة المدعي باختيار هذا الأخير.
ثالثا : الخصوصيات الواردة في ظهير الإلتزامات والعقود بخصوص النفقة
تتجلى هذه الخصوصيات في أن:
دين النفقة يعتبر من الديون الممتازة على كل المنقولات
و يقدم على كافة الديون الأخرى
ويأتي في المرتبة الثالثة بعد مصروفات الجنازة ، ومصروفات مرض الموت ..
وأن دين النفقة لا يخضع للمقاصة ولا للحجز .
الفقرة الثانية : الخصوصيات المسطرية لإهمال الأسرة في المادة الزجرية
من الخصوصيات الزجرية لجريمة إهمال الأسرة :
أن المشرع اعتبرها جريمة : ونظمها في الباب الثامن من مجموعة القانون الجنائي المعنون ب : في الجنايات والجنح ضد نظام الأسرة والأخلاق العامة ، وحدد لها الفرع الخامس كفرع مستقل يتناول إهمال الأسرة في الفصول من 479 إلى 482 من م ق ج . أن المشرع اعتبرها جريمة عمدية : ويتضح عنصر العمد من خلال العبارات الواردة في الفصلين 479 و480 من م ق ج . ومنها:
( دون موجب قاهر – يترك عمدا – وهو يعلم أنها حامل – وأمسك عمدا عن دفعها ) . وهي كلها عبارات تفيد عنصر العمد.
أن المشرع اعتبرها من جرائم ذوي الصفة : أي أن الأشخاص الممكن ارتكابهم لهذا النوع من الجرائم محددين حصرا ومعينين بصفاتهم وهم:
الأصول ( الأب والأم ) .
الزوج أو الزوجة .
وبمفهوم المخالفة فإن كل شخص غير الأب والأم عرض الأطفال للعنف والإيذاء وسوء المعاملة . لا يتابع بمقتضيات الفصل 482 من مجموعة القانون الجنائي المتعلق بالإهمال. وإنما يتابع بمقتضيات الفصول من 408 إلى 411 من نفس القانون.
فهي لا يرتكب من أيا كان ،وإنما ترتكب من طرف فئة معينة وخاصة.
أما من حيث المفهوم :
فالإهمال : هو الإستخفاف
وهو اللامبالاة
وهو الإستهزاء
وهو الاستهتار بالالتزامات وبنظام الأسرة.
وهذا الإهمال الأسري: هو إما إهمال مادي (أ) وإما إهمال نقدي (أ) وإما إهمال معنوي (ت)..
أ‌- فالإهمال المادي: يأتي في صورة : فعل الترك: أي ترك الأب أو الأم بيت الأسرة لمدة تزيد عن شهرين.
أو يأتي في صوره : فعل التملص من كل أو بعض الواجبات المتعلقة بالوصاية أو الولاية أو الحضانة.
واما يأتي في شكل : إهمال زوجي من خلال فعل الترك : أي ترك الزوج لزوجته عمدا وهو يعلم أنها حامل لمدة تزيد عن الشهرين دون موجب قاهر.
ب – النوع الثاني من الإهمال : هو الإهمال النقدي(المالي) : وهو الإمساك عمدا عن أداء النفقة المحكوم بها. نظمه الفصل 480 من مجموعة القانون الجنائي. وهذا الإهمال النقدي يقتصر فقط على الأشخاص المذكورين حصرا وهم :
الزوج والزوجة
أحد الأصول أحد الفروع.
معنى ذلك أنه في حالة عدم الإنفاق بناء على الإلتزام بالإنفاق لا يشكل إهمال الأسرة. علما أن المادة 197 من المدونة تحدد أسباب وجوب النفقة في ثلاثة أسباب وهي : الزوجية ، القرابة ،و الإلتزام .
ت – النوع الثالث من الإهمال : هو الإهمال المعنوي : نظمه الفصل 482 من مجموعة القانون الجنائي . وسمي بالإهمال المعنوي. لأنه يتعلق بإحداث الضرر بالأطفال من قبل الأبوين. نتيجة :
سوء المعاملة، وإعطاء القدوة السيئة ،وعدم العناية أو التقصير في الإشراف الضروري من ناحية : الصحة والأمن والأخلاق.
وهذه الشروط هي شروط ملزمة يتعين إثباتها قبل رفع دعوى إهمال الأسرة .
أما بعد صدور الحكم النهائي أو الحكم القابل للتنفيذ المؤقت . فإن جريمة إهمال الأسرة تتحقق بمجرد إمساك الأب أو الأم أو الزوج وامتناعه عن الأداء ودفع النفقة في التاريخ المحدد .
أولا: الخصوصيات المسطرية للإهمال في مجموعة القانون الجنائي
تتجلى هذه الخصوصيات في أن الدعوى العمومية لا يمكن تحريكها إلا بعد تقديم شكاية من طرف :
– المهمل
– أومن طرف المستحق للنفقة .
– أو من طرف النائب الشرعي . (أما إذا كان النائب الشرعي هو المقترف للجريمة فإن النيابة العامة تحل محل المتضرر، وتقوم بتحريك الدعوى العمومية مباشرة).
– أو من طرف محامي الضحية.
– أو من طرف المطرود من بيت الزوجية.
وان كان هذا الشرط (شرط الشكاية ) أصبح متجاوز خاصة وأن العديد من النساء ضحايا الإهمال الأسري يتعذر عليهن تقديم شكاية في الموضوع لأسباب متعددة.
وعليه نقترح حذف هذا الشرط في الحالات الخاصة التي يتعذر فيها على المهمل سلوك هذه المسطرة مع إحلال النيابة العامة محل المتضرر وتحريك الدعوى العمومية تلقائيا.
أما من حيث المسطرة : فلابد من إعذار المحكوم عليه بالنفقة وبأداء ما بذمته من أموال في ظرف 30 يوما. ويتم هذا الإعذار في شكل استجواب يقوم به أحد ضباط الشرطة القضائية بناء على تعليمات النيابة العامة مع تحرير محضر بذلك.
أما إذا كان المحكوم عليه هاربا، أوليس له محل إقامة معروف، فيتم الإستغناء عن الإستجواب مع تحرير محضر بذلك وإحالته على النيابة العامة لاتخاذ المتعين.
وفي الغالب فان النيابة العامة تقوم بحفظ الشكاية إلى حين القبض على المعني بالأمر المحرر ضده برقية بحث . وهذا أيضا إشكال آخر ينبغي إعادة النظر فيه .
مع الإشارة أن التنازل عن الشكاية يضع حدا للمتابعة. ويسقط الدعوى العمومية طبقا للمادة الرابعة من قانون المسطرة الجنائية . وهذا التنازل ينصرف إلى الدعوى العمومية دون الدعوى المدنية التابعة .
وهناك إشكال عملي يفرز قرارات متضاربة بين النيابات العامة خاصة عندما يقوم ضابط الشرطة القضائية بتقديم المعني بالأمر أمام النيابة العامة ، فيقوم المهمل أو دفاعه ،أو أحد أفراد عائلته بأداء ما عليه من دين النفقة . هنا وفي هذه الحالة ،فإن بعض النيابات العامة تقوم بتحريك المتابعة في حقه في حاله سراح ، وإحالة الملف على المحكمة لمحاكمته .
في حين تقوم بعض النيابات العامة الأخرى بحفظ الشكاية للأداء . وهو إشكال عملي يقتضي تدخل رئاسة النيابة العامة لتوحيد الإجراء.
أما في حالة ما إذا وقع صلح بين الطرفين أثناء جريان الدعوى ،وتم أداء مبلغ النفقة أو جزء منه ،و تم الإدلاء بالتنازل أثناء مناقشة القضية فإن المحكمة غالبا ما تقضي بسقوط الدعوى العمومية .
مع الإشارة أن نفقة العدة تدخل ضمن مشتملات النفقة . أما مستحقات الطلاق ( كمؤخر الصداق والمتعة ) فلا تسري عليها مقتضيات الفصل 480 من م ق ج. وبالتالي لا تقوم معها جريمة اهمال الأسرة .استنادا للقاعدة الرامية إلى أنه لا يجوز التوسع في تفسير النصوص الجنائية. وقاعدة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص).
و بالنسبة للإختصاص المحلي في جريمة إهمال الأسرة : فإنه يخضع للقواعد العامة في الإختصاص المحلي . ذلك أنه طبقا للمادة 259 من قانون المسطرة الجنائية. فإن الإختصاص المحلي لإهمال الأسرة ينعقد :
إما لمحكمة مكان إرتكاب الفعل الجرمي.
وإما لمحكمه محل اقامه المتهم.
وإما لمحكمه محل إقامه أحد المساهمين أو المشاركين معه في الجريمة.
وإما لمحكمة محل إلقاء القبض عليهم أو على أحدهم.
في حين نجد الفصل 481 من مجموعة القانون الجنائي يضيف:
المحكمة التي يقيم بدائرتها الشخص المهمل.
المحكمة التي يقيم بدائرتها المستحق للنفقة.
المحكمة التي يقيم بدائرتها المطرود من بيت الزوجية.
معنى ذلك أن المشرع حاول إخضاع النفقة لقاعدة المحمول وليس المطلوب. أي أن النفقة محمولة وليست مطلوبة.
فالمدين المهمل يستوجب عليه أن يحملها ويسلمها للمهمل أو المستحق لها في محل سكناه رفقا به وبوضعيته المادية والمعنوية. أو في محل المستحق لها . وهو ما أكده أيضا الفصل 480 من مجموعة القانون الجنائي في فقرته الأخيرة .
وفي حالة ما إذا كان الأب أو الزوج أو الشخص المهمل مغربي يقطن خارج أرض الوطن. وكانت الزوجة أو الأبناء المهملين داخل أرض الوطن . هنا وفي هذه الحالة يتم تطبيق الإختصاص المنصوص عليه في المادة 259 من قانون المسطرة الجنائية.
أما في حالة ما إذا كان الفاعل شخص أجنبي مقيم بالمغرب. فإنه في هذه الحالة يتم تطبيق مقتضيات المادة 704 من قانون المسطرة الجنائية. حيث تختص محاكم المملكة المغربية بالنظر في كل جريمة ترتكب في الأراضي المغربية أيا كانت جنسية مرتكبيها.
مع ملاحظه أن الإختصاص المحلي في جريمة الإهمال المعنوي يخضع للقواعد العامة في الإختصاص المحلي المنصوص عليها في المادة 259 من القانون المسطرة الجنائية .
أما فيما يتعلق بخاصية التقادم
فينبغي بداية التمييز بين تقادم دعوى النفقة وتقادم الدعوى العمومية في النفقة.
بالنسبة لتقادم دعوى النفقة : نشير إلى أن دين النفقة لا يتقادم بمضي المدة . معنى ذلك أن الزوجة المهملة مثلا يجوز لها رفع دعوى النفقة في أي وقت شاءت. كما يجوز لها رفع دعوى النفقة ومواصلة التنفيذ في المبالغ المالية التي عجز المهمل عن أدائها. وسلوك باقي طرق التنفيذ الأخرى كالحجز على ممتلكاته. باستثناء ما إذا حكم عليها بالرجوع لبيت الزوجية وامتنعت فتقادم دعوى النفقة يبتدئ من تاريخ الإمتناع عن الرجوع لبيت الزوجية. وإن كنا نقترح تحديد أمد وأجل زمني للزوجة من أجل رفع دعوى النفقة. لأن الغاية من تعديل المدونة ليست هي تغليب طرف على طرف آخر. وإنما الغاية هي إصلاح الأسرة بصفة عامة (والأسرة فيها الزوج والزوجة والأبناء).
أما بالنسبة لتقادم الدعوى العمومية في جريمة إهمال الأسرة: نشير إلى أن جريمة إهمال الأسرة هي جريمة عمدية. تخضع للتقادم الرباعي. أي تتقادم بمرور أربع سنوات من تاريخ الإمتناع وتحرير محضر بذلك .
وهي جريمة مستمرة تبقى قائمة ما دامت ذمة المحكوم عليه عامرة بالمبالغ المحكوم بها. حتى وإن قام بأداء بعضها وبقي بذمته بعض المبالغ فإن ذلك لا يؤدي إلى تقادم الفعل.
ومناط احتساب أجل التقادم هو تاريخ الإمتناع المضمن في محضر الضابطة القضائية.
فطالما لم تتحول النفقة إلى محضر امتناع فهي لا تتقادم . لكن بمجرد تحرير محضر امتناع عن أداء النفقة المحكوم بها يتحقق الركن المادي للجريمة وهو الإمتناع عن الأداء. وبالتالي يحتسب أجل التقادم الجنحي الرباعي من تاريخ تحقق الركن المادي وهو الإمتناع عن أداء النفقة.
الإشكال المطروح بخصوص المبالغ التي قضى بشأنها المهمل عقوبة حبسية .هل يجوز تقديم شكاية إهمال الأسرة بخصوصها؟ وهل يجوز للنيابة العامة متابعته من أجل ذلك؟
على مستوى القانون : نشير إلى أن قانون المسطرة الجنائية ينص على أنه لا يمكن معاقبة الشخص مرتين على نفس الفعل .
مدونة الأسرة تنص على أن دين النفقة لا يسقط بالتقادم ومضي المدة ،وإنما يسقط بالأداء(أي الوفاء بها كاملة ) أو إبراء الذمة .
هناك تقاطع وهناك تداخل بين القانونين .يطرح إشكالية الأولوية في التطبيق. هل نطبق القانون الشكلي بداية أم نطبق القانون الموضوعي عند التعارض؟.
على مستوى القضاء : هناك تضارب في الأحكام والقرارات . بعض النيابات العامة تتابعه على نفس الفعل في حالة تقديم شكاية إهمال الأسرة . وأخرى لا تقوم بمتابعته على اعتبار أنه قضى عقوبة بشأنه . وإنما تتابعه في المبالغ التي ترتبت عليه بعد قضائه العقوبة .
وهي دعوة للمشرع المغربي من أجل التنصيص صراحة على هذا المقتضى تفاديا للتعسف في الإعتقال ،وارتفاع شحنة ومنسوب الحقد والكراهة بين الزوجين .
أما بخصوص مدى جواز تطبيق إهمال الأسرة على الزوجة الموسرة : نجد المادة 199 من مدونة الأسرة تنص على أنه ” إذا عجز الأب كليا أو جزئيا عن الإنفاق على أولاده ،وكانت الأم موسرة ،وجبت عليها النفقة بمقدار ما عجز عنه الأب”.
وتنص المادة 188 من نفس المدونة على أنه ” لا تجب على الإنسان نفقة غيره إلا بعد أن يكون له مقدار نفقة نفسه ، وتفترض الملاءة إلى أن يثبت العكس”.
وينص الفصل 480 من مجموعة القانون الجنائي على أنه ” يعاقب بنفس العقوبة من صدر عليه حكم نهائي أو قابل للتنفيذ المؤقت بدفع نفقة إلى زوجه أو أحد أصوله أو فروعه وأمسك عمدا عن دفعها في موعدها المحدد..”.
ولنفترض أن دخل الزوج تراجع لأسباب معينة كطرده من الوظيفة أو إصابته بمرض مزمن أقعده عن العمل.
ولنفترض أن الزوجة تشتغل.
تطبيق إهمال الأسرة في هذه الحالة يتطلب سلوك مسطرة طويلة، تبتدئ برفع دعوى أمام المحكمة من أجل تحديد مقدار ما عجز عنه الأب. والحكم بإعفائه من النفقة أو من جزء منها للعسر. مع ضرورة إثبات ذلك والإدلاء بما يفيد أن الزوجة موسرة.
الإشكال هو في تحديد مفهوم الموسر. المحكمة تجد صعوبة كبيرة في تحديد مفهوم اليسر بالنسبة للزوجة. هل أجرة 5000 درهم مثلا في الشهر تعتبر من خلالها الزوجة موسرة.
ولنفترض أن المحكمة قضت بإعفاء الزوج المعسر من أداء جزء من النفقة ، وتحميل الزوجة الإنفاق في الجزء المتبقي الذي عجز عنه الزوج. ولتحريك المتابعة لابد من الإدلاء بنسخة حكم نهائية ومحضر امتناع الزوجة الموسرة.
وهي حالة نادرة لم نعثر على أحكام في الموضوع حيث يصعب من حيث الواقع تحميل الزوجة جزء من النفقة بمقدار ما عجز عنه الزوج، لأنه سيتم تأزيم الوضع أكثر من حله.

و بخصوص تطبيق الإكراه البدني : فهل يجوز تطبيق الإكراه البدني في قضايا الأسرة؟
طبقا للمادة 636 من قانون المسطرة الجنائية فإنه لا يمكن الحكم بالإكراه البدني أو تطبيقه ضد مدين لفائدة زوجه أو أصوله أو فروعه.. إلى آخر المادة ..وهو نص صريح على عدم تطبيق الإكراه في الإهمال الأسري.
خاتمة
نخلص إلى أن الواقع أثبت ضعف نجاعة وفعالية تدخل القانون الجنائي في المادة الأسرية، سواء تعلق الأمر بحل المنازعات الأسرية ،أو تعلق الأمر بحماية الأسرة .
ذلك أن تقديم شكاية ضد الزوج وإيداعه السجن من شأن ذلك أن يقطع حبل التواصل ،ويزيد من شحنة الحقد والكراهية إلى درجة أن الزوج المهمل يفضل في غالب الأحيان قضاء العقوبة الحبسية بدل الإنفاق على الزوجة والأبناء. وهو دليل أيضا على عدم نجاعة ما هو زجري فيما هو أسري.
وهي دعوة للهيئة الوطنية المكلفة بتعديل مدونة الأسرة من أجل الأخذ بعين الإعتبار الإجراءات المسطرية المتقاطعة في مختلف النصوص القانونية المدنية والأسرية والجنائية .
ومراعاة الجانب المسطري في مدونة الأسرة خاصة إجراءات تنفيذ الأحكام أو تنفيذ بعض التدابير .
لذلك، لابد من إعادة النظر في :
مسطرة الحجز لأنها مسطرة طويلة ومعقدة تحول دون سلوكها من طرف كتابة الضبط. حيث يتم الاكتفاء بتحرير محضر امتناع وعدم وجود ما يحجز.

إعادة النظر في مسطرة التبليغ الأسري، ذلك أن العديد من النساء يتوقفن في منتصف الطريق نتيجة تعذر توصل المدعى عليه.
تخويل الزوجة تسلم نسختين تنفيذيتين من أجل مواصلة التنفيذ ، وتقديم شكاية إهمال الأسرة . لأن بعض النيابات العامة تشترط الإدلاء بأصل النسخة التنفيذية رفقة الشكاية .
إعادة النظر في مسطرة الإعذار وتحديد آجال واضحة للضابطة القضائية من أجل إرجاع محضر الإستماع إلى النيابة العامة. مع ترتيب جزاء في حالة عدم التقيد بالاجال المحددة قانونا .
صعوبة تنفيذ مسطرة الإقتطاع من منبع الأجرة لاغفال التنصيص عليها في منطوق الحكم ،حيث يتوقف ذلك على بشرط اتارتها من المعنية بالأمر بعلة عدم تعلقها بالنظام العام القضائي.
إعادة النظر في مسطرة تدبير الإنابات القضائية الواردة والصادرة
إحداث صندوق خاص بالنفقة في حالة عجز الأب عن الأداء كما هو الحال في صندوق التكافل العائلي و إحلال هذا الصندوق محل الزوج المعسر. – ضرورة توفير بدائل وحلول ملائمة لأوضاع الأسرة بدل الإقتصار على العقوبات الزجرية السالبة للحرية ذلك أن الأطفال عندما يرون بأن والدتهم قامت بإيداع والدهم السجن بسبب عدم أداء النفقة أكيد أن ذلك سيؤثر لا محالة على نفسيتهم وقد لا نعرف كيف سيكون رد فعلهم مستقبلا ،وهو ما يفسر ظاهرة عقوق الوالدين والإعتداء عليهم أمام الملأ..
تحديد من الأولى بالتطبيق في حالة التعارض بين القانون الشكلي والقانون الموضوعي .

 

 

المراجع
الخصومي يوسف – عالي أبريد الليل : جنح إهمال الأسرة بين القانون الجنائي ومدونة الأسرة . بحث نهاية التدريب بالمعهد العالي للقضاء . فترة التدريب ، 2013-2015.
– حسان بن عبود : النفقة على ضوء مدونة الأسرة . ضوابط التقدير القضائي .وأسس الحماية القضائية . مقال منشور مجلة الحقوق المغربية .العدد المزدوج 9-10.مطبعة الأمنية الرباط. الطبعة الاولى ماي 2010.
– بنسالم أوديجا : دور قاضي التوثيق في التعدد في ضوء أحكام مدونة الأسرة : مقال منشور بمجلة القضاء والقانون .مطبعة الأمنية بالرباط. الطبعة الأولى. العدد154 . 2004 .
– محمد مصطفى الريسوني : مدونة الأسرة نظام قانوني متكامل .مقال منشور بمجلة المعيار.العدد 35 يونيو2006.
– عبد السلام زوير : مدونة الأسرة بعد سنتين من التطبيق .مقال منشور بمجلة القضاء والقانون . مطبعة الأمنية بالرباط. الطبعة الأولى ..العدد154..2004 .
– يوسف ملحاوي : النيابة العامة بقسم قضاء الأسرة : مقال منشور بمجلة القصر.العدد24.شتنبر 2009.
– مجلة الدفاع العدد 16-2022.
– مجلة قضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية .العددان 37-38. يونيو 1986.
– المجلة المغربية في الفقه والقضاء. مطبعة الأمنية الرباط .ط 1.العدد 05. 2018.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى