مقالات قانونية

“مفهوم المجتمع المدني في السياق العربي : محاذير الاستعمال

2132014-9c3ad[2] (1)

"مفهوم المجتمع المدني في السياق العربي : محاذير الاستعمال". الدكتور محمد البكوري.باحث

في الحكامة والمجتمع المدني

 

أسهم الرواج الهائل لمفهوم المجتمع المدني في زيادة تعقيداته واضطراباته، بشكل أضفى عليه عدم الاستقرار والتحديد الغير الواضح، مما جعل فكرة المجتمع المدني وباستمرار عرضة للتوظيف الخاطئ والاستخدام السيء، حتى أن استخدامه في بعض الأحيان أصبح لا يتعدى كونه أداة من الأدوات الحاسمة في أتون معارك الصراع السياسي، تتحدد مضامينه بحسب الجهة التي تستخدمه ووفقا للأغراض التي تسعى لتحقيقها وتتوخى بلوغها، كما ظلت للخلفيات الفكرية وطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي للمهتمين بفكرة المجتمع المدني دورا محوريا في الوصول بالمفهوم إلى نوع من عدم الاستقرار وغياب الوضوح. في هذا الصدد، قدم المفهوم تارة كمقابل للدولة (المجتمع السياسي) وتارة أخرى كمقابل للدين(المجتمع الديني)، كما قدم كمقابل للنظم العسكرية(المجتمع العسكري) والبنى الاجتماعية التقليدية(المجتمع التقليدي) وقدم أخيرا لمفهوم حديث لا صلة له بالمجتمع العربي الإسلامي كذريعة لرفضه وعدم القبول به بل وحتى محاربته(المجتمع الأهلي في مقابل المجتمع المدني). على هذا الأساس، أضحى مفهوم المجتمع المدني حمالا لأوجه متعددة ، مافتئت تزيد من الغموض في الاحاطة به والالتباس في التعامل معه .

إن استعمال مفهوم المجتمع المدني، في الخطاب السياسي العربي ، أصبح ينطوي في الوقت الراهن على قدر كبير من الحيوية والجدة في التأقلم مع مطالب تحليل حقول معرفية من قبيل علمي الاجتماع والسياسة، خاصة بعد عقم الفكر الذي أصاب النظام التقليدي للمفاهيم الذي سار على منواله المثقفون العرب، منذ ردح من الزمن ليس بالقصير. في هذا السياق، يبرز لمتصفح الاستراتيجيات السياسية والعمل السياسي الراهن ، القائمة على رهان بناء وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، في كونها تجنح اليوم وبقوة، إلى إحداث انعطاف ذاتي فيها، بإدخال الإشكالية الاجتماعية (إشكالية السلطة) ضمن إدراك الوعي السياسي القائم على جملة من الإواليات السياسية.

وعموما، تتسم استعمالات مفهوم المجتمع المدني، خاصة هي السياق العربي، بتوفرها على كم هائل من الاختلاطات والالتباسات. وهنا سنجد أن كل مقاربة ترتدي لبوس الأيديولوجيا، إنما تندرج في حكم المقاربات التي تتماهى مع عموم الخطاب النفعي، الذي يشتغل بالمفهوم ،وفق أغراض برغماتية صرفة، أي على خلفية ممارسة الاحتكار أو الهيمنة. ولعل استعمال مقولة المجتمع المدني لأجل أغراض من هذه القبيل، إنما سيساهم في توطيد الاختلالات القائمة أصلا، و يوقف بالتالي نبض كل الادراكات التي قد تقود إلى فهم أشمل وأعمق لدلالاته، فتسد على ضوء ذلك سائر الآفاق، التي من المفروض أن تنفتح أمام كل جهد معرفي للظفر بمختلف الأبعاد الابيستمية لمفهوم المجتمع المدني.

إن فكرة المجتمع المدني، حين أطلقها المفكر الايطالي انطونيو غرامشي، كانت تصب باتجاه اكتساب هذا التنظيم غير المتجانس وحدة ومناعة ضد كل أشكال الفوضى-المعرفية أساسا- . ومن ثم ، يصبح استخدام مفهوم المجتمع المدني، بغرض بناء نسق مدني تفسيري مسألة حتمية لتحليل مآلات الأنظمة السياسية والمجتمعات. وليتأكد ذلك كنوع من الأيديولوجيا ، يظل تبريرها رهينا بما يؤول إليه أي استخدام. ولا يعود كل ذلك أن يكون مجرد تبسيط لنماذج ما هو سوسيولوجي : أي لما هو خاضع لجملة قواعد وتنظيمات يتداخل فيها أكثر من مؤشر اجتماعي. والمقصود بالاجتماعي هنا، كل ما يندرج في إطار علاقات اجتماعية، مهما اتخذت لذاتها من تغييرات في المستوى السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي أو القيمي. وكل استخدام لمفهوم المجتمع المدني لا يراعي بعده المعرفي الذي يرتقي به لأن يجعل منه أداة تحليل ، سيسقط لا محالة في تحويل المفهوم إلى عقيدة سياسية أو بمعنى آخر إلى شعار إيديولوجي، وبدلا من الاستفادة مما سيتيحه المجتمع المدني من إمكانيات للتحرر والانطلاق في الفعل المدني الرحب، سيصبح وفقا لهذا الاستخدام المحظور مجالا للهيمنة والخضوع . بهذا المعنى ، ستضيع كل فرص الاستعانة بما يقدمه المفهوم من آفاق للتأمل النظري والمنهجي. وعليه، فإن الغنى الذي يزخر به مفهوم المجتمع المدني إنما يتجلى على الخصوص في التعاطي معه كمفهوم مفتاح في العلوم الإنسانية، دون إهمال أن لكل مجتمع حيثيات تاريخية وحضارية ولكل تخصص قواعد معرفية خاصة، مما يجعل لجوء الباحثين إلى مفهوم المجتمع المدني ليس لجوءا إلى مفهوم مطلق، بقدر ما نكون إزاء فرضية يلزم أولا، تأكيد صحتها سوسيولوجيا.

على المستوى الابستيمولوجي، هناك بعض الاعتراضات على استعمال مفهوم المجتمع المدني خارج سياقاته التاريخية والاجتماعية التي ينتمي إليها، بدعوى تأثره بحمولات تلك السياقات، بيد أن اعتراضات من هذا القبيل، كما يرى البعض لا تصمد في وجه الحجة القائلة، بأن مفهوم المجتمع المدني لن يكون أول ولا آخر مفهوم يأخذ أبعادا عالمية التداول ،وهو الآن مفهوم مهيمن خارج سياقه الأصلي، ولعل أصحاب هذه الحجة يسعون إلى تأكيد استحالة أي دراسة مقارنة مادام يستحيل نقل المفاهيم خارج سياقاتها الأصلية بدعوى غموضها أصلا في تفسير الظاهرة الاجتماعية في منشئها.

وعلى العموم ، يجب التنبه إلى المحاذير المعرفية لأي استعمال إيديولوجي لمفهوم المجتمع المدني، والتي قد تجعل في نهاية المطاف من انسيابية هذا المفهوم السبب الرئيسي لتعميق مشاكله الحقيقية .

 


 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى