المقاطعة والدعوة إليها بين الحرية والتقييد
مراد عامر كمال الفاسي
أستاذ باحث بكلية الحقوق سلا الجديدة باحث بكلية الحقوق أكدال الرباط وفاعل جمعوي
تعتبر المقاطعة من بين الوسائل العديدة التي وضعتها مجموعة من الأنظمة القانونية لحماية المستهلك، بغية الدفاع عن حقوقه، وذلك بتأطير جمعيات تهتم بحمايته، بيد أن المغرب لم يمنح مثل هذا الحق لهكذا الجمعيات، وبالرغم من ذلك فقد شهد المغرب خلال سنة 2018 حملة مقاطعة انطلقت في العشرين من أبريل استهدفت ثلاث شركات كبرى تستحوذ على حصص مهمة في السوق على مستوى مجالات تدخلها.
ومع حلول الذكرى الثانية لحملة المقاطعة التي وصفها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في تقريره السنوي الخاص بسنة 2018 بكونها حدثا بارزا وغير مسبوق في السياق الاجتماعي والاقتصادي بالمغرب، عاد النقاش حولها من جديد بعد “تسريب” مشروع القانون رقم 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وبشبكات التواصل المفتوح والشبكات المماثلة، إذ جرم هذا النص من خلال مقتضيات المادة 14 كل دعوة إلى مقاطعة بعض المنتوجات أو البضائع أو الخدمات أو القيام بالتحريض علانية على ذلك، وجرمت المادة 15 منه توليا دعوة العموم وتحريضهم على سحب الأموال من مؤسسات الإئتمان أوالهيئات المعتبرة في حكمها. كما نصت المادة 18 على تجريم التشكيك في جودة وسلامة بعض المنتوجات والبضائع وتقديمها على أنها تشكل تهديدا وخطرا على الصحة العامة والأمن البيئي.
في سياق “مشروع” هذا النص القانوني المثير للجدل، نرصد العديد من التساؤلات المرتبطة بهذا الأخير التي سنعمل على محاولة الإجابة عنها في هذا المقال.
أولا: هل يعد مشروع القانون رقم 22.20 المجال الطبيعي لتنظيم المقاطعة والدعوة إليها؟
بداية يجب أن نشير إلى أن المقاطعة من الوسائل التي يستعملها المستهلك بهدف الدفاع عن مصالحه في مواجهة الفاعل الاقتصادي حالة وجود أي إختلال في قواعد السوق الناظمة للعلاقة بين الطرفين، مما يعني بالتبعية أن المجال الطبيعي لتنظيم مثل هكذا وضعية هو قانون الاستهلاك، باعتباره الحقل القانوني الضابط للعلاقة بين المهني والمستهلك.
وهذا ما يتنافى مع توجه مشروع القانون رقم 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، إذ أن هذا النص لا علاقة له بقانون الاستهلاك، بما يطرح معه التساؤل حول الغاية الحقيقية من إدماج هذه المواد ضمن مقتضيات هذا المشروع؟ إذ لا يمكن تبرير ذلك إلا بمقاربة الفرسان التشريعية على غرار المادة 9 من قانون مالية السنة المتعلق بسنة 2020 التي نظمت مجالا في الأصل هو من صلب إختصاص قانون المسطرة المدنية.
وما يعزز هذا الطرح هو إحجام مذكرة التقديم الخاصة بالمشروع عن الحديث على هذه المواد وأسباب وضعها بالرغم من أهميتها وحمولتها.
ثانيا: هل يمكن الحديث عن تقييد أو تجريم المقاطعة؟
بما أن المقاطعة هي إمتناع المستهلك عن التعامل مع فاعل إقتصادي معين بهدف الضغط عليه لتغيير سياسته داخل السوق التي تلحق الضرر بجمهور المستهلكين، فأنها لا تكون لها القوة الإقتصادية المطلوبة إلا إذا إقترنت بشرط أساسي يتمثل في قيام ممارسة سلوك الامتناع عن التعامل من قبل جمهور المستهلكين في نفس الوقت.
تاسيسا على ما سبق، فالمقاطعة بحمولتها الاقتصادية تتحقق بإتحاد سلوكات جمهور المستهلكين عبر الإمتناع عن إقتناء منتوج معين لفاعل إقتصادي معين والتوجه نحو منتوج آخر لفاعل اقتصادي آخر، مما يعني أن هذه الممارسة ما هي إلا استعمال للحق في الاختيار المنصوص عليه في ديباجة القانون 31.08 بمثابة تدابير لحماية المستهلك.
وبما أن المقاطعة الجماعية ذات الأثر الاقتصادي لا تشكل في جوهرها إلا ترجمة لاستعمال العديد من المستهلكين لحقهم في الاختيار وفق نفس الاختيارات، فإنه لا يمكن الحديث عن تقييدها أو تجريمها لكون الحق في الإختيار هو الأساس الذي تقوم عليه فكرة السوق المعتمدة على المستهلك كحكم بين الفاعلين الاقتصادين.
ثالثا: ما هي حدود الدعوة للمقاطعة؟
كما سبق القول، المقاطعة لا تكون لها قيمتها وقوتها الاقتصادية إلا بتحولها من سلوك فردي إلى سلوك جماعي في آن واحد وفي مواجهة فاعل إقتصادي معين، بما يفرض في الغالب وجود دعوة موجهة لجمهور المستهلكين لممارسة فعل المقاطعة.
غير أنه إذا كان فعل المقاطعة الممارس من قبل المستهلك لا يطرح أي إشكال على إعتبار أنه يشكل في عمقه ممارسة لحقه في الاختيار، فإن الدعوة للمقاطعة الجماعية بهدف أن يحقق فعل الامتناع عن التعامل الاقتصادي نتائجه تبقى محل نقاش، إذ يطرح التساؤل عن حدود الحرية في الدعوة للمقاطعة؟
في البداية يجب التأكيد على أنه إذا كان الفصل 25 من الدستور المؤطر للحق في التعبير يشكل حسب البعض الأساس الدستوري لممارسة الدعوة للمقاطعة باعتبارها تشكل صورة من صور الحق في التعبير، فإنه يجب تذكير أنصار هذا التوجه بأن النصوص الدستورية تحدد الحقوق والحريات الأساسية للأفراد مع تركها المجال للتشريع من أجل تأطيرها وتدقيقها لكي لا تتحول ممارستها بشكل تعسفي إلى مساس بحقوق ومصالح الغير وبالمصلحة العامة.
وعليه فإن التساؤل السابق عن حدود الحرية في الدعوة للمقاطعة يصبح وثيق الارتباط بتساؤل ثاني حول ما هي المصلحة الجديرة بالحماية في خضم عملية المقاطعة الجماعية؟ وهل يمكن الحديث عن فكرة توازن المصالح في هذا الصدد بما يحدد بشكل تبعي حدود الدعوة للمقاطعة؟.
إن عملية المقاطعة ترتبط بثلاث مصالح أساسية: الأولى مصلحة المستهلك، والثانية تتمثل في مصلحة الفاعل الاقتصادي، والثالثة هي المصلحة العامة والتي تتحقق بتوازن مصلحة المستهلك ومصلحة الفاعل الاقتصادي.
إن التوجه الأولي في تحديد المصلحة الجديرة بالحماية لا يمكن أن يخرج على كون مصلحة المستهلك تتطلب أولوية الحماية لأن صاحبها ضعيف داخل السوق، وبما أن صاحب المصلحة الثانية له القوة الاقتصادية بل وفي ظل زواج المال والسلطة تمتد قوته لتتحكم في صناعة القرار السياسي وترجمته على مستوى النصوص القانونية، بما يبرر منح المستهلك حرية دعوة باقي جمهور المستهلكين لممارسة المقاطعة في مواجهة فاعل إقتصادي يهدد مصالحه داخل السوق.
ولكن أمام الإعتراف بالحرية المطلقة في الدعوة للمقاطعة، فإنه يمكن أن تتجاوز الهدف منها المتمثل في الدفاع عن مصالح المستهلك وإعادة التوازن بين مصالحه ومصالح الفاعل الاقتصادي إلى حالة اللاتوازن الناتجة عن التعسف في استخدام هذا الحق مما سيهدد المصلحة العامة القائمة على فكرة التوازن، إذ في زمن الرقمنة ومواقع التواصل الاجتماعي يمكن لأي كان أن يقوم بممارسة هذه الحرية المطلقة عبر الإعداد والإعلان عن مقاطعة منتوج ما دون أي مراقبة ودون أي ضوابط وتنزيلها على أرض الواقع لتنتج نتائجها بإعادة التوازن في العلاقة بين المستهلك والفاعل الاقتصادي.
ولكن في ظل هذه الحرية المطلقة قد تنتج المقاطعة هدفها وتستمر الجهة التي دعت إليها في ممارستها ضد ذلك الفاعل بمبرر محاسبته ومعاقبته على سلوكات الماضي مما ينعكس سلبا على حالة التوازن، إذ أن تجاوزها إلى حالة اللاتوازن في مواجهة مصلحة الفاعل الاقتصادي قد تؤدي إلى إعدامه اقتصاديا، بما يتبع ذلك من أضرار على الاقتصاد الوطني والمصلحة العامة الاقتصادية ومناصب الشغل، بل قد يؤدي إنسحاب هذا الفاعل من السوق إلى تقييد خيارات المستهلك داخل السوق والمساهمة في إنتاج أوضاع إحتكارية جديدة.
ومن جهة ثانية فالحرية في الدعوة للمقاطعة قد تكون ضد المستهلك نفسه والاقتصاد الوطني، إذ يمكن لفاعل اقتصادي معين أن يستغل الثورة الرقمية لصناعة حملة لمقاطعة منتوج فاعل اقتصادي منافس له، مما يجعل هذا الأخير لا يتحمل النتائج الاقتصادية لذلك فينسحب من السوق إما بشكل طوعي أو نتيجة مساطر التصفية القضائية، وهو ما سيتيح لمهندس هذه الحملة أن ينفرد بالسوق وبالمستهلك معا.
إضافة لذلك، هذه الحرية المطلقة في مباشرة حملة المقاطعة في ظل زمن وجود متخصصين في توجية الأفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي قد تستغل كآلية غير أخلاقية داخل أسواق البورصة، إذ يتم الاعلان عن حملة لمقاطعة منتوجات شركة معينة مما يؤدي إلى انخفاظ في أسعار أسهمها ليتم الاستلاء عليها بأقل ثمن، ويقوم بعدها صاحب حملة المقاطعة بتوجيه الرأي العام بشكل تدريجي نحو رفعها، الأمر الذي يجعل من المستهلك وحقوقه مجرد وسيلة لممارسة سلوكات غير أخلاقية داخل السوق تهدد المصلحة الاقتصادية العامة وتفقد للمستثمر الثقة في السوق الوطنية.
كما أن هذه الحرية قد تكون وسيلة لممارسة الصراع السياسي في مواجهة رجال الأعمال المنتمين لأحزاب سياسية، إذ يعمل المنافس السياسي على صناعة حملة المقاطعة ضد منتوجات شركاته بما يجعل المستهلك مجرد وسيلة وسط هذا الصراع، بما يؤدي إلى تمييع قيمة الآليات الدفاعية الممنوحة للمستهلك، بالإضافة إلى التأثير السلبي على المصلحة الإقتصادية العامة.
وتماشيا مع كل الإعتبارات السالفة، يمكن القول أن الإشكال الحقيقي هو الكيفية التي يمكن من خلالها تحصين حق جمهور المستهلكين في الدعوة للمقاطعة كآلية دفاعية لا يمكن التنازل عنها، وبين تجريم أي إستغلال لها بما يمس النظام العام الاقتصادي؟.
إن المواد 14 و15 من مشروع القانون المذكور سلفا، وإن تم تجاوز عيب الشكل بإعتبارها تشكل فرسان تشريعية، فإنها لا يمكن أن تجيب على الإشكالية لأنها تنتصر لمصلحة الفاعل الإقتصادي فقط وتعدم مصلحة المستهلك من جهة، ويتناقض مضمونها حتى مع عنوان الفصل الأول من الباب الثالث الموسوم بعنوان : الجرائم الماسة بالأمن وبالنظام العام الاقتصادي، إذ أن المقاطعة المشروعة والدعوة إليها وممارستها تشكل آلية من آليات حماية النظام العام الاقتصادي القائم على توازن المصالح بين المستهلك والفاعل الاقتصادي، بل تجريد المستهلك من ذلك هو ما يمكن أن يشكل جريمة في حق النظام العام الاقتصادي بالإضافة إلى المقاطعة الكيدية.
وعليه فإن الحل لا يمكن أن يكون من خلال المشروع المذكور، بل يجب أن يتم تنظيم الدعوة للمقاطعة في صلب قانون الاستهلاك المغربي بوصفها حق للمستهلك وللجمعيات التي تهتم بالدفاع عن مصالحه، مع خلق آليات تفاوضية بين المستهلكين والفاعلين الاقتصادين في حالة وقوع مقاطعة ما لتجاوزها بسرعة بما يكفل مصالح جميع الأطراف وتحصين المصلحة العامة.
بالإضافة إلى خلق آليات لتتبع الفضاء العام بما يسهل معرفة موقف جمهور المستهلكين لتنبيه الفاعلين الاقتصادين إلى ضرورة تحسين سياستهم الاقتصادية بما يكفل حقوق المستهلك، أو التدخل من قبل الأجهزة الناظمة للسوق لزجر أي سلوك يمس بمصالح المستهلك.
ولتجاوز أي استغلال كيدي للمقاطعة لتحقيق أهداف تتناقض مع الغاية التي شرعت لها، يجب تجريم ووضع عقوبات مدنية وإدارية في ضوء سياسة العقاب المعتمدة في كل من قانون الاستهلاك وقانون المنافسة، مع وضع عبء إثبات بأن المقاطعة كيدية على الفاعل الاقتصادي.